كُنَّا في مَساءِ الأسبوعَيْنِ الأخيرَينِ اللَّذَيْنِ كُنتُ فيهما مَعَكُم نَتحدَّثُ عن موضوعِ الاختيارِ الإلهيّ. فَمَنِ الَّذي اختارَ الآخَر؟ وأنا أُدركُ أنَّ هذهِ ليسَت مسألة جَدليَّة صَغيرة. فعندما نَتحدَّثُ عن عقيدةِ الاختيار، هناكَ أُناسٌ كثيرونَ يَشعرونَ (كما ذَكرتُ في عِظَتي الرَّئيسيَّة) أنَّ هذه عقيدة خَطيرة، وأنَّ هذهِ العقيدة تَجعلُ اللهَ وَحشًا، وأنَّ هذه العقيدة هي مُجَرَّد تَجديف، وأنَّها بِدعَة وَحَسْب. وبالرَّغمِ مِن كُلِّ ما قَدْ يَشُنُّهُ المَنْطِقُ البَشريُّ وما قد تَشُنُّهُ المُيولُ البَشريَّة مِنْ حَرْبٍ ضِدَّ هذهِ العقيدة، فإنَّها عقيدة لا مَفَرَّ مِنها يُعَلِّمُها الكتابُ المقدَّس. ويجب علينا أنْ نَحْني رُكْبَتَيْنا أمامَ هذا الحَقِّ العظيمِ المُختصِّ بالاختيارِ الإلهيِّ. وحَالَما نَفعلُ ذلك، قد يَصيرُ هذا الحَقُّ بالنِّسبة إلينا أَثمَنَ عَقيدة في كُلِّ العقائد.
وأنا أَفهمُ ما يَقولُهُ الكتابُ المقدَّسُ عن هذهِ الأمورِ المُختصَّة بالخلاص. وأنا أَفهمُ أنَّ الكتابَ المقدَّسَ يَقولُ في رسالة تيموثاوس الأولى 2: 4 أنَّ اللهَ "يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَخْلُصُونَ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ يُقْبِلُونَ". وأنا أَعلمُ أيضًا أنَّ الكتابَ المقدَّسَ يَقولُ في رسالة بُطرس الثانية 3: 9 أنَّ اللهَ "لاَ يَشَاءُ أَنْ يَهْلِكَ أُنَاسٌ، بَلْ أَنْ يُقْبِلَ الْجَمِيعُ إِلَى التَّوْبَة". وأنا أَعلمُ أنَّ الكتابَ المقدَّسَ يَقولُ إنَّهُ يجب علينا أنْ نَكرِزَ بالإنجيل للخَليقةِ كُلِّها. وأنا أَعلمُ أنَّ الكتابَ المقدَّسَ يُوصي كُلَّ النَّاسِ في كُلِّ مَكان بأنْ يَتوبوا، وأنَّ اللهَ يأمُرُنا جميعًا أنْ نَنظُرَ إلى ابنِهِ الَّذي سُرَّ بِهِ، وأنْ نَسْمَعْهُ، وَأنَّ الإنجيلَ هوَ في الأصل: وَصِيَّة.
فنحنُ نَتحدَّثُ عنهُ كما لو كانَ هِبَة، ونَتحدَّثُ عنهُ كما لو كانَ عَرْضًا؛ ولكِنَّهُ في الأصل وَصِيَّة بأنْ نُؤمِنَ بالرَّبِّ يَسوعَ المسيح. وأنا أَفهمُ أيضًا أنَّ الكتابَ المقدَّسَ يُعَلِّمُ عنِ الاختيارِ البشريِّ والإرادة البشريَّة، وأنَّ الكتابَ المقدَّسَ يَقول: "فَاخْتَارُوا لأَنْفُسِكُمُ الْيَوْمَ مَنْ تَعْبُدُونَ". وأنا أَعلمُ أنَّ يَسوعَ قالَ: "تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِــي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ". وأنا أَعلمُ أنَّهُ قال: "وَمَنْ يُرِدْ فَلْيَأْخُذْ مَاءَ حَيَاةٍ مَجَّانًا".
وقد طَرَحَ يَسوعُ السُّؤالَ: "لِماذا تُريدونَ أنْ تَموتوا؟ وَلاَ تُرِيدُونَ أَنْ تَأتُوا إِلَيَّ [كَما قالَ] لِتَكُونَ لَكُمْ حَيَاةٌ". وأنا أَعلمُ أنَّ يسوعَ بَكى على مَدينةِ أورُشليم وقال: "كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلاَدَكِ كَمَا تَجْمَعُ الدَّجَاجَةُ فِرَاخَهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهَا، وَلَمْ تُرِيدُوا!" وأنا أَعلمُ أنَّ اللهَ بَكى على إسرائيلَ العَاصِيَة، والمُتَمَرِّدة، وغير المُؤمِنَة، وأنَّهُ بَكى مِنْ خِلالِ عَيْنَيِّ إرْميا (كما هُوَ مُدَوَّن في سِفْر إرْميا والأصحاح 13).
وأنا أَعلم أيضًا أنَّ الكتابَ المقدَّسَ يَدينُ كُلَّ الأشخاصِ بوصفِهِم خُطاة، وأنَّ كُلَّ الخُطاةِ مُذنبونَ شخصيًّا بانتهاكِ نَاموسِ اللهِ المُقَدَّس، ويَستحقُّونَ الغَضَبَ الإلهيَّ والعِقابَ الأبديّ. وأنا أَعلمُ أنَّ الكتابَ المقدَّسَ يَقولُ إنَّهُ يُوجدُ لَدى كُلِّ الخُطاةِ مَا يَكفي مِنَ الإعلانِ لِجَعلِهِم مَسؤولينَ عن خَطاياهُم. فَمِن خلالِ الخَليقة (في رُومية 1)، ومِن خِلالِ الضَّمير (في رُومية 2)، فإنَّ الخُطاةَ أُعْطُوا نُورًا إنْ تَبِعوهُ يَقودُهُم إلى الحَقِّ. وإنْ لم يَتبَعوهُ فإنَّهُم سَيَهلِكونَ تحتَ غَضَبِ اللهِ.
فأنا أَفهمُ كُلَّ ذلك، وكذلكَ أنتُم. وهذا كُلُّهُ مُبَيَّن في الكتابِ المقدَّس. ولكِنْ في الوقتِ نَفسِه، وَمِنْ دونِ أيِّ تَناقُض، سِوى تلكَ الصُّعوبة الظَّاهرة الَّتي نُواجِهُها في أذهانِنا، هُناكَ سِرٌّ يَتَكَشَّف لنا في الكتابِ المقدَّس ويُخبرُنا أنَّهُ لا يوجد خاطئ واحد يَستطيعُ أنْ يَفهمَ الحَقَّ: "وَلكِنَّ الإِنْسَانَ الطَّبِيعِيَّ لاَ يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ اللهِ لأَنَّهُ عِنْدَهُ جَهَالَةٌ". فالكِرازة بالصَّليب هي جَهالَة في نَظَرِه. ولا يوجد خاطئ يَستطيعُ مِنْ ذاتِهِ أنْ يَتوب.
والحقيقة هي أنَّنا نَقرأُ في سِفْر أعمال الرُّسُل أنَّ الطَّريقة الوحيدة الَّتي يُمكن أنْ يَتوبَ فيها الخاطئ هي إنْ أعطاهُ اللهُ تَوبة. وحَتَّى إنَّ الإيمانَ يَفوقُ قُدرةَ البَشَر. فنحنُ نقرأ في إنجيل يوحنَّا والأصحاح الأوَّل: "وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللهِ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ. اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُل، بَلْ مِنَ اللهِ". فالإيمانُ لا يَتِمُّ بإرادةِ الإنسان، أو مِنْ مَشيئةِ الجَسَد.
ثُمَّ إنَّ الكتابَ المقدَّسَ يَقولُ إنَّ النَّاسَ عَاجِزونَ عَنْ فَهْمِ الحَقَّ، أيْ حَقَّ الإنجيل. وَهُمْ عاجِزونَ عنِ التَّوبة. وَهُمْ عَاجِزونَ عنِ الإيمان. لِذا فإنَّ الطَّريقةَ الوحيدةَ الَّتي يُمكِنُ فيها لأيِّ خَاطِئ أنْ يَنالَ الفِداءَ هِيَ مِنْ خِلالِ عَمَلِ الله. فيجب أنْ يَمنَحَهُ اللهُ فَهْمًا، ويَمنَحَهُ تَوبةً، ويَمنَحَهُ إيمانًا. فيجب على اللهِ أنْ يَتغلَّبَ على مَوتِهِ الرُّوحِيِّ ويُعطيهِ حَياةً، وأنْ يَتغلَّبَ على عَماه الرُّوحِيِّ ويُعطيهِ بَصَرًا، وأنْ يَتغلَّبَ على جَهلِهِ الرُّوحِيِّ ويُعطيهِ حَقًّا، وأنْ يَتغلَّبَ على مَحَبَّتِهِ الطَّاغية للخطيَّة ويُعطيهِ بَدَلاً مِنْ ذلكَ رَغبةً في البِرّ.
وإنْ كانَ هناكَ شخصٌ سيَخلُص يومًا، فإنَّ ذلكَ سيحدث فقط لأنَّ اللهَ نَقَضَ كُلَّ المُعَطِّلاتِ العاديَّة والطَّبيعيَّة. لِذا فإنَّنا نَقولُ إنَّ الخَلاصَ هُوَ بمُجمَلِهِ مِنَ الله. فهو ليسَ فقط بالنِّعمة، بل إنَّهُ كُلُّهُ مِنَ الله. وهذا ليسَ بِمَعْزِلٍ عنِ الإرادة البشريَّة، ولا يَنْتَهِكُ المشيئة البشريَّة. فالواقعُ العميقُ الَّذي لا يُسْبَرُ غَوْرُهُ هو أنَّهُ لا يُمكنُ لأيِّ شخصٍ أنْ يَختارَ المسيحَ مَا لَمْ يَخْتَرْهُ اللهُ أوَّلاً. فنحنُ قد خَلُصنا وحَصَلنا على الحياةِ لأنَّ اللهَ اختارَ بِمَشيئَتِهِ أنْ يُعْطينا ذلك.
وَلنَبتَدِئ بإنجيل يوحنَّا 6: 64. ففي العِظَتَيْنِ السَّابقتَيْن، ذَكَرْتُ لكم الكثيرَ مِنَ الآياتِ الكِتابيَّة لكي تَتأمَّلوا فيها. وإليكُم آية أخرى تُضيفونَها إلى لائِحَتِكُم. ففي العدد 64، يَقولُ يَسوع: "وَلكِنْ مِنْكُمْ قَوْمٌ لاَ يُؤْمِنُون. لأَنَّ يَسُوعَ مِنَ الْبَدْءِ عَلِمَ مَنْ هُمُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ، وَمَنْ هُوَ الَّذِي يُسَلِّمُهُ" (أيْ: يَهوذا). وفي العدد 65: "فَقَالَ: «لِهذَا قُلْتُ لَكُمْ: إِنَّهُ لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ إِلَيَّ إِنْ لَمْ يُعْطَ مِنْ أَبِي»".
ولا أدري كيفَ يُمكن أنْ يُقالَ ذلك بوضوحٍ أكبر. فلا يُمكنكَ أنْ تأتي، ولن تأتِ إلَّا إذا أعطاكَ اللهُ فَهمًا، وتَوبةً، وإيمانًا. وهذا هو ما قُلناهُ في العِظَتَيْن السَّابقتَيْن؛ أيْ أنَّ الخلاصَ هُوَ عَمَلُ الله. وهذا يَضَعُنا أمامَ سُؤالٍ مُهمٍّ جِدًّا جِدًّا سنُجيبُ عنهُ في هذا المساء. وإليكُم السُّؤال: لماذا فَعَلَ اللهُ ذلك؟ لماذا قامَ بهذا الاختيار؟ لماذا اختارَ اللهُ أنْ يُنقِذَ خُطاةً مِنْ دَينونَتِهِ العادِلَة؟
والجوابُ صَاعِقٌ حَقًّا. ولكي تَفهمَوا لماذا فَعَلَ اللهُ ذلك، أريُدُ أنْ أُساعِدَكُم على فَهْمِ بعضِ الآياتِ المُهمَّة جِدًّا جِدًّا في كلمةِ الله. ولنَبتدئ برسالة تِيطُس والأصحاح الأوَّل. رسالة تِيطُس والأصحاح الأوَّل. وأريدُ منكم أنْ تَفهموا الصُّورة الكبيرة حقًّا لعقيدةِ الاختيارِ المّجيدة هذه. ففي بداية رسالة تيطُس، يُقَدِّمُ بولسُ نَفسَهُ. وهو يُقَدِّمُ نَفسَهُ بطُرق مُهِمَّة لتوضيحِ دَعوَتِه. فهو: "عَبْدُ اللهِ، وَرَسُولُ يَسُوعَ الْمَسِيح". وبالمَعنى الأشمَل، إنَّهُ خَادِمُ اللهِ. وبالمَعنى الأكثر خُصوصيَّة، إنَّهُ يَخدِمُ اللهَ بوصفِهِ رسولَ يسوعَ المسيح.
والآن، مِنْ خِلالِ خِدمَتِهِ للهِ وَرَسولِيَّتِهِ ليسوعَ المسيح، هناكَ بِضعَة عَناصِر في خِدمَتِه. فَأوَّلاً، إنَّهُ يَقول: "لأَجْلِ إِيمَانِ مُخْتَارِي اللهِ". "لأَجْلِ إِيمَانِ مُخْتَارِي اللهِ". إذًا، أَوَّلُ شَيءٍ يَقولُهُ بولُس هو أنَّ اللهَ دَعاني إلى خِدمَتِه.
وبالمُناسبة، فإنَّ اهتداءَ بُولُس ودَعوَتَهُ هُما صُورة لاهتداءِ كُلِّ خاطئ. فقد كانَ في طَريقِهِ إلى دِمَشق. وقد كانَ قَلبُهُ مُمتلئًا كَراهيةً للمسيح. وقد كانَ ذاهبًا لاضطهادِ مَزيدٍ مِنَ المؤمنين. وقد تَوَقَّفَ في طَريقِهِ وخَلَصَ بسيادَةِ الله. ثُمَّ إنَّهُ صَارَ "عَبْدَ اللهِ وَرَسُولَ يَسُوعَ الْمَسِيح". وقد كانت مَهَمَّتُهُ الأولى هي "لأَجْلِ إِيمَانِ مُخْتَارِي اللهِ". وهذا يعني أنْ يَكْرِزَ بالإنجيلِ للمُختارينَ لكي يَسمعوهُ ويُؤمِنوا.
والآن، حيثُ إنَّ بولسَ لا يَعرِفُ مَنْ هُمُ المُختارين، وحيثُ إنَّهُ لا توجد طريقة لمعرفتهم، وحيثُ إنَّ مَشيئةَ اللهِ واختيارَهُ سِرٌّ خَفِيٌّ، فإنَّ بولسَ يَكرِزُ بالإنجيلِ في كُلِّ مَكانٍ يَذهبُ إليه لأنَّهُ يَعلمُ أنَّ اللهَ سيَستخدِمُهُ لتوصيلِ الإنجيلِ إلى المُختارينَ الَّذينَ سيُؤمِنون. وهذه هي الكِرازَة. وهذا هو الجانبُ الأوَّلُ مِنْ خِدمةِ بولُس. فهي خِدمة كِرازة. فأنتَ تَكرِزُ بالإنجيل لكي يَسمَعَهُ المُختارونَ ويُؤمِنوا.
ثُمَّ إنَّ هُناكَ جَانبًا آخرَ لخدمتِه. فهي تَبتدئُ بالكِرازة وتَنتقلُ إلى البُنيان. فهو يَقولُ إنَّهُ مَدعُوٌّ مِنَ اللهِ لا فقط لِتَمثيلِ يسوعَ المسيحِ وإعلانِ الحَقِّ للمُختارينَ لكي يَسمعوهُ ويُؤمِنوا بِهِ، بل أيضًا لكي يُقَدِّمَ لهؤلاءِ الَّذينَ يُؤمِنونَ: مَعْرِفَةَ الْحَقِّ، الَّذِي هُوَ حَسَبُ التَّقْوَى". فهذا هو الجانبُ الثَّاني. فحالَما يُؤمِنُ النَّاسُ فإنَّهم يَصيرونَ بحاجة إلى تَعَلُّمِ الحَقِّ لكي يَتَمَثَّلوا أكثر بالمسيح. لِذا، يُمكنكم أن تَقولوا إنَّ الجانِبَ الأوَّلَ لِخِدمَتِهِ هُوَ الخلاص، وأنَّ الجانبَ الثَّاني هو التَّقديس. فهو يَقول: "أنا أَكرِزُ بالإنجيل حَتَّى يَتمكَّنَ المُختارونَ مِنْ سَماعِهِ والإيمانِ بِهِ. ثُمَّ إنَّني أُعَلِّمُ كلمةَ اللهِ لكي يَتَمَكَّنَ المؤمِنونَ مِنْ تَعَلُّمِ الحَقِّ الَّذي يُنشِئُ تَقوى".
وهُناكَ بُعدٌ آخر لِخِدمَتِه. وَهذا يَصحُّ عليهِ وعلينا جَميعًا إذْ نَقرأُ في العددِ الثَّاني: "عَلَى رَجَاءِ الْحَيَاةِ الأَبَدِيَّة". فالجانبُ الثَّالثُ هو عُنصرُ التَّشجيعِ والتَّعزية والرَّجاء الَّذي يَنظُرُ إلى المجدِ المُستقبليّ. لِذا، لكي نُلَخِّصَ ذلك، فإنَّهُ يَقولُ: "أنا أَكرِزُ بالإنجيل حَتَّى يَتمكَّنَ المُختارونَ مِنْ سَماعِهِ والإيمانِ بِهِ. ثُمَّ إنَّني أُعَلِّمُ كلمةَ اللهِ لكي يَتَمَكَّنَ أولئكَ المؤمِنونَ مِنَ النُّمُوِّ في مَعرفةِ الحَقِّ الَّذي يُنشِئُ تَقوى. ثُمَّ إنَّني أُخبرُهم عنِ الحياةِ الأبديَّة الآتية لكي يَعيشوا في رَجاءٍ، ولكي يَصيرَ الرَّجاءُ مُعَزِّيَهُم الأكبَر".
لِذا، فإنَّ خِدمَتَهُ تَشمَلُ عُنصُرَ الخلاص، وعُنصُرَ التَّقديس، وعُنصُرَ التَّمجيد. ونحنُ جميعًا نَضْطَلِعُ بهذهِ المسؤوليَّة. وما أعنيه هو أنَّ هذا هُوَ ما نَفعَلُهُ جَميعًا. فنحنُ نَكرِزُ بالإنجيل، ثُمَّ إنَّنا نُعَلِّمُ الَّذينَ يُؤمِنونَ لكي يَنموا. ثُمَّ إنَّنا نَملأُ أذهانَهُم بالرَّجاءِ بما سيَحصُلونَ عليهِ مِنْ مِيراثٍ مَجيدٍ يَنتظرُنا في المُستقبَل. ولكِنَّ العَدَدَ الثَّاني هو المَكانُ الَّذي أُريدُكُم أنْ تُرَكِّزوا عليه. رسالة تِيطُس 1: 2:
فهذهِ كُلُّها -كَما يَقولُ- فهذهِ كُلُّها (مِنَ التَّبريرِ إلى التَّقديسِ إلى التَّمجيدِ)، هَذِهِ كُلُّها: "وَعَدَ بِهَا اللهُ الْمُنَزَّهُ عَنِ الْكَذِبِ". والتَّرجمةُ الأمريكيَّة القياسيَّة الجديدة تَقول: "قَبْلَ دُهورٍ طَويلة". أمَّا النَّصُّ اليُونانيُّ فيَقول: "قبلَ ابتداءِ الزَّمَن". "قبلَ ابتداءِ الزَّمَن". "قبلَ ابتداءِ الزَّمَنِ، وَعَدَ اللهُ أنَّهُ سيُخَلِّص ويُقَدِّس ويُمَجِّد المُؤمِنين.
والآن، إنَّ السُّؤالَ الَّذي يَطرَحُ نَفسَهُ هُوَ: قبلَ ابتداءِ الزَّمَن، إلى مَنْ قَطَعَ اللهُ هذا الوَعْد؟ مِنَ المؤكَّدِ أنَّهُ لم يَقطَع هذا الوعدَ إلى أيِّ إنسانٍ لأنَّهُ لم يَكُن هُناكَ بَشَر. فالعِبارة "قبلَ ابتداءِ الزَّمَن" تَعني قبلَ اليومِ الأوَّل للخَلْق. وَمِنَ المؤكَّدِ أنَّهُ لم يَقطَع هذا الوعدَ للملائكة لأنَّهُ لا توجد مَلائِكَة مُخَلَّصَة. فهناكَ ملائكة مُقَدَّسة لم تَسقُط يومًا، وهُناَكَ ملائكة سَقَطَتْ ولم تَنَل الفِداء، بل إنَّها سَتَذهبُ إلى بُحيرةِ النَّارِ المُعَدَّة لها. فلم يَكُنْ هناكَ يومًا خَلاصٌ لأيِّ مَلائكة. لِذا فإنَّهُ لم يَقطَعْ أيَّ وَعدٍ بالخلاصِ والتَّقديسِ والتَّمجيدِ للملائكة. وَهُوَ لم يَقطع أيَّ وعدٍ للنَّاسِ لأنَّهُ لم يَكُن هناكَ بَشَر. والحقيقة هي أنَّهُ مِنَ المُرَجَّح جدًّا أنَّهُ عندما قَطَعَ هذا الوعدَ، لم تَكُن هناكَ أيَّة ملائكة أيضًا لأنَّهُ يبدو أنَّ الملائكة خُلِقَتْ في وقتٍ قَريبٍ مِنَ الوَقتِ الَّذي خُلِقَ فيه كُلُّ شيءٍ آخر.
إذًا، إلى مَنْ قَطَعَ هذا الوعدَ؟ لا بُدَّ أنَّهُ وَعْدٌ بينَ الأقانيمِ الثَّلاثة. فلا بُدَّ أنَّ اللهَ قَطَعَ وَعدًا في إطارِ الأقانيمِ الثَّلاثة. إذًا، لِمَنْ قَطَعَ الوعدَ؟ انظروا معي إلى رسالة بولس الثانية إلى تيموثاوس، ولنَتَتَبَّع ما جاءَ فيها. الرّسالة الثانية إلى تيموثاوس 1: 9. فالعددُ الثَّامِن يَنتهي بالإشارة إلى الله. ثُمَّ إنَّ العدد 9 يَقولُ (إشارةً إلى اللهِ): "الَّذِي خَلَّصَنَا وَدَعَانَا دَعْوَةً مُقَدَّسَةً، لاَ بِمُقْتَضَى أَعْمَالِنَا، بَلْ بِمُقْتَضَى الْقَصْدِ وَالنِّعْمَةِ الَّتِي أُعْطِيَتْ لَنَا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ" [ثُمَّ إنَّنا نَجِدُ نَفسَ العِبارة اليونانيَّة الموجودة في رسالة تيطُس 1: 2]: "قبلَ ابتداءِ الزَّمَن".
ولا أَدري لماذا قَامَ المُتَرْجِمونَ (في رسالة تيطُس 1: 2) بِتَرجمةِ العِبارة "قبلَ دُهورِ طَويلة"، وَتَرجَموا نَفسَ هذهِ العِبارة هُنا: "قبلَ الأَزْمِنَةِ الأَزَلِيَّةِ"؛ في حين أنَّ مَعناها هُوَ: "قبلَ ابتداءِ الزَّمَن". فقبلَ أنْ يكونَ هُناكَ زَمَن، وَعَدَ اللهُ أنْ يُخَلِّصَ الخُطاةَ، وأنْ يُقَدِّسَهُم، وأنْ يُمَجِّدَهُم". والسُّؤالُ هُوَ: "لِمَنْ قَطَعَ اللهُ هذا الوَعدَ؟" فهو لم يَقْطَعْهُ للخُطاةِ لأنَّهُم لم يكونوا مَخلوقين. إذًا، لِمَنْ قَطَعَهُ؟
حَسَنًا، نَقرأُ في العدد 9: "الَّتِي أُعْطِيَتْ لَنَا فِي الْمَسِيحِ يَسُوع". وأنا أقولُ لَكُمْ إنَّنا نَجِدُ هُنا المِفتاحَ. فالآبُ قَطَعَ وعدًا للابن. فالخلاصُ بأسرِهِ يأتي مِنَ الله. وَهُوَ بِمُجمَلِهِ يَدورُ حَولَ قَصدِهِ. وَهُوَ يُمْنَحُ نِيابَةً عَنِ المسيح. لِذا، إذا أردتُم أن تَفهموا هذه العقيدة العظيمة المُختصَّة بالاختيار، يجب أنْ تَفهموا مَا يَلي: أنَّ الآبَ، في وَقتٍ ما في الأزَلِ السَّحيق، قالَ للابن: "سوفَ أَفدي خُطاةً. وسوفَ أفعلُ ذلكَ لأجلِك. سوفَ أفعلُ ذلكَ لأجلِك".
ولماذا يَفعلُ اللهُ ذلك؟ لأنَّهُ يُحِبُّ الابنَ. وفي الأصحاحِ السَّابع عَشَر مِن إنجيل يُوحَنَّا (كما سَنَرى لاحقًا)، فإنَّ الابنَ يَحتفِلُ بالمحبَّة المُتبادَلة بينَهُ وبينَ الآبِ. والمَحَبَّة مِعْطاءَة. والآبُ يُقَرِّرُ بِمَحبَّتِهِ الأزليَّة في إطارِ الثَّالوثِ أنَّهُ سيُعَبِّرُ عن مَحَبَّتِهِ للابنِ بأنْ يُعطي الابنَ عَطِيَّة. وهذهِ العطيَّة، في الأساسِ، ستكونُ: بَشَرًا مَفْدِيِّين. بِعبارة أخرى، فإنَّهُ سَيُعطي الابنَ عَروسًا.
وفي العَالَمِ القديم، كانَ الآباءُ يَختارونَ عَرائسَ لأبنائِهم. فقد كانَ الأمرُ يَحدُثُ هكذا. فلم يَكُن أيُّ شَخصٍ يَختارُ لنفسِهِ. فقد كانت هذه مسؤوليَّة الآباء. ونحنُ نَجِدُ هُنا النَّموذَجَ الإلهيَّ إذْ إنَّ اللهَ يُقَرِّرُ أنَّهُ سيَختارُ عَروسًا لابنِهِ. وهي طَريقة يُعَبِّرُ فيها الآبُ عن مَحبَّتِهِ لابنِهِ. وهي طريقة قَرَّرَ أنْ يَفعلَها بأنْ يُعطي ابنَهُ بَشرًا مَفْدِيِّين.
ويُمكنكم أنْ تُتابِعوا تلكَ الفكرة في الأصحاحِ السَّادسِ مِن إنجيل يوحنَّا؛ وهو مَقطعٌ مِنَ الكتابِ المقدَّسِ نُشيرُ إليهِ في أغلبِ الأحيان في دراسَتِنا لكلمةِ اللهِ لأنَّهُ مُهِمٌّ جِدًّا. ففي إنجيل يوحنَّا 6: 37 نَقرأُ هذهِ الكلمات المُهمَّة: "كُلُّ مَا يُعْطِينِي الآبُ فَإِلَيَّ يُقْبِلُ". وهُنا، يجب أنْ نَفهمَ المَعنى المَقصود. فَكُلُّ شخصٍ مُخَلَّص هُوَ عَطِيَّة مِنَ الآبِ للابن. فالآبُ قَرَّرَ مُنذُ الأزَلِ السَّحيق أنْ يُعطي ابنَهُ عَروسًا؛ أيْ أنْ يُعطي ابنَهُ بَشرًا مَفدِيِّين. والكتابُ المقدَّسُ يَقولُ لنا إنَّهُ كَتَبَ فِعلاً أسماءَهُم في سِفْرِ حَياةِ الخَروف المَعروف حَتَّى قَبْلَ تأسيسِ العَالَم. وقد كانَ ينبغي للخروف أنْ يُذبَح لكي يَدفعَ أُجرةَ ذلكَ الفِداء.
وقد كانَ هُناكَ دائمًا مَهْرٌ للعَروس يُدفَعُ للآبِ مِنْ قِبَلِ الشَّخصِ الَّذي يَأخُذُ العَروس. وفي هذه الحالة، كانَ ينبغي للآبِ أنْ يَبذُلَ ابنَهُ. وكانَ ينبغي للابن أنْ يَبذُلَ حَياتَهُ ليَدفعَ مَهْرَ عَروسِهِ. وكُلُّ شخصٍ مُخَلَّص هو جُزءٌ مِن تلكَ العَروس. وَحَتَّى إنَّ قِدِّيسي العهد القديم مَشمولينَ في العَروس ويُقيمونَ في أورُشليمَ الجديدة النَّازلة مِنَ السَّماءِ كَعَروسٍ مُزَيَّنة لِرَجُلِها، والتي ستَصيرُ عاصمةَ الأبديَّة، مَدينةَ العَروس. فتاريخُ الفِداءِ بأسرِه يَتمحوَرُ حَولَ الآبِ الَّذي يَطلُبُ عَروسًا لابنِهِ. والآبُ كانَ قد قَرَّرَ قبلَ تأسيسِ العالَم مَنْ ستكونُ العَروس. وقد كَتَبَ الأسماءَ حَتَّى إنَّ كُلَّ شخصٍ يأتي إلى المسيح مُعْطَى للمَسيحِ مِنَ الآب. وهذا حَقٌّ مُدهشٌ ومَجيد.
والحقيقة هي: انظروا إلى العدد 44: "لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُقْبِلَ إِلَيَّ إِنْ لَمْ يَجْتَذِبْهُ الآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي". فلا يُمكنكَ أن تأتي. ولا يُمكنكَ أن تَفهَم. ولا يُمكنكَ أنْ تَتوب. ولا يُمكنكَ أن تُؤمِن. وهذا هو تمامًا ما نَقرأهُ في نفسِ الأصحاحِ في الآيتين 64 و 65: "لِهذَا قُلْتُ لَكُمْ: إِنَّهُ لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأتِيَ إِلَيَّ إِنْ لَمْ يُعْطَ مِنْ أَبِي". فهذه عَطِيَّة إلهيَّة.
إذًا، كيفَ يَخلُصُ النَّاسُ؟ إنَّهُم مُختارون. وأسماؤُهم مكتوبة في سِفرِ حياةِ الخروف قبلَ تأسيسِ العالَم. وكُلُّ واحدٍ منهم هو عَطِيَّة شخصيَّة مِنَ الآبِ إلى الابن. ثُمَّ عَودة إلى العدد 37: "كُلُّ مَا يُعْطِينِي الآبُ فَإِلَيَّ يُقْبِلُ". فإنْ كُنْتَ معْطَى، سوفَ تأتي. وهذا هوَ ما أَسْماهُ اللَّاهوتِيُّونَ على مَرِّ العُصورِ: "النِّعمَة الَّتي لا تُقاوَم". فإنْ كُنْتَ مُختارًا، وإنْ كُنتَ عَطِيَّة مِنَ الآبِ إلى الابن، سوفَ تأتي.
فسوفَ تُعطَى حياةً، وفَهمًا، وتوبةً، وإيمانًا. والعدد 37 يَقول: "وَمَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ لاَ أُخْرِجْهُ خَارِجًا". لماذا؟ لأنَّ هناكَ شيئًا قَيِّمًا مُتأصِّل في الخاطئ؟ لا. فهذا واحدٌ مِنَ الأوهامِ الإنجيليَّة اليوم: أنَّنا رائعونَ جدًّا حَتَّى إنَّ اللهَ لا يَستطيعُ أنْ يُقاوِمَنا. فهو يُحِبُّنا مَحَبَّة فائقة بسببِ صِفاتِنا. ولكِنَّ الأمرَ ليسَ كذلكَ البَتَّة. فالقيمة لا تَكْمُنُ في الهَديَّة، بل إنَّ القيمة تَكْمُنُ في مُعْطي الهَدِيَّة. فَلأنَّ الابنَ يُحِبُّ الآبَ مَحَبَّة كاملة، فإنَّ كُلَّ ما يُعطيهِ الآبُ للابن يَكتَسِب قيمة مُطْلَقَة بسببِ المُعْطي، لا العَطِيَّة.
وما أعنيه هو أنَّني أعتقد أنَّنا نَفهمُ ذلكَ بالمَفهومِ الحِسِّيِّ. فالهدايا الَّتي يُعطينا إيَّاها الأشخاصُ الَّذينَ نُحِبُّهُم تَكتَسِبُ قيمةً تَفوقُ قيمَتَها الحقيقيَّة الَّتي كانت لها وَهِيَ مَوضوعة على الرَّفّ. فنحنُ لا نَمتلك أيَّ قيمة مَجيدة ورائعة في أنفُسِنا، ولكِنْ لأنَّنا أُعطِينا إلى الابنِ مِنَ الآبِ، فقد صِرنا أعَزِّاءَ لدى الابن. وَهُوَ لا يُمكن أنْ يَرفُض عَطِيَّةً مِنْ أبيه.
ثُمَّ نَقرأُ في العدد 39: "وَهذِهِ مَشِيئَةُ الآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي: أَنَّ كُلَّ مَا أَعْطَانِي لاَ أُتْلِفُ مِنْهُ شَيْئًا..." (لا أُتلِفُ مِنْهُ شيئًا)، "...بَلْ أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِير". العدد 40: "لأَنَّ هذِهِ هِيَ مَشِيئَةُ الَّذِي أَرْسَلَنِي: أَنَّ كُلَّ مَنْ يَرَى الابْنَ وَيُؤْمِنُ بِهِ..." (لأنَّ الآبَ سَمَحَ لَهُ أنْ يَفعلَ ذلك، وأعطاهُ القُدرة على القِيامِ بذلك، فإنَّ كُلَّ مَنْ يَفعلُ ذلك) "...تَكُونُ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِير".
هل ابتدأتُم تَفهمون؟ فالآبُ يَختارُ عَروسًا ويَكتُبُ الاسمَ. وفي الوقتِ المُعَيَّن في التَّاريخ فإنَّ أولئكَ الَّذينَ اختارَهُمُ الآبُ يُعْطَوْنَ للابن. وعندما يَتوبونَ ويُؤمِنونَ فإنَّ الابنَ يَقبَلُهم. والابنُ لا يَرفُضُهم. فالابنُ لا يَفْقِدُ أيًّا مِنهُم، بل يُقيمُهُم في اليومِ الأخير. وهذا لا يتوقَّفُ على أيِّ قيمة فينا، بل إنَّنا نَكتَسِبُ قيمةً لأنَّ الابنَ يُحِبُّ عَطايا أبيه.
وهذهِ اللُّغَة نَفسُها تَتكرَّرُ في الأصحاح السَّابع عَشَر مِن إنجيل يوحنَّا. ورُبَّما تَرغبونَ في أنْ تَفتحوا عليه. وقد سَمَّى أُناسٌ هذا الأصحاحَ: "قُدس أقداس الكِتاب المُقدَّس". فَهُنا تَرَوْنَ عُمْقَ الشَّركة في الثَّالوث بينَ الآبِ والابن. ففي إنجيل يوحنَّا والأصحاح 17، يَتَحَدَّثُ يسوعُ إلى الآبِ عَنَّا، ويَتَحَدَّثُ إلى الآبِ عنْ عَروسِهِ؛ أيْ عن أولئكَ الَّذينَ أعطاهُمُ اللهُ لَهُ.
ونَقرأ في العدد 9 أنَّهُ يَقول: "مِنْ أَجْلِهِمْ أَنَا أَسْأَلُ. لَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ الْعَالَمِ" ... فأنا لا أسألُ مِنْ أجلِ العالَمِ، "بَلْ مِنْ أَجْلِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي لأَنَّهُمْ لَكَ". وبهذا المَفهوم، فإنَّ المُختارينَ هُمْ للهِ لأنَّهُمْ مُختارون. فَهُمْ دائمًا يَنتمونَ إليه. وَهُوَ يُقَدِّمُهُم عَطِيَّة مَحَبَّة للابن. والابنُ يَقولُ: "أنا أسألُ لأجلهم. وأنا أُصَلِّي لأجلهم. فأنا لا أسألُ مِنْ أجلِ العالَم، بل مِنْ أجلِ الَّذينَ أعطيتَني".
العدد 11. فقد كانَ يَعلمُ أنَّهُ سيُغادِر، وأنَّهُ يَدنو مِنَ الصَّليب. وَهُوَ يَقول: "وَلَسْتُ أَنَا بَعْدُ فِي الْعَالَمِ". فسوفَ يأتي وقتٌ لا أكونُ فيهِ موجودًا هُنا. "وَأَمَّا هؤُلاَءِ فَهُمْ فِي الْعَالَمِ، وَأَنَا آتِي إِلَيْكَ. أَيُّهَا الآبُ الْقُدُّوسُ" [والآن، استمعوا إلى هذهِ الكلماتِ]: احْفَظْهُمْ فِي اسْمِكَ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي، لِيَكُونُوا وَاحِدًا كَمَا نَحْنُ". وهذهِ لَحظة عميقة جدًّا في هذه الصَّلاةِ الَّتي صَلَّاها يَسوع. فَهُوَ يَقولُ: "أنا على وَشْكِ المُغادرة. وَهُمْ سَيَبقونَ هُنا. وأنا آتي إليكَ وأسألُكَ، أيُّها الآبُ، أنْ تَحفَظَهُم. فقد حَفِظْتُهُم حَتَّى الآن. ولكِنَّ الأحوالَ ستتغيَّر. وأنا أَسألُكَ أنْ تَحفَظَهُم".
وَهُوَ يَقولُ في العدد 12: "حِينَ كُنْتُ مَعَهُمْ...كُنْتُ أَحْفَظُهُمْ فِي اسْمِكَ". ثُمَّ نَقرأُ مَرَّةً أخرى: "الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي حَفِظْتُهُمْ، وَلَمْ يَهْلِكْ مِنْهُمْ أَحَدٌ" (إِلاَّ طَبْعًا ابْنُ الْهَلاَكِ، أيْ يَهوذا، الَّذي لم يَكُنْ مُؤمِنًا حقيقيًّا).
وكما تَرَوْنَ، فإنَّ يَسوعَ يَقول: "لقد حَفِظتُهُم، أيُّها الآبُ. لقد حَفِظتُهُم لأنَّكَ أعطيتَهُمْ لي". وأنا أعتقد أنَّ يسوعَ كانَ يَشعُرُ بالانفصالِ الَّذي سيَحدُث. وَهُوَ يَقولُ: "أيُّها الآبُ، سوفَ يأتي وقتٌ لن أتمكَّنَ مِنْ حِفظِهم. أيُّها الآبُ، أنا أسألُكَ أنْ تَحفظَهُم في ذلكَ الوقت الَّذي لن يَكونَ في وُسعي أنْ أحفظَهُم فيه. وعندما أعودُ إليكَ، هل يُمكنُني أنْ أسألُكَ أنْ تَحفَظَهُم آنذاكَ أيضًا؟"
وفي تلك اللَّحظة، عندما انفصلَ يسوعُ عن أبيه، تَدَخَّلَ اللهُ وَحَفِظَ خَاصَّتَه. ومُنذُ أنْ صَعِدَ المسيحُ إلى المجد، أرسلَ الرُّوحَ القُدُسَ الَّذي هو العُرْبون، أوِ الضَّمان، الَّذي يَحفَظُنا ويَختِمُنا.
ولماذا كُلُّ ذلك؟ لأنَّنا أعِزَّاء. ولماذا نحنُ أعِزَّاء؟ ليسَ لأنَّنا بطبيعَتِنا أفضل مِن أيِّ شخصٍ آخر، بل لأنَّنا أُعطينا للابن هِبَة مَحَبَّة مِنَ الآب. ومَرَّة أخرى، نَقرأ في العدد 24: "أَيُّهَا الآبُ أُرِيدُ أَنَّ هؤُلاَءِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي يَكُونُونَ مَعِي حَيْثُ أَكُونُ أَنَا. وأنا أريدُ أنَّ هَؤلاءِ يَنْظُرُونَ مَجْدِي. أيُّها الآبُ، أريدُ أنْ يأتي هؤلاءِ إلى العُرسِ العَظيم، وأريدُ أنْ تَحفَظَهُم. فهو لَنْ يَفْقِدُ أحدًا. والآبُ لن يَفقِدَ أحدًا. والرُّوحُ يَختِمُنا إلى أنْ نَحصُلَ على الفداءِ الأبديِّ.
وما هي الغاية مِن هذا كُلِّه؟ لقد اختارَ الآبُ أنْ يُعطي الابنَ عَروسًا. لماذا؟ لِتُحِبَّ الابنَ إلى الأبد، ولِتَخدِمَ الابنَ إلى الأبد، ولتُسَبِّح الابنَ إلى الأبد، ولتُمَجِّد الابنَ إلى الأبد. وما أعنيه هو: فَكِّروا في الأمر. فَمِنْ وُجهةِ النَّظرِ البشريَّة، كأنَّكَ تقولُ لزوجَتِكَ: "أنا أُحِبُّكِ جِدًّا، ولكنيِّ لا أَدري كيفَ أُعَبِّر عن تلكَ المحبَّة. لِذا، فقد جَمَعْتُ مَجموعة كبيرة مِنَ النَّاسِ. وَهُمْ سَيَصرِفونَ كُلَّ وَقتِهِم وطاقَتِهم في اتِّباعِكِ إلى كُلِّ مَكانٍ تَذهبينَ إليه، وفي خِدمَتِكِ، وفي مَدْحِكِ. فَهُمْ سيكونونَ جَوْقَةَ التَّسبيحِ الخاصَّة بِكِ، وسيَعكِفونَ على مَدْحِ فَضائِلِكِ، وَعَمَلِ كُلِّ شيءٍ تُريدينَ مِنْهُم أنْ يَعملوه. وليسَ هذا وَحَسْب، بل إنَّهم سيَعكِسونَ مَجدَكِ، وسيكونونَ مُشابهينَ لَكِ قدرَ الإمكان، وسيكونونَ جَوْقَةَ تَرانيم كَامِلَة مُتآلِفَة تمامًا. فسوفَ نَعْكِسُ كُلَّ شيءٍ جَميلٍ فيكِ".
وقد تَقول: "هذا سَخيفٌ جِدًّا". بِكُلِّ تأكيد. لأنَّنا لا نَستطيعُ أنْ نَستوعِبَ أنَّ هناكَ شخصًا يَستحقُّ هذا القَدرَ مِنَ المَدْح. ولكِنَّ المسيحَ يَستحقُّ ذلك. وفي فِكْرِ الآبِ، إنَّهُ يَستحقُّ أنْ يكونَ هُناكَ بَشَرٌ مُفديُّونَ يَملأونَ السَّماواتِ الأبديَّة بالتَّسبيحِ والإكرامِ المُقَدِّمِ إلى الابن. فَهُمْ (كما يُصَوَّرونَ في سِفْر الرُّؤيا والأصحاحَيْن 4 و 5 سَيَجتمعونَ حولَ عَرشِ اللهِ ويَقولونَ بِصوتٍ عَظيمٍ إلى أبدِ الآبدين: "مُسْتَحِق هُوَ الْخَروُف...مُسْتَحِق هُوَ الْخَروُف". وَهُمْ سَيَعبُدونَ المسيحَ. وفوقَ هذا كُلِّه، سوفَ يَكونونَ مِثلَهُ لأنَّهم سَيَرونَهُ كما هُوَ. وَهُمْ سيَحصُلونَ على أجسادٍ تُشبِهُ جَسَدِ قِيامَتِه (كما جاءَ في رسالة فيلبِّي 3: 20-21).
فَبِقَدرِ ما تَستطيع البشريَّة المُمَجَّدة أنْ تُشبِهُ اللهَ المُتَجَسِّدَ، فإنَّنا سنُشابِهُ المَسيح. وهذه هي الطَّريقة الَّتي ينبغي فيها للمرءِ أنْ يَفهمَ الاختيار. وهذا هو ما يُسَمِّيهِ بولُس في رسالة فيلبِّي والأصحاح الثَّالث "جَعَالَة الدَّعْوَة العُلْيَا". فَجَعالَةُ الدَّعوة العُليا هي أنْ نَصيرُ مُشابهينَ صُورةَ المسيح، أوْ أنْ نَصيرَ مِثْلَ المَسيحِ حَتَّى يَكون بِمَقدورِنا أنْ نَعكِسَ مَجْدَهُ لكي يكونَ هُوَ الـ "بروتوتوكوس"؛ أيْ "لِيَكُونَ هُوَ بِكْرًا بَيْنَ إِخْوَةٍ كَثِيرِين"؛ أيْ كَثيرينَ مِمَّنْ صَاروا مِثلَهُ. فسوفَ نَحْمِلُ صُورَتَهُ.
فتاريخُ الفِداءِ يَنتهي عندما يُفْدَى آخِرُ اسْمٍ. فحينئذٍ يَنتهي. وفي اللَّحظاتِ الأخيرة، سيكونُ الآبُ قد جَمَعَ العَروسَ كُلَّها وقَدَّمَ العَروسَ إلى ابنِهِ. وسوفَ تَكونُ في ذلكَ المكانِ النِّهائيِّ العَظيمِ والمجيد (أيْ في أورُشَليم الجديدة) مُهَيَّأَةً كَعَرُوسٍ مُزَيَّنَةٍ لِرَجُلِهَا. وسوفَ تَكونُ إلى الأبد مَدينةَ العَروس. وَكُلُّ القِدِّيسينَ في كُلِّ العُصورِ سيُشَكِّلونَ تلكَ البشريَّة المَفديَّة الَّتي ستَقومُ إلى أبدِ الآبِدينَ وإلى الدَّهرِ والأبد بتَسبيحِ الرَّبِّ يسوعَ المسيح. وهذا سَيُشبِعُ الآبَ الَّذي يُحِبُّ الابنَ مَحَبَّة كاملة.
واسمحوا لي أنْ أُريكُم سِمَة مُدهشة أخرى. افتحوا على رسالة كورنثوس الأولى والأصحاح 15. رسالة كورنثوس الأولى والأصحاح 15. فهناكَ الكثيرُ عنِ النِّهاية هُنا، عَنْ نهايةِ كُلِّ شيء. ولكِنَّ العدد 25 يَتحدَّث عن كيفَ أنَّ المسيح سيَملِك وسيَضَعُ في النِّهاية أعداءَهُ تَحتَ قَدَمَيْه. وهذهِ الآية تَتَطَلَّع إلى النِّهاية الأخيرة لِكُلِّ شيء. ونَقرأُ في العدد 26 عن إبْطالِ المَوتِ؛ وَهُوَ أمرٌ سيَحدُثُ في نهايةِ هذا الكَونِ بالصُّورةِ الَّتي نَعرِفُهُ عليها.
وفي النِّهاية الخِتاميَّة، نَقرأُ في العدد 27: "لأَنَّهُ أَخْضَعَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ". فحينئذٍ، سيأخُذُ الآبُ العَروسَ ويُعطي العَروسَ للابن. فَكُلُّ شيءٍ هُناكَ. وكُلُّ شيءٍ سيكونُ خاضعًا لَهُ. وهذا يَعني: كُلّ البشريَّة المَفديَّة. فسوفَ نَكونُ جَميعًا هُناك. فِقِصَّةُ الفِداءِ ستَكتَمِل. وهذهِ الأرضُ وهذا الكَونُ (كما نَعرِفُهُ) سَيَذوبُ بفعلِ الحَرارةِ الشَّديدة (كما يَقولُ بولُس). وسوفَ يَنتهي كُلُّ شيء ويَنتهي التَّاريخُ البَشريّ. والعروسُ ستكونُ كاملة وتُعطَى للابن. وكُلُّ شيءٍ سَيُخْضَعُ لَهُ.
ثُمَّ انظروا إلى العدد 28. وهذا مُدهشٌ حَقًّا: "وَمَتَى أُخْضِعَ لَهُ الْكُلُّ، فَحِينَئِذٍ الابْنُ نَفْسُهُ أَيْضًا سَيَخْضَعُ لِلَّذِي أَخْضَعَ لَهُ الْكُلَّ، كَيْ يَكُونَ اللهُ الْكُلَّ فِي الْكُلِّ". وهذه نَظرة مُدهشة حقًّا إلى مَجْدِ مُستقبَلِنا.
وما الَّذي تَقولُهُ هذهِ الآية؟ إنَّها تَقولُ الآتي: إنَّهُ عندما يُعطي الآبُ الابنَ العَروسَ، وعندما يَكتملُ كُلُّ شيء، ويَكتملُ كُلُّ الفداء، ويُجْمَعُ كُلُّ المَفديِّين، والآبُ يُعطي الابنَ العَروسَ، فإنَّ الابنَ سَيُعَبِّرُ عَن محبَّتِهِ لَهُ بالمُقابِل وَيُعطي العَروسَ وَنَفسَهُ للآبِ كَيْ يَكُونَ اللهُ الْكُلَّ فِي الْكُلِّ".
فإنْ كانَ لديكَ استيعابٌ سَطحيٌّ وَضَحْلٌ للخلاص، لا بُدَّ أنَّ هذا التَّعليمَ قد جَعَلَكَ تُفَكِّر في أُمورٍ لم تُفَكِّر فيها يومًا. فنحنُ نِلنا الخلاصَ، يا أحبَّائي، لأنَّنا عَالِقونَ في وَسْطِ تَعبيرٍ مَجيدٍ وإلهيٍّ عنِ المحبَّة بينَ الآبِ والابن. وهذا أمرٌ يَفوقُ استيعابَنا. ونحنُ [إنْ جَازَ القَولُ] نَخلُصُ لا لِنَكونَ غَايَةً بأنفُسِنا، بل لنكونَ وَسيلةً لتحقيقِ غَاية. فنحنُ لا نَستَحِقُّ أن نَخلص. وجَهَنَّمُ ليست ظُلْمًا. فَجَهَنَّمُ عادلة. والعقابُ الأبديُّ عادِلٌ.
ولكِنَّ اللهَ رَحيمٌ تُجاهَنا، لا بسببِ أيِّ امتيازٍ فينا، بل لأنَّهُ يُحِبُّ ابنَهُ مَحَبَّة فائقة حَتَّى إنَّهُ أَعطى ابنَهُ بَشَرًا مَفديِّينَ يَعبدونَهُ إلى أبدِ الآبدينَ لأنَّهُ خَلَّصَهُم، ويُضيفونَ بُعدًا مِنَ العِبادةِ والتَّسبيحِ لا تَستطيعُ الملائكةُ أنْ تُقَدِّمَه. وبعدَ أنْ يَحصُل الابنُ على عَروسِهِ، فإنَّهُ سيُقَدِّمُ نَفسَهُ وعَروسَهُ للآبِ في تَعبيرٍ مُتبادَلٍ عنِ المحبَّة.
وهَنُا يَنتهي كُلُّ شيء. ولا بُدَّ أنَّ هذا هو ما كانَ يَدورُ في ذِهنِ بولُس عندما كَتَبَ إلى مُؤمِني غَلاطِيَّة قائلاً: "يَا أَوْلاَدِي الَّذِينَ أَتَمَخَّضُ بِكُمْ أَيْضًا إِلَى أَنْ يَتَصَوَّرَ الْمَسِيحُ فِيكُمْ". وَقد قالَ لمؤمني كورِنثوس: "أريدُ أنْ أُقَدِّمَكُمْ عَذْرَاءَ عَفِيفَةً لِلْمَسِيح". فقد كانَ يَفهمُ هذا. فعقيدةُ الاختيارِ هذه ليست شيئًا فَلسفيًّا، وهي ليست فِكرة مُجَرَّدة، بل هي أصلُ وَجَوهَرُ كُلِّ الفِداء. وأنتَ مُؤمِنٌ لأنَّ الآبَ اختارَكَ، ولأنَّ الآبَ كَتَبَ اسْمَكَ، ولأنَّ الآبَ اجتَذَبَكَ. لِذا فقد أتيتَ، والابنُ استقبلَكَ، والابنُ لن يَفْقِدَكَ، بل إنَّهُ سيُقيمُكَ، والآبُ سَيُمَجِّدُكَ لأنَّ هذا هو ما قَرَّرَ أنْ يَفعلَهُ في البداية. فأنتَ عَزيزٌ بسببِ مَا تَمَّ اختيارُكَ للقيامِ بِهِ مُنذُ الأزل.
ولكِنْ يُوجَد ثَمَن. فقد قالَ الآبُ للابن إنَّ هُناكَ مَهْرًا للعَروس. وقد كانَ الثَّمَنُ باهظًا. فقد حَمَلَ في جَسَدِهِ خطايانا على الصَّليب. فقد افتُديتُم، لاَ بِأَشْيَاءَ تَفْنَى، بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ، ... بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، دَمِ المَسيح، كَمَا مِنْ حَمَل بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ. الَّذي، وَهُوَ غَنِيٌّ (أي: الابن؛ إذْ إنَّهُ غَنِيٌّ بِكُلِّ غِنى السَّماءِ) افْتَقَرَ لِكَيْ تَسْتَغْنُوا أَنْتُمْ بِفَقْرِهِ.
فعندما تُفَكِّرونَ في عقيدة الاختيار مِن تلك الزَّاوية، ستَرَوْنَ أنَّها مُذهلة جِدًّا. فالآبُ يَجعلُ ابنَهُ خَطِيَّة لكي يَدفعَ أُجرةَ الخطيَّة عن عَروسٍ غير مُستحِقَّة. ونحنُ لا نَختلِف كثيرًا عن زَوجة هُوشَع الَّتي كانت زَانية. وقد ذَهَبَ هُوشَع إلى السُّوقِ ودَفَعَ ثَمَنَها، واشتراها، وأنقَذَها مِنَ الزِّنى. ثُمَّ إنَّهُ أَحَبَّها بِكُلِّ الحُبِّ كما لو كانت عَذراء. فنحنُ عَروسٌ ثَمينة اشتُرينا بافتقارِ الابنِ ومَوتِهِ لأجلِنا. ونحنُ أعَزَّاء الآن لأنَّ الآبَ اختارَنا لابنِهِ.
واسمحوا لي أن أقولَ لكم في الخِتام كيفَ ينبغي أن تُفَكِّروا في عقيدة الاختيار. إنَّ الاختيارَ يَسحَقُ الكِبرياء. فهذا هو أوَّلُ شيءٍ أُريدُ منكم أنْ تُفَكِّروا فيه. فهو لا يُنشِئُ شيئًا سِوى التَّواضُع. فأنتَ لا تُؤمِن لأنَّكَ أَذكى مِنَ الآخرين، أو لأنَّكَ أفضل مِنَ الآخرين، أو لأنَّكَ تَفوقُ الآخرينَ حِكمة. بل إنَّكَ مُختارٌ. وقد سَمَّى "سبيرجن" (Spurgeon) هذه العقيدة: "أكثر عَقيدة تُعَرِّي المَرءَ في العالَمِ كُلِّه". وقد قالَ: "لا أعرِفُ شيئًا، ولا أيَّ شيءٍ، أكثر سَحْقًا للكِبرياء مِنْ عقيدةِ الاختيار". وقد قال: "لقد انطَرَحْتُ أحياناً على وَجهي أمامَها عندما حاولتُ أن أَفهمَها. ولكِنْ عندما اقتربتُ مِن فَهْمِها، اعتَرَتْني فِكرة واحدة فقط وهي أنَّ اللهَ اختارَني مِنَ البَدْءِ للخلاص. وحينئذٍ، صُعِقْتُ بسببِ تلكَ الفكرة العظيمة. وقد انسَحَقْتْ كِبريائي مِنْ عَليائِها، وانطَرحتُ أرضًا مَكسورًا، وقُلتُ: ’يا رَبّ، أنا لا شَيء. بل أنا أَقَلُّ مِنْ لا شيء. لماذا أنا؟ لماذا أنا؟‘"
وهذا الانسحاقُ، يا صَديقي، هذا الانسحاقُ لِكُلِّ كِبرياءٍ هو أَساسُ كُلِّ عبادة. أليسَ كذلك؟ مِن جهة أخرى، فإنَّ هذه العقيدة تُمَجِّدُ اللهَ. فهي تُعطي كُلَّ المَجدِ لله. وهذه العقيدة تُعلِنُ أنَّ فَهْمَ الحَقِّ، والإيمانَ بالحَقِّ، والتَّوبة عنِ الخطيَّة، والقُوَّة الَّتي تُتيحُ لَكَ أنْ تُطيعَ الإنجيلَ هي كُلُّها آتِيَة مِنْ عندِ الله. "لَيْسَ لَنَا يَا رَبُّ لَيْسَ لَنَا، لكِنْ لاسْمِكَ أَعْطِ مَجْدًا".
وأنا أعتقد، ثالثًا، أنَّ هذه العقيدة ليست فقط تَسحَقُ الكبرياءَ، وتُعطي المجدَ للهِ، بل إنَّها تُنشئُ فَرَحًا أيضًا. والحقيقة هي أنَّها تَزرَعُ في قَلبِكَ فَرَحًا فائضًا. فالسِّرُّ فيها يُسْهِمُ في الفَرَح. فَعَدَمُ وُجودِ أيِّ رَجاءٍ في قُدرَتِنا هو الَّذي يُعَزِّزُ ذلكَ الفَرَح. وما أعنيه هو أنَّني أستمرُّ في الشُّعورِ بأنِّي مَغمُورٌ بالفَرح.
فنحنُ نَقرأُ في المَزمور 65: 4: "طُوبَى لِلَّذِي تَخْتَارُهُ وَتُقَرِّبُهُ". فلو لم يَخترنا اللهُ، لَكُنَّا مِثلَ سَدوم؛ هَالِكين. لِذا، عِوَضًا عنِ الجُلوسِ والتَّشكيكِ في الجوانبِ العقليَّة والعاطفيَّة الَّتي تَرتبطُ أحيانًا بهذهِ العقيدة، احتَفِل بها. فقد أَحَبَّكَ اللهُ مَحَبَّةً أبديَّة.
رابعًا، إنَّهُ حَقٌّ يُعطينا امتيازًا. فهو يَمنَحُنا مَزايا رائعة ومَزايا لا يُمكِنُنا أنْ نَحصُلَ عليها باستحقاقِنا. فقد بَارَكَنَا [اللهُ] بِكُلِّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيح.
وليسَ هذا وَحَسْب، بل خامسًا: إنَّها عَقيدة تُنشئُ قَداسَةً. ولا أدري كيفَ تَنظرونَ أنتُم إليها، ولكِنْ لا يُمكنني أنْ أُفَكِّرَ في أيِّ شيءٍ يَحْفِزُ على حياةِ التَّقوى أكثر مِنَ الشُّعورِ بالامتنان على هذه الدَّعوة المُقَدَّسة. وأنا أُوْمِنُ حَقًّا أنَّ فَهْمَ عَقيدة الاختيار يُنشئُ أكبرَ دافِعٍ هائلٍ لحياةِ القداسة. وقد قالَ "سبيرجن" أيضًا: "لا يوجد شيء، ولا أيُّ شيء، تحتَ التَّأثيرِ المُنْعِمِ للرُّوحِ القُدُس يُمكِنُ أنْ يَجعلَ المؤمنَ أكثرَ قَداسةً مِنْ فِكرةِ أنَّهُ مُخْتار. فهل أُخطِئ بعدَ أنِ اختارَني اللهُ؟ وَهل أَتَعَدَّى على وَصاياه بعدَ أنْ أَحَبَّني كُلَّ هذهِ المحبَّة؟ وهل أَضِلُّ بالرَّغمِ مِنْ كُلِّ هذهِ الرَّحمة؟ وهل أَرفُضُ هذا اللُّطفَ الأزليَّ؟ يا رَبّ، حيثُ إنَّكَ اخترتَني، سوفَ أُحِبُّكَ، وسوفَ أعيشُ لأجلِكَ، وسوفَ أُكَرِّسُ نَفسي لَكَ إلى الأبد".
سادسًا، إنَّها عَقيدة تُعطي قُوَّة. فبصراحة، إنَّها تَجعَلُني في سَلامٍ في كُلِّ مَوقِف. فأنا مُختار. ونحنُ نَقرأُ في رسالة فيلبِّي 1: 6: "وَاثِقًا بِهذَا عَيْنِهِ أَنَّ الَّذِي ابْتَدَأَ فِيكُمْ عَمَلاً صَالِحًا يُكَمِّلُ إِلَى يَوْمِ يَسُوعَ الْمَسِيح". فإنِ اجتَذَبَكَ الآبُ، وجِئتَ، وآمنتَ، وقَبِلَكَ الابنُ، ولم يَفقدكَ، بل أقامَكَ في اليومِ الأخير، يا لَهُ مِنْ تَشجيعٍ كَبير، ويا لها مِنْ قُوَّة عظيمة، بِغَضِّ النَّظَرِ عن ظُروفِ الحياة.
فهناكَ جُرأة مُعَيَّنة، وثِقَة مُعَيَّنة، وثَبات وقوَّة وشَجاعة مُعَيَّنة (إنْ جازَ القولُ) عندَ الأشخاصِ الَّذينَ يَفهمونَ أنَّهُم مُختارونَ، وأنَّ هِباتِ اللهِ ودَعوَتَهُ هي بِلا نَدامة. فهذه هي بَرَكاتُ هذه العقيدة: فهي تَسحَقُ الكِبرياء، وتُمَجِّدُ اللهَ، وتُنشئُ فَرَحًا، وتُعطي امتيازاتٍ، وتُشَجِّعُ على حياةِ القداسة، وتَمنَحُ القُوَّة.
وهل نَجرؤُ على تَجاهُلِ هذهِ العقيدة؟ فإنْ تَجاهَلناها، أوْ أنَكرناها، أو رَفضناها، فإنَّنا نَسلِبُ المَجدَ مِنَ الله. ولكِنْ يجب علينا أنْ نُمَجِّدَ اللهَ بوصفِهِ فادينا. ويجب علينا أنْ نُمَجِّدَ اللهُ لأنَّهُ وَاهِبُ الحياةِ، والفَهمِ، والتَوبة، والإيمان؛ وهي أمورٌ نَعجَزُ عنِ القيامِ بها بأنفُسِنا. فإنْ أَنكرنا هذه العقيدة فإنَّنا نُتْرَكُ دُوْنَ أنْ نَفهمَ ضَعفَنا، ونَفقِدُ الشُّعورَ بِخُطَّةِ كُلِّ تاريخِ الفداء.
وقد يَقولُ قائلٌ هُنا: "حسنًا! وكيفَ تَعلمُ أنَّكَ مُختار؟" هل تُؤمِنُ بالإنجيل؟ وهل تُبتَ عن خطاياك؟ وهل تَرغبُ في إطاعةِ الرَّبِّ؟ وهل تُحِبُّ الرَّبَّ يَسوعَ المسيح؟ هذا هو الدَّليلُ لأنَّ هذا مُستحيل بِمَعزِلٍ عن عَمَلِ اللهِ السِّيادِيّ.
ويمكننا أنْ نَقولَ الكثيرَ عن عقيدةِ الاختيار، ولكِنَّنا نُرَكِّزُ فقط على الأشياءِ الأكثر أهميَّة. فقد ابتدأنا بِمُثابرةِ القِدِّيسين؛ أيْ أنَّ خَلاصَنا أبديّ. وقد قُلتُ لكم إنَّهُ يجب أنْ يكونَ أبديًّا لأنَّهُ قائمٌ على الاختيار. ثُمَّ إنَّنا عُدْنا إلى عقيدةِ الاختيار.
والآن، سوفَ نَتحدَّثُ عن عقيدة أخرى وهي عَقيدةُ الفسادِ البشريِّ. فالسَّببِ الَّذي يَمْنَعُكَ مِنَ الحُصولِ على الخَلاصِ مَا لم يَختَرِ اللهُ أنْ يُخَلِّصَكَ هو أنَّكَ عَاجِزٌ عَنْ أنْ تُؤمِن. وهذا يَأتي بِنا إلى عقيدةِ الفَساد.
والنَّاسُ الَّذينَ لا يَفهمونَ عَقيدةَ حِفْظِ القِدِّيسينَ (أو مُثابَرَتِهِم، أوِ الضَّمانِ الأبديِّ) لا يَفهمونَها لأنَّهم لا يَفهمونَ عقيدةَ الاختيار. والنَّاسُ الَّذينَ يَرفُضونَ عقيدةَ الاختيارِ ويُؤمِنونَ بأنَّ الخاطئَ يَختارُ أنْ يُؤمِنَ مِنْ ذاتِهِ لا يَفهمونَ عَقيدةَ الفَساد. فإنْ كُنتَ تُؤمِنُ بأنَّ الخُطاةَ يُمكِن أنْ يَخلُصوا بأنفسهم، وإنَّهُ ليسَ فقط عَمَلَ اللهِ، بل هُوَ شيءٌ يَقومُ بِهِ الخُطاةُ، فإنَّ هذا يَعني أنَّكَ لا تَفهمُ طَبيعةَ الخطيَّة. لِذا، في مَساءِ يومِ الأحدِ القادِم، سنُتابِع حَديثَنا (الَّذي سِرْنا فيهِ بطريقة عَكسيَّة) لِنَتحدَّثَ عن عقيدةِ الفَساد. دَعونا نُصَلِّي:
يا أبانا، نَشكُرُكَ على هذا الحَقِّ الرَّائعِ والجَليل والعَظيم. فهذا الموضوعُ بِأسرِه يَفوقُ استيعابَنا. وهو يَجعَلُنا نَنْقَبِض مِنْ جِهَة، ونَمتلئ فَرَحًا مِن جِهة أخرى. نَشكُرُكَ لأنَّكَ فَدَيتَنا. ونحنُ لا نَعلمُ لماذا اختَرتَنا. ولا نَعلمُ لماذا أَقَمْتَنا، أو لماذا سَتَعملُ حَتَّى في هذا المساء هُنا في هذه الكنيسة على إقامَةِ آخرينَ مِنَ الأموات وسَتَجعلهم قادرينَ على فهمِ ما لم يَفهموه يومًا (كما سَمِعنا في شَهاداتِ المَعموديَّة اللَّيلة).
فيا لِعَظَمَةِ قُوَّتِكَ الَّتي تأتي وتُعطي حياةً حيثُ يوجدُ موت، ونُورًا حيثُ تُوجدُ ظُلمة، وحَقًّا حيثُ يوجد خِداع، وتَوبةً حيثُ تُوجد مَحَبَّة للإثم. ولكِنْ، يا رَبّ، كم نَشكُرُكَ لأنَّكَ اخترتَنا. ونحنُ نَسألُكَ أنْ تَستمرَّ في مَلئِنا بِالتَّسبيح لكي نَصيرَ بارعينَ جِدًّا في هذهِ الحياةِ في القيامِ بِما سَنَقومُ بِهِ إلى الأبد؛ أيْ في تَسبيحِ اسمِكَ وَتَمجيدِه على فِدائِك.
ونحنُ نُصَلِّي في هذا المساء، يا رَبّ، أنْ تُخَلِّصَ خُطاةً آخرين، وأنْ تَضُمَّهُم إلى الكنيسة...إلى عَروسِكَ، وأنْ تَستخدِمَنا كأدواتٍ كما استخدمتَ بولس في إعلانِ الحَقِّ لكي يَسمعَهُ المُختارونَ ويُؤمنوا، ولكي يَحصلَ أولئكَ الَّذينَ يُؤمِنونَ على المَعرفةِ الَّتي تُنشئُ صَلاحًا، ولكي يَتعلَّموا أنْ يَعيشوا على رَجاءٍ المجدِ الأبديّ.
ونحنُ نَعلمُ أنَّ هذا هو ما خَطَّطْتَ لَهُ قبلَ تأسيسِ العالَم، وأنَّكَ سَتُنَفِّذُ خُطَّتَك. ونحنُ نُسَبِّحُكَ ونَشكُرُكَ، ونَشعرُ بالامتنانِ والفَرَحِ العَميقَيْن لأنَّكَ اخترتَنا. ونحنُ نَتجاوَبُ بالطَّريقةِ الوحيدةِ الَّتي يُمكِنُنا أنْ نَتجاوَبَ فيها مِنْ خِلالِ الطَّاعةِ والأمانَةِ لَكَ تَعبيرًا عن مَحَبَّتِنا لَكَ. فنحنُ نُحِبُّكَ لأنَّكَ أحبَبتَنا أوَّلاً. ونحنُ نُكَرِّسُ أنفُسَنا لَكَ مَرَّةً أخرى باسمِ ابِنَك. آمين!
This article is also available and sold as a booklet.