انظروا معي، مِن فَضلكم، إلى إنجيل مَتَّى والأصحاح الخامِس. مَتَّى والأصحاح الخامس. وأودُّ أن أقرأَ ثانيةً على مَسامِعِكُم الآياتِ الَّتي سنَستَنِدُ إليها في أفكارِنا، وهي الآيات 1-12 مِنْ إنْجيل مَتَّى والأصحاح الخامس: "وَلَمَّا رَأَى الْجُمُوعَ صَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ، فَلَمَّا جَلَسَ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلاَمِيذُهُ. فَفتحَ فاهُ وعَلَّمَهُمْ قَائِلاً: «طُوبَـى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. طُوبَـى لِلْحَزَانَى، لأَنَّهُمْ يَتَعَزَّوْنَ. طُوبَـى لِلْوُدَعَاءِ، لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ. طُوبَـى لِلْجِيَاعِ وَالْعِطَاشِ إِلَى الْبِرِّ، لأَنَّهُمْ يُشْبَعُونَ. طُوبَـى لِلرُّحَمَاءِ، لأَنَّهُمْ يُرْحَمُونَ. طُوبَـى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ، لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللهَ. طُوبَـى لِصَانِعِي السَّلاَمِ، لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللهِ يُدْعَوْنَ. طُوبَـى لِلْمَطْرُودِينَ مِنْ أَجْلِ الْبِرِّ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. طُوبَـى لَكُمْ إِذَا عَيَّرُوكُمْ وَطَرَدُوكُمْ وَقَالُوا عَلَيْكُمْ كُلَّ كَلِمَةٍ شِرِّيرَةٍ، مِنْ أَجْلِـي، كَاذِبِينَ. اِفْرَحُوا وَتَهَلَّلُوا، لأَنَّ أَجْرَكُمْ عَظِيمٌ فِي السَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُمْ هكَذَا طَرَدُوا الأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ". لِنَشترك معًا في كلمة صَلاة:
يا أبانا! إذْ نَجتمعُ مَرَّةً أخرى في هذا المساء لدراسةِ كلمَاتِ رَبِّنا يسوعَ المسيحِ الثَّمينة، فإنَّنا نَشعُرُ بعدمِ الاستحقاق. فالكلماتُ والأفكار المُتَعَثِّرَةُ النَّابعة مِنَ العقلِ البشريِّ لا تستطيعُ أنْ تُعَبِّرَ عنْ عُمْقِ الحَقِّ الكامِنِ في قلبِ رَبِّنا الحبيبِ الَّذي نَطَقَ بهذهِ الكلماتِ العظيمة. ولكِنَّنا نَسْألُكَ، يا أبانا، أنْ تُؤهِّلنا مِن خلالِ عَمَلِ رُوحِ اللهِ، لاكتسابِ مَزيدٍ مِنَ الفهمِ، ولو جُزئيًّا، لما قَصَدَهُ الرَّبُّ. عَوِّضْ ضَعْفَ المُتكلِّم وضَعفاتِ المُستمعينَ حَتَّى نتمكَّن مِنْ تَجَاوُزِ أنفُسِنا، وَتَخَطِّي أنفُسِنا لكي نَفْهَمَ تلكَ الأشياءَ الَّتي تَتَجاوزُ نِطاقَ فَهْمِنا فيما يُعَلِّمُنا الرُّوح. ونحنُ نُصَلِّي، يا رَبُّ، أنْ نَفهمَ مَعنى أنْ نكونَ صَانِعي سَلام في عالمٍ في أَمَسِّ الحاجةِ إلى السَّلام. نَشْكُرُكَ في اسمِ يَسوع. آمين.
إنَّ فِكرةَ السَّلامِ تُهيمِن على الكتاب المقدَّس. فالكتابُ المقدَّسُ يَبتدئُ بوجودِ سَلامٍ في الجَنَّة. والكتابُ المقدَّسُ يُخْتَمُ بوجودِ سَلامٍ في الأبديَّة. والحقيقة هي أنَّهُ يُمكنكم أنْ تَرسُموا مَسارَ التَّاريخِ بناءً على فِكرة السَّلام. فقد كانَ هناكَ سلامٌ على الأرض في الجَنَّة. وقد أخطأَ الإنسانُ فَلم يَعُد هناكَ سلام. وعلى الصَّليبِ، تَحَقَّقَ السَّلامُ مَرَّةً أخرى حينَ صارَ ذاكَ الَّذي ماتَ على الصَّليبِ سَلامَنا. وحيثُ إنَّ الربَّ يَسوعَ المسيحَ قَدْ أَعْطَى سَلامًا، يمكن أنْ يوجد السَّلامُ في قلبِ أيِّ شخصٍ يَعْرِفُهُ. وفي يومٍ ما في المُستقبل، سوفَ يأتي الرَّبُّ ثانيةً. وسوفَ يكونُ لَقَبُهُ هوَ: رَئيسُ السَّلام. وهو سَيُؤسِّسُ مَملكةَ سَلامٍ تَتَكَلَّلُ بدَهْرٍ أبديٍّ يَعُمُّهُ السَّلام.
لِذا فإنَّ السَّلامَ هو طريقة رائعة لرؤية الفِكرة الرَّئيسيَّة للكتاب المقدَّس. فقد كانَ هناكَ سلامٌ في الجَنَّة. ثُمَّ لم يَعُد هناكَ سلام. ثُمَّ إنَّ السَّلامَ يَعودُ إلى قلوبِ البشرِ بسببِ الصَّليب. ثُمَّ سيأتي رَئيسُ السَّلامِ ثانيةً لتأسيسِ مَملكةِ سَلامٍ تَتَكَلَّلُ أخيرًا بسلامٍ أبديّ. وهناكَ نحو أربعمئة شاهدٍ في الكتاب المقدَّس عنِ السَّلام. فاللهُ مُهتمٌّ جدًّا بالسَّلام. فهو واحدٌ مِن أفكارِهِ الرَّئيسيَّةِ العظيمة. والحقيقة هي أنَّهُ يَدعو نَفسَهُ "إلَه السَّلام". وقد تقول: "ولكِنْ لا يوجد سلام". لا، ليسَ في العالم، وليسَ الآن؛ ولكِن هناكَ سبب. والسَّببُ في أنَّهُ لا يوجد سلام هُوَ سَبَبٌ مُزدوج: مُقاومة الشَّيطان، وعِصيان البشر. فسُقوط الملائكة وسُقوط الإنسان جَعَلا العالَمَ خَالٍ مِنْ أيِّ سَلام. وهذا لا يَعني أنَّ اللهَ لا يُريدُ سلامًا، بل أنَّ الإنسانَ والشَّيطانَ يَخوضانِ حَرْبًا معَ الله. وكما تَعلمون، لا يمكنكم أنْ تكونوا في سلامٍ معَ الآخرينَ إلَّا إذا رَغِبُوا في ذلك لأنَّهُ شيءٌ مُتبادَل. وطالَما أنَّهُم لا يَرغبونَ في السَّلامِ، لن يكونَ هناكَ سلام.
ولكِنَّنا نأتي في هذا المساء إلى الخُطوة السَّابعة في السُّلَّم الَّذي يُؤدِّي إلى السَّعادة الإلهيَّة. والتَّطويبة السَّابعة هي: صَانِعو السَّلام. ويبدو أنَّ اللهَ قد دَعانا إلى الوُجودِ في هذا العالمِ دَعْوَةً خاصَّةً جدًّا: لكي نَسْتَرِدَّ ونَختبرَ شيئًا ظَلَّ مَفقودًا منذُ السُّقوط. فيجب علينا أنْ نُعيدَ العالمَ إلى السَّلامَ الَّذي فُقِدَ مِنْ خلالِ السُّقوط. لِذا فقد أَعَدَّ اللهُ مَجموعةً خاصَّةً مِنَ النَّاسِ يَدعوهُمْ "صَانِعو السَّلام". وَهُمْ أَدَواتُهُ في العالَم إذْ هُمْ موجودونَ لكي يَصْنَعوا سَلامًا. وَهُمْ يَقْطَعونَ شَوْطًا أكبرَ مِنْ أيِّ شخصٍ يَفوزُ بجائزة نوبل للسَّلام لأنَّ السَّلامَ الَّذي يُقَدِّمونَهُ هُوَ سلامٌ أبديّ. والسَّلامُ الَّذي يَصْنَعونَهُ هُوَ سَلامٌ إلهيٌّ وسلامٌ حَقيقيّ. لِذا فإنَّ رَبَّنا يسوعَ يقول إنَّ اللهَ وَعَدَ بمباركةِ الأشخاصِ الَّذينَ يَكونونَ أداةً في يَدِهِ لِصُنْعِ السَّلام. وحَتَّى إنَّهُ يَدعوهُم "أبناءَ الله".
واللهُ يُشيرُ هُنا، مِن خلالِ كلماتِ رَبِّنا يسوعَ المسيح، إلى صَانِعِ سَلامٍ يَختلفُ عن كُلِّ صَانِعي سَلامٍ الَّذينَ نَعْرِفُهُم في هذا العالم. فهو لا يُشيرُ إلى سِياسيِّين. وهو لا يُشيرُ إلى رِجالِ دَولة مَهما كانوا بارعينَ في صُنْعِ السَّلام. وهو لا يُشيرُ إلى دِبلوماسيِّين. وهو لا يُشيرُ إلى مُحَكِّمين. وهو لا يُشيرُ إلى مُلوك أو رُؤساء أو أشخاصٍ فائزينَ بجائزةِ نوبل. وهو لا يُشيرُ إلى مُنَظَّماتٍ مِثْلَ عُصْبَةِ الأُمَمِ أوِ الأُمَمِ المُتَّحِدَة. وهو لا يُشيرُ إلى نِظامٍ كَنَسِيٍّ. وهو لا يُشيرُ إلى مَجْلِسِ كَنائِس. وهو لا يُشيرُ إلى رُؤساءِ دُوَلٍ مِثْلَ "كارتر" (Carter) و "كيسنجر" (Kissinger)، ولا إلى رُؤساءِ دُوَلٍ مِثلَ "السَّادات" (Sadat) وَ "بيغن" (Begin)، ولا إلى أيِّ شخصٍ كهؤلاء بوصفِهِم صِانِعي سَلامٍ بالمَفهومِ الإلهيِّ. فَصانِعو السَّلامِ بِالمَفهومِ الإلهيِّ مُختلفونَ تمامًا. وهذا أمرٌ حَميدٌ لأنَّ سِجِلَّ صَانِعي السَّلامِ العالميِّ يُبَرْهِنُ على فَشَلِهِم الذَّريع.
ومِنَ المُدهشِ كيفَ أنَّنا صَفَّقْنا قبلَ بِضعَة أشهُر للسَّلامِ العظيم الَّذي تَحَقَّقَ حينَ التقى الرَّئيسُ "كارتر" بقادةِ الشَّرقِ الأوسط؛ ولكنَّ ذلكَ السَّلامَ ابتدأَ حالاً بالانهيار. فنحنُ لا نَتَمَتَّعُ بِالسَّلامٍ سِياسيًّا، ولا نَتمتَّعُ بالسَّلامِ اقتصاديًّا، ولا نَتمتَّعُ بالسَّلامِ اجتماعيًّا. ونحنُ لا نَتمتَّعُ بالسَّلامِ كأُمَم، ولا نَتمتَّعُ بالسَّلامِ كَبُلدان، ولا نَتمتَّعُ بالسَّلامِ كأحزابٍ سياسيَّة، ولا نَتمتَّعُ بالسَّلامِ كَمُنَظَّمات، ولا نَتمتَّعُ بالسَّلامِ في البُيوت، ولا نَتمتَّعُ بالسَّلامِ في أيِّ مكانٍ لأنَّنا لا نَمْلِكُ سَلامًا في قُلوبِنا. وهذه هي المشكلة الحقيقيَّة. وقد قالَ أحدُ الأشخاص: "يوجد في واشنطن العَديدُ مِنَ الأنْصابِ التَّذكاريَّةِ المُختصَّة بالسَّلام. فَهُمْ يُقيمونَ نُصْبًا تَذكاريًّا بعدَ كُلِّ حَرْب". فلا يوجد شخصٌ واحدٌ نَجَحَ في إحْلالِ السَّلام.
ولا يُمكنني أنْ أَنسى إحصائيَّةً قَرأتُها. وقد كانَ السُّؤالُ هو: "كم عَدَدُ مُعاهداتِ السَّلامِ الَّتي نُقِضَتْ؟" وكانَ الجوابُ هو: كُلُّها. وكما تَرَوْن، فإنَّ السَّلامَ هو تلكَ اللَّحظة القصيرة في التَّاريخ الَّتي يَتَوَقَّفُ فيها كُلُّ شخصٍ لإعادةِ تَلْقيمِ سِلاحِه. فالأُمَمُ المُتَّحِدة كانت مَعْنِيَّة في أعْقابِ الحربِ العالميَّةِ الثَّانيةِ بتأسيسِ هيئةٍ تُعْنَى بالسَّلامِ العالميّ. لِذا، في سنة 1945، أَسَّسَتِ الأُمَمُ المُتَّحِدَةُ نَفْسَها وَظَهَرتْ إلى حَيِّز الوُجود. ولكِنْ منذُ ذلك الوقت، لم يَحُلَّ السَّلامُ يومًا واحدًا على الأرض؛ ولا حَتَّى يومًا واحدًا. فالعالمُ غارقٌ في اضطراباتٍ لا تنتهي. وَقد وُضِعَ شِعارُ الأُمَمِ المُتَّحِدَة في سنة 1945، وهو يَنُصُّ على الآتي: "أنْ نُنْقِذَ الأجيالَ المُقبلةَ مِنْ وَيلاتِ الحَرْب". وحتَّى يومِنا هذا، لم يَنجحوا في تحقيقِ ذلك يومًا واحدًا. فهو مُجَرَّدُ وَهْم. وقد قالت صحيفة "نيويورك تايمز" في تقريرٍ لها نُشِرَ في سنة 1968، أيْ قبلَ عَشْرِ سِنين، إنَّهُ قدِ انْدَلَعَتْ 14,553 حربًا يَعلمونَ عنها منذُ سنة 36 قبلَ الميلاد. ومُنذُ سنة 1945، اندلعت ما بين 50-70 حربًا، و 164 ثورة دوليَّة عنيفة بارزة. والحقيقة هي أنَّهُ مُنذ سنة 1958، اشتركت 82 أُمَّة في صِراعات.
وأذكرُ حينَ قالَ الرَّئيسُ السَّابقُ "نيكسون": "السَّلام! جِيْلٌ يَنْعَم بالسَّلام!" فقد كانَ هذا هُوَ شِعارُ حَمْلَتِهِ الانتخابيَّة في سنة 1970. وقد قالَ الآتي: "سوفَ نُنشئُ جيلاً يَنْعَم بالسَّلام؛ وهو شيءٌ لم نَنْعَم بهِ يومًا في هذه الأمَّة". ولكنَّنا لم نَنْعَم يومًا واحدًا بذلكَ السَّلام. فقد قالَ "نيكسون" إنَّنا سنُنشئُ جيلًا يَنْعَم بالسَّلام. ولكنَّنا لم نَنْعَم طَوالَ ثلاثةٍ وثلاثينَ سنة بالسَّلام. ويقولُ بعضُ المُؤرِّخينَ إنَّ جِيْلَيْنِ عاشا في سَلامٍ: مِن سنة 1815 إلى 1846، ومِن سنة 1865 إلى 1898. ولكِنَّ السَّبَبَ في هذا القول هو أنَّهم لم يَحسبوا حُروبَ الهُنودِ الحُمْر. فقد كانت هاتانِ الفَتْرَتَانِ الزَّمَنِيَّتانِ مُضَرَّجَتَيْنِ بدماءِ الهُنودِ الحُمْر. ونحنُ لم نَعْرِف يومًا، طَوالَ تاريخِ أمريكا، جيلاً عاشَ في سلام. وبالمناسبة، إذا كنتم تَظُنُّونَ أنَّ مشاكِلَنا تَقْتَصِرُ على السَّاحةِ السِّياسيَّةِ والسَّاحةِ العالميَّة، يجب أنْ تَعلموا أنَّ عَدَدَ الأشخاصِ الَّذينَ قُتِلوا في أمريكا بواسطةِ الأسلحة الشَّخصيَّة يَفوقُ كُلَّ مَنْ ماتوا في الحُروبِ الَّتي اشتركنا فيها. فلا يوجد سلام.
ونحنُ لا نملِك القُدرة على التَّعايشِ بعضُنا مع بعض. فكُلُّ الأشياءِ وكُلُّ العلاقاتِ هَشَّة. ونحنُ لدينا مشاكِل على الصَّعيدِ الشَّخصيّ. فلا يوجد سلام. والنَّاسُ يُعانونَ أمراضًا عقليَّةً ونفسيَّةً إلى حَدٍّ لم يَعُد بمقدورِنا أنْ نُصَنِّفَها كما هي الحالُ اليوم. وهناكَ تَفَسُّخٌ عائليّ، ومشاكل في المدارس، ومسيرات، واعتصامات، واعتراضات، واحتشادات، واحتجاجات، ومُظاهرات لا نهاية لها تُثيرُ الغَثَيان. فيبدو أنَّهُ لا توجد نهاية لأيٍّ مِنها. والسَّببُ في هذا كُلِّه هو أنَّ الإنسانَ لا يَحيا في سلامٍ معَ نفسه. لِذا فإنَّ عالَمَهُ (الَّذي هو انعكاسٌ لذاتِهِ وَحَسْب) لا بُدَّ أنْ يكونَ في حالة فوضى عارِمَة بِكُلِّ مَعنى الكلمة. وإنْ كان هناكَ وقتٌ تَدعو فيهِ الحاجة إلى وُجودِ صَانِعي السَّلام، فهو الآن. فالعالمُ بحاجة مَاسَّة إلى صانِعي سَلام. واللهُ يَقولُ مِن خلال يسوعَ المسيحِ في هذه الآية الرَّائعة إنَّهُ سيُباركُ بصورة خاصَّة صَانِعي السَّلام.
ولكي نَفهمَ ما يَقولُهُ رَبُّنا هُنا، يجب علينا أنْ نَتأمَّلَ في خمسِ حقائق مُختصَّة بالسَّلام، أو خمسة وقائع مُختصَّة بالسَّلام: أوَّلاً، مَعنى السَّلام. فما الَّذي نَعنيهِ بالسَّلام؟ عندما نَتحدَّث عنِ السَّلام، ما الَّذي نَعنيهِ حَقًّا؟ وما هو تَعريفُ السَّلامِ الَّذي نَتحدَّثُ عنه؟ وكيفَ نَرى السَّلامَ كما يَراهُ اللهُ؟ وما هي النَّظرة الإلهيَّة إلى السَّلام؟ فهناكَ أُناسٌ يَظُنُّونَ أنَّ السَّلامَ يَعني غِيابَ الصِّراع، وأنَّ السَّلامَ يَعني غِيابَ الشِّجار. ولكِنْ مَعَ أنَّهُ لا يوجد شِجارٌ أو صِراعٌ في المَقْبَرَة، فإنَّنا لا نستطيعُ أنْ نَستخدِمَ المَقبرة كنموذجٍ للسَّلام. لا! فالسَّلامُ (كما يَراهُ اللهُ) ليسَ مُجَرَّدَ غِيابِ شيءٍ ما، بل هو وُجودُ شيءٍ ما. وأودُّ أنْ أقولَ ذلكَ بطريقة كِتابيَّة: السَّلامُ هوَ ليسَ غِياب الصِّراع، بل هو وُجود البِرّ الَّذي يُؤدِّي إلى علاقاتٍ سليمة.
فالسَّلامُ لا يعني فقط إيْقاف الحرب، بل إنَّ السَّلامَ يَعني الحُصول على البِرّ الذي يُؤدِّي إلى وجودِ مَحَبَّة بينَ طَرَفَيْن. فعندما يَقولُ يَهوديٌّ لآخر: "شالوم" (وهي كلمة تَعني: "سَلام")، فإنَّهُ لا يَعني: "أتمنَّى لكَ حياةً خاليةً مِنَ الحُروبِ والصِّراعات"؛ بل هو يَعني بذلك: "أتمنَّى لكَ أنْ تَنْعَمَ بكُلِّ البِرِّ الَّذي يستطيعُ اللهُ أنْ يَمْنَحَهُ، وكُلَّ الخيرِ الَّذي يستطيعُ اللهُ أنْ يُقَدِّمَهُ". فالكلمة "شالوم" تَعني: "خَيْرُ اللهِ العَميمِ لَك". وهي قُوَّة خَلاَّقة للخير. لذا، إنْ أردنا أنْ نكونَ صانِعي سلام، لا يجب علينا فقط أنْ نُوقِفَ الحربَ، بل أنْ نُحِلَّ مَحَلَّها بِرَّ اللهِ، وأنْ نُحِلَّ مَحَلَّها كُلَّ صَلاحِ اللهِ. فصانِعو السَّلام ليسوا فقط الأشخاصَ الَّذينَ يَدْعُونَ إلى عَقْدِ هُدْنَة، بل إلى سلامٍ حقيقيٍّ تُنْسى فيهِ كُلُّ الأحقاد ويُعانِقُ فيهِ الواحدُ الآخر. فهو خَيْرٌ عَميم. وما أحاولُ أنْ أقولَهُ هو أنَّ السَّلامَ لا يُوْجِدُ فَراغًا. والسَّلامُ لا يُؤدِّي إلى غيابِ شيءٍ مَا، بل إنَّهُ يُؤدِّي إلى وُجودِ شيءٍ ما.
والآنْ، اسمحوا لي أنْ أُبَيِّنَ لكم الفَرْق. فهناكَ فَرْقٌ بينَ الهُدْنَة والسَّلام. فالهُدْنَة تقول: ضَعْ أسْلِحَتَكَ ولا تُطْلِق النَّارَ حَتَّى حِيْن. وهذا هوَ تَعريفُ العالمِ لما يَحدُث عندما تتوقَّفُ جميعُ الأطرافِ المُتحاربة وقتًا قصيرًا لإعادَةِ تَلْقيمِ أسْلِحَتِها. فهذه هُدْنَة. أمَّا السَّلامُ فيعني أنْ نَعرِفَ الحَقيقة، وأنْ نَحْسِمَ الخِلافَ، وأنْ يُعانِقَ كُلُّ فَريقٍ الآخر. وهناكَ أُناسٌ يَظُنُّونَ أنَّ السَّلامَ يعني تَوَقُّف الحرب، وأنَّ ما نحنُ بحاجة إليهِ في العالم هو أنْ يتوقَّفَ النِّزاع. ولكِنَّ كُلَّ ما يَفْعَلُهُ ذلك هوَ تأجيجُ الأزمة. وكُلُّ ما سيحدث آنذاكَ هو الحرب الباردة. والحرب الباردة هي حرب. وقد يقولُ البعض: "أريدُ فقط أنْ أتحقَّقَ مِنْ أنَّهُ لن يكونَ هناكَ أيُّ خِلاف. أريدُ فقط أنْ أُسَكِّنَ النِّزاعَ وأُوْقِفَ القِتال". ولكِنَّكَ إنْ كنتَ تَسْعى إلى تحقيقِ السَّلامِ بهذه الطَّريقة، وإلى إيقافِ أيِّ نِزاع، رُبَّما تَتَسَبَّبُ في موقفٍ أسوأ بكثير مِن ذلكَ الَّذي كانَ سيحدث لو أنَّكَ تَرَكْتَ الخُصومَة تَستمرّ لأنَّكَ رُبَّما قَضَيْتَ على أيِّ حَلٍّ مُحْتَمَل، وأَخْفَيْتَهُ تحتَ الأرضِ إلى أنْ تَفاقَمَ وَدَمَّرَ كِلا الجانِبَيْن.
فمثلاً، إنْ رأيتَ شخصَيْنِ مُتخاصِمَيْن، لا تُسارِع إلى فَصْلِهِما الواحد عنِ الآخر ولا تَمْنَعْهُما مِنْ رُؤيةِ الواحدِ للآخر. بل يجب عليكَ أنْ تَدْعوهُما معًا لكي يَحْسِما الخلافَ، ويَتصالَحا بِمَوَدَّة، ويُعانِق الواحدُ الآخر، ويَحُلَّا المُشكلة. فهذا سَلامٌ، لا هُدْنَة.
فَالسَّلامُ الَّذي يَتحدَّثُ عنهُ الكتاب المقدَّس لا يَتَجاهَلُ الخلافات. وهو لا يَتَجَنَّبُ المشكلات. وسلامُ الكتاب المقدَّس ليسَ سلامًا بأيِّ ثمن. وهو ليسَ شيئًا بَرَّاقًا وحَسْب. فسلامُ الكتاب المقدَّس يُعالِج المشكلة. هل تَرَوْنَ الفرق؟ فهو يُعالِج تلكَ المشكلةَ في عُقْرِ دارِها لكي يَتصالحَ الطَّرَفان. وهي تَبني جِسْرًا يَصِلُ بينَ الطَّرَفَيْن. وهو قد يَعني الصِّراعَ أحيانًا. وهو قد يعني الألمَ أحيانًا. وهو قد يَعني الكَرْبَ أحيانًا. وهو قد يَعني أحيانًا مَزيدًا مِنَ التَّوتُّرِ؛ ولكنَّهُ يُفْضي في نهايةِ المَطافِ إلى سَلامٍ حَقيقيّ.
وأرجو مِنكم أنْ تُلاحظوا ما جاءَ في رسالة يعقوب 3: 17، وهي آية ينبغي أنْ تُبْقوها في أذهانِكم. وسوفَ نَعودُ إلى الآية 18 لاحقًا. ولكِنَّنا سنَكتفي بالحديثِ عنِ الآية 17 الآن: "وَأَمَّا الْحِكْمَةُ الَّتِي مِنْ فَوْقُ" [والآنْ استَمِعوا:] "وَأَمَّا الْحِكْمَةُ الَّتِي مِنْ فَوْقُ فَهِيَ أَوَّلاً" [ماذا؟] "طَاهِرَةٌ"، ثُمَّ [ماذا؟] مُسَالِمَةٌ". ويمكنكم أن تتوقَّفوا هنا وأنْ تتركوا الجُزءَ المُتَبَقِّي إذْ سنعودُ إليهِ لاحقًا. فالحِكمةُ الَّتي مِنْ عندِ اللهِ تَجِدُ طَريقَها إلى السَّلامِ مِن خلالِ ماذا؟ الطَّهارة. فهي أوَّلاً: طاهِرَة، ثُمَّ: مُسالِمَة. فلا يَجوزُ أنْ نَسْعى إلى السَّلامِ على حِسابِ البِرّ. فأنتَ لا تَصْنَعُ سلامًا بينَ شَخْصَيْنِ إلَّا إذا ساعَدْتَهُما على رُؤيةِ الخطيَّة، والخطأ، والإساءة، والمَرارة، والكراهِيَة، وإلَّا إذا ساعَدْتَهُما على أَخْذِ قَرارٍ بِعَرْضِ المشكلة على اللهِ وَمُعالَجَتِها. ثُمَّ مِنْ خلالِ الطَّهارةِ يَتَحَقَّقُ السَّلام. فالسَّلامُ الَّذي يَتجاهلُ الطَّهارةَ ليسَ السَّلامَ الَّذي يَتحدَّثُ اللهُ عنه. ونحنُ نَقرأ في الرِّسالة إلى العِبرانيِّين 12: 14 هذه الكلماتِ الَّتي ينبغي أنْ تَحفظوها: "اِتْبَعُوا السَّلاَمَ مَعَ الْجَمِيعِ، وَالْقَدَاسَةَ". بعبارة أخرى، لا يُمكنكُ أنْ تَفْصِلَ السَّلامَ عنِ القداسة. ولا يمكنكَ أنْ تَفصلَ السَّلامَ عنِ الطَّهارة. ولا يمكنكَ أنْ تَفصلَ السَّلامَ عنِ البِرّ. فالمزمور 85: 10 يقول: "الْبِرُّ وَالسَّلاَمُ تَلاَثَمَا". فحيثُ يوجد سلامٌ حقيقيٌّ يوجد بِرّ. وحيثُ يوجد سلامٌ حقيقيٌّ توجد قداسة. وحيثُ يوجد سلامٌ حقيقيٌّ توجد طَهارة لأنَّ هذا يَحْسِمُ المُشكلة.
ولا شَكَّ في أنَّنا نَرْغَبُ جميعًا في تَجَنُّبِ النِّزاعِ الَّذي لا مُبَرِّرَ لَهُ؛ سَواءٌ كانَ في العائلة أوْ في العَمَلِ أوْ في أيِّ مكانٍ آخر. ولكنْ إنْ فَعَلْنا ذلكَ على حِسابِ الحَقِّ، فإنَّنا نُساوِم على مَبادِئِنا. وهذا لن يكونَ سلامًا حقيقيًّا، بل هو مُجَرَّدُ هُدْنَة يَعْمَلُ كُلُّ شَخْصٍ خِلالَها على إعادَةِ تَلْقيمِ سِلاحِه. وفي إنجيل مَتَّى 10: 34، نَجِدُ كلماتٍ رائعة مِنْ رَبِّنا إذْ إنَّهُ قالَ الآتي: "لاَ تَظُنُّوا" (مَتَّى 10: 34) أَنِّي جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا عَلَى الأَرْضِ. مَا جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا بَلْ [ماذا؟] سَيْفًا". وقد تقول: "يا للعَجَب! هذا مُعاكِسٌ تَمامًا للتَّطويبات. إنَّها على النَّقيضِ تمامًا لما يَقولُهُ رَبُّنا في الأصحاحِ الخامسِ مِنْ إنجيل مَتَّى. وما الَّذي يَعنيهِ بقولِه: ’مَا جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا بَلْ سَيْفًا‘؟" إنَّ ما قَصَدَهُ هُوَ الآتي: يَسوعُ لم يأتِ لإحلالِ السَّلامِ بأيِّ ثَمَن. فقد كانَ يَعلمُ أنَّهُ لا بُدَّ مِنْ وُجودِ نِزاعٍ قبلَ حُلولِ السَّلام. وقد كانَ يَعلمُ أنَّ النِّزاعَ ينبغي أنْ يُحَلّ.
اسمعوني: بالنِّسبة إلى المؤمن، لا بُدَّ مِنْ وجودِ صِراع. فحَتَّى لو كُنَّا صانِعي سَلامٍ في العالم، لن يكونَ مِنَ السَّهلِ أنْ تكونَ صانِعَ سَلامٍ لأنَّنا إنْ أردنا أنْ نكونَ صانعي سلامٍ وَفْقًا لشروطِ اللهِ، يجب علينا أنْ نكونَ صانِعي سلامٍ يَقولونَ الحَقَّ لكي يكونَ السَّلامُ حقيقيًّا. وإنْ طَبَّقْنا الحَقَّ في عالمٍ يُحِبُّ الكَذِب، سيكونُ هناكَ صِراعٌ قبلَ أن يكونَ هناكَ سلام. أليسَ كذلك؟ وهذا هو ما قُلْتُهُ عنِ الكِرازةِ بالإنجيل. فلا بُدَّ أنْ يَغْضَبَ النَّاسُ مِنْكَ قبلَ أنْ يَرْضُوا عَنْك. ولا بُدَّ أنْ تَهُزَّ كِيانَهُم قبلَ أنْ يَصيروا بحالٍ أفضل. ولا بُدَّ أنْ يَشعروا بمشاعرَ سَيِّئة قبلَ أنْ يَشعروا بمشاعرَ طَيِّبة. لِذا، مِن أجلِ إحلالِ السَّلامِ الحقيقيِّ في العالم، يجب أنْ يَنْزِلَ السَّيفُ أوَّلاً. ثُمَّ مِنْ خلالِ السَّيفِ يَحُلُّ السَّلامُ لأنَّهُ سَيْفُ الطَّهارة. وَهُوَ سيفُ البِرّ. وَهُوَ سيفُ القداسة.
لِذا فإنَّنا نَقرأُ في رسالة يهوذا الرَّائعة والعدد الثَّالث: "أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، إِذْ كُنْتُ أَصْنَعُ كُلَّ الْجَهْدِ لأَكْتُبَ إِلَيْكُمْ عَنِ الْخَلاَصِ الْمُشْتَرَكِ، اضْطُرِرْتُ أَنْ أَكْتُبَ إِلَيْكُمْ وَاعِظًا أَنْ تَجْتَهِدُوا لأَجْلِ الإِيمَانِ الْمُسَلَّمِ مَرَّةً لِلْقِدِّيسِين". بعبارة أخرى، يجب علينا أنْ نُمَاحِكَ بخصوصِ بعضِ الأمور. فلكي تكونَ صانِعَ سَلامٍ، لا يَجوزُ أنْ تَقول: "الحقيقة هي أنِّي لا أريدُ أنْ يَغْضَبَ مِنِّي هؤلاءِ الأشخاصُ الأعِزَّاء. فمعَ أنَّهُم لا يؤمنونَ بما نُؤمِنُ بهِ، فإنَّني لا أُريدُ أنْ يَغْضَبوا مِنِّي". إنَّ هذا ليسَ صُنْعَ سَلامٍ، بل هذه هُدْنَة لا تُسْهِمُ البَتَّة في حَلِّ المُشكلة لأنَّ القضيَّة الرَّئيسيَّة هي البِرّ، والقَداسة، والطَّهارة. لِذا فإنَّنا نُطَبِّقُ الإنجيلَ عَالِمينَ أنَّهُ يَهُزُّ الأبْدانَ، ويُبَكِّتُ، ويُحْدِثُ خِلافاتٍ ونِزاعاتٍ ومُخاصَمات. ولكِنْ عندما يُفَضُّ النِّزاعُ بالإيمانِ بيسوعَ المسيح، يَحُلُّ سَلامٌ حقيقيٌّ...سلامٌ حَقيقيٌّ.
لِذا، فإنَّ عَمليَّةَ صُنْعِ السَّلامِ لا تَعني أنْ نَتَخَلَّى عن مبادِئِنا. وهي لا تَعني أنْ نَتَخَلَّى عن عقيدَتِنا، ولا أنْ نَتَخَلَّى عنْ قَناعاتِنا. فعندما يقولُ يسوعُ: "كونوا صَانِعي سَلامٍ في العالم"، فإنَّ هذا لا يَعني ألَّا تَذْكُرَ أيَّة حقيقة إنْ كانَ ذلكَ يُسيءُ إلى شخصٍ ما. بل إنَّ العَكْسَ صَحيحٌ إذْ إنَّهُ مِنَ الأفضل أنْ تُثيرَ ذلكَ الموضوع (إنْ كانَ هوَ الحقيقة)، ومِنَ الأفضل أنْ يَغْضَبوا مِنْكَ لكي يَتجاوزوا ذلكَ ويَحصُلوا على السَّلامِ الحقيقيّ. فالسَّلامُ الكِتابِيُّ هُوَ سلامٌ حقيقيّ. ونحنُ لسنا صانِعي سَلامٍ في العالم بمَعنى أنَّنا لا نُسَبِّبُ أيَّ خِلاف. فنحنُ نُسَبِّبُ الخِّلافاتِ طَوالَ الوقت. ولكِنَّنا نَصْنَعُ سلامًا في العالمِ بالمَعنى التَّالي: أنَّهُ عندما يُفَضُّ الخِلافُ، فإنَّ السَّلامَ الَّذي يَحُلُّ يكونُ حَقيقيًّا. فالسَّلامُ الكِتابِيُّ هُوَ سَلامٌ مِن ذلكَ النَّوع. فنحنُ لا نُؤمِنُ بِفَضِّ الخِلافاتِ مِنْ دونِ قَوْلِ الحَقّ. بل إنَّنا نَهتمُّ بِقَوْلِ الحَقّ. وإنْ قُلْتُم الحَقَّ، يا أحبَّائي، سَتُحْدِثونَ انْقسامًا، وتُحْدِثونَ انزعاجًا، وتُحْدِثونَ اضطرابًا. فَلا مَفَرَّ مِنْ ذلك.
وأنتُم تُدركونَ ذلك وَتَرَوْنَ ذلك. أليسَ كذلك؟ فأنتُم تذهبونَ إلى أشغالِكُم، وتَحْيَوْنَ لأجْلِ المسيح، وتَشْهَدون عنهُ. وأنتُم تُحاولونَ أنْ تكونوا صَانِعي سلامٍ وأنْ تُساعِدوا النَّاسَ على أنْ يَتصالحوا معَ اللهِ، وعلى أنْ يَتصالحوا بعضُهُم مَعَ بَعْضٍ، وعلى أنْ يَتصالَحوا معَ أنْفُسِهِم في قُلوبِهم. ومعَ أنَّكُم تحاولونَ القيامَ بِكُلِّ ما في وُسْعِكُم لمساعدتهم على أنْ يَحْيَوْا في سلام، فإنَّ كُلَّ ما يَفعلونَهُ هُو أنَّهُمْ يَغْضَبونَ مِنْكَ لأنَّ الأساسَ الَّذي تَقومُ عليهِ رِسالَتُكُ بِرُمَّتِها يَقومُ على ضرورة أنْ يُعالِجوا مَسألةَ الخطيَّة. والنَّاسُ لا يُحِبُّونَ سَماعَ ذلك. لِذا فإنَّهُمْ يَنزعجونَ جِدًّا. وقد قالَ رَبُّنا في إنجيل لوقا 12: 51: "أَتَظُنُّونَ أَنِّي جِئْتُ لأُعْطِيَ سَلاَمًا عَلَى الأَرْضِ؟ كَّلاَّ، أَقُولُ لَكُمْ: بَلِ انْقِسَامًا. لأَنَّهُ يَكُونُ مِنَ الآنَ خَمْسَةٌ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ مُنْقَسِمِينَ: ثَلاَثَةٌ عَلَى اثْنَيْنِ، وَاثْنَانِ عَلَى ثَلاَثَةٍ. يَنْقَسِمُ الأَبُ عَلَى الابْنِ، وَالابْنُ عَلَى الأَبِ، وَالأُمُّ عَلَى الْبِنْتِ، وَالْبِنْتُ عَلَى الأُمِّ، وَالْحَمَاةُ عَلَى كَنَّتِهَا، وَالْكَنَّةُ عَلَى حَمَاتِهَا". بعبارة أخرى، فإنَّ يسوعَ يقولُ إنَّهُ مِنَ الواضحِ جِدًّا في البداية أنَّهُ عندما يأتي النَّاسُ إلى يسوعَ المسيحِ فإنَّهُ سيكونُ هُناكَ خِصام. وَهُوَ يَعْلَمُ أنَّ السَّلامَ الحقيقيَّ لا يَتحقَّقُ إلَّا عندما يَسودُ الحَقُّ وأنَّ السَّلامَ الحَقيقيَّ ليسَ مُجَرَّد هُدْنَة، بل هو سَلامٌ حَقيقيٌّ.
لِذا، عندما يأتي شخصٌ ويقول: "أتَدري أنَّ نَظرَتَكَ ضَيِّقة، وأنَّهُ ينبغي لكَ أنْ تَميلَ أكثر إلى أنْ تكونَ مَسْكونِيًّا، وأنَّهُ يجبُ عليكَ أنْ تَتْرُكَ نِقاطَ الخِلافِ، وأنْ تَبْحَثَ فقط عنْ نِقاطِ الوِفاقِ وتُرَكِّز عليها. فيجب علينا جميعًا أنْ نَتَّحِد معًا وأنْ نُناقِشَ الأمورَ الَّتي نَتَّفِق عليها". حسنًا! دَعوني أُخبرُكم شيئًا: إنَّ المسيحَ لم يُعْلِن يومًا البَرَكَة على المُرْتَدِّين. وإنِ التقى يومًا شخصًا لديهِ نُقطة خاطئة، كانَ يُشيرُ دائمًا إلى ذلكَ الخطأ لأنَّ السَّلامَ الحقيقيَّ الوحيدَ لا يَتَأتَّى إلَّا حينَ نَتجاوبُ معَ الحَقّ. فإنْ كنتُ أَختلفُ معَ شخصٍ ما بشأنِ شيءٍ ما في كلمةِ الله، ولا سِيَّما بشأنِ حَقٍّ عظيمٍ مُهِمٍّ في كلمةِ اللهِ، لا يمكنني أنْ أَتَغاضَى عن ذلك. فلا يمكنني أنْ أَتَحاشَى الحديثَ عن ذلك وأنْ أَدَّعي أنِّي صانِع سَلام. فمعَ أنَّني قد أَدعو إلى عَقْدِ هُدْنَة، فإنَّني لم أُساعد ذلكَ الشَّخص في صُنْعِ سَلامٍ معَ الله. وسوفَ تكونُ النِّهاية هي نفسُها.
لِذا فإنَّ صانِعي السَّلامِ بحسبِ مَفهومِ الكتاب المقدَّس ليسوا أشخاصًا هادئينَ، وَلَيِّنِي العَريكَة، ولا يَرغبونَ في إثارةِ الأمورِ والقضايا، ويَفتقرونَ للإحساسِ بالعَدالة، ويَفتقرونَ للإحساسِ بالبِرّ، ومُساومين، وَمُهادِنين. لا! فالنَّاسُ يقولون: "آه، إنَّهُ صانِعُ سلامٍ رائع!" وَهُمْ يَقْصِدُونَ بذلك أنَّهُ ليست لديهِ قَناعات. ولكِنَّ الأمرَ ليسَ كذلك. فصانِعُ السَّلامِ الحَقيقيِّ بحسبِ المفهومِ الكِتابيِّ لا يُثيرُ الفِتْنَة. وهو لن يُنْقِذَ الموقفَ الرَّاهِنَ إنْ كان ينبغي توضيحُ الحَقِّ في تلك المسألة. وهو لا يقول: "حسنًا، أَتَعلمونَ شيئًا؟ أنا أَعلمُ أنَّ ذلكَ الشَّخصَ على خطأ، ولكنِّي أُفَضِّلُ الحِفاظَ على السَّلامِ في هذا الموقف". أو: "لن أقولَ شيئًا عن تَصَرُّفِ ابني، أو عن تَصَرُّفِ زوجي، أو عن تَصَرُّفِ صديقي. بل أريدُ فقط أنْ أُحافِظَ على السَّلام". فهذا إهمالٌ للمسؤوليَّة. فالسَّلامُ الحقيقيُّ لا يَتحقَّقُ إلَّا بعدَ قَوْلِ الحقيقة. لِذا فإنَّ مَعنى السَّلام هوَ: السَّلام الحقيقيّ. فهو ليسَ مُجَرَّد سلام بِغَضِّ النَّظر عن التَّكلُفة. وهو ليسَ حِفاظًا على الوضعِ الرَّاهِن. وهو ليس وَقْفًا لإطلاقِ النَّارِ لكي نُعيدَ تَلْقيمَ أسْلِحَتِنا. وهو ليسَ هُدْنَة فَحَسْب. وهو ليس حربًا باردةً. بل هُوَ يَعني حَلّ المُشكلة مِن خلالِ قولِ الحَقِّ، ومِنْ خلالِ تَطبيقِ بِرِّ الله.
النُّقطة الثَّانية. فقد رأينا مَعنى السَّلام. فَهُوَ سَلامٌ حَقيقيٌّ كما يَراهُ اللهُ. وقد تَحَدَّثنا عن ذلك. ثانيًا، ما يُهَدِّد السَّلام. فما الشَّيءُ الَّذي يُعِيْقُ السَّلام؟ حسنًا، إنَّهُ واضحٌ. فما يُهَدِّدُ السَّلامَ هو الخطيَّة. فإنْ كانَ مَعنى السَّلام هو البِرّ والحَقّ، فإنَّ ما يُهَدِّد السَّلام هو الخطيَّة (أوِ البَاطِل، أوِ الخطأ، أوِ الأكاذيب). وإنْ أردتُم أنْ تَعرفوا لماذا لا يوجد سلامٌ في العالَم، فإنَّ السَّببَ في ذلك هو أنَّ الشَّيءَ الَّذي يُعيقُ السَّلامَ هُوَ السَّائد. ونحنُ نقرأ في سفر إرْميا 17: 9: "اَلْقَلْبُ أَخْدَعُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ نَجِيسٌ". ويجب أنْ تُدَوِّنوا ذلك: إرْميا 17: 9: "اَلْقَلْبُ أَخْدَعُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ نَجِيسٌ". فالأمرُ يَبتدئُ بقلبٍ شِرِّير. وكيفَ يُظْهِرُ القلبُ الشِّرِّيرُ ذاتَهُ؟ يَقولُ إشعياءُ في الأصحاح 48 والعدد 22: "لاَ سَلاَمَ، قَالَ الرَّبُّ، لِلأَشْرَارِ". لِذا فإنَّ إرْميا يقولُ إنَّ الإنسانَ شِرِّير. وإشعياءُ يقولُ إنَّهُ لا سَلامَ للأشرار. وفي سِفْر إشعياء 57: 21، يَقولُ اللهُ مَرَّةً أخرى: "لَيْسَ سَلاَمٌ...لِلأَشْرَار". وقد قالَ إرْميا الفِكرة نفسَها في الأصحاحِ الثَّامنِ والعدد 11: "وَيَشْفُونَ كَسْرَ بِنْتِ شَعْبِي عَلَى عَثَمٍ، قَائِلِينَ: سَلاَمٌ، سَلاَمٌ. وَلاَ سَلاَم". بعبارةٍ أخرى، فإنَّهم يَتحدَّثونَ عنهُ، ولكنَّهُ غائبٌ لأنَّهُ لا يمكن أنْ يكونَ هناكَ سلامٌ للأشرار: "لا سلامَ للأشرار".
فالإنسانُ شِرِّيرٌ. لِذا فإنَّهُ لا يَعْرِفُ السَّلامَ البَتَّة. لِذا فإنَّ ما يُهَدِّد السَّلام هُوَ شَرُّ الإنسان. وفي إنجيل مَرقُس 7: 20، قالَ الرَّبُّ: "إِنَّ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الإِنْسَانِ ذلِكَ يُنَجِّسُ الإِنْسَانَ. لأَنَّهُ مِنَ الدَّاخِلِ، مِنْ قُلُوبِ النَّاسِ، تَخْرُجُ الأَفْكَارُ الشِّرِّيرَةُ: زِنىً، فِسْقٌ، قَتْلٌ، سِرْقَةٌ، طَمَعٌ، خُبْثٌ، مَكْرٌ، عَهَارَةٌ، عَيْنٌ شِرِّيرَةٌ، تَجْدِيفٌ، كِبْرِيَاءُ، جَهْلٌ. جَمِيعُ هذِهِ الشُّرُورِ تَخْرُجُ مِنَ الدَّاخِلِ وَتُنَجِّسُ الإِنْسَان". والآنْ، إنَّ ما تَتعاملونَ معهُ في المُجتمعِ البشريِّ هوَ إنسانٌ نَجِسٌ مِنَ الدَّاخل. فهو إنسانٌ يَخْرُجُ مِنْهُ كُلُّ هذا الشَّرّ. وهذا النَّوعُ مِنَ القلبِ لا يُمكن أنْ يُثْمِرَ سلامًا لأنَّ السَّلامَ يَتَأتَّى مِنَ القَداسة. والسَّلامُ يَتأتَّى مِنَ البِرّ. والسَّلامُ يَتأتَّى مِنَ الطَّهارة. فهو لا يَنْبُعُ مِنْ هذا النَّوعِ مِنَ الخطيَّة الدَّاخليَّة.
وهذا هوَ ما يَجْعَلُنا نَقرأُ في رسالة يَعقوب 3: 18 (ونحنُ نَعودُ إلى ذلكَ النَّصِّ نفسِهِ الَّذي تأمَّلنا فيهِ سابقًا) إذْ نَقرأ: "وَثَمَرُ البِرِّ يُزْرَعُ فِي السَّلاَمِ مِنَ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ السَّلاَم". والآنْ، لاحِظُوا الآتي: إنَّ صانِعي السَّلامِ الحَقيقيِّينَ، إذًا، يَزْرَعونَ ثَمَرَ البِرّ. والسَّلامُ الحَقيقيُّ يُثْمِرُ باكُورَةَ بِرٍّ. فلا يمكنك أنْ تَحْصُل على سلامٍ حقيقيٍّ ما لم تَزْرَع بِرًّا. بعبارة أخرى، إنْ كانَ هُناكَ خِصامٌ بينَ شَخْصَيْن، فإنَّ السَّببَ في ذلك هو وجود خَطِيَّة. فإن أَزَلْتَ الخَطِيَّة، انْتَهى الخِصام. ولكِنْ عندما يكونُ هناكَ خِصامٌ بينَ شخصين فإنَّكَ تَفْصِلُ بينَهُما. وهذا لا يُحَقِّقُ أيَّ نتيجة. وإنْ كانَتْ هناكَ مُشكلة بينَكَ وبينَ اللهِ، وكُنْتَ في حربٍ معَ الله، فإنَّ كُلَّ ما ينبغي أنْ تَفعلَهُ هو أنْ تُزيلَ العائِقَ (أي: الخَطِيَّة) فيتصالحُ اللهُ والإنسانُ معًا. أليسَ كذلك؟ وكما تَرَوْن، فإنَّ صانِعَ السَّلامِ يَصْنَعُ دائمًا سلامًا مِنْ خلالِ زَرْعِ البِرّ. لِذا فإنَّ حِكْمَةَ اللهِ هي أَوَّلاً طَاهِرَة، ثُمَّ مُسَالِمَة. اسمعوني، يا أحبَّائي: إنَّ صانِعي السَّلام الوحيدينَ في العالم الَّذينَ يَستحقُّونَ لَقَبَ "صانِعي سَلام" هُم أولئكَ الذينَ يَقودونَ النَّاسَ إلى البِرّ؛ أيْ إلى مَعاييرِ اللهِ، وإلى الانْصياعِ إلى حَقِّ اللهِ. وهذا هوَ السَّبَبُ في أنَّ جَميعَ الدِّبلوماسِيِّينَ، ورجالِ الدَّولةِ، والسُّفراءِ، والرُّؤساءِ، ومُلوكِ تاريخِ العالم لم ينجحوا يومًا في تحقيقِ السَّلام.
وبالمُناسبة، إنَّ هذا الفَهْمَ يُعيدُنا إلى بدايةِ التَّطويبات. أجل. فلا يمكنكَ أنْ تكونَ صانعَ سلامٍ ما لم تُطَبِّق التَّطويبات السِّتّ الأولى، وما لم تُعالِج الخطيَّة في حياتِك. والآنْ، ارجِعوا إلى العدد الثَّالث: "طُوبَـى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَات". فأنتَ تَبتدئ بموقفِ المُتَسَوِّل تُجاهَ طبيعَتِكَ الخاطئة. فأنتَ تَجْلِسُ في رُكْنٍ، وتَقْبَعُ في الظَّلامِ، وتَمُدُّ يَدَكَ إلى اللهِ لأنَّكَ تَعلمُ أنَّكَ لا تستطيعُ أنْ تَكْسَبَ أيَّ شيءٍ بِجَدارَتِك. "طُوبَـى لِلْحَزَانَى، لأَنَّهُمْ يَتَعَزَّوْنَ". ثُمَّ إنَّكَ تَبْكي وَتَنوحُ، ويَتَحَرَّقُ قلبُكَ ويتَقَطَّعُ على خطيئتِك. ثُمَّ: "طُوبَـى لِلْوُدَعَاء". فأنتَ تَرى نفسَكَ أمامَ اللهِ، صَاحِبِ السُّلْطانِ والقُدُّوسِ، فتُدركُ أنَّكَ عَديم القيمة. فالوداعةُ تَنْبُعُ مِنَ الحُزْنِ الَّذي يأتي مِنَ المَسْكَنَةِ النَّاجِمَةِ عَنْ إدراكِكَ لطبيعَتِكَ الخاطئة. وفي تلكَ اللَّحظة مِنَ الوداعة (كما جاءَ في العدد 6) فإنَّكَ تَصْرُخُ بسببِ جوعِكَ وعَطَشِكَ إلى البِرِّ فتحصُلُ (بحسبِ العدد 7) على رَحْمَةِ اللهِ. وعندما تَحصُلُ على رَحمةِ اللهِ فإنَّ العدد 8 يقول إنَّكَ تَصيرُ نَقِيَّ القلبِ. وحينَ تَصيرُ نَقِيَّ القلبِ، يمكنكَ حينئذٍ فقط أنْ تَصيرَ ماذا؟ صانِعَ سلام. وهذه هي النُّقطة الجوهريَّة.
وبالمُناسبة، حينَ تَصيرُ صانِعَ سلام، فإنَّ العالمَ لن يَقبلَ ذلك. لِذا فإنَّنا نَقرأُ مُباشرةً في العدد 10: "طُوبَـى" [لِمَنْ؟] "لِلْمَطْرُودِينَ مِنْ أَجْلِ" [ماذا؟] "مِنْ أجْلِ الْبِرِّ". لماذا؟ لأنَّ صانِعي السَّلامِ يحاولونَ دائمًا أنْ يَجْلِبُوا حُلولاً بَارَّةً. وَهُمْ يُحاولونَ دائمًا أنْ يُطَبِّقوا البِرِّ في الموقفِ الرَّاهِن. وحينَ تُحاولُ أنْ تُقَدِّمَ للعالَم سَلامًا قائمًا على البِرّ، فإنَّ رَدَّ فِعْلِهِم على ذلك سيكونُ سلبيًّا لأنَّهم لا يريدونَ أنْ يواجهوا حقيقة الخطيَّة، ولأنَّهم لا يريدونَ أنْ يَجْلِبوا، أو بالحَرِيِّ: لا يريدونَ أنْ يَعرفوا السَّلامَ الَّذي تَسْعى إلى إحْلالِه. لِذا فإنَّنا نُحاولُ أنْ نَصْنَعَ في هذا العالمِ سلامًا قائمًا على البِرّ. وما لم نُعالِج الخطيَّة، لا يُمكن أنْ يكونَ هناكَ سَلامٌ حَقيقيّ البَتَّة.
وأنا لا أبالي بالسَّلامِ المَزعومِ في حياتِكَ إنْ كانت حياتُكَ مليئةً بالمشاكلِ والعَقَباتِ والقلق، أو إنْ كنتَ تَخْضَعُ لجلساتِ عِلاجٍ أوْ تَتناولُ حُبوبًا مُهَدِّئةً وعقاقيرَ أخرى، وتُعاني كُلَّ أنواعِ المشاكل في حياتِك. واسْمَح لي أنْ أقولَ لكَ شيئًا: أنتَ في حاجة إلى وجودِ البِرِّ في حياتِك، وإلى وُجودِ الطَّهارة في حياتِك، وإلى وجودِ القَداسَة في حياتك، وإلى وجودِ السَّلامِ في حياتك. فإنْ كانت هناكَ مشاكل في زواجِك، وخلافات معَ شَريكِ الحياة، وخلافات عائليَّة أو منزليَّة، اسمح لي أن أقولَ لكَ شيئًا واحدًا: أنتَ في حاجة إلى البِرّ، والقداسة، والطَّهارة في زواجِك وفي بيتِكَ لكي تَنْعَمَ بالسَّلامِ في بيتِك. فهذا هو دائمًا السَّبيل. فحالما تَحْيا حياةَ تَقوى، ستصيرُ في سلامٍ معَ اللهِ، وسلامٍ معَ الآخرين، وسلامٍ مَعَ نَفسِك.
لِذا، لكي تكونَ صَانِعَ سلام، يجب أنْ تَحْيا كُلَّ التَّطويبات. ويجب أنْ تَبْلُغَ مَرحلةً تَرى فيها طبيعَتَكَ الخاطئة، وتَرى فيها نفسَكَ بوصفِكَ إنسانًا شَقِيًّا، وبائسًا، ولا تَسْتَحِقُّ شيئًا ولا أيَّ حُقوقٍ أوِ امتيازات...إلى مَرحلةٍ تَكْرَهُ فيها طَبيعَتَكَ الخاطئة، وتَصْرُخُ فيها إلى اللهِ القُدُّوس لكي يَمْنَحَكَ بِرًّا لا يمكنكَ الحُصولُ عليهِ ولكِنْ يجب أنْ تَحصُلَ عليه. واللهُ، بِمَحَبَّتِهِ العَظيمة الرَّائعة، يُسْبِغُ عليكَ نِعمَتَهُ ويُطَهِّرُ قَلبَكَ. وحينئذٍ (وحينئذٍ فقط) ستَصيرُ صَانِعَ سَلام.
وسوفَ أُخبرُكم شيئًا، يا أحبَّائي. مِنَ الرَّائعِ جِدًّا أنْ نَعيشَ في هذا العالَمِ وأنْ نَرى كيفَ أنَّ اللهَ يَستطيعُ أنْ يَستخدِمَ أكثرَ النَّاسِ بَساطَةً وتَواضُعًا ليكونوا صانِعي سلامٍ في العالم. فالنَّاسُ الَّذينَ لم يفوزوا يومًا بجائزة، والذينَ لم تُذْكَر أسماؤُهم يومًا في العناوين الرَّئيسيَّة، والذين لم يَعرف أحدٌ عنهم هُمْ صانِعو السَّلام الحقيقيِّينَ في العالم. فَهُمُ الأشخاصُ الَّذينَ يَسْعَوْنَ مِنْ أجلِ تَحْقيقِ البِرِّ في حياةِ فَرْدٍ مَا لكي يَعْرِفَ قَلْبُهُ السَّلامَ أوَّلَ مَرَّة. وَهُمُ الأشخاصُ الذينَ يَسْعَوْنَ مِن أجْلِ تَحقيقِ البِرِّ في عَلاقةٍ مَا حَتَّى عندما يَتَحَقَّقُ ذلكَ أوَّلَ مَرَّة، يَخْتَبِرُ هؤلاءِ النَّاسُ السَّلام. وَهُمْ يَسْعَوْنَ كارِزينَ بالإنجيل حَتَّى يَخْتَبِرَ الإنسانُ السَّلامَ معَ اللهِ أوَّلَ مَرَّة. فهؤلاءِ هُمْ صانِعو السَّلام. فَهُمْ لا يَظهرونَ في العناوينِ الرئيسيَّة، ولكنَّهمُ الأشخاصُ الوحيدونَ الذينَ يَصنعونَ سلامًا حقيقيًّا. وهل تَعلمونَ شيئًا؟ هناكَ ثَمَنٌ ينبغي أنْ يُدْفَعَ لأنَّهُ عندما تُحاول أنْ تَفعل ذلك فإنَّ رَدَّ فِعْلِ العالمِ سيكونُ سَلبيًّا.
وكما تَرَوْن، فإنَّ حَقيقةَ صُنْعِ السَّلامِ الحقيقيّ لا تَكْمُنُ في أنْ نَسعى إلى تَجَنُّبِ الخلافات. فهو لا يعني أنَّنا لا نُريدُ خلافاتٍ وأنَّنا نُريدُ أنْ نَتَجَنَّبَها. فالأمرُ ليس كذلك. وَهُوَ لا يعني أنْ نَبقى بِمَنْأى عنِ الخلافات. بل إنَّهُ يَعني أنَّهُ مِنْ أجلِ إحلالِ السَّلامِ الحَقيقيّ، يجب علينا أنْ نَخوضَ أصْعَبَ أنواعِ الصِّراعاتِ وأنْ نَحْتَمِلَ أيَّ قَدْرٍ مِنَ الألم. وهذا يُذَكِّرُني بيسوع. فيسوعُ هوَ أعظمُ صانِعِ سلامٍ على الإطلاق. فهل تَجَنَّبَ الصِّراعات؟ لا. بل إنَّهُ سُمِّرَ على الصَّليب وخاضَ أعْنَفَ صِراعٍ مُمكن. فقد قَتلوه. ولكنَّهُ فَعَلَ ذلكَ لأنَّهُ كانَ يَعلم أنَّ السَّلامَ سَيَحِلُّ في النِّهاية. فبمقدورِ البشرِ أنْ يُفَتِّشُوا العالَمَ كُلَّهُ رُكْنًا رُكْنًا. وبمقدورهم أنْ يَذهبوا مِنْ مُعالِجٍ إلى آخر، وأنْ يَعْقِدوا اجتماعاتِ قِمَّةٍ الواحدَ تلوَ الآخر، وأنْ يَكتُبوا مُعاهداتٍ الواحدةَ تلو الأخرى، وأنْ يَتَنَقَّلوا مِنْ ديانةٍ إلى أخرى؛ ولكنَّهم لن يَجِدوا السَّلامَ يومًا. لماذا؟ لأنَّنا لَنْ نَعْثُرَ على السَّلامِ في ظُروفِنا. فالمشكلةُ تَكْمُنُ في خطيئتِنا المُتأصِّلة. وهي تَكْمُنُ في شَهَواتِنا غير المُنْضَبِطَة الَّتي تَحْرِمُنا السَّلام. وحتَّى لو شَعَرْنا بالحَرارة، فإنَّ السَّببَ في ذلك لا يَعودُ إلى الحرارة الخارجيَّة، بل يَعودُ إلى حالةِ دَمِنا الَّذي يَغْلي في عُروقِنا.
ويجب أن تَعلموا أنَّ ذلكَ الأمرَ غريبٌ في عالَمِنا. فنحنُ نُعْلِي شأنَ الأشخاصِ الَّذينَ يُزَعْزِعونَ السَّلام. ولكِن ما أروعَ أنْ يكونَ هناكَ صانِعُ سلامٍ يَحْفَظنا مِن خَوْضِ حَرْبٍ أوْ يُساعِد في إبقاءِ أسعارِ النِّفْطِ مُنخفضة، أوْ ما إلى ذلك. ولكِنْ حينَ يَختصُّ الأمرُ بالحياةِ اليوميَّة، فإنَّنا نُعْلِي في الحقيقة شأنَ الأشخاصِ الَّذينَ يَتخاصَمون. هل لاحظتُم ذلك؟ وما أعنيهِ هو أنَّنا نُبدي استعدادنا لِدَفْعِ مبلغٍ كبيرٍ مِنَ المال لمشاهدةِ رَجُلَيْنِ يَقِفانِ في حَلْبَةٍ ويَضْرِبُ كُلٌّ منهما الآخر ضَرْبًا مُبَرِّحًا. وبالمُناسبة، فإنَّ ممالكَ العالم كانت وما زالت تَمْنَحُ أعلى تَشريفٍ للمُحارِبين. هل لاحظتُم ذلك؟ فَهي تُكَرِّمُ المُحاربينَ، والجُنودَ، والمُقاتلين. وفي وقتنا الحاضِر فإنَّنا نَنْحَني للأشخاصِ مَفتولي العَضَلات، والأقوياء، والمُكْتَفينَ بأنفُسِهم، والعَنيدين، والمَعروفينَ بِصَلابَتِهِم، والجَامِحين، والمُكتفينَ ذاتيًّا. فهؤلاءِ هُمُ الأبطال. والبَطَلاتُ هُنَّ النِّساء اللَّاتي يَتَقَدَّمْنَ المَسيرَاتِ للمُطالبةِ بحُقوقِهِنَّ ومَطالِبِهِنَّ، وَيُثِرْنَ الخلافاتِ والنِّزاعاتِ والمُشاجَراتِ احتجاجًا على التَّقاليدِ والأنظمة.
فنحنُ مُجتمعٌ كامِلٌ مِنَ النَّاسِ الَّذينَ نَتشاجرُ مِن أجلِ حُقوقِنا، ويُعَلِّي كُلٌّ مِنَّا شأنَ الآخر. وقد قالَ لنا الأطبَّاءُ النَّفسيُّونَ وعُلماءُ النَّفسِ وعُلماءُ السُّلوكِ: "احصُلوا على كُلِّ ما يمكنكم الحُصول عليه لأنفسكم. لا تَسمحوا لأيِّ شخصٍ أنْ يأخذَ أيَّ شيءٍ مِنكم". لِذا فإنَّنا نُحْدِثُ مزيدًا مِنَ الخلافاتِ طَوالَ الوقت. ومُجتَمَعُنا يَعْبُدُ ذلك. لِذا، لا عَجَبَ أنَّهُ حينَ نأتي إلى المُجتمع ونحاول أنْ نَصنَعَ السَّلامَ الَّذي يَتحدَّثُ عنهُ الكتاب المقدَّس فإنَّهُم يُحارِبونَنا. ولا عَجَبَ أنَّهُم لم يُحِبُّوا يسوعَ المسيح. فقد أرادوا مُحارِبًا. وقد قالَ هؤلاءِ اليهود: "نُريدُ شخصًا يأتي إلى هنا ويَقضي بقبضَتِهِ الحديديَّة على الحكومة الرُّومانيَّة. ونحنُ نريدُ شخصًا يأتي إلى هُنا ويكونُ المَسِيَّا الَّذي يُنهي هَيْمَنَةَ القيصَر. ونحنُ نُريدُ شخصًا يأتي ويَدْحَرُ الحكومة الرُّومانيَّة ويُجَرِّدُها مِنْ قُوَّتِها. نحنُ نُريدُ مُحاربًا عظيمًا". وحينَ جاءَ رَبُّنا يسوعُ وقال: "طُوبَـى لِصَانِعِي السَّلاَمِ"، أنا مُتَيَقِّنٌ أنَّ الأشخاصَ الذينَ سَمِعوهُ يَقولُ ذلكَ قالوا: "يا للهَوْل! مَنْ يَحْتاجُ إلى ذلك؟"
ثُمَّ إنَّنا نأتي إلى العالمِ ونُقَدِّمُ سَلامَ الربِّ يسوعَ المسيح. ولكِنَّ النَّاسَ يَنظرونَ إلينا نَظرةَ ازْدِراء، ويَظُنُّونَ أنَّنا جُبَناء وضُعفاء. وإنْ كُنَّا شُجْعانًا وكَرَزْنا حقًّا بيسوعَ المسيح، فإنَّهُمْ يُحارِبونَنا. ولَكِنِّي لا أشعر بالإحباطِ بسببِ ذلك. فأنا مَسرورٌ بوجودِ بعضِ الأعداءِ طالَما أنَّهم أعداءٌ مِنَ الفئة الصَّحيحة. فقد كانَ يسوعُ رَئيسَ السَّلام. أجل. فنحنُ نقرأُ في سِفْر إشعياء 9: 6: " وَيُدْعَى اسْمُهُ ...رَئِيسَ السَّلاَم". فقد كانَ رَئيسَ السَّلامِ. وبالرَّغمِ مِن ذلك، في كُلِّ مكانٍ ذَهَبَ إليه، كانَ يَصْنَعُ خِلافًا. هل لاحظتُم ذلك؟ ففي كُلِّ مكانٍ ذَهَبَ إليهِ، كانَ يَصنعُ خِلافًا. والحقيقة هي أنَّنا نَقرأُ في إنجيل لوقا 23: 5 أنَّهُم قالوا إنَّهُ "يُهَيِّجُ الشَّعبَ". إنَّهُ يُهَيِّجُ الشَّعبَ. ففي كُلِّ مكانٍ ذهبَ إليه، كانَ يَصنعُ خِلافًا، ونِزاعًا، وخِصامًا. وقد كانَ بولسُ الرَّسولُ (سَفيرُ السَّلامِ الرَّائع) هو الَّذي قال: "يجب علينا جميعًا أنْ نَكرزَ برسالة المُصالَحة حَتَّى يَتصالحَ الإنسانُ معَ الله". وَقد دَعا ذلكَ إنجيل السَّلام.
ولكِنَّ ذاكَ الَّذي كَرَزَ بإنجيل السَّلام كانَ (في كُلِّ مكانٍ يَذهبُ إليهِ) يُحْدِثُ شَغَبًا. وقد قالوا عنهُ في سِفْر أعمال الرُّسُل 24: 5: "وَجَدْنَا هذَا الرَّجُلَ مُفْسِدًا". ونقرأُ في رسالة تيموثاوس الثانية 3: 12: "وَجَمِيعُ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَعِيشُوا بِالتَّقْوَى فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ يُضْطَهَدُون". وها نحنُ نُقَدِّمُ للعالمِ رسالةَ سَلام، ونُحاولُ أنْ نَجلبَ السَّلامَ بالطريقة الصحيحة؛ وَهُوَ سَلامٌ لا بُدَّ أنْ يَتَحَقَّقَ مِن خلالِ البِرّ والقداسة والطَّهارة. وما الَّذي يحدث؟ مزيدٌ مِنَ الحروب والنِّزاعاتِ لأنَّهم لن يَسمعوا ذلك. ولكِنْ، يا أحبَّائي، يجب علينا أنْ نكونَ مُستعدِّينَ لِحَمْلِ النِّزاعاتِ، واحتمالِ الضَّرَباتِ كما فعَلَ المسيح، وأنْ نَحْمِلَ صَليبَنا، ونُنْكِرَ أنفُسَنا، ونَدفعَ الثَّمَنَ، ونكونَ شُجْعانًا، وأنْ نَستمرَّ في القيامِ بما نَعلم أنَّهُ الصَّواب. فإنْ حاولتَ أنْ تَتَمَلَّصَ مِن هذه المواقف، فإنَّكَ لستَ صَانِعَ سَلام. فصانعُ السَّلامِ يُبدي الاستعدادَ لِقولِ ما ينبغي أنْ يُقال مِن أجلِ تحقيقِ البِرِّ في الموقفِ الرَّاهِن. فإنْ كنتَ صانِعَ سلامٍ حقيقيّ، ستكونُ شخصًا يُقيمُ البِرّ.
إذًا، فقد رأينا مَعنى السَّلام. فما هو؟ إنَّهُ مِلْءُ بَرَكَة البِرّ. وما الشَّيءُ المُعادي للسَّلامِ أوِ الَّذي يَتَهَدَّدُ السَّلام؟ الخطيَّة. لِذا، يجب أنْ تُعالَج. وكما تَعلمونَ، فإنَّ هذه المُهِمَّة ليست سهلة. فأنا أوَدُّ أنْ أكونَ صانعَ سلام، ولكنَّ المُهِمَّةَ تكونُ أحيانًا صعبة جدًّا. فقد أَرى شخصًا يعيشُ في الخطيَّة. وإنْ أردتُ أن أكونَ صانعَ سلامٍ كما يُريدُ مِنِّي يسوعُ أن أكون، يجب عليَّ أنْ أذهب إلى ذلكَ الشَّخصَ وأقولَ لهُ: "أتَدري أنَّكَ تُهينُ اللهَ القُدُّوس. وأنتَ مِن خلالِ حياتِكَ في حربٍ معَ الله. وأنا أريدُ أنْ أصنعَ سلامًا بينكَ وبينَ الله. لِذا فإنَّني أُواجِهُكَ بتلكَ الخطيَّة وأُقَدِّمُ لكَ إنجيلَ يسوعَ المسيح". وهذا يَتَطَلَّبُ شجاعةً. أو إنْ رأيتُ مُؤمِنَيْنِ مُتخاصِمَيْن ويتشاجران، فإنَّ صُنْعَ السَّلامِ لا يَعني أنْ أُعالجَ المشكلةَ بطريقة سطحيَّة، ولا أن أتجاهلَ ما يحدث، ولا أن أتجنَّبَ مُواجهةَ أيَّ شخصٍ منهما. فصانِعُ السَّلامِ الحقيقيّ يَذهب ويقول: "يجب أنْ تجِدا حَلًّا تَقِيًّا أَحَدُكُما معَ الآخر". وصُنْعُ السَّلامِ ليسَ أمرًا هَيِّنًا. وَهُوَ لا يَعني تَجَنُّب المسائل. وهل تَعلمونَ شيئًا؟ إنَّهُ يَعني الغَوْص في وَسْطِ المشكلة. فهذا هوَ صُنْعُ السَّلام.
ثالثًا، صَانِعُ السَّلام...صانِع السَّلام. وأنتُم تَعلمونَ ذلك. فمن هو صانِعُ السَّلام؟ ومَن هو مَصْدَرُ السَّلام؟ لقد أجابَ بولسُ مباشرةً عن هذا السُّؤال في رسالة كورِنثوس الأولى 14: 33 فقال: "لأَنَّ اللهَ لَيْسَ إِلهَ تَشْوِيشٍ بَلْ إِلهُ سَلاَمٍ". فاللهُ هُوَ رَئيسُ السَّلام. واللهُ هو صانِعُ السَّلام. واللهُ هو مَصْدَرُ السَّلام. وبمَعْزِلٍ عنهُ، لا يوجد أيُّ سلام. والعهدُ الجديدُ يَزْخُرُ حرفيًّا بالآياتِ الَّتي تُؤكِّدُ حقيقةَ أنَّ اللهَ هو إلَهُ سَلام. وقد قالَ بولُس في رسالة رومية 15: 33: "إِلهُ السَّلاَمِ مَعَكُمْ أَجْمَعِينَ. آمِين". وَهُوَ يَتحدَّث في رسالة تسالونيكي الثانية عنِ المسيحِ بوصفِهِ رَبَّ السَّلام. ويَكتُبُ كاتبُ الرِّسالة إلى العِبرانيِّين عن إلهِ السَّلام. والعهدُ القديمُ يَزْخُرُ بالآياتِ الَّتي تتحدَّثُ عن أنَّ اللهَ هو مَصْدَرُ السَّلام.
فالسَّلامُ هو مِنَ الله. فهو ليسَ مِن عندِ الإنسانِ البَتَّة. والحقيقة، أتريدونَ أن تَسمعوا شيئًا؟ منذُ سُقوطِ الإنسان (في تكوين 3)، لم يَعرفِ الإنسانُ السَّلامَ إلَّا إذا حَصَلَ عليهِ كَهِبَةٍ مِنَ الله لأنَّ الإنسانَ لا يَمْلِكْهُ. أمَّا اللهُ فهو سلامٌ كامِل. والحقيقة هي أنَّ اللهَ في سلامٍ تامٍّ معَ نفسه. واللهُ يَتَّصِفُ بالوَحدة المُطلَقة. والثَّالوثُ هُوَ وَحْدَة مُطْلَقة. فهو الطُّمأنينةُ كُلُّها. وَهُوَ الانسجامُ كُلُّهُ. وَهُوَ الوَحدة كُلُّها. وفي الثَّالوث، لا وجودَ للنِّزاع. فهناكَ فقط سلامٌ يُشِعُّ مِنَ الله. والطريقة الوحيدة الَّتي يمكننا مِن خلالها أنْ نَعرفَ السَّلامَ هي إنْ جاءَ اللهُ إلينا. وكم أُحِبُّ الجُملة الواردة في رسالة أفسُس 2: 14 والتي تُخبرُنا أنَّ هذا هو تَمامًا ما فَعَلَهُ. فهي تقول: "لأَنَّهُ هُوَ [أيْ: المَسيح] سَلاَمُنَا". فعندما جاءَ المسيحُ إلى العالم، كانَ سلامُ اللهِ آتيًا ليُمْسِكَ يَدَ اللهِ مِنْ جِهَة ويَدَ الإنسانِ مِنْ جِهَةٍ أخرى مِنْ خلالِ تَبريرِ الإنسانَ بِذبيحَةِ نَفْسِهِ ومُصالَحَتِهِ معَ الله.
وما زلتُ أَذكُرُ قِصَّةً قرأتُها عن زَوْجَيْنِ يَجلسانِ في قاعةِ المحكمةِ لإتمامِ إجراءاتِ الطَّلاق. فقد كانا عاجِزَيْنِ عن حَلِّ خلافاتِهِما، وكانا يَتبادلانِ الاتِّهامات، ويحاولُ كُلٌّ منهما أنْ يَكْسَبَ القضيَّة حيثُ كانَ يوجد بينهما طِفلٌ صغيرٌ في سِنِّ الرَّابعة، وكانَ يَمُرُّ بوقتٍ عصيب ويبكي بسببِ الخِلافِ الَّذي يراهُ أمامَ عَيْنَيْه. وبحسبِ هذه المقالة، فقد تَقَدَّمَ وأمسكَ يَدَ أبيه، ثُمَّ أمسكَ يَدَ أُمِّهِ والدُّموعُ تَملأُ عينيه. وقد استمرَّ في السَّحْبِ إلى أنْ تَمَكَّنَ مِنْ مُصالَحَتِهِما. فقد صارَ سَلامًا. وبمعنى مِنَ المعاني، هذا هو ما فعَلَهُ المسيح. فقد دَبَّرَ البِرَّ الَّذي يَسمحُ للإنسانِ أنْ يُمْسِكَ يَدَ اللهِ. فاللهُ هو المَصدرُ الوحيدُ للسَّلام. ولا يستطيعُ الإنسانُ أنْ يَعرفَ السَّلامَ إلَّا إذا عَرَفَ السَّلامَ الَّذي لا يستطيعُ أحدٌ سِوى الله أنْ يَمْنَحَهُ لأنَّهُ ليسَ آخَر.
ونَقرأ في رسالة كولوسي 1: 20 أنَّ يسوعَ المسيحَ حَقَّقَ السَّلامَ بِدَمِ صَلِيبِهِ مُصالِحًا الكُلَّ لِنَفْسِه. وكما تَرَوْن، فإنَّ الصَّليبَ هو الَّذي حَقَّقَ السَّلام. وقد تقول: "كيفَ يُمكن أن يكونَ الصَّليبُ سلامًا؟ فلم يكن هناكَ سلامٌ على الصَّليب. فقد كانَ النَّاسُ الهائِجونَ يَصْرُخون ويَبْصُقونَ على المسيح. وقد كانَ رَئيسُ الكَهنة والرُّؤساء يَهزأونَ باسْمِهِ ويُجَدِّفونَ عليه. وقد هَرَبَ التَّلاميذ. وقد كانَ هناكَ رَعْدٌ، وبَرْقٌ، وزَلزلةٌ. وقد كانَت هناكَ ظُلمة حالِكَة في وقتِ الظَّهيرة. وكانَ المُخَلِّصُ يَنْزِفُ، وكانَ المُجْرِمانِ المُدانانِ اللَّذانِ صُلِبا عَنْ يمينِهِ وَشِمالِه يَلْعَنانِ ويُجَدِّفان. فما الَّذي تَعنيهِ بأنَّ الصَّليبَ سَلام؟" أتَعلمونَ ما السَّبب في أنَّ الصَّليبَ هوَ السَّلام؟ لأنَّ الصَّليبَ يُوَفِّرُ البِرَّ الَّذي لا بُدَّ مِنْهُ لتحقيقِ السَّلامِ الحقيقيّ. فسوفَ تَظَلُّ النِّزاعاتُ دائرةً دائمًا إلى أنْ يَتَحَقَّقَ السَّلامُ الحقيقيُّ في النِّهاية.
وقد كنتُ أقرأُ مَرَّةً أخرى في هذا الأسبوعِ كِتابًا بعُنوان "طِفْلُ السَّلام" (The Peace Child) مِن تأليف "دون ريتشاردسون" (Don Richardson). وإنْ لم تَقرأوا هذا الكتابَ، اشتروهُ واقرأوه. فهو قصَّة عظيمة عنْ واحدٍ مِنَ المُرْسَلين. فقد كانَ هذا المُرْسَلُ يَخْدِمُ في وسط قبيلة "ساوي" (Sawi Tribe) في "إيريان جايا" (Irian Jaya). ولكنَّهُ لم يكن قادرًا على العثورِ على طريقة يستطيع مِن خلالها أنْ يُخبرَ أفرادَ القبيلة عن أهميَّةِ موتِ المسيح. وقد كانَ عاجزًا عنِ التَّخاطُبِ معَ النَّاسِ هناك، وعاجزًا عن جَعْلِهِم يَفهمونَ مَعنى مُجيءِ المسيحِ وموتِه. وكانت قبيلة "ساوي" تَخوضُ نِزاعًا شديدًا ومُستمرًّا معَ قبيلةٍ أخرى. ولم تكن هناكَ طريقة لتحقيقِ السَّلامِ بينهما. وكانت هناك عادة بين تلك القبائل وهي أنَّهُ في حال الرَّغبة في تَحقيق السَّلام، يجب على أحدِ الأشخاصِ مِنْ إحدى القبيلتَيْن أنْ يأخُذَ ابْنَهُ، وأنْ يَهَبَ ابْنَهُ للقبيلة الأخرى ويَتْرُكُهُ هُناكَ وَيَعودُ إلى بيتِه. فقد كانَ ينبغي له أنْ يُقَدِّمَهُ هِبَةً دائمة. وبحسب عاداتهم، طالما بقي الطِّفْلُ حَيًّا، ينبغي أنْ تَحْتَرِمَ القَبيلَتانِ السَّلام.
ولكِنَّ المشكلة كانت هي أنَّ العداوةَ بينَ القَبيلتَيْن كانت قويَّة جدًّا حَتَّى إنَّ أحدًا لم يكن مُستعدًّا لتقديمِ ابْنِهِ الغالي على قلبِه هِبَةً إلى أنْ أَقْدَمَ شخصٌ واحدٌ (رَجُلٌ واحدٌ فقط) على أَخْذِ ابْنِهِ الوحيد الَّذي لم يُنْجِبْ سِواه...ابْنِهِ الصَّغير. فقد حَمَلَ ذلكَ الصَّبِيَّ الصَّغيرَ بينَ ذراعيه (مَعَ أنَّ زوجَتَهُ رَكَضَتْ خَلْفَهُ لِتَمْنَعْهُ ولكنَّها لم تتمكَّن مِنَ اللَّحاقِ بِهِ). فقد رَكَضَ مِنْ قريَتِهِ إلى قريةِ العَدُوِّ وقَدَّمَ لهم ذلكَ الطِّفل. وقد دَعَوْا ذلكَ الطِّفلَ طِفْلَ السَّلام. وما دامَ الطِّفلُ حيًّا، سيكونُ هناكَ سلام. وقد قالَ "دون ريتشاردسون": "لقد وَجَدْتُ مَثَلي التَّوضيحيّ". فيسوعُ هو طِفْلُ السَّلام. وطالما أنَّهُ حَيٌّ، سيبقى هناكَ سلام. وإلى متى سيبقى يسوعُ حَيًّا؟ إلى أبدِ الآبدين. فيسوعُ هو طِفْلُ السَّلام. ولا بُدَّ أنَّهُ كان هناكَ ألم. ولا بُدَّ أنَّ قلبَ الآبِ كانَ يتألَّم وهو يَرى ابْنَهُ يموت. ويمكنكم أنْ تتخيَّلوا الألمَ الَّذي شَعَرَ بهِ ذلكَ الأبُ وهو يُعطي ابْنَهُ الوحيدَ الَّذي جاءَ مِنْ صُلْبِهِ إلى قبيلةِ الأعداءِ وهو يَعلمُ أنَّهُ لن يَراهُ ثانيةً. ولكِنَّ الثَّمنَ كانَ يَستحقُّ ذلك مِن أجلِ السَّلام. أليسَ كذلك؟ وقدِ انتهى النِّزاع.
إنَّ يسوعَ هو طفل السَّلام. لِذا فإنَّ اللهَ هو مَصدرُ السَّلام، ويسوعُ هو إعلانُ السَّلامِ. أمَّا العامِلُ على تَحْقيقِ السَّلامِ فهو الرُّوحُ القُدُس. وكما تَرَوْن، فإنَّ اللهَ هُوَ إلَهُ السَّلامِ الذي جَعَلَ المسيحَ إعلانَ السَّلامِ، وأعطانا الرُّوحَ القُدُسَ الَّذي هو العامِلُ على تَحقيقِ السَّلام. ونقرأ في رسالة غَلاطِيَّة 5: 22: "وَأَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ فَهُوَ: مَحَبَّةٌ، فَرَحٌ، [ماذا؟] سَلاَمٌ". لِذا، حينَ تَصيرُ مُؤمِنًا مَسيحيًّا، فإنَّ اللهَ يأتي ويَسكنُ في حياتِك بوصفِهِ إلَهَ السَّلام. والمسيحُ يأتي ويَسكُن في حياتِك بوصفِهِ رَئيسَ السَّلام. والرُّوحُ القُدُسُ يأتي ويَسكنُ في حياتِكَ بوصفِهِ رُوحَ السَّلام. لِذا، لا عَجَبَ أنَّ الثَّالوثَ كُلَّهُ يُدْعى: "الرَّبّ سَلامَنا" أو: "يَهْوَهَ شَلُوم". وهذه هي مشيئةُ الرَّبِّ، يا أحبَّائي. فاللهُ، الَّذي هو مَصْدَرُ السَّلام، يُريد سلامًا. وَهُوَ خَلَقَ عالَمًا يَعُمُّهُ السَّلام. وَهُوَ سيَجعلُ العالمَ في نهايةِ المَطافِ عالَمًا يَسودَهُ السَّلام. وفي الفترةِ الفاصلةِ، هناكَ الكثيرُ مِنَ المآسي. ولكنَّ المسيحَ جاءَ ليَجلبَ سلامًا. وَهُوَ سيعودُ لتحقيقِ السَّلام. وَهُوَ سيؤسِّس مَملكةَ سَلامٍ أبديَّة يَعُمُّها السَّلام. وهذا هو ما يُريدُهُ اللهُ. فاللهُ يُريدُ السَّلامَ دائمًا. واللهُ لا يُريدُ صِراعًا. والنَّاسُ يقولون: "ما هذا الإله؟ انظر إلى الحُروب!" ولكِنَّ اللهَ لا يُريدُ هذه الحروب. إنَّ اللهَ لا يُريدُها البَتَّة. وقد قالَ أحدُ الأشخاص: "لماذا لا يُوقِفُ اللهُ الحروب؟" والجوابُ هو: "إنَّهُ لم يُشْعِلْها. فهي ليست حُروبًا أَشْعَلَها هُوَ".
وقد قالَ النبيُّ إرْميا في سِفْر إرميا 29: 11: "لأَنِّي عَرَفْتُ الأَفْكَارَ الَّتِي أَنَا مُفْتَكِرٌ بِهَا عَنْكُمْ، يَقُولُ الرَّبُّ، أَفْكَارَ سَلاَمٍ". أَتَرَوْن؟ فأفكارُ اللهِ تُجاهَ البَشَر هي أفكارُ سَلام. ويسوعُ قال: "قَدْ كَلَّمْتُكُمْ بِهذَا" (في إنجيل يوحنَّا 16: 33) "لِيَكُونَ لَكُمْ فِيَّ" [ماذا؟] سَلاَمٌ. فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ، وَلكِنْ ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ". لماذا؟ لكي أُعطيكُم سلامًا. لِذا، يا أحبَّائي، إنْ أردنا أنْ نَكونَ صانِعي سلام، يجب علينا أنْ نَستمدَّ ذلكَ السَّلام مِنَ الله. والشَّخصُ الَّذي لا يَعرفُ اللهَ، والذي لا يَعرفُ المسيحَ، والذي لا يَعرفُ سُكْنى الرُّوح القُدُس لا يستطيعُ أنْ يكونَ صانِعَ سلام...البَتَّة. صَحيحٌ أنَّهُ قد يكونُ قادرًا على عَقْدِ هُدْنَة، ولكِنْ ليسَ على إحْلالِ السَّلام. وَهُوَ لا يَستطيعُ أنْ يُعطي سلامًا في القلب. وإنْ كنتَ طبيبًا نفسانيًّا أو مُشيرًا ولكِنَّكَ لا تَعرفُ اللهَ فإنَّ هذا يَعني أنَّكَ لا تَملكُ أيَّ مَصْدَرٍ يَمْنَحُ السَّلامَ لأيِّ شخص. وإنْ حاولتَ أنْ تُساعِدَ في مُصالحةِ أفرادِ عائلةٍ معًا مِنْ دونِ اللهِ فإنَّ هذا يَعني عَدَمَ وُجودِ مَصْدَرٍ للسَّلام. وإنْ حاولتَ أنْ تُصالِحَ أُمَّةً مَعًا مِن دونِ اللهِ فإنَّ هذا يَعني عَدَمَ وُجودِ مَصْدَرٍ للسَّلام. فالسَّلامُ الموجودُ في قُلوبِنا هو الطُّمأنينة والسَّكينة النَّابِعَتَيْنِ مِنْ حقيقةِ أنَّ اللهَ مَنَحَ بِرَّهُ وَأنَّ الحَرْبَ قدِ انتهت. وحالما تَصيرُ في سلامٍ معَ الله، قد يَستمرُّ العالمُ في اضْطِرابِهِ؛ ولكنَّكَ ستَشعُر بالسَّلامِ في كُلِّ الأحوال. أليس كذلك؟ وهذا مُدهشٌ! فنحنُ، بوصفِنا مُؤمِنينَ، نَثْبُتُ في الرَّبِّ فتَمتلئُ قُلوبُنا بالسَّلام.
وقد كنتُ أقرأُ عن شيءٍ يُدعى "وِسَادَة البَحْر" موجودٌ تحتَ سَطْحِ الماء. فسطحُ البحرِ قد يكونُ هائجًا؛ ولكِنَّ الاضطرابَ يَقِلُّ كُلَّما نَزَلنا أكثرَ فأكثر إلى أسفل، وتَعَمَّقنا أكثرَ فأكثر. ولكِنْ في القَعْر، في أعماقِ الأعماقِ تحتَ السَّطحِ، هناكَ مِنطقة تُدعى "وِسَادة البَحْر". وكما تُشيرُ الاختباراتُ، فإنَّ هذه الوسادة هي جُزءٌ مِنَ البحرِ يَتَمَيَّز بالسَّكينة وعدمِ الاضطراب. وقد وَجَدَتْ بعضُ الدِّراساتِ المَسْحِيَّةِ أنَّهُ عندما تَمَّ جَرْفُ القَعْر في المناطق العميقة جدًّا، فإنَّها كانت تحوي بقايا حياةٍ حَيَوانِيَّةٍ ونَباتيَّة. وحينَ فَحصوها وَجَدوا أنَّها تَدَلُّ على أنَّها لم تتعرَّض لأيِّ إزعاجٍ طَوالَ آلافِ السِّنين. إنَّها وِسادةُ البحر. وأعتقد أنَّ هناكَ شيئًا كهذا في حياةِ المؤمن. فأيًّا كانتِ الضِّيقاتُ في العالم، وأيًّا كانتِ الأمورُ المُزْعِجَةُ الَّتي تَجري مِنْ حَوْلِهِ، هناكَ وِسادةُ سَلامٍ في نفسِ الشَّخصِ الَّذي يَعرفُ رئيسَ السَّلام، والذي يَسْكُنُ فيهِ رُوْحُ السَّلامِ الَّذي حَلَّ فيهِ كَعَطِيَّة مِنْ إله السَّلام. لِذا فإنَّ مَعنى السَّلام هُوَ البِرّ. وما يُهَدِّدُ السَّلام هو الخطيَّة. وصَانِعُ السَّلام هوَ الله.
رابعًا، رُسُل السَّلام...رُسُل السَّلام. فَمَنْ هُمْ هؤلاء؟ إنَّهُمْ نحنُ، يا أحبَّائي. ونحنُ نتأمَّل الآنَ في التَّطويبات: "طُوبَـى لِصَانِعِي السَّلاَمِ". فنحنُ الرُّسُل إذْ نقرأ في رسالة كورِنثوس الأولى 7: 15: "وَلكِنَّ اللهَ قَدْ دَعَانَا فِي السَّلام". وَلكِنَّ اللهَ قَدْ دَعَانَا فِي السَّلام. ونَقرأ في رسالة كورِنثوس الثانية والأصحاح الخامِس تلكَ الجُملة العظيمة في العَدَد 18 وما يَليه: "وَلكِنَّ الْكُلَّ مِنَ اللهِ، الَّذِي صَالَحَنَا لِنَفْسِهِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، وَأَعْطَانَا خِدْمَةَ الْمُصَالَحَة". وبالمُناسبة، فإنَّ المُصالَحَة هي صُنْع السَّلام. "أَيْ إِنَّ اللهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحًا الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ، وَوَاضِعًا فِينَا كَلِمَةَ الْمُصَالَحَةِ. إِذًا نَسْعَى كَسُفَرَاءَ عَنِ الْمَسِيحِ، كَأَنَّ اللهَ يَعِظُ بِنَا. نَطْلُبُ عَنِ الْمَسِيحِ: تَصَالَحُوا مَعَ الله". والكلمة "مُصَالِح" هي مُرادِفٌ آخر للكلمة "صانِع سَلام". لِذا، يمكننا أنْ نَقرأَ هذه الآيات هكذا: "وَلكِنَّ الْكُلَّ مِنَ اللهِ، الَّذِي صَنَعَ مَعَنا سَلامًا...وَأَعْطَانَا خِدْمَةَ صُنْع السَّلام. أَيْ إِنَّ اللهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ صانِعًا سَلامًا مَعَ الْعَالَم...وَوَاضِعًا فِينَا كَلِمَةَ صُنْع السَّلام. إِذًا نَسْعَى كَسُفَرَاءَ...نَطْلُبُ: كُونوا في سَلامٍ مَعَ الله". فنحنُ صَانِعو السَّلام. ونحنُ قُوَّاتُ حِفْظِ السَّلامِ الَّذينَ أرْسَلَنا اللهُ بالمَعنى الحَقيقيِّ للكلمة. وهذه هي دَعْوَتُنا مِنْ خلالِ رُوحِ الله.
وهناكَ آيات كثيرة أخرى تَتحدَّث عن ذلك. فنحنُ نَقرأ في الأصحاح الثالث مِن رسالة كولوسي: "وَلْيَمْلِكْ فِي قُلُوبِكُمْ سَلاَمُ اللهِ". ونَقرأ في الأصحاح الرابع مِن رسالة فيلبِّي: "وَسَلاَمُ اللهِ ...يَحْفَظُ قُلُوبَكُمْ وَأَفْكَارَكُمْ...". لماذا؟ لأنَّكُم صَنَعْتُم سلامًا معَ الله ويُمكنكم أنْ تَنْعُموا بِسَلامِ الله. لِذا فإنَّنا صانِعو السَّلام. وقد تقول: "حسنًا يا جون! ما دُمْتُ صَانِعَ سَلام، ماذا ينبغي أنْ أفعل؟" ثلاثة أشياء: وهذا هو الجُزءُ العَمليّ: أوَّلاً، صانعُ السَّلام هو شخصٌ يَصنع سلامًا معَ اللهِ شَخصيًّا. فلكي تكونَ صانع سلام، يجب أنْ تَصنع سلامًا معَ اللهِ شخصيًّا. وهذا يَعني أنْ تَقبلَ إنجيل السَّلام. وأنا أُحِبُّ هذه العِبارة. وهي تُستخدَم في أماكِن عديدة في العهد الجديد. ولَعَلَّ واحدة مِنَ الآياتِ المَعروفة جدًّا لكم هي أفسُس 6: 15 إذْ نَقرأ: "وَحَاذِينَ أَرْجُلَكُمْ بِاسْتِعْدَادِ إِنْجِيلِ السَّلاَم". فالإنجيلُ كُلُّهُ يَختصُّ بالسَّلام. وكما تَرَوْن، جاءَ يومٌ كنتُم تُقاومونَ فيهِ الله. وجاءَ يومٌ كنتُم تُحاربونَ فيهِ الله. ولكِنْ عندما حُسِبَ لكم بِرُّ يسوعَ المسيح بالإيمان، صِرْتُمْ في سَلامٍ معَ الله. فقد كانَ الإنجيلُ إنجيل السَّلام. وقد انتهتِ الحرب. ولا يستطيع أيُّ شخصٍ أنْ يكونَ صانع سلامٍ ما لم يَصنع سلامًا معَ الله لأنَّهُ حينئذٍ (وحينئذٍ فقط) يَصيرُ اللهُ مَصْدَرَ السَّلام. لِذا فإنَّ الصِّفةَ الأولى الَّتي يَتَّصِفُ بها صانعُ السَّلامِ هي أنَّهُ صَنَعَ سلامًا معَ الله. وهل يمكنني أنْ أتوسَّعَ في هذه النُّقطة قليلاً؟ أعتقد أنَّهُ لكي تكونَ صانِعَ سَلامٍ فَعَّال، يجب عليكَ أنْ تُحافِظَ على ذلك السَّلام. وفي كُلِّ مَرَّةٍ تَرْعَى فيها خَطِيَّةً في حياتِك، فإنَّ ذلكَ السَّلام يَزول. أليسَ كذلك؟
فحين تكونُ هناك خطيَّة في حياتِك، لا يمكنكَ أنْ تتواصَلَ معَ اللهِ بانفتاح. أليسَ كذلك؟ وحينَ تكونُ هناك خطيَّة في حياتِك، لا يستطيعُ اللهُ أنْ يُبارِكَكَ بِحُرِّيَّة. أليسَ كذلك؟ فأنتَ تَفْصِلُ نفسكَ عن مَصْدَر البَرَكة. ولا يمكنكَ أنْ تكونَ صانعَ سلامٍ معَ الآخرينَ إنْ لم يكن هناكَ سلامٌ بينكَ وبينَ الله. وإنْ كانتِ العلاقةُ مقطوعة، وإنْ أخطأتَ ضِدَّ الله، وإنْ كنتَ تعيشُ حياةَ عِصْيان لمشيئته، وإنْ كنتَ تَعيشُ حياةَ انغماسٍ في الخطيَّة، فإنَّكَ لستَ صانِعَ سلام. فلكي تكونَ صانِعَ سلام، يجب عليكَ أنْ تَنْعُمَ بالسَّلامِ معَ اللهِ بنفسك. لِذا فإنَّ صَانِعَ السَّلامِ يُرَكِّزُ، في المقامِ الأوَّل، على سلامِهِ الشَّخصيِّ معَ الله. وهذه هي نُقطةُ البداية، يا أحبَّائي. فلن يحدثَ شيءٌ آخر. ولن تكونَ يومًا صانِعَ سلامٍ في حياةِ أيِّ شخصٍ آخر ما لم يكن هناكَ سلامٌ بينَكَ وبينَ الله. فيجب عليكَ أنْ تَنهضَ في الصَّباحِ وتقول: "يا رَبّ، أريدُ أنْ أكونَ في سلامٍ مَعَك". ويجب عليكَ أنْ تَعترِف بكل شيءٍ في حياتِكَ تَعلم أنَّهُ غير صحيح، وأنْ تَبدأَ اليومَ بسلامٍ لأنَّكَ تستطيعُ حينئذٍ أنْ تكونَ صانعَ سلام.
وهناكَ صِفَة ثانية: فقد قُلنا إنَّ صانع السَّلام هو شخصٌ يَنْعَم بالسَّلامِ معَ الله. ثانيًا، هو شخصٌ يُساعد الآخرين في أن يكونوا في سلامٍ معَ الله. هو شخصٌ يُساعد الآخرين في أن يكونوا في سلامٍ معَ الله. وأعتقد أنَّ يسوعَ كانَ يُشيرُ هنا إلى الكِرازة. وأعتقد أنَّ هذا هو أعظم شيء بخصوص صُنْع السَّلام. فيمكنك أنْ تقترب مِن شخصٍ في حربٍ معَ الله وأنْ تَصنع سلامًا بينَ ذلك الشخص والله. أليس كذلك؟ وسوف أقولُ لكم شيئًا آخر: إنَّ جَميعَ الأشخاصِ غيرِ المُخَلَّصينَ هُمْ في خِصامٍ مَعَكَ أنتَ أيضًا لأنَّهُم ليسوا في عائلة الله. فَهُمْ مَلعونونَ مِنَ الله. وَهُمْ خارِج الملكوت. وفي اللَّحظة الَّتي يأتونَ فيها إلى يسوعَ المسيح، فإنَّهم يَصنعونَ سلامًا معَ اللهِ وسلامًا معك، ويصيرونَ أولادًا للهِ وإخوةً لك. أليس كذلك؟ فالكِرازة هي صُنْعُ سلام. ويا لها مِن فكرة رائعة! وأفضل طريقة لأن تكونَ صانعَ سلام هي أنْ تَكرِز بإنجيل السَّلام؛ أيْ أنْ تَعمل على توصيل البشارة إلى النَّاس لكي تَنتهي غُرْبَتُهم عنِ الله، ولكي تَنتهي غُربَتُهم عنِ الكنيسة (أيْ عن جسد المسيح)، ولكي تَنتهي غُرْبَتُهم عنِ الشَّركة معك، ولكي يكونَ بمقدورهم أنْ يَنْعَموا بالسَّلام. لِذا، لا عَجَبَ أنَّنا نقرأ في رسالة رومية 10: 15: "مَا أَجْمَلَ أَقْدَامَ المُبَشِّرِينَ [بِماذا؟] بِالسَّلاَم".
وكما تَرَوْن، فإنَّهُ لأمرٌ رائعٌ أنْ نأتي بالنَّاس إلى علاقةِ سلامٍ معَ الله. فهل تُريدُ حقًّا أنْ تكونَ صانِعَ سلام؟ إذًا، عليكَ فقط أنْ تُخبر شخصًا عن يسوعَ المسيح. وهذا أكبر بما لا يُقاس مِنْ أيِّ شيءٍ حَقَّقَهُ أيُّ سِياسِيٍّ أوْ رَجُلُ دَولة زائِل بالمَعنى السِّياسيّ. فهذا سلامٌ نِهائيٌّ، وأبديٌّ، وحقيقيّ.
نحنُ صانِعو السَّلام. ويا لها مِنْ إدانَة للفَرِّيسيِّين! للفَرِّيسيِّينَ الذينَ كانوا أبرارًا في أعْيُنِ أنفُسِهم، ومُتَعجرِفين، ويَظُنُّونَ أنَّهم يَملكونَ كُلَّ حَقٍّ في مُحاربة رُوما، ويَظُنُّونَ أنَّهم يَملكونَ كُلَّ حَقٍّ في فَرْضِ لاهُوتِهِم. فقد كانوا يَتَسَلَّطونَ على الشَّعب. ولكنَّهم لم يَهتمُّوا بأنْ تربُطَهُم بأيِّ شخصٍ علاقة طَيِّبة. وَلم يكونوا يَهتمُّونَ بأيِّ شيءٍ آخر سِوى أنْ يَصِلُوا إلى مُستوىً أعلى وأعلى. وقد كانوا يَتَسَبَّبونَ في الخلافاتِ أينَما ذهبوا. وكانوا يَتسبَّبونَ في المشاكل أينما ذهبوا. وكانوا يَحتقرونَ الشَّعب. وكانوا يُقَسِّمونَ المُجتمعَ إلى طوائف ومَجموعات. وقد قالَ يسوعُ لهم: "لقد أَسَأتُم فَهْمَ الأمر. فما يُريدُهُ اللهُ ليسَ نُخْبة روحيَّة تَظُنُّ أنَها تَعرفُ كُلَّ شيء، بل خاطئًا مِسكينًا مُتَسَوِّلاً يَعلمُ أنَّهُ لا يَملِك شيئًا يُقَدِّمُهُ ويَسعى إلى صُنْعِ السلام".
وما أجملَ ما جاءَ في سفر أعمال الرُّسُل 10: 36! فالآية تقول إنَّ الكنيسةَ البَاكِرَةَ كانت تَتَّصِفُ بالتَّبشيرِ بِالسَّلاَمِ بِيَسُوعَ المَسِيح. فالسَّلامُ هُوَ بالمسيح. وعندما تَكْرِز بالمسيح فإنَّكَ تَكْرِزُ بالسَّلام. فهل تُريدُ أنْ تكونَ صانِعَ سلام؟ اكْرِز بيسوعَ المسيح. وقد قالَ "جي. كامبيل مورغان" (G. Campbell Morgan): "هذه هي الصِّفة الانتشارِيَّة للإنسانِ الَّذي يَتَّصِف بكُلِّ التَّطويباتِ الأخرى فيَجْلِبُ السَّلامَ أيْنَما ذَهَب". وهي جُملة رائعة. لِذا فإنَّ صانِعي السَّلام هُمْ صانِعو سلامٍ لأنَّهم يَصنعونَ سلامًا بينَ أنفُسِهم واللهِ، ولأنَّهم يُساعدونَ الآخرينَ على أنْ يَصْنَعوا سلامًا معَ الله.
وثالثًا، صَانِعُ السَّلامِ هو شخصٌ يُساعد الآخرين على أنْ يَصنَعوا سلامًا معَ الآخرين. فأنْ تكونَ صانِعَ سلامٍ يَعني أنْ تكونَ قادرًا على مُصالحةِ النَّاسِ مَعًا. أنْ تكونَ قادرًا على مُصالحةِ النَّاسِ بعضُهُم مع بعض. وكما تَعلمون، فإنَّ القيامَ بذلك ليسَ سهلاً دائمًا. ولكِنَّ صانِعَ السَّلامِ يَستطيعُ أنْ يَفعلَ ذلك. فصانِعُ السَّلامِ يَستطيعُ أنْ يَبني جُسورًا بينَ النَّاس. وأرجو أنْ تَكونوا مُدْرِكينَ لهذه الحقيقة. وكما تَعلمون، هناكَ طُرُق عديدة يَتَحَدَّثُ فيها الكتاب المقدَّس عن ذلك. ونحنُ لا نَمْلِكُ الوقتَ الكافي للتحدُّثِ عن كُلِّ طريقةٍ منها، ولكِنْ في إنجيل مَتَّى والأصحاح الخامس، سأُريكُم مَثَلَيْنِ تَوضيحِيَّيْن. فنحنُ نَقرأُ في إنجيل مَتَّى 5: 21: "قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَقْتُلْ، وَمَنْ قَتَلَ يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ". لا تَقْتُل. أنتُم تَعلمونَ ذلك. فالنَّاموسُ يَقولُ ذلك. "وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلاً يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ، وَمَنْ قَالَ لأَخِيهِ: رَقَا، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْمَجْمَعِ".
بعبارة أخرى، فإنَّ هذه الكلمة "رَقَا" تَعْني: "فارِغ". وكأنَّكَ تقولُ لشخصٍ ما: "يا أَبْلَه"، أو: "يا سَخيف"، أو "يا غَبِيّ". "يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْمَجْمَعِ. وَمَنْ قَالَ: يَا أَحْمَقُ (وهي إهانة أكثر جِدِّيَّة)، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ نَارِ جَهَنَّمَ. فَإِنْ قَدَّمْتَ قُرْبَانَكَ إِلَى الْمَذْبَحِ..." – بعبارة أخرى، إنْ ذَهبتَ لكي تَعْبُدَ اللهَ "وَهُنَاكَ تَذَكَّرْتَ أَنَّ لأَخِيكَ شَيْئًا عَلَيْكَ". ألا تَجِدونَ هذهِ الكلماتِ مُدهشة؟ فهي لا تقولُ إنَّكَ تَذكَّرتَ أنَّ لكَ شيئًا على أخيكَ، بل إنَّ لأخيكَ شيئًا عليك: "فَاتْرُكْ هُنَاكَ قُرْبَانَكَ قُدَّامَ الْمَذْبَحِ، وَاذْهَبْ أَوَّلاً اصْطَلِحْ مَعَ أَخِيكَ، وَحِينَئِذٍ تَعَالَ وَقَدِّمْ قُرْبَانَكَ". فاللهُ لا يُريدُ مِنْكَ أنْ تأتي إلى الكنيسة وأنْ تَعْبُدَهُ إنْ كنتَ تَعلمُ أنَّ شخصًا ما لَهُ شيءٌ عليك. بل يجب عليكَ أنْ تَذْهَبَ وَتَصْطَلِح مَعَهُ، ثُمَّ أنْ تَعود. فهذا هو مَعنى أنْ تكونَ صَانِعَ سَلام. لأنَّهُ، كما تَرَوْن، فإنَّ المسألةَ لا تَكْمُنُ في ألَّا يَرى أَحَدُكُما الآخر. بل إنَّ المسألةَ تَكْمُنُ في أنَّ السَّلامَ الحقيقيَّ يَنْبُعُ مِنَ البِرِّ الحقيقيّ. والبِرُّ يَعني أنْ تَتَخَلَّص مِنْ عائِق الخطيَّة. أَتَرَوْن؟ لِذا، يجب عليكَ أنْ تَذهبَ وأنْ تَصنعَ سلامًا. فيجب عليكُما أنْ تَصْطَلِحَا أَحَدُكُما معَ الآخر، وأنْ تَتَّفِقَا، وأنْ تَحْسِما الخِلافَ بينَكُما.
وفي مَقطعٍ لاحقٍ مِنَ الأصحاح الخامس، يَتحدَّثُ الربُّ عن أهميَّة أنْ تُحِبُّوا حَتَّى أعداءَكُم، وأنْ تُبارِكوا لاعِنيكُم، وأنْ تُحْسِنوا إلى مُبْغِضيكُم، وأنْ تُصَلُّوا لأجلِ الذينَ يُسيئونَ إليكُم ويَضْطَهِدونَكُم ويَفعلونَ بكُمْ كُلَّ هذهِ الأمور. لماذا؟ لأنَّكُم ستكونونَ حينئذٍ "أَبْنَاء أَبِيكُم". بعبارة أخرى، فإنَّكَ سَتُبَرْهِنُ على أنَّكَ ابْنٌ للهِ إنْ كُنْتَ صانِعَ سَلامٍ حَتَّى معَ أعدائِكَ. وعودة إلى التَّطويبة: "طُوبَـى لِصَانِعِي السَّلاَمِ، لأَنَّهُمْ [ماذا؟] أَبْنَاءَ اللهِ يُدْعَوْن". فواحدة مِنْ صِفاتِ أبناءِ اللهِ هي أنْ تكونَ صانِعَ سلام. لِذا فقد تَحَدَّثَ عَمَّا فَعَلَهُ في الأصحاحِ الخامسِ في مَقطعٍ لاحِق.
وفي إنجيل مَتَّى والأصحاح 18، نَقرأُ أنَّهُ إنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ أَخُوكَ، ماذا ينبغي أنْ تَفعل؟ نقرأُ أنَّهُ ينبغي لكَ أنْ تَذهبَ إليهِ حالاً. أليسَ كذلك؟ ويجب عليكَ أنْ تُخْبِرَهُ عنِ الخطأ وأنْ تَطْلُبَ منهُ أنْ يَتوبَ. وإنْ لم يَتُبْ، ماذا ينبغي أنْ تَفعل؟ تأخُذُ مَعَكَ اثنَيْن أو ثلاثة ليكونوا ماذا؟ شُهودًا. ثُمَّ تَرْجِع إليه وتُحاول مَعَهُ لَعَلَّهُ يَتوب. وإنْ لم يَتُبْ، ينبغي أنْ تُخْبِرَ الكنيسة لكي تَجْعَلَهُ يَتوب. لماذا؟ قد تقول: "إنَّكَ تُثيرُ المشاكلَ وحَسْب يا أخي. لِمَ لا تتركهُ وشأنه؟ لا تُوْقِظ الفِتْنَة". والنَّاسُ يقولون: "ما الَّذي تَفْعَلُه؟ فما تَقومُ بِهِ سَيَجْعَلُ الجَميعَ يَعْلَمونَ بأمْرِ هذه المُشكلة" أتَرَوْن؟ ولكِنَّ هذا غير صحيح لأنَّ هذه الحَرْبَ هي حَرْبٌ باردة. وهذ التَّصَرُّف هو هُدْنَة وليسَ سلامًا. فالسَّلامُ يُحَتِّمُ تَطبيقَ البِرّ. فإنْ عالجتَ الأمرَ بطريقة بارَّة، سيكونُ هناكَ سلامٌ حقيقيّ. ويجب علينا أن نكونَ صانِعي سلام. وهذا ليسَ أمرًا سهلاً. ولكنَّ كلمةَ اللهِ تُوصينا بذلك.
وفي العائلة، بينَ الزَّوجِ والزَّوجة، فإنَّ ذلكَ يُشيرُ إلى حقيقة أنَّنا نقرأ في رسالة بُطرس الأولى 3: 7 أنَّهُ يجب على الزوج والزوجة أنْ يعيشا معًا بحسب الفِطْنَة. فيجب علينا أنْ نَفهمَ بعضُنا بعضًا لكي لا تُعاق صَلواتُنا. اسمعوني: إذا كنتَ تُواجه مُشكلةً في عبادةِ الله، رُبَّما كانَ مِنَ الأفضل أنْ تَعودَ إلى البيت وأنْ تَصْطَلِحَ معَ زوجتِك. فصلواتُكَ سَتُعاق. لماذا؟ لأنَّهُ ما لم يكن هناكَ سلامٌ حقيقيّ، لا مُجَرَّد هُدْنَة، ولا مُجَرَّد "حسنًا يا زوجتي، لن نَتحدَّثَ عن ذلك الآن؛ ولا سِيَّما ونحنُ في طريقِنا إلى الكنيسة. فنحنُ سنَعْبُدُ اللهَ في هذا الصَّباح". هذا ليسَ سلامًا، بل هي حَرْبٌ باردة. إنَّ هذا ليسَ سلامًا. فيجب عليكَ أنْ تَعالجَ المشكلة. وكما أقولُ دائمًا: أحيانًا قد يكونُ هناكَ ثَمَنٌ باهِظٌ ينبغي أنْ تَدْفَعَهُ.
لِذا، يا أحبَّائي، أعتقدُ أنَّ الرِّسالة واضحة. فيسوعُ قالَ في إنجيل مَرْقُس 9: 50: "سَالِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا". فإنْ حدثَ خَطْبٌ ما بينكما أنتُما الاثنين، يجب عليكما أنْ تَبْنيا جِسْرًا. أتَرَون؟ فهل رأيتم يومًا جِسْرًا يُبْنى؟ هل رأيت يومًا شخصًا يَبني جسرًا؟ إنَّهُم يَبنونَ أساسًا مَتينًا في الجهة الأولى، وأساسًا مَتينًا في الجهة الثانية. ثُمَّ إنَّهُمْ يَمُدُّونَ مِنْ جِهَة إلى الأخرى سِلْكًا مَتينًا. إنَّهُمْ يَمُدُّونَ مِنْ جِهَة إلى الأخرى سِلْكًا مَتينًا. فهكذا يَشْرَعونَ في العَمَل. وحالما يَمُدُّونَ الحبلَ مِنْ جِهَة إلى الأخرى فإنَّهم يَمُدُّونَ السِّلْكَ بالاتِّجاهِ الآخر، ويُكَرِّرونَ الأمرَ مِرارًا وتَكرارًا. وسُرعانَ ما يَبْنونَ ماذا؟ جِسْرًا. فَهُمْ يَبْنونَ جسرًا لأنَّهُ حينَ يَصيرُ ذلكَ السِّلْكُ مَتينًا بالقدرِ المطلوب فإنَّهُم يُدَعِّمونَهُ بالفولاذ. وحينَ يَضَعونَ كَميَّةً كافيةً مِنَ الفولاذ فإنَّهُم يَصُبُّونَ خَلْطَةً إسْمَنْتِيَّةً عليه. ويَستمرُّ العملُ هكذا إلى أنْ يَبْنوا جسرًا. ولكِنْ في أوقاتٍ كثيرة، قد تكونُ الصُّعوبة في صُنْعِ السَّلامِ ناجمة عن أنَّ كُلَّ طَرَفٍ لا يَرغب في البَدْءِ مِنْ جِهَتِه بِمَدِّ ذلكَ السِّلْكِ الصَّغير للبدءِ في العمليَّة. لكِنْ كُنْ صَانِعَ سلام. وقد يكونُ هناكَ ثَمَنٌ ينبغي أنْ تَدفَعَهُ، أو ألمٌ ينبغي أنْ تَقْبَلَه. ولكِنْ هذا هو ما يَفعله صانع السَّلام. وهذا هو ما فعله يسوع. وهو مِثالُنا. والآنْ، لقد رأينا أنَّ مَعنى السَّلام هو البِرّ. وما يَهْدُمُ السَّلامَ هو الخطيَّة. وصانِعُ السلام هو الله. ورُسُل السَّلام هُمُ المؤمنون. فنحنُ صانِعو السَّلام، يا أحبَّائي...نحنُ. وأرجو أنْ تكونَ صانِعَ سلام.
ولِعِلْمِكُم، فإنَّني أَسْعى بِوَعْيٍ إلى تحقيقِ ذلك. فأنا أحاولُ أنْ أفعلَ ذلكَ في كُلِّ موقف. ويمكنني أن أُضيفَ نُقطة رابعة أو أمرًا رابعًا. فقد تحدَّثنا عن صُنْعِ السَّلامِ بينَنا وبينَ اللهِ، ومُساعدة الآخرين مِن خلال الكِرازة على صُنْعِ سلامٍ معَ الله. وقد تحدَّثنا عن مُصالحةِ أخَّيْن مُتخاصِمَيْن. ولكِنْ حتَّى في المواقفِ الَّتي لا يوجد فيها خِلافٌ بالضَّرورة، ولا توجد فيها حربٌ كبيرة، أتَعلمونَ ما الَّذي يَفعَلُه صانع السَّلام؟ يَجِدُ دائمًا نُقطةَ اتِّفاق. فمثلاً، هناكَ أُناسٌ في حياتي وعالَمي، لأنِّي ألتقي أُناسًا كثيرينَ جدًّا، وأُناسًا يَختلفونَ معي في اللَّاهوتِ، وفي طريقةِ إدارةِ الكنيسةِ، وفي أمورٍ أخرى. فنحنُ لا نَتَّفِق لاهوتيًّا. وبالرَّغمِ مِن ذلك، لا يوجد بيننا أيُّ مُشكلة. فلا توجد مَرارة، ولا يوجد شيء آخر سِوى المحبَّة مَعَ أنَّنا نَختلف في اللَّاهوت. وفي كُلِّ مَرة نلتقي فيها، فإنَّني لا أقول: "أريدُ أنْ أعودَ إلى ذلك الموضوع الَّذي نَخْتَلِفُ فيه. فهناكَ أمور أخرى أريدُ أن أقولَها لك". فأنا لا أَحْمِلُ مجموعةً مِنَ التَّسجيلاتِ عن وُجهة نظري حول موضوعٍ مُعَيَّن أَعْلَمُ أنَّ الشَّخصَ الآخرَ يَختلفُ معي فيه وأقولُ لهُ: "أريدُ منكَ أنْ تَستمعَ إلى هذا التَّسجيل يا أخي. فالربُّ قالَ لي أنْ أقولَ لكَ أنْ تَستمع إلى هذا التَّسجيل". لا. أتَعلمونَ ما الَّذي أحاولُ دائمًا أنْ أعثُرَ عليه؟ أنا أحاولُ دائمًا أنْ أعثُرَ على نُقطة وِفاق. وأنا أحاولُ دائمًا أنْ أعثُرَ على نُقطة سَلام. لأنَّهُ حالما يصيرُ هناكَ سلام، يمكنكَ أنْ تَبْني على السَّلام. فلا مَعْنى للبَدْءِ مِنْ أيِّ مكانٍ آخر.
وإنْ جاءَ إليَّ شخصٌ وقالَ لي: "أنا لديَّ مُشكلة بخصوصِ هذا الأمر"، وابتدأ يُخبرني عن موقفٍ مُعيَّن، فإنَّني أحاول دائمًا أنْ أجدَ نُقطة سلام. دائمًا. فأنا أحاول دائمًا أن أجدَ نُقطة سلام إذْ أقول: "حسنًا! مِنَ الرَّائع أنْ تَشعُر هكذا" أو "أنا أتَّفِقُ معكَ في ذلك" أو "أعتقد أنَّنا نَتَّفِقُ تمامًا في هذا الأمر" أو "مَعَ أنَّنا قد نَختلف في هذه النُّقطة، ولكِنْ أليسَ مِنَ الرائع أنَّنا نَتَّفِقُ في هذا الأمر؟" وكما تَرَوْن، يجب أنْ تَجِدوا نُقْطَةَ سلام. وهذه طريقة رابعة لكي تكونَ صانِع سلام.
وأخيرًا، فائدة السَّلام...فائدة السَّلام. فقد تقول: "جون، إنْ كنتُ صانعَ سلام، ما فائدة ذلك؟ وما الَّذي سيحدث؟" حسنًا، هُناكَ فائدة، وهناكَ وَعْدٌ رائعٌ قَطَعَهُ لنا رَبُّنا يسوع: "لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللهِ يُدْعَوْنَ". وأودُّ أنْ أُخبرَكُم، يا أحبَّائي، أنَّني لا أستطيعُ أنْ أُفَكِّرَ في تَسْمِيَةٍ أفضل. أليسَ كذلك؟ فأنا مَسرورٌ لأنِّي أُدعى "ماك آرثر". فهذهِ عائلة اسكُتلنديَّة عريقة. وأنا مَسرورٌ بذلك. فَهُمْ أُناسٌ طَيِّبون. وهناكَ قائدٌ عسكريٌّ جَيِّد يَحملُ هذا الاسم. وحَتَّى إنَّهُ يوجد مليونير اسْمُهُ "جون ماك آرثر". ولكِنَّ هذا لم يُساعِدْني ولو قليلاً. إنَّهُ اسْمٌ جَيِّد. وأنا مَسرورٌ لأنِّي ابْنُ أبي. وأنا مسرورٌ لأنِّي حَفيدُ جَدِّي الرَّائع الَّذي كانَ رَجُلًا تَقِيًّا عَظيمًا. أنا مَسرورٌ بذلك. ولكِنْ لا يوجد شيء (وأنا أعني: لا شيء على الإطلاق) يُضاهي أنْ أكونَ ابْنًا للهِ. وهذا لَقَبٌ يُطْلَقُ على صَانِعي السَّلام. وهذا يُنَبِّرُ على الكَرامةِ الَّتي يَتَمَتَّعُ بها صانع السَّلام.
وبالمناسبة، نقرأُ هُنا أنَّهُمْ يُدْعَوْنَ "أبناءَ اللهِ" ("هوياس" ”huios”) لا "تيكنا" (tekna) أيْ: أولاد. فالكلمة "تيكنا" تُستخدَم للإشارة إلى العاطفة الرَّقيقة. أمَّا الكلمة "هوياس" فتُستخدَم للإشارة إلى الكرامة والاعتبار والمكانة. وهو لا يتحدَّثُ هنا فقط عنِ العاطفة الَّتي يَشْعُرُ بها مِنْ نَحْوِنا، بل يتحدَّثُ عنِ الكرامةِ والعِزَّةِ في أنْ نكونَ أبناءَ الله. وهي فكرة عظيمة. فهي كلمة تُستخدمُ لوصفِ الشَّخصيَّة والإشارة إلى الرِّفْعَة. ويا لهُ مِنَ امتيازٍ أنْ نُدْعى أبناءَ الله! وهل تَعلمونَ كيفَ تُمَيِّزونَ ابْنَ اللهِ بحسب هذه الجُملة الَّتي قالها يسوع؟ سيكونُ ابْنُ اللهِ ماذا؟ صانِعَ سلام. أجل. سيكونُ صانعَ سلام. فَهي الصِّفَةُ المُمَيِّزَةُ للمؤمنِ الحقيقيِّ، على غِرارِ جميعِ التَّطويباتِ الأخرى، يا أحبَّائي. فإذا نَظرتَ إلى حياتِكَ ولم تَرَ نَفْسَكَ صانعَ سلام، فإنَّكَ أمامَ احْتِمالَيْن (كما قُلنا طَوالَ هذه السِّلسلة): إمَّا أنَّكَ لستَ مؤمِنًا البَتَّة، أو أنَّكَ صانع سلام تَعيشُ في الخطيَّة. ومِنَ الأفضل أنْ تَفحصَ نفسَكَ إنْ كُنْتَ حَقًّا في الإيمانِ أَمْ لا.
فإنْ كانت حياتُكَ تَتَّسِمُ بالخلافِ والنِّزاعِ، وكانتْ هناكَ رَغبةٌ جَامِحَةٌ في أعماقِ قلبِكَ بألَّا تكونَ صانعَ سلام، فإنَّني أَشُكُّ في حقيقة إيمانِك. ولكِنْ إنْ كُنَّا صانِعي سلام (وأنا أُحِبُّ ذلك) فإنَّنا نُدْعى أبناءَ الله. ورُبَّما كانَ الفاعلُ المَحذوف للفعل هوَ "الله" لأنَّ اللهَ هوَ الوحيدُ الَّذي يَستطيعُ أنْ يَعْرِفَ أولادَهُ. أليس كذلك؟ فاللهُ هو الوحيدُ الَّذي يستطيعُ أنْ يَقولَ مَنْ هُم أبناؤه. واللهُ يَدعونا أبناءَهُ حينَ نكونَ صانِعي سلام. وهو، بالمُناسبة، فِعْلٌ يَرِدُ بصيغة المُستقبَل. وهذا رائع. فنحنُ سنُدعى أبناء اللهِ في المستقبل كَما يَبدو. ولكنَّهُ مُستقبلٌ مُستمرّ. فَمُنذُ الآن إلى أبدِ الآبدين، سنُدعى دائمًا أبناء الله. ويا لهُ مِنْ وعدٍ رائعٍ وعظيم. لِذا، مِنْ خلالِ صُنْعِ السَّلام نَصيرُ مَعروفينَ بوصفِنا أبناءَ اللهِ.
وكيفَ تُمَيِّز الشَّخصَ المؤمن؟ أتَذكرونَ ما قُلناهُ قبلَ بِضعة أسابيع؟ فقد تسألُ شخصًا: "هل أنتَ مُؤمِن؟" "أجل". "وكيفَ تَعلم أنَّكَ مُؤمِن؟" "أنا أَذكُرُ اليومَ الَّذي أخذتُ فيهِ قراري" أو "أنا أَذكرُ الوقتَ الَّذي تَقَدَّمْتُ فيهِ إلى الأمام في الكنيسة". أو "أنا أتذكَّرُ اللَّحظة الَّتي رَفَعْتُ فيها يدي". أو "أنا أذكرُ الوقتَ الَّذي وَقَّعْتُ فيهِ البطاقة" أو "أنا أذكرُ الوقتَ الَّذي كانَ فيهِ الاجتماعُ مُنْعَقِدًا أوِ الوقتَ الَّذي دَخَلْتُ فيهِ غُرفةَ الصَّلاة". لا. "كيفَ تَعلم أنَّكَ مؤمن؟" "أنا مِسْكينٌ بالرُّوح. وأنا أَحْزَنُ على خطيَّتي. وأنا أتواضَعُ أمامَ اللهِ القُدُّوس. وأنا أجوعُ وأعطشُ إلى بِرِّ اللهِ. وأنا أرى رَحْمَتَهُ تَغْمُرُ حياتي فأرغبُ في إظْهارِ الرَّحْمَة للآخرين. وقد اختبرْتُ طَهارةَ القلبِ. وأنا أعلمُ مَعنى أنْ أكونَ صَانِعَ سَلام". فهذا هو الجوابُ الصَّحيح. أَتَرَوْن؟ وهذه هي الشُّروطُ الَّتي وَضَعَها يسوعُ لنا لكي نكونَ أبناءً حقيقيِّينَ في ملكوتِه. لِذا فإنَّ رَبَّنا يَقولُ هنا: "إنَّ صانِعي السَّلامِ هُمْ أبنائي الحقيقيُّون".
فهل فَكَّرْتَ يومًا في معنى أنْ تكونَ ابنًا للهِ؟ وهل فَكَّرتَ يومًا كيفَ يَنظُرُ اللهُ إليك؟ يا لها مِن فكرة رائعة؟ والحقيقة هي أنَّني أستطيعُ أنْ أقولَ لكم، بوصفي أبًا، أنِّي أُحِبُّ أبنائي أكثرَ مِمَّا أُحِبُّ بيتي. وسوفَ أُخبرُكم شيئًا آخر. إنَّ لدى الله بيتًا رائعًا، بل هو رائعٌ جدًّا. فبيتُهُ هو الكَوْن. ولكنَّهُ يُحِبُّني أكثر مِمَّا يُحِبُّ ذلك. فأنا أُحِبُّ أولادي أكثرَ مِمَّا أُحِبُّ أملاكي. وأنا ليست لديَّ أمْلاك. لِذا فإنَّ الأمرَ سَهْل. ولكِنَّ اللهَ يُحِبُّكَ أكثر مِمَّا يُحِبُّ أملاكَهُ. وقد أَحَبَّ يعقوبُ بَنْيامين أكثرَ مِنْ كُلِّ أملاكِهِ. ونحنُ نَقرأُ في سفر التَّكوين 44: 30 أنَّ حياةَ يعقوب كانت تَتَمَحْوَرُ حولَ بَنْيامين. وكذلكَ هي الحالُ معَ الله. فمحبَّتُهُ العظيمة تَتَمَحْوَرُ حولَكَ وحَوْلي. فنحنُ أبناؤُهُ. وكم أُحِبُّ الآيةَ الَّتي تَقولُ إنَّنا "حَدَقَةُ عَيْنِه". ويا لها مِنْ جُملة رائعة! "حَدَقَة عَيْنِه". وقد نُفَكِّرُ الآن في طَبيبِ العُيون. ولكِنْ لا.
فهل تَعلمونَ ما الَّذي يَعنيهِ النَّصُّ العِبْرِيُّ بالعبارة "حَدَقَة العَيْن"؟ حَدَقَة العَيْن في هذا النَّصّ. هل لاحظتُم يومًا أنَّ هذا الجُزْءَ هو أكثرُ جُزءٍ حَسَّاسٍ ومَكشوفٍ في جسمِك؟ أجل. فهو أَطْرى جُزْءٍ وأكثرُ جُزءٍ حَسَّاسٍ في الجسمِ البشريّ. وأنتَ تَحميه. وعندما تَرى شيئًا يَقترب مِنْ عينِك، فإنَّكَ تَحميها. فأنتَ لا تَسمح لأحدٍ أنْ يَمَسَّ حَدَقَة عينِك. وهذا هو تمامًا ما يَشْعُرُ بِهِ الله. فإنْ مَسَسْتَ واحِدًا مِنْ أولادِ اللهِ، كأنَّكَ وَضَعْتَ إصْبَعَكَ في عينِهِ هُوَ. وهذا أمْرٌ يُغْضِبُهُ. فنحنُ حَدَقة عينِه. وهو يقولُ في سفر ملاخي إنَّنا نَفائِسُهُ وإنَّنا سنكونُ جُزءًا مِنْ ذلكَ التَّاجِ الَّذي سيَصْنَعُهُ حينَ يأخذُ نفائِسَهُ ويَجْعَلُهُمْ خاصَّتَهُ. وهل تَعلمونَ أنَّنا نَقرأ في المزمور 56: 8 أنَّ الرَّبَّ يَحْفَظُ دُموعَنا في زِقِّهِ؟ ألا تَجِدونَ أنَّها فِكرة رائعة؟ فنحنُ أولادُه. وهو يَصْنَعُ اسْمًا أبديًّا لنا. وهو يَحْفَظُ دُموعَنا في زُجاجَةِ تَذْكِرَتِه. وقد كانت هذه عادة يهوديَّة قديمة. فعندما تَبكي لِسَبَبٍ ما، فإنَّكُ تَحْفَظُ الدُّموعَ في زُجاجة لكي يَعلمَ النَّاسُ مِقدارَ حُزْنِك. واللهُ يَحفظُ دُموعَنا في زِقِّهِ بِمَعنى أنَّهُ يَعلمُ الحُزْنَ الَّذي اختبرناه. وحينَ نموت، سيكونُ ذلكَ الأمرُ أروعَ شيءٍ على الإطلاق. فالمزمور 116 يقول: "عَزِيزٌ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ مَوْتُ أَتْقِيَائِه".
وكما تَرَوْن، فإنَّنا مُهِمُّونَ حَقًّا لدى الله. فنحنُ أبناؤه. وَهُوَ الَّذي يَجْعَلُنا أبناؤه. وَهُوَ الَّذي يَجعلُنا أُمراءَ، ومُلوكًا، وكَهَنَة، وَوَرَثة. وَهُوَ يدعونا في المزمور 16: 3: "الْقِدِّيسُونَ الَّذِينَ فِي الأَرْضِ وَالأَفَاضِلُ". وَهُوَ يَدعونا في رسالة تيموثاوس الثانية 2: 21: "آنِيَة للكَرامَة". وهذا رائعٌ حقًّا. وكم أُحِبُّ ما جاءَ في سِفْر الرُّؤيا إذْ نَقرأُ إنَّنا سنَجلسُ مَعَهُ في عَرْشِهِ. وهذا يُشبِهُ الأطفالَ الصِّغارَ الذينَ يَقفزونَ إلى حِضْنَ أبيهم. فهل فَكَّرتَ يومًا في مَعنى أنْ تكونَ ابنًا لله؟ فاللهُ يُحِبُّكَ مَحَبَّةً شخصيَّةً وأبديَّة. وَهُوَ يَحْمِلُ ضَعْفَكَ وخطيئتك. وهو يَقْبَلُ خِدمَتَكَ غير الكاملة. وَهُوَ يَسُدُّ كُلَّ احتياجٍ لديك. واللهُ يَحْميكَ مِنْ كُلِّ خطر. واللهُ يُعْلِنُ لكَ حَقَّهُ الأبديّ. واللهُ يَغْفِرُ لكَ ويَستمرُّ في غُفرانِهِ لكَ على كُلِّ خطيَّة. واللهُ يَجْعَلُكَ وارثًا لكُلِّ شيءٍ يَمْلِكُه. واللهُ يَجعلُ كُلَّ الأشياءِ تَعْمَل معًا لخيرِكَ. واللهُ يَحْفَظُكَ مِنَ الهلاكِ الأبديّ. واللهُ يُعطيكَ السَّماء. ولا أدري! ولكِنْ إنْ كانَ هذا هو المَعنى الرَّائعَ لهذه البُنُوَّة، أعتقد أنَّني أريدُ أنْ أكونَ ابْنًا لَهُ. وقد قالَ يسوع: "طُوبَـى لِصَانِعِي السَّلاَمِ، لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللهِ يُدْعَوْنَ". لِنَحْنِ رُؤوسَنا حَتَّى نُصَلِّي:
لا يَسَعُني، يا أبانا، إلَّا أن أُفَكِّرَ في عَدَدِ الكَمالِ إذْ إنَّ هُناكَ سَبْعَ تَطويبات حَتَّى الآن. فهي سَبْعَة أشياء يَتَّصِفُ بها المؤمنُ الحقيقيُّ ويَفْعَلُها. وهي سَبْعُ صِفات. وأنا أُصَلِّي، يا أبانا، أنْ يَنظرَ الأشخاصُ الحاضِرونَ هُنا في هذا المساء إلى حياتِهم الشخصيَّة، وأنْ يَفحصوا أنفسَهُم لِيَرَوْا إنْ كانوا صانِعي سلام. فقد قالَ يسوعُ إنَّ صانِعي السَّلام هُمْ أبناءُ اللهِ. وأنا أُصَلِّي، يا أبانا، أيضًا أنَّهُ إنْ كانَ هناكَ أشْخاصٌ يقولون: "أنا لستُ صانع سلام، وأنا لا أعرفُ مَعنى أنْ أكونَ نَقِيَّ القلبِ، وأنا لا أعرفُ مَعنى أنْ أقبلَ مِنَ اللهِ الرَّحمة، وأنا لا أجوعُ ولا أعطشُ إلى البِرّ، وأنا لستُ وَديعًا هكذا، ولا أَحْزَنُ، ولستُ مِسْكينًا بالرُّوح"، أُصَلِّي، يا أبانا، أنْ يُدركوا أنَّهم لَنْ يَدْخُلوا مَلكوتَك، وأنَّهم لن يَرِثوه، وأنَّهم لن يُشْبَعون، وأنَّهم لن يُدْعَوْا أبناءَكَ، وأنَّهم لن يَحصلوا على رَحْمَتِكَ إلَّا إنْ جاءوا إليكَ بشروطِك؛ أيْ مَكسورينَ وتائبين، وجائعينَ إلى البِرّ الَّذينَ هُمْ في حاجةٍ ماسَّةٍ إليه، ولكِنْ لا يمكنهم أنْ يَحصُلوا عليه مِنْ تِلقاءِ أنفسهم، بل يمكنهم فقط أن يَحصلوا عليه كَهِبَة.
وأنا أُفَكِّرُ، يا أبانا، في الرسول بولس. ويا لهُ مِنْ تَغيير! فقد كانَ شاوُل البارّ في عَيْنِ نَفْسِه، وكانَ يَشعُر أنَّهُ يَمْلِك كُلَّ ما يَلزم، وأنَّهُ ليسَ مُحتاجًا إلى شيء، وكانَ مُعْتَدًّا بنفسه، ولا يَشعُر بحاجته إلى الرَّحمة لأنَّهُ كانَ بارًّا في نَظَرِ نَفْسِهِ بسببِ أعمالِهِ. ولكِنَّ قلبَهُ كانَ مُمتلئًا بالخطيَّة. وقد كانَ يَصْنَعُ اضْطرابًا في كُلِّ مكانٍ يَذهبُ إليهِ، وتَهَدُّدًا وقَتْلاً. وفي لحظة، جَعَلْتَهُ واحدًا مِنْ أعظمِ صانِعي السَّلامِ في كُلِّ ملكوتِك. وقد جَعَلْتَهُ شخصًا يَنوحُ على خطيئتِه ويقول: "وَيْحي لأنِّي أوَّلُ الخُطاة". وقد جَعَلْتَهُ شخصًا وَديعًا جِدًّا حَتَّى إنَّهُ قالَ إنَّهُ لا يَفْتَخِرُ إلَّا بالصَّليب، وشخصًا يَجوعُ ويَعطشُ إلى البِرِّ حَتَّى إنَّهُ قال: "لكي أَعْرِفَهُ". وقد قالَ أيضًا: "ولكنِّي رُحِمْتُ". وقد قالَ: "ولكِنَّ اللهَ، في المسيح، طَهَّرَ قلبي الشِّرِّير"، وقد جَعَلْتَهُ شخصًا لا يَصْنَعُ حربًا، بل سلامًا. وليتَ هذه الشَّهادةَ تَكونُ، يا أبانا، شَهادَتُنا نحنُ أيضًا في هذا المساء. وليتَنا نكونُ صانِعي سلام وأبناءَ حَقيقيِّينَ لك.
وفيما تَحْنونَ رُؤوسَكُم، ألا بَقيتُمْ في حالة صلاة قليلاً؟ فقد كانَ هذا الوقتُ وقتًا رائعًا جدًّا لنا إذْ تأمَّلنا في هذه الحقائق. وأريدُ منكَ فقط أنْ تتأمَّلَ في هذه اللَّحظاتِ الأخيرة في حياتِكَ الشَّخصيَّة. فهل تَعرِف يسوعَ المسيح؟ وهل دَعَوْتَهُ إلى حياتِكَ الشَّخصيَّة؟ وهل جِئْتَ إلى اللهِ بخطيئتِك وطلبتَ مِنْهُ أنْ يَحْسِبَ بِرَّ المسيحِ لك؟ وهل قَبِلْتَ موتَ المسيحِ وقيامَتَهُ بَدَلاً عنكَ؟ وهل أنتَ حَقًّا وَلَدٌ مِن أولادِه؟ أَمْ أنَّكَ ما زِلْتَ تَتَلَفَّت وتقول: "أنا لستُ صانعَ سلام. وأنا لستُ ابنًا لله"؟ إذا كانت هذه هي حالُك، لِمَ لا تَهْمِسْ في قلبِكَ بِخُشوعٍ صَلاةً إلى الربِّ وتقول لَهُ: "يا رَبّ، أريدُ أنْ أكونَ ابْنًا لك. وأريدُ أنْ أكونَ ولدًا لك. وأريدُ أن أكونَ صانعَ سلام. وأريدُ أنْ أحصلَ على الرَّحمة والطَّهارة والبِرّ. وأريدُ المسيحَ في حياتي". أَلا قُلْت ذلكَ للربِّ الآن؟
وإذا كنتَ مؤمِنًا ورُبَّما لم تَشْعُر يومًا بالتَّبكيتِ الَّذي تَشْعُر بهِ الآن بخصوصِ شيءٍ ما في حياتِك، وكنتَ تقول: "أنا لستُ صانعَ سلام، بل أنا أَصْنَعُ الخلافاتِ في البيت وفي العمل. وأنا مُجَرَّدُ شخصٍ يَتَسَبَّبُ في حدوثِ المشاكل طَوالَ الوقت"، أو: "يبدو أنَّني سَيِّدة أُسَبِّبُ المتاعبَ دائمًا". إذًا، قُلْ: "يا رَبّ يسوع، اجْعَلْني صانِعَ سلام. وليتَ كُلَّ خُطوة أخْطُوها تَجْلُبُ رائحةَ سَلامٍ إلهيٍّ مَعَها. وليتني أَصيرُ مَعروفًا في العالمِ كُلِّهِ بأنِّي شخصٌ يَصْنَعُ سلامًا. وليتني أَجِد دائمًا نُقْطَةَ تواصُل يُمْكِنْ للمحبَّة أنْ تَنْمو مِن خلالِها".
وأنا أتضرَّعُ إليكَ، يا أبانا، أنَّهُ في هذا الوقتِ الذي نُصَلِّي فيهِ الآنَ معًا بِخُشوعٍ في قُلوبِنا، أُصَلِّي أنْ تَتَحَدَّثَ إلينا وأنْ تُساعِدَنا على التَّعَهُّدِ بما يَلْزَمُ أنْ نَتَعَهَّدَ به. باسْمِ المسيح. آمين.
This article is also available and sold as a booklet.