في هذا الصباح، لِنَفْتَحِ كُتُبَنا المقدَّسةَ مَرَّةً أخرى على الأصحاحِ الثامنِ مِنْ رسالةِ رومية إذْ نُتابِعُ دراستَنا عنْ خدمةِ الروحِ القدس. وقد تَباركتُ جِدًّا وتَشَجَّعتُ جِدًّا في دِراسةِ موضوعِ الروحِ القدسِ وخِدْمَتِهِ في حياةِ المُؤمِن. وأنا مُمْتَنٌّ جِدًّا على الرُّدودِ الَّتي تَصِلُني مِنْكُم، وعلى الرُّدودِ الشخصيَّةِ الكثيرةِ الَّتي وَصَلَتني مِنْ أُناسٍ جاءوا مِنْ كَنائِسَ كانوا يَذهبونَ إليها في الماضي، وَهِيَ كَنائِسُ تُهينُ الرُّوحَ القُدُسَ، وتُجَدِّفُ على الروحِ القدسِ، وتُسيءُ تَمْثيلَ خِدْمَةِ وشَخْصِ الروحِ القدس. ومِنَ الرَّائعِ أنْ أَسْمَعَ تَعليقاتٍ مُنْعِشَةً ومُعَزِّيَةً ومُشَجِّعَةً مِنْ أُناسٍ ابتدأوا في فَهْمِ الحَقِّ المُختصِّ بخِدمَتِهِ، وابتدأوا في عِبادَتِهِ كَما يَليقُ بِهِ وَكَما يَنْبَغي أنْ يُعْبَد.
لذلكَ، يا لَهُ مِنَ سُرورٍ وامتيازٍ أنْ أخْتارَ كُتُبًا مِنْ الكُتُبِ الَّتي جَمَعْتُها على مَرِّ السِّنينِ عَنْ شَخْصِ الروحِ القدسِ وعقيدةِ الروحِ القدسِ، وَأنْ أَقرأَ تلكَ الكُتُب. وقد قَرَأتُ العَديدَ مِنَ الكُتُبِ لِمَعلومَاتي الشخصيَّةِ ولِتَنْشيطِ ذاكِرَتي، وإنْعاشِ قَلْبي، وتَثْبيتِ المَعلوماتِ في ذِهني عَنِ الفَهْمِ واللَّاهوتِ الكِتابِيِّ السَّليمِ عنِ الروحِ القدس. وقد كانَ ذلكَ مُنْعِشًا جدًّا لي. وقد سَاعَدَني ذلكَ على إعْطاءِ الكَرامَةِ والعِبادَةِ للروحِ القدسِ، وَهُوَ أمْرٌ أَجِدُ نَفسي أقومُ بهِ عادةً في أثناءِ اليوم إذْ إنِّي أشْكُرُ الروحَ القدسَ على كُلِّ ما يَفْعَلُهُ في حياتي. مِنْ جانبٍ آخَر، حينَ عَرَفْتُ كَيْفَ يُساءُ تَمْثيلُ الروحِ القدسِ في الكنيسةِ المسيحيَّةِ المُعاصِرَةِ اليوم، كانَ ذلكَ مُحْبِطًا بِقَدْرِ ما كانَ الحَقُّ مُشَجِّعًا.
وقد قُمْتُ مُؤخَّرًا بِبَحْثٍ عنِ الأشياءِ الَّتي تُنْسَبُ في وقتِنا هذا إلى الروحِ القدسِ في الحَركةِ الخمسينيَّةِ وَغَيْرِها. وقدِ كَتَبْتُ لائِحَةً بالأمورِ والخَدَماتِ الَّتي يَنْسِبُها هَؤلاءِ إلى الروحِ القدسِ، والتي يَدَّعونَ أنَّ الروحَ القدسَ يَقومُ بها في حياةِ المُؤمِنين. وإليكُمْ هَذِهِ اللَّائِحَة: طَرْحُ النَّاسِ أرْضًا، وَجَعْلُ النَّاسِ يَضْحَكونَ بطريقةٍ هِستيريَّةٍ دُوْنَ أنْ يَتَمَكَّنوا مِنَ السَّيطرةِ على أنفُسِهم، وَجَعْلُ النَّاسِ يَشْعُرونَ أنَّهُمْ أُصيبوا بِصَعْقَةٍ كَهرُبائِيَّةً أوْ أنَّ النَّارَ تَشْتَعِلُ في أجْسادِهِمْ، جَعْلُ النَّاسِ يَشعرونَ أنَّهُمْ تَحْتَ تأثيرِ تَنويمٍ مِغْناطِيسيٍّ أوْ يَدخُلونَ في غَيبوبَةٍ قد تَدومُ ساعات. وهُناكَ أيْضًا أُمورٌ أُخرى تُنْسَبُ إلى الروحِ القدسِ مِثْلَ التَّشَنُّجاتِ والحَازُوقَةِ (أوِ الزُّغْطَة).
وهُناكَ مَنْ يَقولُ إنَّهُ عندما يَحِلُّ الروحُ القدسُ عليكَ، فإنَّكَ تَتَصَرَّفُ كالسَّكْرانِ. فأنْتَ تَتَعَثَّرُ، وتَتَرَنَّحُ، وَتَرْتَطِمُ بالأشياءِ. وقد تَسْقُطُ أرْضًا في ما يُشْبِهُ الغَيبوبَة. وبحسبِ أقوالِ هؤلاء، قد يَجْعَلُكُ الرُّوحُ تَرْتَعِدُ وَتَرْتَعِشُ وتَشْعُرُ بالشَّلَلِ المُؤقَّت. كذلكَ، إذ حَلَّ الروحُ القدسُ عليكَ، بحسبِ ادِّعاءِ هؤلاء، قد تَتَكَلَّمُ كَلامًا تافِهًا لا مَعْنى لَهُ. وقد تُصْدِرُ أصْواتًا شَبيهةً بأصواتِ الحَيَواناتِ (كَصَوْتِ الدَّجاجَةِ أوِ البَطَّةِ أوِ الكَلْب). وقد يَجعلُكَ الروحُ القدسُ تَضْرِبُ نَفْسَكَ، وَتُمَزِّقُ ثِيابَكَ وَتُقَطِّعَها. وقد يَجعلكُ الروحُ القدسُ تَرْتَفِعُ عنِ الأرْضِ فَتَطيرُ في الهواءِ على ارْتِفاعِ ثَلاثَةِ أمْتارٍ وَتُحَوِّمُ في القاعَة. وأحْيانًا، قد يَطيرُ حِذاؤُكَ في الاتِّجاهِ الآخَر. وقد يَعملُ الروحُ القدسُ على إعْطاءِ الخادِمِ الَّذي يَدَّعي الشِّفاءَ القُوَّةَ والدَّافِعَ ليَنْخَسَكَ بِكُلِّ قُوَّتِهِ في وَسَطِ مَعِدَتِكَ لكي يَشْفيكَ، أوْ قَدْ يَلْكُمُكَ في فَكِّكَ أوْ حَتَّى في وَجْهِكَ – وَفْقًا للمكانِ الَّذي تَحْتاجُ فيهِ للشِّفاء. وهُناكَ أيضًا حالاتٍ يَقومُ فيها الروحُ القدسُ بِصَفْعِكَ. وسوفَ يَكونُ الألمُ في هذهِ الحالةِ أَخَفّ وأقَلّ. وهُناكَ حالاتٌ يَجْعَلُكَ فيها الروحُ القدسُ تَقْفِزُ أوْ تَرْقُص (بحسبِ ادِّعاءِ هؤلاء).
وبالمُناسَبَة، فإنَّ الروحَ القدسَ الَّذي يَفعلُ كُلَّ هذهِ الأشياءِ قد يكونُ مِنْ نَصيبِكَ إذا أَرْسَلْتَ مَبلغًا مِنَ المالِ إلى هؤلاءِ الخُدَّامِ الزَّائِفين. وهذا يُذَكِّرُني بما جاءَ في الأصحاحِ الثامنِ مِنْ سِفْرِ أعمالِ الرُّسُلِ إذْ إنَّ "سِيْمُونَ" السَّاحِرَ جاءَ إلى الرُّسُلِ وعَرَضَ عَلَيْهِمْ مالًا. فعندما رأى أنَّ الروحَ القدسَ يَحِلُّ بواسِطَةِ وَضْعِ أيْدي الرُّسُل، عَرَضَ عليهم مالًا قائلًا: "أَعْطِيَانِي أَنَا أَيْضًا هذَا السُّلْطَانَ، حَتَّى أَيُّ مَنْ وَضَعْتُ عَلَيْهِ يَدَيَّ يَقْبَلُ الرُّوحَ الْقُدُسَ". فَقَالَ لَهُ بُطْرُسُ: "لِتَكُنْ فِضَّتُكَ مَعَكَ لِلْهَلاَكِ، لأَنَّكَ ظَنَنْتَ أَنْ تَقْتَنِيَ مَوْهِبَةَ اللهِ بِدَرَاهِمَ!" فلا يُمْكِنُكَ أنْ تَشتري أيَّ شَيءٍ مِنَ اللهِ. فَكَمْ بالحَرِيِّ تُحاوِلُ أنْ تَشتري قُوَّةَ الروحِ القدسِ بأموالِكَ. ولكِنَّ هذا هُوَ ما يَعِدُ بِهِ هؤلاءِ الخُدَّامُ الزَّائِفونَ النَّاسَ غالبًا.
وهذهِ كُلُّها أمثلة على أُمورٍ كَثيرَةٍ جِدًّا (لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى) تُنْسَبُ إلى الروحِ القدس. وَهِيَ كُلُّها تُهينُ الروحَ القُدُسَ، وتُحْزِنُهُ، وَتُجَدِّفُ عليهِ. وهِيَ أُمورٌ لا علاقةَ لها البَتَّة بالروحِ القدسِ، لا مِنْ قَريب ولا مِنْ بَعيد – لا في الشَّكْلِ، ولا في المَضمونِ. بل هِيَ على النَّقيضِ تَمامًا مِنَ العِبادَةِ الَّتي تَليقُ بِهِ. وهذا ليسَ أمْرًا هامِشِيًّا، وهذا ليسَ أمْرًا يُمْكِنُ تَجاهُلُهُ. بل هُوَ أمْرٌ لا يُحْتَمَل. وهذا أمْرٌ يُناقِضُ تمامًا العِبادةَ الحقيقيَّةَ. وأعتقدُ أنَّ النَّاسَ يَظُنُّونَ أحيانًا أنَّ الروحَ القدسَ يُشْبِهُ إلى حَدٍّ ما الشَّخصيَّة الكَرتونِيَّة "كاسْبَر الشَّبح اللَّطيف" (Casper the Friendly Ghost). وَهُمْ يَظُنُّونَ أنَّهُ شَيءٌ لِلَّعِبْ، في حين أنَّنا في حاجةٍ إلى أنْ نَنْظُرَ إلى الروحِ القدسِ بِوَصْفِهِ اللهَ الأزليَّ الكامِلَ والمُطْلَقَ، وبِوَصْفِهِ الأقنومَ الثَّالِثَ في الثَّالوثِ والذي يَنْبَغي أنْ نُحِبَّهُ وَنُبَجِّلَهُ ونُكْرِمَهُ ونَعْبُدَهُ على شَخْصِهِ، وعلى ما عَمِلَهُ ويَعْمَلُهُ. فَهُوَ اللهُ الَّذي لا يَجوزُ أنْ نَتَجاهَلَهُ وَلا أنْ نُسيءَ تَمْثيلَهُ، بَلِ الَّذي يَنْبَغي أنْ نَعْبُدَهُ.
وأعتقدُ أنَّهُ مِنَ المُفارَقَةِ أنْ نَعْلَمَ أنَّ الروحَ القدسَ هُوَ، في الحقيقةِ، الأقنومُ الأكْثَر انْخِراطًا في حياةِ المُؤمِن. فالروحُ القدسُ، كَما تَعَلَّمْنا، هُوَ الَّذي يُعْطينا حَياةً جديدةً. والروحُ القدسُ هوَ الَّذي يُجَدِّدُنا. والروحُ القدسُ هُوَ الَّذي يَلِدُنا في عائلةِ اللهِ. والروحُ القدسُ هوَ الَّذي يُقَدِّسُنا. والروحُ القدسُ هوَ الَّذي يَعْمَلُ في داخِلِنا ويُعْطينا القُوَّةَ مِنْ خِلالِ مِلْئِهِ. والروحُ القدسُ هُوَ الَّذي يَضَعُنا مِنْ خِلالِ المَعموديَّةِ، المَعموديَّةِ الروحيَّةِ، في جسدِ المسيح. والروحُ القدسُ هوَ الَّذي يُنيرُنا ويُعَلِّمُنا الكِتابَ المقدَّسَ الَّذي كُتِبَ بِوَحْيٍ مِنْهُ. والروحُ القدسُ هُوَ الَّذي سَيُمَجِّدُنا ذاتَ يومٍ، ويُقيمُ أجْسادَنا ذاتَ يومٍ إلى الحياةِ الأبديَّةِ. فهذهِ الخَدَماتُ كُلُّها هِيَ خِدْمَةُ الروحِ القدس. وطَوالَ حَياتِنا بِوَصْفِنا مُؤمِنين، فإنَّ الروحَ القدسَ يَستمرُّ في العملِ على تَغْييرِنا وَفْقًا لِمَعاييرِ القَداسَةِ المُطابِقَة تَمامًا لصُورةِ الربِّ يسوعَ المسيح. وَهُوَ يَفعلُ ذلكَ تَدريجيًّا إذْ يَنْقلُنا تَدريجيًّا مِنْ مُستوى مِنَ المَجْدِ إلى الَّذي يَليهِ إلى أنْ يأتي اليومُ الَّذي يَجْعَلُنا فيهِ كامِلينَ في السَّماء. فهذهِ هيَ خِدمةُ الروحِ القدس. فَهِيَ ليسَتْ خِدْمَةً سَخيفَةً، بل هِيَ خِدْمَةُ قَداسَةٍ. وَهُناكَ فَرْقٌ كَبيرٌ بينَ الاثْنَيْن.
والآنْ، أوَدُّ أنْ تَرَوْا جانِبًا مِنَ الصُّورةِ الكَبيرةِ لخِدمةِ الروحِ القدسِ، إنْ شِئْتُمْ. لذلكَ أرجو أنْ تَفتحوا على الأصْحاحِ الأوَّلِ مِنْ رِسالَةِ أَفَسُس. وهذا سيُساعِدُنا، في رأيي، على تَحْديدِ مَاهِيَّةِ وَهَدَفِ خُطَّةِ الفِداءِ الإلهيَّةِ بِمُجْمَلِها. فما الَّذي يَفْعَلُهُ اللهُ في العالَم؟ وما الَّذي يُحاوِلُ أنْ يُحَقِّقَهُ؟ وما هِيَ خُطَّتُهُ؟
إنَّ الجَوابَ مَذكورٌ في رِسالَةِ أفَسُس 1: 3-4. وهذهِ صَلاةٌ. فَهِيَ تَسْبِيحَةٌ للهِ: "مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ". فَهُوَ اللهُ الَّذي يُعْرَفُ في العهدِ الجديدِ لا بِصِفَتِهِ إلَهَ إبراهيمَ وإسْحاقَ ويَعْقوب، بَلِ الَّذي يُعْرَفُ بِوَصْفِهِ اللهَ وأبَا رَبِّنا يَسوعَ المسيح. وهذا يَعني أنَّهُمْا مُتَساوِيانِ في الطَّبيعَةِ، ومُتَساوِيانِ في الجَوهرِ. فاللهُ وَالربُّ يسوعُ المسيحُ واحِدٌ. "الَّذِي بَارَكَنَا بِكُلِّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ" ... الَّذِي بَارَكَنَا بِكُلِّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ، الآنْ وفي المُستَقبَل، بالمَعنى الكامِلِ والشَّامِل. لأيَّةِ غَايَة؟ فما هِيَ غَايَةُ اللهِ؟ وما هُوَ سَبَبُ مُبارَكَتِهِ لَنا؟ ولماذا يَفْعَلُ ذلكَ؟ إنَّ السَّبَبَ مَذْكورٌ في العَدَد 4: "كَمَا اخْتَارَنَا فِيهِ قَبْلَ تَأسِيسِ الْعَالَمِ، لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ قُدَّامَهُ".
وهذهِ كَلِماتٌ قَوِيَّةٌ تُغَطِّي الفَترةَ المُمتدَّةَ مِنَ الأزَل إلى الأبَد. فقدَ ابتدأَ ذلكَ قَبْلَ بِدايَةِ الزَّمانِ، وَهُوَ سيَنتهي بَعْدَ زَوالِ الوقتِ المَعروفِ لدينا. فهيَ كَلِماتٌ عنِ الاخْتيارِ والتَّمْجيد. فَهُوَ اخْتارَنا قبلَ تأسيسِ العالَمِ بِهَدَفِ أنْ نَكونَ قِدِّيسيَن وَبِلا لَوْمٍ قُدَّامَهُ. وهذا سيَحْدُثُ في السَّماءِ حينَ نَراهُ وَجْهًا لِوَجْهٍ. فالآبُ يُعْطينا كُلَّ البَرَكاتِ بِهَدَفِ جَعْلِنا قِدِّيسينَ، وبِلا لَوْمٍ، وأبرارًا (إنْ شِئْتُمْ)، لكي يَجْعَلَنا كامِلينَ ولِكَيْ نَتَمَكَّنَ مِنَ الوُقوفِ أمامَهُ دُوْنَ أنْ نُدان. فنحنُ نَقرأُ في العهدِ القديمِ: "لأَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَرَانِي وَيَعِيشُ".
فلم يَكُنْ بِمَقدورِ أيِّ شَخصٍ أنْ يَنظُرَ إلى مَجْدِ اللهِ. فقد تَمَكَّنَ مُوْسَى فقط مِنْ رُؤيَةِ جُزْءٍ مَحْجوبٍ مِنْ مَجْدِ اللهِ. وعندما رأى حِزْقيالُ جُزْءًا مِنْ مَجْدِ اللهِ، دَخَلَ في ما يُشْبِهُ الغَيبوبَة. وقد حَدَثَ الأمْرُ نَفْسُهُ مَعَ إشَعْياء. فَقَدْ أَعْلَنَ الدَّينونَةَ على نَفْسِهِ. والأمْرُ نَفْسُهُ حَدَثَ معَ الرسولِ بولُس حينَ ظَهَرَ لهُ الربُّ المُمَجَّدُ في الطَّريقِ إلى دِمَشْق. فقد أُصيبَ بالعَمى المُؤقَّتِ، وسَقَطَ أرْضًا. والشَّيءُ نَفسُهُ حَدَثَ معَ يُوْحَنَّا في الأصْحاحِ الأوَّلِ مِنْ سِفْرِ الرُّؤيا حينَ سَقَطَ كَمَيِّتٍ لأنَّهُ رَأى مَجْدَ المسيح. فَهُوَ مَجْدٌ لا يُمكنُ لأيِّ شخصٍ غيرِ كاملٍ أنْ يَنْظُرَ إليه. ولكِنَّ وَعْدَ اللهِ هُوَ أنَّهُ سيَجْمَعُ مَعًا بَشَرًا مَفْدِيِّينَ يكونونَ قِدِّيسينَ وَبلا عَيْبٍ، أيْ أشْخاصًا كامِلينَ وقادِرينَ أنْ يَقِفوا بالفِعْل أمامَهُ وفي حَضْرَتِهِ. فهذهِ هِيَ الخُطَّة.
وفي تلكَ الأثناءِ، أيْ في الفَترةِ الواقِعَةِ بَيْنَ اخْتيارِنا وَتَمْجيدِنا، فإنَّ رُوْحَ اللهِ عَاكِفٌ على العَمَلِ في أولادِ اللهِ المُبَرَّرينَ وَتَقْديسِهِمْ. بعبارةٍ أُخرى، فإنَّهُ عَاكِفٌ على العملِ فيهم تَدريجيًّا وَجَعْلِهِمْ أكْثَرَ قَداسَةً، وأكْثَرَ بِرًّا، وأكْثَرَ شَبَهًا بالمسيحِ الَّذي هُوَ، كَما تَذْكُرون، النَّموذَجُ الكامِلُ للإنْسانِ الكامِلِ. فَهُوَ الأُنْموذَجُ الكامِلٌ. وَنَحْنُ نَتَشَكَّلُ على صُوْرَتِهِ.
إذًا، ما هُوَ هَدَفُ اللهِ؟ إنَّ هَدَفَ اللهِ هُوَ القَداسَة. وَهَدَفُ اللهِ هُوَ أنْ نَكونَ بِلا لَوْمٍ قُدَّامَهُ. وهَدَفُ اللهِ هُوَ أنْ نَكونَ أبْرارًا تَمامًا وبالكامِلِ لكي نَتمكَّنَ مِنَ المُثولِ في حَضْرَتِهِ. فهذهِ هيَ خُطَّةُ الفِداءِ الَّتي ابْتَدَأها اللهُ: أنْ يُعِدَّ شَعْبًا يَحْيا مَعَهُ إلى الأبد في المَجْد، ويَعْبُدُهُ، ويُكْرِمُهُ. واللهُ هُوَ الَّذي بَادَرَ إلى القِيامِ بذلك. والمَسيحُ هُوَ الَّذي أَظْهَرَ الخُطَّةَ وَصَادَقَ عليها مِنْ خِلالِ ما فَعَلَهُ على الصَّليبِ. ثُمَّ إنَّ الروحَ القُدُسَ هُوَ الَّذي طَبَّقَها علينا. فالروحُ القدسُ هوَ الَّذي يُعْطينا حَياةً. والروحُ القدسُ هُوَ الَّذي يُقيمُنا إلى المَجْد. والروحُ القدسُ هُوَ الَّذي يُقَدِّسُنا.
لذلكَ فإنَّ الروحَ القدسَ يَعْمَلُ فينا، كَما رأينا في 2كورِنثوس 3: 8، ويَأخُذُنا مِنْ مُستوى مِنَ المجْدِ إلى الَّذي يَليه، والَّذي يَليه، فيما نَنْظُرُ إلى مَجْدِ المسيح. فَهُوَ المِثالُ، وَهُوَ الصُّورَة. والروحُ القدسُ، كَما قالَ يَسوعُ، سيأتي ويُرينا أشياءَ تَخْتَصُّ بالمسيح. وحينَ نَنظُرُ إلى المسيحِ، فإنَّ الروحَ يُغَيِّرُنا إلى صُوْرَتِهِ. وذاتَ يومٍ، كَما نَرى في رُومية 8 (ويُمْكِنُكُمْ أنْ تَفْتَحوا على هذهِ الرِّسالة الآن). ذاتَ يومٍ، فإنَّ الأشخاصَ الَّذينَ اخْتُيروا سابقًا، وَدُعُوا، وَتَبَرَّروا، كما يَقولُ العدد 30، سَيُمَجَّدون. وكيفَ سيكونُ التَّمْجيد؟ نَقرأُ في العدد 29: "لأَنَّ الَّذِينَ سَبَقَ فَعَرَفَهُمْ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ لِيَكُونُوا مُشَابِهِينَ صُورَةَ ابْنِهِ".
هذا هوَ عملُ اللهِ في الفِداء: أنْ يَخْلِقَ شَعْبًا يُشْبِهونَ ابْنَهُ ويَمْلِكونَ شَبَهًا عائليًّا. وقد قُلنا في المَرَّةِ السَّابقةِ، إذا كُنْتُمْ تَذكرون، أنَّ اللهَ تَبَنَّانا في عائلتِهِ، وأنَّ ذلكَ يُعْطينا كُلَّ الحُقوقِ بِوَصْفِنا وَرَثَة. ولكِنَّهُ جَدَّدَنا أيضًا لكي نَكونَ لا أبناءَ بالتَّبَنِّي فقط، بل أولادًا بالوِلادَة. فِبِصِفَتِنا أولادًا بالتَّبَنِّي، فإنَّنا نَحْصُلُ على كُلِّ الحُقوقِ. وبِصِفَتِنا أولادًا بالوِلادَةِ، فإنَّنا نَحْصُلُ على الطَّبيعَةِ الجديدة. فقد صِرْنا شُرَكاءَ الطَّبيعةِ الإلهيَّةِ. والآنْ، فإنَّ الروحَ القدسَ يَجْعَلُنا وَيُشَكِّلُنا ويُعْطينا شَبَهًا عائِلِيًّا إذْ إنَّهُ يَجْعَلُنا مُشابِهينَ لأخينا، أيْ ليسوعَ المسيح. فهذا هُوَ عملُ الروحِ. والروحُ القدسُ ليسَ مُهْتَمًّا بالسَّخافاتِ، بل هُوَ مُهْتَمٌّ بالقَداسَةِ. فَهُوَ مُهْتَمٌّ بأنْ يَجْعَلَنا مُشابِهينَ للمسيح.
والآنْ، في رُومية 8، رأيْنا عَدَدًا مِنَ عَناصِرِ ذلك. فالروحُ القدسُ يُعْتِقُنا مِنَ الخَطِيَّةِ والموت. وقد نَظَرنا إلى ذلكَ في العَدَدَيْن 2 و 3. فالروحُ القدسُ يُمَكِّنُنا مِنْ أنْ نُتَمِّمَ النَّاموسَ، كَما جاءَ في العدد 4. والروحُ القدسُ يُغَيِّرُ طَبيعَتَنا، كَما جاءَ في الأعْداد 5-11. والروحُ القدسُ يُعْطينا القُدرةَ على الانتصارِ على الخطيَّةِ، كما جاءَ في العَدَدَيْن 12 و 13. وقد رأينا في المَرَّةِ الأخيرةِ أنَّ الروحَ القدسَ يَتَبَنَّانا في عائلةِ اللهِ وَيَجْعَلُنا أبناءً، كَما رأينا في الأعداد 14-16. وهذا كُلُّهُ هُوَ خِدْمَةُ الروحِ القدسِ الَّتي نُسَبِّحُهُ وَنَشْكُرُهُ عليها.
والآنْ، نَأتي إلى النُّقطةِ الأخيرة: فالروحُ القدسُ يَضْمَنُ مَجْدَنا الأبديَّ ... الروحُ القدسُ يَضْمَنُ مَجْدَنا الأبَدِيَّ. وهذا مَذكورٌ في الأعْداد 17-30 الَّتي قَرَأتُها على مَسامِعِكُمْ سابِقًا. ثُمَّ إنَّ الآيات 31-39 هي، في رأيي، أعْظَمُ مُلَخَّصٍ وَصَلاةٍ في أيِّ مَكانٍ في الكِتابِ المقدَّسِ عَنْ أمْجادِ الخلاصِ. فهيَ تُعَبِّرُ عَنْ تَجاوُبِنا مَعَ العَمَلِ العَظيمِ الَّذي يَقومُ بهِ الرُّوحُ القُدُس. وسوفَ نَرى ذلكَ ابْتِداءً مِنَ العدد 31. أمَّا في الأعْداد مِنْ 17-30، فإنَّنا سَنَنْظُرُ في الأسابيعِ القليلةِ القادِمَةِ إلى الطَّريقةِ الَّتي يَضْمَنُ فيها الروحُ القُدُسُ مَجْدَنا الأبديَّ. وسوفَ تَرَوْنَ في النَّصِّ الَّذي قَرأناهُ سابِقًا، وتَحْديدًا في العدد 23، أنَّ الروحَ القدسَ يُسَمَّى البَاكُورَة، بَاكُورَة الرُّوح. وهذا مَفْهومٌ مُهِمٌّ جِدًّا. فقد كانَ المُزارِعُ يَعْلَمُ دائمًا كيفَ سيكونُ المَحْصولُ مِنْ خِلالِ الباكُورَةِ (أيْ: أوَّلِ مَحْصولٍ). فالباكُورَةُ هِيَ مُؤشِّرٌ على بَقِيَّةِ المَحْصولِ. والروحُ القدسُ قَدْ أُعْطِيَ لَنا. وَكُلُّ مَجْدِهِ وَالبَرَكاتِ الَّتي يُبارِكُنا بها هِيَ الباكُورَة فقط، وَهِيَ مُجَرَّدُ ضَمانَة، وَهِيَ مُجَرَّدُ تَذَوُّقٍ، وَهِيَ مُجَرَّدُ تأكيدٍ بأنَّنا سَنَحْصُلُ على بَقِيَّةِ الأشياءِ الَّتي أَعَدَّها اللهُ لِلَّذينَ يُحِبُّونَهُ.
والروحُ القُدُسُ يُعْرَفُ أيْضًا باسْمِ "العَرْبون". والكلمة "عَرْبون" تُشيرُ إلى خَاتَمِ الخِطْبَةِ، أوِ الدُّفعةِ المُسَبَّقَةِ، أوِ الضَّمان. فالروحُ القدسُ هُوَ خاتَمُ الخِطْبَةِ الَّذي يُبَرْهِنُ على أنَّ الزَّواجَ سَيَتِمُّ. والروحُ القدسُ هُوَ الدُّفْعَةُ المَدفوعَةُ سَلَفًا. واللهُ سَيَدْفَعُ البَقِيَّةَ حينَ نَصِلُ إلى المجد. فَهُوَ الضَّمان. والروحُ القُدسُ يُدعى أيضًا: الخَتْم. فهذا هُوَ خَاتَمُ اللهِ الَّذي يُؤكِّدُ المِصداقِيَّةَ، والصِحَّةَ، والمِلْكِيَّةَ. فهذا هُوَ خَتْمُ الروحِ القُدُس. ونحنُ مَختومونَ بالروحِ القدس. ونحنُ لدينا عَرْبونُ الروح القدس. ونحنُ لدينا باكورةَ الروحِ القدس.
ونَقرأُ في 2كورِنثوس 1: 21: "وَلكِنَّ الَّذِي يُثَبِّتُنَا مَعَكُمْ فِي الْمَسِيحِ، وَقَدْ مَسَحَنَا، هُوَ اللهُ الَّذِي خَتَمَنَا أَيْضًا، وَأَعْطَى عَرْبُونَ الرُّوحِ فِي قُلُوبِنَا". ونحنُ نَجِدُ هُنا الخَتْمَ والعَرْبونَ في الآيةِ نَفسِها (2كورِنثوس 1: 22). لذلكَ فإنَّ الروحَ القدسَ يَسْكُنُ فينا لكي يَخْتِمَنا ويكونَ الدُّفعةَ المُسَبَّقَةَ، والضَّمانَةَ على المَجْدِ الأبديِّ الآتي. فهذهِ هِيَ خِدْمَتُهُ لنا.
والآنْ، لِنُلَخِّصْ كُلَّ ما ذَكَرْناهُ حَتَّى الآنْ: فهُناكَ الحُريَّةُ الَّتي حَصَلْنا عليها مِنْ سُلْطانِ الخَطيَّةِ في حياتِنا، والقُدرةُ على القيامِ بما هُوَ صَواب، والرَّغبةُ في تَرْكيزِ أذْهانِنا على الأمورِ المُختصَّةِ بالروح، والقوَّةِ للتغلُّبِ على الجَسَد، والفَرَحُ وَيَقينُ البُنُوَّةِ. كُلُّ هذهِ الأشياءِ هيَ عملُ الروحِ القدسِ مِنْ خِلالِ التَّجديدِ والتَّقديس. وهيَ جَميعُها ضَمانَةٌ بعملِ التَّمْجيدِ الَّذي سيَتِمُّ لاحقًا. ونحنُ نَقرأُ في رِسالةِ فيلبِّي 1: 6: "وَاثِقًا بِهذَا عَيْنِهِ أَنَّ الَّذِي ابْتَدَأَ فِيكُمْ عَمَلاً صَالِحًا يُكَمِّلُ إِلَى يَوْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ". فالعملُ ابتدأَ فقط، وهُوَ سَيَكْتَمِل. لذلكَ فإنَّ بولسَ يَبتدئُ الأصْحاحَ بالقول: "إِذًا لاَ شَيْءَ مِنَ الدَّيْنُونَةِ الآنَ عَلَى الَّذِينَ هُمْ فِي الْمَسِيح". فنحنُ لدينا اليَقينَ بأنَّهُ لا تُوْجَدُ دينونَة علينا. ونحنُ في مَأمَنٍ مِنْ أيِّ دَينونةٍ مُستقبليَّةٍ بِوَعْدٍ مِنَ اللهِ وبعملِ الروحِ القدس.
لذلكَ فإنَّ الروحَ القدسَ يَسْكُنُ فينا لِكَيْ يَضْمَنَنا في هذهِ الحياةِ إلى النِّهايةِ، ثُمَّ ليأتي بأرواحِنا إلى حَضرةِ اللهِ ويُقيمُ أجسادَنا ذاتَ يومٍ لِنَنْضَمَّ إلى تلكَ الأرواحِ لكي نَقِفَ إلى أبدِ الآبِدينَ في كُلِّ المَجْدِ البَهِيِّ لحَضْرَةِ اللهِ في سَماءِ السَّماواتِ، ولكي نَخْدِمَهُ وَنَعْبُدَهُ هُناك. ونحنُ في الطَّريقِ إلى المجدِ، والروحُ القدسُ هوَ حَامينا في هذهِ الأثناء.
وقد ذَكَرْتُ هذا في الماضي: لو كانَتْ هُناكَ طريقةٌ مُحتملةٌ لِفُقْدانِ الخَلاصِ، لَفَقَدْتَهُ. ولو كانَ هُناكَ شَيءٌ قد يُفْقِدُني خَلاصي، مِنَ المؤكَّدِ أنِّي كُنْتُ سَأفْقِدُهُ. فأنا عاجِزٌ عنْ تَخليصَ نَفسي. وأنا عاجِزٌ عَنِ الحِفاظِ على خَلاصي. فلا يُمكنُني أنْ أكونَ بارًّا بالقَدْرِ الكافي لتَخليصِ نَفسي. ولا أنْتَ تَستطيعُ ذلك. وأنا لا أقْدِرُ أنْ أكونَ بارًّا بالقدرِ الكافي للحِفاظِ على خلاصي. لذلكَ فقد خَلَّصَني اللهُ بالنِّعمَةِ. وَهُوَ يُحافِظُ على خَلاصي بالنِّعمة أيضًا. وهُوَ خَلَّصَني بِقُدْرَتِهِ، أيْ قُدْرَةِ الروحِ القدسِ مِنْ خِلالِ وِلادَتي ثانِيَةً. وَهُوَ يُحافِظُ على خَلاصي بِقُدْرَتِهِ، أيْ قُدرةِ الروحِ القدسِ على حِمايَتي حَتَّى النِّهاية. وهذا هوَ وَعْدُ الله.
ونحنُ في طَريقِنا إلى المجد، يا أحبَّائي. والمَقصودُ بذلكَ هوَ أنَّنا سنكونُ مِثْلَ الإنسانِ الكامِلِ، يسوعَ المسيح. فنحنُ نَقرأُ في رِسالةِ يوحنَّا الأولى 3: 2: "وَلكِنْ نَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ" ... "الَّذِي سَيُغَيِّرُ شَكْلَ جَسَدِ تَوَاضُعِنَا لِيَكُونَ عَلَى صُورَةِ جَسَدِ مَجْدِهِ" – كَما جاءَ في رِسالةِ فيلبِّي 3: 20 و21. فقد تَمَّ اختيارُنا قَبلَ تأسيسِ العالمِ لنكونَ قِدِّيسينَ وبلا لَوْمٍ قُدَّامَهُ. ولا أَحَدَ يُفْقَدُ في أثناءِ ذلك. فنحنُ نَقرأُ في الأصحاحِ السَّادسِ مِنْ إنجيلِ يوحنَّا: "كُلُّ مَا يُعْطِينِي الآبُ فَإِلَيَّ يُقْبِلُ ... لاَ أُتْلِفُ مِنْهُ شَيْئًا". " لاَ أُتْلِفُ مِنْهُ شَيْئًا، بَلْ أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ [بقُوَّةِ الرُّوحِ القُدُس] كَما جاءَ في رُومية 8: 11. فالرُّوحُ الَّذِي أَقَامَ المَسِيحَ مِنَ الأَمْوَاتِ سَيُقيمُ أجْسادَنا أيضًا مِنَ المَوت.
إذًا ما الغايةُ مِنَ الخلاص؟ أنْ نأتي إلى حَضْرةِ اللهِ لِنَقِفَ أَمامَهُ ونَرى مِلْءَ مَجْدِهِ يَشِعُّ مِنْ عَرْشِهِ في أُورُشَليمَ الجديدة، في وَسَطِ السَّماءِ الجديدةِ والأرضِ الجديدةِ، ونكونُ مَعَهُ إلى الأبد ... نكونُ مَعَهُ إلى الأبد. فحينَ يأتي الإنسانُ إلى العالمِ، فإنَّهُ يكونُ بِلا مَجْدٍ. فنحنُ أخْطأنا وأَعْوَزَنا مَجْدُ اللهِ، كما يَقولُ بولسُ في رِسالتهِ إلى أهْلِ رُومية. نحنُ أَعْوَزَنا مَجْدُ اللهِ. ونحنُ عاجِزونَ عَنِ الحُصولِ على ذلك. فنحنُ بِلا مَجْدٍ. فالصُّورةُ باهِتَةٌ جِدًّا جِدًّا، أيْ صُورةُ اللهِ الَّتي نَحْمِلُها مُنْذُ أنْ خُلِقْنا في الأصْل. فقد تَشَوَّهَتْ وَتَلَطَّخَتْ كثيرًا. ولكِنْ في المسيح، يُمكنُنا أنْ نَنالَ المَجْد. وفي المسيح، يُمْكِنُنا أنْ نَصيرَ مُمَجَّدين. وفي المسيح، فإنَّنا نَشتركُ حَرفيًّا في مَجْدِ اللهِ. وقَدْ قالَ اللهُ في العهدِ القديم: "وَمَجْدِي لاَ أُعْطِيهِ لآخَرَ". فَهُوَ لا يُعْطيهِ لِصَنَمٍ. وَهُوَ لا يُعطيهِ لإلَهٍ زائِفٍ. ولكِنَّهُ سيُشارِكُ مَجْدَهُ مَعَ شَعْبِهِ.
وكما يَقولُ بولسُ، فإنَّنا نَحْيا في رَجاءِ المجدِ. فالمسيحُ فيكُمْ رَجاءُ المَجْد. ونحنُ لم نُمَجَّدْ بعد بالمَعنى الحَقيقيِّ الكامِلِ، معَ أنَّنا ذُقْنا ذلكَ المَجْد. فذلكَ المَجْدُ جاءَ إلينا. فالروحُ القدسُ يَسكُنُ فينا. وذلكَ المجدُ لم يُسْتَعْلَنْ فينا بعد. لذلكَ فإنَّنا نَقرأُ في رُومية 8 (في المَقطعِ الَّذي قَرَأتُهُ مِنْ قَبْل) أنَّ العالمَ كُلَّهُ لم يَرَ بَعْد الاسْتِعْلاَنَ المَجيدَ لأبْنَاءِ اللهِ. فنحنُ مَحْجُوبونَ الآن. نحنُ مَحْجُوبونَ وتحتَ غِطاءٍ. فباستِطاعةِ النَّاسِ أنْ يَنظروا إلينا ونحنُ نَمشي في الشَّارِعِ دُوْنَ أنْ يَرَوْا أيَّ مَجْدٍ. ولكِنْ ذاتَ يومٍ، سَنُمَجَّدُ أخيرًا ونكونُ مِثْلَ المسيح. وهذا هُوَ هَدَفُ الخَلاص، كَما أَشَرْتُ في نِهايةِ العدد 30. فالأشخاصُ الَّذينَ اخْتارَهُمُ سَابِقًا سَيَكونونَ هُمْ أنْفُسُهُمْ الَّذينَ سَيُمَجِّدُهُمْ لاحِقًا.
لذلكَ فإنَّ الروحَ القدسَ قد سَكَنَ فينا لكي يَحْفَظَنا ويَضْمَنَنا طَوالَ عَمليَّةِ التَّقديسِ إلى أنْ يأتي بِنا إلى المجد. فَهُوَ الخَتْمُ. وَهُوَ الضَّمانُ، وَهُوَ خَاتَمُ الخِطْبَةِ، وَهُوَ الدُّفعةُ المُسَبَّقَةُ، وَهُوَ باكُورَةُ مَجْدِنا الآتي. وهذا كُلُّهُ قائمٌ على حقيقةِ أنَّنا صِرْنا أولادًا لكي يكونَ المَجْدُ الَّذي سَيُعْطى لنا ذاتَ يومٍ مِيراثًا مِنْ أبينا. فقد تَمَّ تَبَنِّينا في عائلةِ اللهِ. وقد وُلِدْنا في عائلةِ اللهِ. وقد صِرْنا أولادًا بالطَّريقَتَيْنِ. ونحنُ أولادٌ لكي نَحْصُلَ على المَجْد. فنحنُ أولادُ اللهِ ونَمْلِكُ كُلَّ الحَقِّ في الاشتراكِ في كُلِّ ما هُوَ للهِ. وهذِهِ حَقيقَةٌ رائِعٌةٌ.
والآنْ، لِنتأمَّلْ في العَدَدَيْن 17 و 18. فسوفَ نَتأمَّلُ في هذينِ العَدَدَيْنِ فقط اليوم. وسوفَ نَتأمَّلُ في الأعْدادِ الأُخرى بَعْدَ عِيْدِ الميلادِ المَجيد. وأوَدُّ أنْ أُجَزِّئَ هَذَيْنِ العَدَدَيْنِ قَليلًا. فنحنُ نَتحدَّثُ هُنا عنِ المِيراث. العَدَد 17: "فَإِنْ كُنَّا أَوْلاَدًا فَإِنَّنَا وَرَثَةٌ" – أوْ "وَرَثَةٌ أَيْضًا" - وَرَثَةُ اللهِ وَوَارِثُونَ مَعَ الْمَسِيحِ. إِنْ كُنَّا نَتَأَلَّمُ مَعَهُ لِكَيْ نَتَمَجَّدَ أَيْضًا مَعَهُ. فَإِنِّي أَحْسِبُ أَنَّ آلاَمَ الزَّمَانِ الْحَاضِرِ لاَ تُقَاسُ بِالْمَجْدِ الْعَتِيدِ أَنْ يُسْتَعْلَنَ فِينَا". إذًا، العَدَد 18 يَنتهي بالحديثِ عنِ المجدِ العَتيدِ ... عَنِ المَجْدِ الَّذي ليسَ لَهُ مَثيل. ونحنُ نَعلمُ أيضًا أنَّ ذلكَ المَجْدَ الَّذي سيَكونُ لنا مَعَهُ، هُوَ مِيراثُنا. فنحنُ وَرَثَةُ اللهِ ووارِثونَ مَعَ المَسيحِ. والشَّيءُ الَّذي سَنَرِثُهُ هُوَ المَجْد. فهذا هوَ ما سَنَرِثُهُ.
والآن لِنُجَزِّئ هذا المَقطعَ قَليلًا، وَنُجَزِّئ هذا النَّصَّ قَليلًا وَنَتَحَدَّث عنْ حقيقةِ مِيراثِنا ... عَنْ حَقيقَةِ مِيراثِنا. فهذا وَعْدٌ لَكُمْ. العدد 17: ""فَإِنْ كُنَّا أَوْلاَدًا فَإِنَّنَا وَرَثَةٌ أَيْضًا". ولَعَلَّكُمْ لاحَظْتُم الكلمة "إنْ" هُنا. وَهَذا تَرْكيبٌ يُونانِيٌّ مَعروف. فحينَ تَسْتَخْدِمُ هذهِ الكلمة في اللُّغةِ اليونانيَّةِ فإنَّكَ تَحْصُلُ على ما يُعْرَفُ بالشَّرْطِ المُكْتَمِلْ. والشَّرْطُ المُكْتَمِلْ ليسَ شَرْطًا بالمَعْنى المُتَعارَفِ عليه، بلْ إنَّ المَعنى المَقصودَ هُوَ: "حَيْثُ إنَّ". لذلكَ، يَنبغي أنْ تُقْرَأَ هذهِ الآيَة هَكَذا: "حَيْثُ إنَّنا أولادٌ" – فهذا شَرْطٌ مُكْتَمِلْ. وكيفَ نَعلمُ ذلك؟ لأنَّنا رَأينا ذلكَ في الأعداد 14 و 15 و 16. فنحنُ أولادٌ (كَما نَقرأُ في نِهايةِ العدد 16). نَحْنُ أولادُ اللهِ. والآيةُ 14 تَنتهي بالقولِ إنَّنا أبناءُ اللهِ.
فقد تَمَّ تَبَنِّينا. لذلكَ فإنَّنا نَمْلِكُ كُلَّ الحَقِّ في أنْ نَصْرُخَ: "يَا أَبَا الآبُ". وحيثُ إنَّنا أولادُ اللهِ (وهذهِ حَقيقَةٌ وَشَرْطٌ مُكْتَمِلٌ)، فإنَّنا وَرَثَةٌ ... فإنَّنا وَرَثَةٌ. ونَقرأُ في رِسالَةِ غَلاطِيَّة 3: 26: "لأَنَّكُمْ جَمِيعًا أَبْنَاءُ اللهِ بِالإِيمَانِ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ". فأنْتَ لستَ ابْنًا للهِ لأنَّكَ وُلِدْتَ في العالَمِ. بل أنْتَ ابنٌ للهِ ووارثٌ بالإيمانِ بالمسيحِ يَسوع (غَلاطِيَّة 3: 26). وإذا كُنْتَ ولدًا وابنًا لله، فأنْتَ إذًا وارِثٌ. فأنْتَ إذًا وارِثٌ أيضًا.
والآنْ، تَذَكَّروا قوانينَ التَّبَنِّي الرُّومانِيَّة. فالابْنُ المُتَبَنَّى لم يَكُنْ يَقِلُّ عَنِ الأبناءِ الفِعْلِيِّينَ المولودينَ في العائِلَة. والحقيقةُ هي أنَّ الأبناءَ بالتَّبَنِّي كانوا غالبًا يَصيرونَ أبناءً بالتَّبَنِّي لأنَّ الأبَوَيْنِ يُريدانِ ابْنًا أَفْضَلَ مِنْ أبنائِهِمْ. لذلكَ، عندما كانَ أحدُ الأشخاصِ يَختارُ أنْ يَتَبَنَّى ابنًا، كانَ يَفعلُ ذلكَ لأنَّهُ يُريدُ أنْ يَختارَ ابنًا مُحَدَّدًا عَنْ سَابِقِ قَصْدٍ مِنْ أجْلِ ضَمانِ مَصْلَحَةِ وَفائِدَةِ العائِلَة. وقد كانَ ذلكَ الابْنُ يَتَمَتَّعُ بكُلِّ حُقوقِ الميراثِ الَّتي يَتمتَّعُ بها الأبناءُ الذينَ وُلِدوا فِعليًّا في تلكَ العائِلَة. والحقيقةُ هي أنَّ ذلكَ الابْنَ المُتَبَنَّى كانَ مُساوِيًا على الأقل للأبناءِ الآخَرينَ، أوْ أفْضَل مِنْهُمْ في حالاتٍ كَثيرة.
وبحسبِ التَّقليدِ اليهودِيِّ، كانَ الميراثُ يُعْطى بِنَصيبٍ مُضاعَفٍ للابْنِ الأكْبَر. فَإنْ كانَ هُناكَ ابْنان، كانَ الابْنُ الأكبرُ يأخُذُ ثُلْثَيْن والابْنُ الأصْغَرُ يَأخُذُ ثُلْثًا. فقد كانَ الابْنُ الأكبرُ يأخُذُ نَصيبًا مُضاعَفًا مِنَ المِيراث. ولكِنَّ الحالَ لم تَكُنْ كذلكَ في القانونِ الرُّومانِيِّ. فلا يوجدُ في التَّاريخِ الرومانِيِّ ما يُشيرُ إلى ذلك. فما هُوَ واضِحٌ لدينا في القانونِ الرومانيِّ ويُمْكِنُنا إثْباتُهُ هُوَ أنَّ جميعَ الأبناءِ كانوا يَتَقاسَمونَ المِيراثَ بالتَّساوي. فقد كانَ الميراثُ يُوَزَّعُ بالتَّساوي في النِّظامِ الرومانِيِّ. وكانَ ذلكَ يَصحُّ على الابْنِ المُتَبَنَّى أيضًا. فقد كانَ القانونُ يَنُصُّ على ذلك. ولَكِنَّنا لا نَعْلَمُ يَقينًا إنْ كانُوا يُطَبِّقونَ ذلكَ دائمًا.
لذلكَ فإنَّ بولسَ يَستخدمُ العادَةَ الرومانِيَّةَ في تَشْبيهِهِ هُنا. وما يَقولُهُ هُوَ أنَّهُ بِمُوجَبِ القانونِ الرومانِيِّ، فإنَّ جَميعَ الأبناءِ (في ضَوْءِ التَّشبيهِ بالقانونِ الرومانِيِّ) أيْ جَميعَ أبناءِ اللهِ هُوْ وَرَثَةٌ مُتَساوون ... الجَميعُ وَرَثَةٌ مُتَساوون. "فَإِنْ كُنَّا أَوْلاَدًا [أوْ: حَيْثُ إنَّنا أولادٌ أوْ أبناءٌ] فَإِنَّنَا وَرَثَةٌ أَيْضًا". وبالمُناسَبَة، وفقًا للقانونِ الرومانِيِّ، فإنَّ ما يَحْصُلُ عليهِ المَرءُ بواسِطَةِ الميراثِ كانَ مَضْمونًا أكْثَرَ مِنَ الشَّيءِ الَّذي قَدْ يَحصُلُ عليهِ بواسِطَةِ الشِّراءِ. فإنْ حَصَلْتَ على شَيءٍ مِنْ خِلالِ المِيراثِ، فإنَّ ذلكَ سيكونُ أكْثَرَ شَيءٍ مَضْمونٍ يُمْكِنُكَ الحُصولُ عليه. وهذا هوَ ما يَقولُهُ بولُس. فنحنُ، بِصِفَتِنا أولادًا للهِ، نَحْصُلُ على مِيراثٍ بالتَّساوي. وَهذا المِيراثُ مَضْمونٌ أكْثَرَ مِنْ أيِّ شَيءٍ آخَرَ يُمْكِنُنا أنْ نَحْصُلَ عليهِ بأنْفُسِنا. والحقيقةُ هي أنَّ أيَّ شيءٍ نَحْصُلُ عليهِ بأنفسِنا سَنَتْرُكُهُ هُنا. أليسَ كذلك؟ فحيثُ إنَّنا أولادٌ، فإنَّنا وَرَثَةٌ.
ولِمُساعَدَتِكُم قَليلًا على فَهْمِ ذلك، فإنَّ غَلاطِيَّة 4 مَقْطَعٌ جَيِّدٌ. وسوفَ أبتدئُ القِراءةَ مِنَ العددِ الرابعِ. وقد سَمِعْتُمْ هذا النَّصَّ في وقتٍ سابقٍ مِنْ هذِهِ الخِدْمَة: "وَلكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ، مَوْلُودًا تَحْتَ النَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ". وما الغايَةُ مِنْ هذا الفِداء؟ "لِنَنَالَ التَّبَنِّيَ" بِوَصْفِنا أبناء. بعبارةٍ أُخرى، هذِهِ هِيَ الغايةُ مِنَ الخَلاص: أنْ يَتِمَّ ضَمُّنا إلى العائلة. فَتَبَنِّينا كأبناء يُعْطينا جَميعَ الحُقوق. كذلكَ فإنَّ تَجْديدَنا كأبناء يُعْطينا الطَّبيعَة. ثُمَّ يُمْكِنُنا أنْ نَتَشَكَّلَ على شَبَهِ العائلةِ الَّتي مِثالُها الأعْلى هُوَ المَسيح. "ثُمَّ بِمَا أَنَّكُمْ أَبْنَاءٌ، أَرْسَلَ اللهُ رُوحَ ابْنِهِ إِلَى قُلُوبِكُمْ صَارِخًا: «يَا أَبَا الآبُ». إِذًا لَسْتَ بَعْدُ عَبْدًا بَلِ ابْنًا" – ثُمَّ اسْتَمِعوا إلى هذهِ الكلمات: "وَإِنْ كُنْتَ ابْنًا فَوَارِثٌ للهِ".
فهذهِ هِيَ حَقيقَةُ مِيراثِنا. ... هذهِ هيَ حَقيقةُ مِيراثِنا. وهذهِ الحَقيقَة مُوَضَّحة أكْثَر في الكلماتِ الرائعةِ المَذكورةِ في 1بُطرُس 1، وَهِيَ آياتٌ لا يَنْبَغي أنْ تُفَوِّتُوها. رِسالة بُطرس الأولى، الأصحاح الأوَّل. وهذهِ تَسْبيحَةٌ للهِ أيضًا: "مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ". ونقولُ ثانِيَةً إنَّ اللهَ هُوَ اللهُ أبو المسيح، أيْ إنَّ جَوْهَرَهُما واحِدٌ، وَطَبيعَتَهُما واحِدَة. فالتَّركيزُ هُنا هُوَ على لاهوتِ المسيح. "الَّذِي حَسَبَ رَحْمَتِهِ الْكَثِيرَةِ" (فهذا كُلُّهُ رَحْمَة. وَهَذا كُلُّهُ نِعْمَة) "وَلَدَنَا ثَانِيَةً". فقد رأينا في رِسالةِ غَلاطِيَّة أنَّهُ تَمَّ تَبَنِّينا. ونحنُ قد وُلِدْنا ثانيةً. وهذا يُشيرُ إلى حُقوقِنا وَطَبيعَتِنا. "لِرَجَاءٍ حَيٍّ". فقد تَمَّ تَخْليصُنا حَرْفِيًّا لِرَجاءٍ حَيٍّ "بِقِيَامَةِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ مِنَ الأَمْوَاتِ".
وما هُوَ رَجاؤُنا الحَيُّ. هَذا هُوَ: "لِمِيرَاثٍ" ... أيْ: للحُصولِ على مِيراثٍ. وماذا بِشَأنِ هذا المِيراث؟ إنَّهُ "لاَ يَفْنَى" ... "لا يَفْنى". فَهُوَ لا يُمْكِنُ أنْ يَزولَ، ولا أنْ يَخْتَفي، ولا أنْ يُمْحَى. "وَلاَ يَتَدَنَّسُ". فَهُوَ لا يُمْكِنُ أنْ يُحَدَّ، ولا يُمْكِنُ أنْ يُدَنَّسَ، ولا أنْ يُلَطَّخَ. "وَلاَ يَضْمَحِلُّ". فَهُوَ لا يَخْتَفي وَلا يَزولُ. "مَحْفُوظٌ فِي السَّمَاوَاتِ لأَجْلِكُمْ". فلهذا أنْتُمْ مُخَلَّصون. ولهذا أنْتُمْ قد وُلِدْتُمْ ثانيةً. ولهذا تَمَّ تَبَنِّيكُمْ في العائلةِ – لِكَيْ تَحْصُلوا على مِيراثٍ لا يَفْنى، ولا يَتَدَنَّسُ، ولا يَضْمَحِلُّ لأنَّهُ مَحْفوظٌ في السَّماءِ لأجْلِكُمْ – لا لأجْلِ أيِّ شخصٍ آخَر، بل لأجْلِكُمْ. وأنْتُمْ (كما نَقرأُ في العددِ التَّالي – في العددِ الخامِسِ): مَحروسونَ "بقُوَّةِ اللهِ". وما هِيَ قُوَّةُ اللهِ؟ قُوَّةُ الروحِ القُدُس. فأنْتُمْ سَتنالونَ قُوَّةً مَتى حَلَّ الروحُ القدسُ عَليكُم. وهذهِ القُوَّة هيَ للشَّهادة، ولكنَّها أيضًا قُوَّة للحِفْظ. فهي قُوَّةُ الروحِ القدسِ فينا والتي تَحْفَظُنا مِنْ خِلالِ الواسِطَةِ. وهذا رائِعٌ! فَهِيَ قُوَّةُ اللهِ بِواسِطَةِ الإيمان.
وكيفَ يَحْفَظُكَ الروحُ القدسُ في المسيح؟ وكيفَ يَحفظُكَ الروحُ القدسُ مِنَ الفَشَلِ، وَمِنَ السُّقوطِ، ومِنْ تَرْكِ المَسيحِ والتَّخَلِّي عنه، وَمِنَ الارتداد؟ بالإيمان. بعبارةٍ أخرى، إنَّ الروحَ القدسَ هوَ الَّذي يُقَوِّي إيمانَكَ. فنحنُ نَقرأُ في أفَسُس 2: "لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإِيمَانِ، وَذلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ". وقد تَقول: "ولكنِّي أعرفُ شخصًا كانَ مُؤمِنًا ثُمَّ مَاتَ إيمانُهُ". لا. فأيُّ شخصٍ كانَ مُؤمِنًا ثُمَّ ماتَ إيمانُهُ هُوَ شخصٌ كانَ يَمْلِكُ إيمانًا بَشَريًّا. فالإيمانُ الَّذي يُعطيهِ اللهُ هوَ إيمانٌ لا يُمْكِنُ أنْ يَموت. فأنْتُمْ مَحروسونَ بذلكَ الإيمانِ الَّذي يَسْتَمِدُّ القُوَّةَ مِنَ الروحِ القدس. وَهُوَ يُتابِعُ قائلًا: "لِخَلاَصٍ مُسْتَعَدٍّ أَنْ يُعْلَنَ فِي الزَّمَانِ الأَخِيرِ". فالغايةُ الأساسيَّةُ للخلاصِ هي أنْ يَجْعَلَنا بِلا لَوْمٍ وقِدِّيسينَ قُدَّامَهُ في الأبديَّةِ حيثُ سَنَنالُ ميراثًا. فهذهِ هيِ حَقيقَةُ مِيراثِنا. فَهُوَ مِيرَاثٌ لاَ يَفْنَى، وَلاَ يَتَدَنَّسُ، وَلاَ يَضْمَحِلُّ، مَحْفُوظٌ فِي السَّمَاوَاتِ لأَجْلِكُمْ. والروحُ القدسُ هوَ المُدافِعُ الداخليُّ الَّذي يَحْفَظُ إيمانَكُمْ حَتَّى النِّهاية.
ومَنْ هُوَ مَصْدَرُ هذا المِيراث؟ إليكُمْ حَقيقَة ذلك. فمَصْدَرُ ذلكَ مَذكورٌ في العدد 17: "وَرَثَة الله". فاللهُ هُوَ المَصْدَر. ونحنُ وَرَثَةُ اللهِ. فنحنُ نَرِثُ ما اخْتارَ اللهُ أنْ نَمْلِك. فاللهُ هُوَ الَّذي يُعْطينا المِيراثَ. واللهُ هُوَ الَّذي حَفِظَهُ لأجْلِنا. فنحنُ نَقرأُ في رِسالةِ بُطرسَ الأولى "مَحْفُوظٌ ... لأَجْلِكُمْ". فاللهُ هُوَ الَّذي حَفِظَ مِيراثَنا الثَّمينَ في السَّماواتِ لأجْلِنا. وهذا أمْرٌ مُدهشٌ حَقًّا. مُبَارَكٌ اللهُ الآبُ الَّذِي سَمَحَ أنْ نَحْصُلَ على هذا المِيراث. وهذا مَذكورٌ أيضًا في كولوسي 3: 24. وهناكَ آياتٌ عديدةٌ رائعةٌ تَتَحَدَّثُ عَنْ هذا الموضوع. وهذهِ واحِدَة مِنَ الآياتِ الرَّائِعَة في رَأيي. فَنحنُ نَقرأُ في كولوسي 3: 24: "عَالِمِينَ أَنَّكُمْ مِنَ الرَّبِّ سَتَأخُذُونَ جَزَاءَ الْمِيرَاثِ" ... "عَالِمِينَ أَنَّكُمْ مِنَ الرَّبِّ سَتَأخُذُونَ جَزَاءَ الْمِيرَاثِ". فسوفَ يأتي ذلكَ المِيراث مِنَ الرَّبِّ. فَهُوَ قادِرٌ أنْ يُعْطيهِ لأنَّهُ لَهُ. وَهُوَ الوَحيدُ القادِرُ أنْ يُعْطيه.
والآنْ، اسْمَحوا لي أنْ أتَعَمَّقَ قليلًا في هذا الأمْر. فقد يقولُ قائلٌ: "ما هوَ هذا الشَّيء؟ ما الشَّيءُ الَّذي تَرَكَهُ اللهُ لَنا؟" إنَّهُ أَطْهَرُ وَأصْدَقُ وَأشْمَلُ شَكْلٍ مِنْ أشْكالِ الكَمالِ، وَالقَداسَةِ، وَالاستِقامَةِ، والبِرِّ المُطْلَقِ، والاكْتِمال. إنَّهُ كَمالُ البشريَّةِ المُمَجَّدَةِ. بل هُوَ أكْثَرُ مِنْ ذلك. ومِنَ الأفْضَلِ أنْ نَفْهَمَ ذلكَ بالطَّريقةِ التَّالية: فالمُرَنِّمُ يَتحدَّثُ عَنْ أنَّ الرَّبَّ نَصيبُهُ. وقد تَحَدَّثَ إرْميا عَنْ أنَّ الرَّبَّ هُوَ نَصيبُهُ. ونَقرأُ في سِفْرِ الرؤيا 21: 3 أنَّهُ حينَ نَدْخُلُ السَّماءَ في مَجْدِنا الأبديِّ، فإنَّ اللهَ سَيَظْهَرُ ويقولُ: "سأكونُ لَهُمْ إلهًا وَهُمْ يَكونونَ لي شَعْبًا. وسأسْكُنُ مَعَهُمْ، وسَأمْسَحُ كُلَّ دَمْعَةٍ مِنْ عُيونِهِمْ، ... إلخ، إلخ، إلخ". فالميراثُ، يا أحبَّائي، هُوَ اللهُ نَفْسُهُ. فهذا هُوَ المِيراث.
إذًا ما الَّذي يَنْتَظِرُنا؟ الله ... الله. فهوَ اللهُ الَّذي يُشْرِقُ بِنورِهِ مِنْ عَرْشِهِ في أورُشليمَ الجديدة. وَمَجْدُهُ يَمْتَدُّ إلى أقاصِي السَّماءِ الجديدة والأرضِ الجديدة. ونحنُ نَدْخُلُ إلى حَضْرَتِهِ ونَنْظُرُ إلى ذلكَ المَجْدِ البَهِيِّ دونَ أنْ نَحْتَرِقَ لأنَّنا قِدِّيسونَ وَبلا لَوْمٍ قُدَّامَهُ. وكُلُّ شيءٍ يَخْتَصُّ بطبيعةِ اللهِ وَما صَارَ عَلَيْهِ هُوَ لَنا. وهذهِ حَقيقَةٌ مُدهشةٌ. فنحنُ وَرَثَةُ اللهِ. بل إنَّنا نَشْتَرِكُ في مَجْدِهِ في السَّماءِ إلى الأبد.
ولكي نَتوسَّع في ذلكَ قليلًا، اسْمَحوا لي أنْ أَطْرَحَ مَسألةً ثالثةً يَتَحَدَّثُ عَنْها هذا النَّصُّ وَهِيَ: مِقْدار المِيراث. فَما مِقْدارُ هذا المِيراث؟ إنَّهُ كَبيرٌ جِدًّا حَتَّى إنَّنا وَرَثَةٌ مَعَ المَسيحِ – حَتَّى إنَّنا وَرَثَةٌ معَ المسيحِ. وهذا يُرَكِّزُ مَرَّةً أُخرى على العادةِ الرومانيَّةِ المُختصَّةِ بتوزيعِ الإرْثِ بالتَّساوي. ويا لها مِنْ فِكْرَة! فكُلُّ ما هُوَ للمسيحِ سيكونُ لَنا. وما الَّذي قالَهُ اللهُ للمسيحِ في المَزمورِ الثَّاني؟ "اسْأَلْنِي فَأُعْطِيَكَ الأُمَمَ مِيرَاثًا لَكَ". وَفَضْلًا عَنْ ذلكَ فإنَّهُ يُعْطيهِ كُلَّ شَيءٍ. فالمسيحُ سيكونُ الكُلَّ في الكُلِّ. والكُلُّ سيكونُ في المسيح. فنحنُ نَقرأُ في رِسالةِ كورِنثوسَ الأولى 15 أنَّهُ سَيَتِمُّ إخْضَاعُ كُلِّ شَيءٍ للمَسيح - كُلَّ شيء.
ونَقرأُ في الأصْحاحِ الأوَّلِ مِنْ رِسالَةِ أَفَسُس عَنْ حَقيقَةِ أنَّهُ الرَّأسُ على كُلِّ الأشياءِ. فكُلُّ الأشياءِ تَخْضَعُ لَهُ. وكُلُّ شَيءٍ لَهُ. كُلُّ شَيءٍ بالمُطْلَقِ لَهُ. وفي النِّهاية، فإنَّ كُلَّ ما هُوَ لَهُ سَيَصيرُ لَنا. فنحنُ سنَصيرُ حَرفيًّا: وَرَثَة مَعَ المَسيح. ونَقرأُ في عِبرانِيِّين 1: 2 أنَّ المسيحَ هُوَ وَارِثُ كُلِّ الأشياءِ – وارِثُ كُلِّ الأشياءِ. وفيهِ، نَصيرُ وَرَثَةٌ لِكُلِّ الأشياءِ. وهذِهِ حَقيقةٌ مُدهشةٌ. فسوفَ نَمْلِكُ مَعَهُ، كَما جاءَ في رُؤيا 20. وهُوَ سيَجلِسُ على عَرْشِهِ، كَما جاءَ في رُؤيا 3: 21. وَنحنُ سَنَلْبَسُ صُورَتَهُ ... صُورَةَ السَّمَاوِيِّ، كَما جاءَ في 1كورِنثوس 15: 49. وهذهِ وَقائِعُ تَتَحَدَّثُ عَنْ حقيقةِ أنَّ كُلَّ ما هُوَ للمسيحِ سيكونُ لَنا. صَحيحٌ أنَّنا لن نَكونَ آلِهَةً، ولكِنَّنا سنكونُ بَشَرًا مُمَجَّدينَ. ولكِنْ بالقَدْرِ الَّذي يُمْكِنُ فيهِ للبَشَرِ المُمَجَدِّينَ أنْ يُشارِكوا مَجْدَ اللهِ وميراثَ المَسيحِ، فإنَّنا سَنَشْتَرِكُ في ذلكَ بِكُلِّ مِلْئِهِ.
وقد يَقولُ قَائِلٌ: "ولكِنْ قد يَنْزَعِجُ المسيحُ مِنْ هذا الأمْرِ قليلًا. فقد فَعَلَ الكَثيرَ ليَنالَ ذلكَ المِيراثَ على الصَّليبِ. فلماذا سَيُعْطينا كُلَّ ذلك؟ فهل سيكونُ ذلكَ مُحْبِطًا للمسيح – أنْ يَكونَ الآبُ سَخِيًّا جِدًّا مَعَ أُناسٍ غَيْرِ مُسْتَحِقِّينَ مِثْلَنا؟" الحقيقةُ هي أنَّ هُناكَ جَوابًا لهذا السُّؤال. فالربُّ لَنْ يَتَرَدَّدَ لَحْظةً في إعْطائِنا ذلك. اسْتَمِعوا إلى صَلاتِهِ في إنْجيل يوحنَّا 17: "وَأَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمُ الْمَجْدَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي، لِيَكُونُوا وَاحِدًا كَمَا أَنَّنَا نَحْنُ وَاحِدٌ" (إنْجيل يوحنَّا 17: 22). فَهُوَ يُشارِكُ مَجْدَهُ كُلَّهُ مَعَنا دُوْنَ أيِّ تَرَدُّدٍ.
إنَّ عَظَمَةَ هذا المِيراثِ مُذْهِلَةٌ بِكُلِّ تأكيد. وَهُوَ بالنِّعْمَةِ وليسَ بالأعْمال. وَهُوَ بِعَمَلِ اللهِ السِّيادِيِّ وليسَ بِالجُهْدِ البشريِّ. وَهُوَ عَهْدٌ مِنَ اللهِ الَّذي لا يَكْذِبْ ولا يَتَغَيَّر. وهذا الميراثُ لا يَضْمَحِلُّ بسببِ تَقسيمِهِ بينَ وَرَثَةٍ كَثيرينَ لأنَّ مَجْدَ اللهِ هُوَ مَجْدٌ مُطْلَقٌ. إنَّهُ مَجيدٌ، وَشامِلٌ، وَمَضْمونٌ. فسوفَ نَرِثُ اللهَ، أيْ مَجْدَهُ، وَنُشارِكُ مَجْدَهُ. وكُلُّ ما هُوَ للمسيحِ سيكونُ لَنا. ويا لَهُ مِنْ مِيراثٍ غَنِيٍّ لا شَبيهَ لَهُ يُعْطينا إيَّاهُ الروحُ القُدُسُ الَّذي يَحْفَظُ إيمانَنا وَيَحْرُسُهُ إلى النِّهاية.
وهُناكَ شَيءٌ رابِعٌ ينبغي أنْ نُلاحِظَهُ في هذا العَدَدِ وَهُوَ الاسْتِعْدادُ للميراث – الاسْتِعدادُ للميراث. فنحنُ جَميعًا نَحْصُلُ على نَفسِ الحياةِ الأبديَّةِ. ونحنُ جَميعًا نَحْصُلُ على نَفْسِ المَجْدِ، أوْ على نَفْسِ الدِّينارِ الَّذي ذَكَرَهُ يَسوعُ في ذلكَ المَثَلِ، بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنْ سَاعاتِ خِدْمَتِنا. فنحنُ جَميعًا نَحْصُلُ على ذاتِ حُضورِ اللهِ. ونحنُ جميعًا نَحْصُلُ على ذاتِ المِيراثِ مِنَ المسيح. ولكِنْ ستكونُ هُناكَ دَرَجاتٌ مِنَ المَسئوليَّةِ ودَرَجاتٌ مِنَ الخِدمةِ المُرتبطةِ بالخِدمةِ في هذهِ الحَياةِ. وقد أَوْضَحَ الرَّبُّ ذلكَ في المَثَل – بل في العَديدِ مِنَ الأمثال. فالأمينُ في القَليل يُقيمُهُ الرَّبُّ على الكَثير.
ولكِنْ هُناكَ مَبْدَأ يَدْفَعُنا إلى القولِ إنَّ أَهَمَّ عامِلٍ في طَبيعةِ مِيراثِنا الأبديِّ على المُستوى الشخصيِّ هُوَ ليسَ النَّجاح، كَما نَقيسُ الأمْرَ في العالَمِ، بلِ الألم. ارْجِعوا إلى العدد 17. فقد قُلْنا إنَّنا "إِنْ كُنَّا أَوْلاَدًا فَإِنَّنَا وَرَثَةٌ أَيْضًا، وَرَثَةُ اللهِ وَوَارِثُونَ مَعَ الْمَسِيحِ". ثُمَّ نَقرأُ: "إِنْ كُنَّا نَتَأَلَّمُ مَعَهُ لِكَيْ نَتَمَجَّدَ أَيْضًا مَعَهُ". وفي القرنِ الثَّاني عَشَر، كانتِ الكلمةُ "إنْ" تُتَرْجَمُ مِنْ قِبَلِ عُلَماءِ الكِتابِ المقدَّسِ بـ "حَيْثُ إنَّ" للتَّعبيرِ عَنْ حَقيقَة: "حَيْثُ إنَّنا أولادٌ فإنَّنا وَرَثَةٌ". وَ "حيثُ إنَّنا نَتألَّمُ مَعَهُ، مِنَ المُؤكَّدِ والحَتْمِيِّ أنَّنا سَنَتَمَجَّدُ مَعَهُ".
بعبارةٍ أُخرى، هناكَ أَمْرٌ حَتْمِيٌّ في حَياةِ المُؤمِنِ وَهُوَ أنَّ المُؤمِنَ سَيتألَّم. وأنا لا أتَحَدَّثُ بالضَّرورَةِ عنِ الاسْتِشْهاد، مَعَ أنَّ هذا قَدْ يَحْدُث: "احْمِلْ صَليبَكَ واتْبَعْني". فهُناكَ أُناسٌ مَاتوا وَيَموتونَ لأجْلِ الإنْجيل. ولكِنَّ ما يَقولُهُ النَّصُّ هُنا هُوَ: حيثُ إنَّنا نَتألَّمُ بِكُلِّ تأكيدٍ لأنَّنا نُمَجِّدُ المَسيحَ، وَنَحْيا لأجْلِ المَسيحِ، وَنُنادي بالمسيحِ في عالمٍ لا يُريدُ المَسيحَ، وفي عالمٍ يُبْغِضُ المَسيحَ، هُناكَ قَدْرٌ مِنَ الألم. فنحنُ نَحْمِلُ عَارَ المَسيح. والألمُ مُرْتَبِطٌ بذلك. ونحنُ لا نَتحدَّثُ عَنْ حَقيقةِ أنَّكَ مُصابٌ بِمَرَضٍ، أوْ عِلَّةٍ، أوْ أنَّ لديكَ تَحَدِّياتٍ في زَواجِكَ، أوْ مَشاكِلَ في عَمَلِكَ. فكُلُّ هذهِ الأشياءِ تَقَعُ في خَانَةِ المُعاناةِ البشريَّةِ. والرَّبُّ مَعْنِيٌّ بذلكَ، وَيَتَعاطَفُ مَعَ ذلكَ. ولكِنَّ الألمَ المُخْتَصَّ بالمَجْدِ الأبديِّ والمُكافأةِ الأبديَّةِ هُوَ الألم الَّذي يَلْحَقُ بالمُؤمِنينَ بسببِ اسْمِ المَسيح.
وأنا أَعْلَمُ أنَّنا لم نَتَعَرَّضْ للاضْطِهادِ، ولَمْ نَتَعَرَّضْ للإساءَةِ، وَلَمْ نُعَذَّبْ في الزَّيْتِ المَغْلِيِّ، وَلَمْ تُخْلَعْ أَظْفارُنا. فنحنُ لم نَتَعَرَّضْ للاضْطهادِ إلى هذا الحَدِّ، ولكِنَّنا جميعًا نَفهمُ السُّخريةَ القاسيةَ الَّتي يُلاقيها الأشخاصُ الأُمَناءُ في إعْلانِ اسْمِ المسيحِ في بيئةٍ مُعادِيَةٍ. وقد عانَيْنا جَميعًا بطريقةٍ أوْ بأُخرى. وقد قالَ يَسوع: "فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ، وَلكِنْ ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ". فسوفَ يُعامِلونَكُمْ في هذا العالَمِ بذاتِ الطريقةِ الَّتي عامَلوني بها. فَقَدْ أبْغَضوني. وَهُمْ سَيُبْغِضونَكُمْ". فهذا هُوَ الواقِع.
ونَحْنُ سَتَكونُ لَنا شَرِكَةٌ أَسْمَاها بولُسُ "شَرِكَة آلامِهِ". بل إنَّ بولسَ قالَ في الأصْحاحِ الأوَّلِ مِنْ رِسالتهِ إلى أهْلِ كُولوسي إنَّهُ يُكَمِّلُ في جِسْمِهِ نَقَائِصَ شَدَائِدِ المَسِيح. فقد كانَ يَحتملُ الآلامَ لأجْلِ عَلاقَتِهِ بالمسيح. وقد تَحَدَّثَ بُطرسُ في الأصْحاحِ الرابعِ مِنْ رِسالتِهِ الأولى عَنِ التَّألُّمِ لأجْلِ المسيحِ، وَعَنِ الفَرَحِ في الوقتِ نَفْسِهِ.
إنَّ الطَّريقَ إلى المَجْدِ يَمُرُّ بالألم. وهَلْ تَذكُرونَ أنَّ يَسوعَ قالَ إنَّهُ مَاضٍ إلى الصَّليبِ مِنْ أجْلِ السُّرورِ المَوْضوعِ أمامَهُ؟ وألا نَتذكَّرُ أنَّ الرُّسُلَ قالوا إنَّهُ يَنْبَغي أنْ يَكْرِزوا بأنَّ المسيحَ كانَ يَنبغي أنْ يَتألَّمَ؟ لماذا؟ لأنَّ يَسوعَ قالَ لَهُمْ ذلك. فنحنُ نَقرأُ في إنْجيل لوقا 24: "أَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ بِهذَا وَيَدْخُلُ إِلَى مَجْدِهِ؟" فحينَ نَشتركُ في آلامِ المسيحِ، وَحِيْنَ نَحْمِلُ عَارَ المَسيحِ، فإنَّنا نَسْلُكُ حِينئذٍ في الطَّريقِ المُفْضِي إلى المَجْد. وهذا بَعيدٌ كُلَّ البُعْدِ عَنْ فِكرةِ أنَّ اللهَ يُريدُكَ أنْ تَكونَ مُعافَى، وغَنِيًّا، وسَعيدًا، وناجحًا، وشَعبِيًّا، ومُرتاحًا. لا. فالروحُ القدسُ مُهْتَمٌّ بِمَجْدِكَ الأبديِّ. وَهُوَ يَفْهَمُ أنَّ الطَّريقَ إلى ذلكَ المِجْدِ الأبديِّ هُوَ أنْ تَحْمِلَ عَارَ يَسوعَ المسيح.
إذًا مَعَ أنَّنا جَميعًا نَقْبَلُ اللهَ، وَمَعَ أنَّنا جَميعًا نَصيرُ وَرَثَةً لكُلِّ ما يَمْلِكُهُ المسيحُ، فإنَّ طَبيعَةَ خِدْمَتِنا في مَجْدِ السَّماءِ تَتَوَقَّفُ على مِقْدارِ الألمِ الَّذي احْتَمْلناهُ لأجْلِ المَسيح. فالمسيحيَّةُ ليسَتْ هُروبًا. فَمِنَ الكَذِبِ أنْ نَظُنَّ أنَّ كُلَّ ما يُريدُ الروحُ القُدُسُ مِنْكَ أنْ تَفعلَهُ هُوَ أنْ تَحْصُلَ على كُلِّ ما تُريد وَأنْ تَكونَ سَعيدًا. فالروحُ القدسُ يُريدُ أنْ يُمَجِّدَكَ. وَهُوَ يَفهمُ أنَّ الطَّريقَ المُؤدِّي إلى المَجْدِ يَمُرُّ بالآلام. فهذا هُوَ ما تُعَلِّمُنا إيَّاهُ كَلِمَةُ اللهِ.
والآنْ، بَقِيَتْ نُقطةٌ أخيرةٌ قَبْلَ أنْ نَشْتَرِكَ في مائِدَةِ الرَّبِّ. فبولسُ يَقولُ مَا يَلي في العَدَد 18: "فَإِنِّي أَحْسِبُ أَنَّ آلاَمَ الزَّمَانِ الْحَاضِرِ لاَ تُقَاسُ بِالْمَجْدِ الْعَتِيدِ أَنْ يُسْتَعْلَنَ فِينَا". لذلكَ يَنبغي أنْ نَحْتَمِلَ الآلام. أليسَ كذلك؟ "لأَنِّي حَامِلٌ فِي جَسَدِي سِمَاتِ الرَّبِّ يَسُوعَ". فينبغي لنا أنْ نَحْمِلَ عارَ المَسيح، وأنْ نَتألَّمَ لأجْلِ المسيح. ولكِنْ لا يَجوزُ أنْ نُقارِنَ ذلكَ بالمَجْدِ العَتيدِ أنْ يُسْتَعْلَنَ فينا. فَهُناكَ، يا أحِبَّائي، مَجْدٌ عَظيمٌ يَنْتَظِرُنا في حَضْرَةِ الرَّبِّ. وهذا هُوَ وَعْدُهُ لنا. وَعَمَلُ الروحِ القدسِ المُبارَكِ هُوَ أنْ يَضْمَنَنا طَوالَ الطَّريقِ إلى أنْ نَصِلَ إلى خَطِّ النِّهايَةِ وَنَحْصُلَ على ذلكَ المَجْد. فَروحُ المَوْعِدِ القُدُّسِ (كَما جاءَ في أَفَسُسْ 1) هُوَ "عُرْبُونُ مِيرَاثِنَا، لِفِدَاءِ الْمُقْتَنَى، لِمَدْحِ مَجْدِهِ". لِنَحْنِ رُؤوسَنا للصَّلاة:
نَحْنُ نَتَذَكَّرُ، يا أبانا، مَا قالَهُ بولُسُ: "وَلاَ تُحْزِنُوا رُوحَ اللهِ الْقُدُّوسَ الَّذِي بِهِ خُتِمْتُمْ لِيَوْمِ الْفِدَاءِ". لذلكَ لَيْتَنا نُكْرِمُ الرُّوحَ، وَنَعْبُدُ الروحَ بالطريقةِ الَّتي تَليقُ بِهِ. والآنْ، يا رَبّ، إذْ نَتَقَدَّمُ إلى هذهِ المائِدَةِ، نُريدُ أنْ نَعلَمَ يَقينًا أنَّنا نُكْرِمُ هذهِ الشَّرِكَةَ المُقَدَّسَةَ مِنْ خِلالِ اعْتِرافِنا بأيِّ خَطِيَّةٍ نَعْلَمُ عَنْ وُجودِها في حَياتِنا، وَمِنْ خِلالِ التَّخَلِّي عَنْ أيِّ شَيءٍ دُنْيَوِيٍّ نَتَمَسَّكُ بِهِ، ومِنْ خِلالِ التَّوبةِ والابتعادِ عَنْ ذلكَ الشَّيء. ونَحْنُ نُريدُ أنْ نَجْلِسَ عِنْدَ قَدَمَيْكِ عندَ الصَّليبِ، وَأنْ نُعَبِّرَ عَنِ امْتِنانِنا لأنَّ كُلَّ ذلكَ صَارَ مُتاحًا لنا بسببِ ما فَعَلَهُ المَسيحُ مِنْ خِلالِ مَوْتِهِ.
This article is also available and sold as a booklet.