
نحنُ نَدرُسُ رِسالةَ كورِنثوسَ الأولى والأصحاحَ الثَّالث عَشَر. ونحنُ نَأخُذُ وَقتَنا في دراسَتِه لأنَّهُ مُهِمٌّ جدًّا جدًّا. وفي العَددِ الثَّالِث عَشَر مِن رسالةِ كورِنثوسَ الأولى والأصحاح 13، نَقرأُ: "وَلكِنَّ أَعْظَمَهُنَّ الْمَحَبَّة". لِذا فإنَّهُ أصحاحٌ يَتطلَّبُ اهتِمامًا شَديدًا. وليسَ مِنَ الصَّوابِ أن نَدرُسَ مَوضوعًا كهذا بِأيِّ نَظرةٍ مَحدودَة. لِذا فإنَّنا نَأخُذُ وَقتَنا ونَتأمَّلُ بِعِناية في هذهِ الأفكار. وبِصورةٍ أكثر تَحديدًا، نحنُ نَتأمَّلُ في الأعداد مِن 4 إلى 7 – رِسالة كورِنثوس الأولى 13: 4-7. وهذا جُزءٌ مِن دِراسَتِنا لرسالةِ كورِنثوسَ الأولى بعدَ أنْ وَصَلْنا إلى هذا الأصحاحِ الرَّائع. ونحنُ نَقرأُ هُنا حَقًّا أربعَ آياتٍ تُقَدِّمُ لنا الوَصفَ الإلهيَّ للمحبَّة. فإنْ كانَ هُناكَ شَيءٌ بِحاجة إلى الوَصْفِ فإنَّهُ المَحَبَّة.
ففي يَومِنا ووَقتِنا، وفي عَالَمِنا، ما أكثرَ ما تُستَخدَمُ هذهِ الكلمة ويُساءُ استخدامُها! لِذا فإنَّنا نَجِدُ هُنا تَعريفَ اللهِ الشَّخصيّ للمحبَّة. وَهُوَ يُعَرِّفُها على أساسِ ما تَفعلُهُ المحبَّة. وقد تَعَلَّمنا جوانبَ كَثيرة جدًّا للمحبَّة في مَعْرِضِ دِراسَتِنا للسِّمَاتِ الخمسَ عَشْرَةَ للمحبَّة في الأعداد 4-7. واسمَحوا لي أن أقرأَ هذهِ الآياتِ على مَسامِعِكُم. وأرجو أن تُتابِعوا النَّصَّ في أثناءِ قِراءَتي لَهُ: "الْمَحَبَّةُ تَتَأَنَّى وَتَرْفُقُ. الْمَحَبَّةُ لاَ تَحْسِدُ. الْمَحَبَّةُ لاَ تَتَفَاخَرُ، وَلاَ تَنْتَفِخُ، وَلاَ تُقَبِّحُ [أيْ لا تَتَصَرَّفُ بوَقاحَة]، وَلاَ تَطْلُبُ مَا لِنَفْسِهَا، وَلاَ تَحْتَدُّ، وَلاَ تَظُنُّ السُّوء، وَلاَ تَفْرَحُ بِالإِثْمِ بَلْ تَفْرَحُ بِالْحَقِّ، وَتَحْتَمِلُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتُصَدِّقُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتَرْجُو كُلَّ شَيْءٍ، وَتَصْبِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ". والآن، في هذه اللَّائحةِ البسيطةِ الَّتي تَحوي خَمْسَ عَشْرَةَ سِمَة، تَجِدونَ خُلاصَةَ تَعريفِ اللهِ الشَّخصيِّ [أوْ بالحَرِيِّ: وَصْفَ اللهِ الشَّخصيِّ] للمحبَّة.
ويُقالُ إنَّهُ في فِناءِ إحدى الكنائسِ في قَريةٍ إنجليزيَّةٍ قديمةٍ اسمُها "ليمينغتون" (Lemington) بإنجلترا، يُوجَدُ ضَريحٌ. والشَّيءُ الوَحيدُ المَكتوبُ على الضَّريحِ هوَ الكلماتُ التَّالية: "هُنا يَرْقُدُ إنسانٌ بائسٌ عَاشَ لنفسِهِ ولم يُبالي بأيِّ شَيءٍ سِوى جَمْعِ ثَروةٍ. أمَّا أينَ هُوَ الآن أو ماذا يَفعلُ فَلا أحدَ يَدري، وَلا أحدَ يُبالي". وعلى النَّقيضِ مِن ذلك، هُناكَ ضَريحٌ بَسيطٌ في كاتِدرائيَّة القدِّيس بولُس في لُندن كُتِبَتْ عَليهِ الكلماتُ التَّالية: "لِذِكرى الجِنرال تشارلز جورج غوردون (Charles George Gordon) الَّذي وَهَبَ في كُلِّ الأزمنةِ والأمكِنَةِ قُوَّتَهُ للضُّعَفاءِ، ومَالَهُ للفُقراءِ، وَتَعاطُفَهُ للمُتألِّمينَ، وقَلبَهُ لله".
إنَّهما ضَريحانِ مُتناقِضانِ تَمامًا. فحياةُ واحِدٍ مِنهُما تُظْهِرُ انعِدامَ الحُبِّ، وحَياةُ الآخَرِ تُظْهِرُ مَحَبَّةً. والحقيقةُ هي أنِّي أعتقدُ أنَّهُ في المُحَصِّلَةِ النِّهائيَّةِ لهذا كُلِّه فإنَّ الأشخاصَ الوحيدينَ الَّذينَ يُسهِمونَ حَقًّا في العَالَمِ هُمُ الأشخاصُ غيرُ الأنانِيِّين. أو بِعبارةٍ أخرى: إنَّ المَرَّاتِ الوحيدةَ الَّتي يُسْهِمُ فيها أيُّ شخصٍ هي عندما يَفعلُ شيئًا غيرَ أنانِيٍّ. فالأشخاصُ النَّافِعينَ حَقًّا في العالَمِ هُمُ الأشخاصُ الَّذينَ يُعْطونَ قُوَّتَهُم للضُّعَفاءِ، ومَالَهُم للفُقَراءِ، وتَعاطُفَهُم للمُتألِّمينَ، وقُلوبَهُم للهِ. فهذا هو ما تَفعلُهُ المَحبَّةُ.
ولا أدري ما الَّذي سَتَقولُهُ الكلماتُ المَنقوشَةُ على ضَريحي عن حَياتي! فأنا أُفَكِّرُ دائمًا في أنَّ أفضلَ فِكرةٍ هي أن تَفعلَ مَا فَعَلَهُ "بينجامين فرانكلين" (Benjamin Franklin) وأنْ تَكتُبَ بنفسِكَ الكلماتِ الَّتي ستُنقَشُ على ضَريحِك. ولكِنْ مِنَ المُؤكَّدِ أنَّهُ سيكونُ أمرًا مَأسويًّا أنْ يَعلَمَ النَّاسُ بعدَ مَوتِنا أنَّنا صَرَفْنا حَياتَنا بأسرِها في التَّباهي بأنانيَّتِنا. فلا يوجدُ شَيءٌ في حياةِ المُؤمِنِ أهَمُّ مِنَ المَحَبَّة. فهي كُلُّ شَيء. والسُّلوكُ في المحبَّةِ هو الشَّيءُ الَّذي يَسعى إليهِ الرُّوحُ القُدُسُ هُنا. ففي كنيسةِ كورِنثوس، لم يَكُن هذا يَحدُث. وقد كانَ يَنبغي أن يَحدُث. لِذا فإنَّهُ يُقَدِّمُ كلماتٍ قَويَّة هُنا. فقد حَصَلَ أهلُ كورِنثوس مِنَ الرَّبِّ على كُلِّ ما استَطاعَ أنْ يُقَدِّمَهُ لَهُم. فقد وَهَبَهُم الخَلاصَ، والرُّوحَ القُدُسَ، والرَّجاءَ في السَّماءِ، والضَّمانَ، والحَقَّ المُختصَّ بالعَقيدةِ السَّليمة، والمواهبَ الروحيَّةَ، والقادَةَ، والقُدُراتِ، والمُعَلِّمينَ، والبَرَكاتِ الغَنيَّة. وبالرَّغمِ مِن ذلكَ كُلِّه، كانوا أنانِيِّينَ وعَديمي المَحبَّة. فقد كانوا مُنغَمِسينَ في ذَواتِهم، وأنانِيِّينَ، ويَجرَحونَ بَعضُهُم بَعضًا بسببِ عَجْرَفَتِهم.
وَحَتَّى في مَجالِ مَواهِبِهم الروحيَّةِ الَّتي كانَتِ الغَايَةُ مِنْها هي أنْ يُفيدوا بَعضُهُم بعضًا إذْ إنَّ تلكَ المواهِبَ صُمِّمَتْ في الأصلِ كي تُستَخدَمَ لِخدمةِ الآخرين، فإنَّها صَارَتْ تُظْهِرُ أنانِيَّتَهُم، وتَكَبُّرَهُم، وَحُبَّ الظُّهورِ لديهم. لِذا فإنَّ الرُّوحَ القُدُسَ يَكتُبُ في مُنتَصَفِ المَقطعِ الَّذي يَتحدَّثُ عنِ المواهِبِ الروحيَّةِ هذا الأصحاحَ الرَّائعَ والعَظيمَ عنِ المحبَّةِ، ويُعَرِّفُ المَحبَّةَ لأنَّهُ بِدونِ مَحبَّة فإنَّ خِدْمَتَهُم بأسرِها هي مُجَرَّدُ ضَجيج، وخِدمَتَهُم بأسرِها هي لا شَيء. لِذا، يجب عليهم أن يَفهموا مَاهِيَّةَ المَحبَّةِ وكيفَ تَتصرَّف. وكما قُلتُ، هذا هُوَ وَصْفُ اللهِ الشَّخصيِّ للمحبَّة. وقد ذَكَرْتُ العَديدَ مِنَ الأمورِ في الأسبوعَيْنِ المَاضِيَيْن. واسمَحوا لي أن أذكُرَها بإيجازٍ شَديدٍ لكي تَفهموا بعضَ الأمورِ المُهِمَّةِ بخصوصِ هذهِ الآيات.
أوَّلاً، المَحبَّة لا تُوصَفُ إلَّا مِن خلالِ مُراقَبَتِها وهي تَعمَل. لَذا فإنَّ كُلَّ الكلماتِ المُستخدَمة هُنا هي أفعال. فالمحبَّة ليست شيئًا تُعَرِّفُونَهُ وَحَسْب، بل هي شَيءٌ تَفعَلُونَهُ. وهي تُوْصَفُ فقط مِن خِلالِ الأفعال. ثانيًا، المَحبَّةُ ليسَت شُعورًا أو مَوقِفًا، بل هي فِعْل. إذًا، أوَّلاً: المحبَّةُ تَوْصَفُ فقط مِن خِلالِ مُراقَبَتِها وَهِيَ تَعمَل. ثانيًا، المحبَّةُ ليست شُعورًا أو مَوقِفًا، بل هي فِعْل. ثالثًا، المحبَّةُ تُرَكِّزُ دائمًا على شَخصٍ آخر، لا عَلَيَّ أنا...لا عَلَيَّ أنا.
والآن، بعدَ أن عَرَفْنا هذهِ الأمورَ الثَّلاثة، يُمكِنُنا أن نَفهَمَ مَعنَى هذهِ الآيات. فهي تَتحدَّثُ عَمَّا تَفعَلُهُ المَحبَّةُ لا بالفاعِلِ، بل بالشَّخصِ الَّذي تُوَجَّهُ إليهِ هذه المحبَّة. وكما نَرى، فإنَّ بُولُسَ يَصِفُ المَحبَّةَ بِكُلِّ أجزائِها هُنا إذْ يَذكُرُ خَمْسَ عَشْرَةَ صِفَةً كَما لو أنَّ نُورَ المَحبَّةِ الإلهيَّةِ يَمُرُّ في مَنْشُورِ الكتابِ المقدَّسِ ويَتوزَّعُ إلى أجزائِهِ الرئيسيَّةِ فَتَرَوْنَ كُلَّ ألوانِ المَحبَّة. ويجب أن تَتذكَّروا أنَّ صُورةَ المَحبَّةِ هُنا هي صُورةُ يَسوعَ أيضًا لأنَّهُ المَحَبَّةُ المُتَجَسِّدَة.
والآن، لقد دَرسنا العَديدَ مِن هذهِ الصِّفات. واسمَحوا لي أن أَمُرَّ عَليها مُرورًا سَريعًا قبلَ أنْ نُتابِعَ مِنْ حيث تَوَقَّفنا في المَرَّةِ السَّابقة. فلننظُر إليها نَظرة سَريعة جدًّا ابتداءً مِنَ العَددِ الرَّابع إذْ نَجِدُ خَمْسَ عَشْرَةَ سِمَة للمَحبَّة؛ وهي جَميعُها تَصِفُ فِعْلَ المَحبَّة.
أوَّلاً، المَحبَّةُ تَتَأنَّى. وقد رأينا أنَّ مَا يَعنيهِ ذلك هو أنَّ المحبَّةَ تَصْبِرُ على النَّاسِ ولا يَنْفَدُ صَبْرُها. فهي، على سَبيلِ المِثالِ، قَلبُ الأبِ الَّذي كانَ يَنْتَظِرُ الابْنَ الضَّالَ ويَنتَظِرُ، ويَنتَظِرُ، ويَنتَظِرُ. وحَتَّى عندما يَئِسَ الجميعُ وَشَعَروا بالمَرارَةِ، بَقِيَتْ ذِراعاهُ مُفتوحَتَيْنِ لاستقبالِ الابنِ عندما رَجَعَ إلى البيت بِغَضِّ النَّظَرِ عَمَّا فَعَلَهُ. فالمحبَّةُ تَتأنَّى على النَّاس.
ثانيًا، المَحبَّةُ تَرْفُق. وقد رأينا أنَّ الكلمةَ الأصليَّةَ تَعني أنَّ المَحبَّةَ مُفيدةٌ للآخرين. فهي تَبْذُلُ نَفسَها لأجلِ الآخَرين.
ثالثًا، المَحبَّةُ لا تَحْسِد. فالمحبَّةُ لا تَغَارُ البَتَّة. وقد كانَ مُؤمِنو كُورِنثوس غَيورين. فقد كانَ هُناكَ رُوْحُ تَحَزُّبٍ بَينَهُم، وشِقاقاتٌ ونِزاعاتٌ. ولكِنَّ المَحبَّةَ لا تَصيرُ غَيورَةً البَتَّة لأنَّ المَحبَّةَ لا تَطلُبُ مَا لِنَفسِها. لِذا فإنَّها لا تَرغَبُ في الحُصولِ على ما لَدى الآخرينَ. وحيثُ إنَّها تُحِبُّ الآخرينَ مَحَبَّةً شَديدة فإنَّها تَفْرَحُ جدًّا حينَ تَرى أنَّ الآخرينَ يَملِكونَ ما يَملِكون.
رابعًا، لقد رأينا أنَّ المحبَّةَ لا تَتَفاخَر. وقد رأينا أنَّ الكلمةَ الأصليَّةَ تَعني هُنا: "يَتَبَجَّح". فالمحبَّةُ ليسَت تَبَجُّحًا، وليست كَلامًا مُتَبَجِّحًا عن إنجازاتِها. وحيثُ إنَّ المحبَّةَ تُبالي أكثر بكثير بأنْ يَحصُل الآخرونَ على التَّكريم، فإنَّ المحبَّةَ لا تَجِدُ الكَثيرَ لِتَقولَهُ عن نَفسِها. وقد أَصابَ "آرنولد بيتلينغر" (Arnold Bittlinger) بخصوصِ مُشكلةِ الكُورِنثيِّينَ حينَ قال: "المَحبَّةُ لا تَتَباهَى حَتَّى بالمُعجِزاتِ الحِسيَّةِ، أوِ الرُّؤى، أوِ النُّبوءاتِ، أو أيِّ شيءٍ آخر". ونحنُ نَرى ذلكَ يَحدُثُ حَتَّى في يَومِنا هذا. ولكِنَّ الافتِخارَ يَرْمي إلى جَعْلِ الآخَرينَ يَبدونَ أقَلَّ شَأنًا. أمَّا المَحبَّةُ فلا يُمكِنُ أن تَفعلَ ذلك.
خامِسًا، المَحبَّةُ لا تَنْتَفِخ. وقد رأينا أنَّ هذهِ الصِّفَة تُشيرُ إلى المَوقِفِ الداخليِّ الَّذي يَنْشَأُ عنِ الفَمِ المُتَبَجِّح. فالكلمة "فوسيئو" (phusioo) تَعني: "يَنْفُخ". وهذا هُوَ الجَذْرُ الَّذي اشتُقَّتْ مِنْهُ الكلمة "تَنْتَفِخ". فالنَّفْخُ يَعني، كما تَعلمونَ، أنْ تأخُذَ بَالونًا أو شَيئًا مَا وتَنْفُخَهُ. والكلمة تَعني ببساطَة: "يُبالِغ". وعندما يَكونُ شَخصٌ مَا "فوسيئو"، أيْ عندما يَكونُ شخصٌ مَا مُنْتَفِخًا، فإنَّهُ يَكونُ مُتَكَبِّرًا ويُبالِغُ في تَصويرِ نَفسِه. وعندما يُبالِغُ الإنسانُ في تَصويرِ نَفسِه، تَكونُ نَتيجَةُ ذلكَ كُلِّه هي أنَّ كُلَّ ذلكَ الهَواءَ السَّاخِنَ المَنفوخَ في الدَّاخِل سَيَخرُجُ خارِجًا. لِذا فإنَّ الشَّخصَ المَنفوخَ مِنَ الدَّاخِل سيَتَبَجَّح في الخَارِج. فهذانِ الأمرانِ يَسيرانِ جَنْبًا إلى جَنْبٍ.
حسنًا! النُّقطةُ السَّادسةُ الَّتي تَعَلَّمناها مِنَ العَددِ الخامِسِ هي أنَّ المَحبَّةَ لا تُقَبِّح. فالأشخاصُ الوَقِحُونَ هُم أشخاصٌ أنانيُّون. فَهُم يَقولون: "سأفعلُ ما أشاء بالطَّريقةِ الَّتي أشاء سَواءٌ أَحْبَبْتَ ذلكَ أَمْ لا". وهذه وَقاحَة. أمَّا المَحبَّةُ فلا يُمكِنُ أن تَكونَ وَقِحَة. بل إنَّ المحبَّةَ تأخُذُ بِعَيْنِ الاعتبارِ دائمًا مَشاعِرَ الشَّخصِ الآخَر، ورَدَّ فِعْلِهِ. لِذا فإنَّها لا تَتصرَّفُ أبدًا بِغيرِ لِياقَة. وهي لا تَتجاهَلُ أبدًا مَشاعِرَ الآخَرين، ولا تَحْتَقِرُ أو تَزدري أبدًا بمواقِفِ الآخرينَ وصِفاتِهم.
سابعًا، ونحنُ ما زِلنا نُراجِعُ ما سَبَق. وهذا هُوِ المِفتاحُ حَقًّا لهذا المَقطَعِ بأسرِه: "المَحبَّةُ لاَ تَطْلُبُ مَا لِنَفْسِهَا" [كَما جاءَ في العددِ الخامِس]. "المَحبَّةُ لاَ تَطْلُبُ مَا لِنَفْسِهَا". فالمحبَّةُ ليست أنانيَّة. ولكِنَّ أهلَ كورِنثوس كانوا، بِكُلِّ تأكيدٍ، أنانِيِّينَ جدًّا. وقد كانوا يَسْعَوْنَ فقط إلى تَعظيمِ أنفُسِهم وإرضاءِ أنفُسِهم. ولكِنَّ المحبَّةَ تَسعى إلى إرضاءِ وبُنيانِ الآخرين. فهي غيرُ أنانيَّة.
وقد خَتَمْنا دراسَتَنا في المَرَّةِ السَّابقةِ بالتَّحَدُّثِ عنِ السِّمَةِ الثَّامِنَةِ مِن هذهِ السِّماتِ المَذكورةِ في العددِ الخامِسِ: "المَحَبَّةُ لاَ تَحْتَدُّ". وقد رأينا أنَّ الكلمةَ "تَحْتَدُّ" تَعني حَرفيًّا: "تَهْتاجُ" أو "تَثورُ" أو "تَغضَب". فالمحبَّةُ لا تَحْتَدُّ. والمحبَّةُ لا تَهْتاجُ. والمحبَّةُ لا تَغضَبُ. والآن، قد تُسْتَخْدَمُ (أيْ أنَّ هَذهِ الكلمةَ قد تُستخدَمُ) بالمَعنى الإيجابيِّ لِوَصْفِ الغَضَبِ المُقدَّس. فعلى سَبيلِ المِثالِ، في سِفْرِ أعمالِ الرُّسُل 17: 16، نَقرأُ: "وَبَيْنَمَا بُولُسُ يَنْتَظِرُهُمَا فِي أَثِينَا احْتَدَّتْ رُوحُهُ فِيهِ، إِذْ رَأَى الْمَدِينَةَ مَمْلُؤَةً أَصْنَامًا". والآيةُ تَستخدِمُ نَفسَ الكلمةِ هُنا إذْ تَقولُ إنَّ رُوْحَهُ احْتَدَّتْ فيه. فقد انزَعَجَ، وتَضايَقَ، وغَضِبَ بسببِ عِبادَةِ الأصنام. وهذا غَضَبٌ مُقَدَّس. فقد غَضِبَ لأنَّهُ كانَ يُوجَدُ شَيءٌ يُهينُ اللهَ.
ولكِنَّ ما يَتحدَّثُ عنهُ بولسُ هُنا هو ليسَ هذا الغَضَب، بل هُوَ يَقولُ إنَّ المَحبَّةَ لا تَحْتَدُّ حينَ يُسيءُ إليكَ شخصٌ آخَر. فهو لا يَتحدَّثُ عن أنَّ اللهَ تَعَرَّضَ للإهانَةِ، ولا يَتحدَّثُ عنِ الدِّفاعِ عنِ الطَّبيعةِ المُقدَّسَةِ للهِ، بل يَتحدَّثُ ببساطَةٍ عنِ العَلاقاتِ الشخصيَّة. فالمحبَّةُ لا تَحْتَدُّ حينَ يُسيءُ إليها شخصٌ آخر. فهي لا تَتَضايَق، ولا تَغضَب. وقد تَحَدَّثنا عن ذلكَ بشيءٍ مِنَ التَّفصيلِ في المَرَّةِ السَّابقة.
ويَقولُ "وِليام باركلي" (William Barclay): "يُوجَدُ في هذا العَالَمِ نَوعانِ فقط مِنَ النَّاس: أولئكَ الَّذينَ يُفَكِّرونَ دائمًا في حُقوقِهم، وأولئكَ الَّذينَ يُفَكِّرونَ دائمًا في وَاجِباتِهم". وواجِبُكَ هُوَ أنْ تُحِبَّ. ويُمكِنُكم أن تُلَخِّصُوا ذلكَ في هذه النُّقطة. فالأمرُ بَسيطٌ. فإنْ كُنْتَ تَهْتاجُ أو تَثورُ بِسُرعة، أو إذا كُنتَ سَريعَ الغَضبِ، أو تَفْقِدُ أعصابَكَ بِسُرعة، أو تَفقِدُ سَيطَرَتكَ على نَفسِكَ بسُرعة، أو تَفقِدُ هُدوءَكَ بِسُرعة، فإنَّ السَّببَ في ذلكَ هُوَ أنَّكَ تَمتَلِكُ عَقليَّةً أنانيَّة. بعبارةٍ أخرى، إنَّ كُلَّ تَرْكيزِكَ يَنْصَبُّ على ذاتِك.
فقد تَقودُ سَيَّارَتَكَ في الطَّريق...وهذا مَثَلٌ تَوضيحيٌّ بَسيطٌ لأنَّنا جَميعًا اختَبَرْنا ذلك...فقد تَقودُ سَيَّارَتَكَ في الطَّريق. وهُناكَ مَسافَةٌ قَصيرةٌ بينَكَ وبينَ السيَّارَةِ الَّتي أمامَك. ثُمَّ إنَّ شَخصًا آخَرَ يَقْتَحِمُ الطَّريقَ أمامَك. أَتَرَوْن؟ وما الَّذي يَحدُث؟ إنَّكَ تَسْتَشيطُ غَضَبًا وتَقول: "هَذِهِ وَقاحَة!" لِماذا؟ وما الفَرْق؟ الفَرقُ هو أنَّكَ تُريدُ ذلكَ الجُزءَ مِنَ الطَّريق. "هذا لي!" أَتَرَوْن؟ فهذا هو المَوقِف. فقد تَعَدَّى شخصٌ مَا على حُقوقِك. والسَّببُ في غَضَبِكَ هو أنَّكَ تَمتلكُ عَقليَّةً تَقولُ إنَّكَ الشَّخصُ الوَحيدُ المُهِمّ. فَلا يَهُمُّ إنْ كانَ ذلكَ الشَّخصُ يُريدُ الذَّهابَ إلى مَكانٍ ما أيضًا، وأنَّ ما فَعَلَهُ كانَ الخِيارَ المُتاحَ أمامَهُ. أو رُبَّما تُلاحِظونَ ذلكَ عندما يَنْدَمِجُ مَسْرَبانِ في مَسرَبٍ واحِد في الطَّريق وتَرى شَخصًا يَقودُ سَيَّارَتَهُ بِسُرعة ويَدوسُ أكثر على دَوَّاسَةِ الوُقودِ كي يَسْبُقَكَ وَيَمنَعكَ مِنِ الاندِماجِ في الطَّريق. فكيفَ تَتصرَّفُ في مَوقِفٍ كهذا؟ هل تُمانِع؟ أَم أنَّكَ تُلاحِظ أنَّكَ ابتدأتَ تَغضَب؟ إنَّ ذلكَ يَتوقَّفُ على ما إذا كانت عَقليَّتُكَ أنانيَّة أَم غير أنانيَّة. فالأمرُ بهذهِ البَساطَة.
لِذا، عندما يَغضَبُ النَّاسُ، ويَتضايَقونَ، ويَنزعِجونَ، ويَقولونَ: "هذا حَقِّي"، أو: "لا يُمكِنُني أنْ أَضْبِطَ نَفسي" أو: "أَحوالي لا تَسْمَح". لا، إنَّها ليستِ الأحوال، بل هي عَقليَّتُكَ الَّتي تَقولُ لَكَ إنَّكَ مُهِمٌّ، وإنَّ حُقوقَكَ مُهِمَّة، وإنَّهُ لا يَجوزُ لأيِّ شَخصٍ أن يَتعَدَّى على حُدودِك. وإنْ تَعَدَّى أحدٌ على منطِقَتِكَ أو تَعَدَّى على حُقوقِكَ فإنَّهُم يُثيرونَ ذلكَ الغَضَبَ فيكَ لأنَّكَ تُفَكِّرُ أصلاً في أنَّكَ تَمْتَلِكُ تلكَ الحُقوق. ولكِنْ عندما لا تُفَكِّر في حُقوقِكَ، بل في وَاجِباتِكَ، لن تَجِدَ مُشكلةً في ذلك. فسوفَ يُسيءُ النَّاسُ إليكَ المَرَّةَ تِلوَ الأخرى فيكونُ رَدُّكَ هُوَ: "حيثُ إنَّ واجِبي هو أن أُحِبَّهُم، فإنَّ هذه فُرصَة رائعة أخرى".
وإذا نَظرتُم إلى الرَّسولِ بولُس، مَثَلاً، سَتَرَوْنَ رَجُلاً لم يَنتَقِم لنفسِهِ يَومًا. لماذا؟ لأنَّهُ لم يَنظُر يَومًا إلى نَفسِهِ كشخصٍ يَمْلِكُ أيَّ حُقوق. فهو لم يَنتقِم لنفسِه. والشَّيءُ الوحيدُ الَّذي كانَ يُغضِبُ بولُس هو الأشياءُ الَّتي تُغضِبُ اللهَ. فقد كانَ يُدافِعُ عن بِرِّ اللهِ، ولكنَّهُ لم يَلْعَنِ النَّاسَ الَّذينَ رَجَموه. وهو لم يَغضَب مِنَ الأشخاصِ الَّذينَ كانوا يَقِفونَ في طَريقِهِ عندما كانَ يُحاولُ أن يَعِظَ عِظَةً. وهو لم يُوَبِّخْ شخصًا زَجَّ بِهِ في السِّجن. وهو لم يَقُل يَومًا كلماتٍ نَابِيَةً عنِ اليهودِ الَّذينَ تَسَبَّبوا في النِّهايةِ في سَجنِه. وهو لم يَلعَن يَومًا النَّاسَ الَّذينَ اعتَقلوهُ وقَيَّدوهُ بالسَّلاسِل في رُوما. لماذا؟ لأنَّهُ لم يَنظُر يَومًا إلى أيِّ شخصٍ كما لو كانَ شخصًا انتَهَكَ حُقوقَهُ لأنَّهُ لم يَنظُر يَومًا إلى أيِّ شَيءٍ كَحَقٍّ مُكتَسَب، بل كانَ يَنظُرُ إلى واجِبِهِ. والواجبُ دائمًا هو أن تُحِبَّ.
ولكِن في كنيسةِ كورِنثوس، إذا فَعلتَ أمرًا واحدًا يُسيءُ إلى أخٍ كورِنثيٍّ (ويَكفي أن تَنظروا إلى الأصحاحِ السَّادِسِ) فإنَّكَ سَتَجِدُ نَفسَكَ في المَحكمةِ لأنَّه سَيَرفَعُ دَعوى ضِدَّكَ. فقد كانوا مُنْهَمِكينَ في الدِّفاعِ عن حُقوقِهم. وكما تَرَوْنَ، فإنَّ المَحبَّةَ تَحتَمِلُ الإساءاتِ الَّتي تُوَجَّهُ إليكَ مِنْ قِبَلِ الآخرينَ بِدونِ أيِّ هَيَجانٍ لأنَّ المحبَّةَ ليسَت أنانيَّة. وهي لا تأخُذُ الجانِبَ الدِّفاعِيَّ. فهي لا تُدافِعُ عن نَفسِها.
والآن، أنا لا أقولُ إنَّهُ ينبغي لكَ أن تَكونَ شخصًا عَديمَ الحِسِّ بطريقة سَخيفة. فإنْ كانَ هُناكَ سُلوكٌ عُدوانِيٌّ، يجب أن تَشعُرَ بِهِ. وهذا مِنْ حَقِّكَ تَمامًا. فَمِنَ الطَّبيعيِّ أن تكونَ مُرْهَفَ الحِسِّ وأنْ تَشعُرَ ببعضِ الألم. ولكِنْ إنْ كانت رَهافَةُ الحِسِّ تلكَ تُثيرُ حَفيظَتَكَ، وتُزعِجُكَ، وتُغضِبُكَ، وتَجعَلُكَ تَفقِدُ السَّيطرةَ على نَفسِكَ فإنَّ ذلكَ ليسَ سُلوكًا مَسيحيًّا. وأنا أُوْمِنُ بِحَقّ، يا أحبَّائي، بأنَّ واحدًا مِن أهمِّ الأسبابِ المُؤدِّيَةِ إلى الأمراضِ العَقليَّةِ والأمراضِ النَّفسيَّةِ، ولا سِيَّما في مُجتمعِنا، هو أنَّ كُلَّ شَخصٍ يَقِفُ في وَجْهِ الآخَرينَ ويُزاحِمُهم دِفاعًا عن حُقوقِهِ. ويجب أن تَعلَموا أنَّ هذا لا يُفيدُ البَتَّةَ مَعِدَتَكَ وَلا أيَّ أجزاءٍ أُخرى مِن جَسَدِك. فهذا مُؤذٍ. فكُلُّ شخصٍ يُدافِعُ عن حُقوقِهِ عَوِضًا عن أن يَبحثَ كُلُّ شخصٍ عن فُرَصٍ مُتاحَةٍ للقيامِ بِما تُمليهِ عليهِ المَحبَّة.
وأنا لا أَعني أنَّهُ لا يَجوزُ لكَ أنْ تَحْتَدَّ على بعضِ الأمور. فكما قُلتُ في الأسبوعِ الماضي، هُناكَ مُؤمِنونَ يَنبغي أن يَحْتَدُّوا؛ وإلَّا فإنَّهم لن يَفعلوا أيَّ شَيءٍ لمُقاومةِ إبليس. ولكِنْ في الوقتِ نَفسِه، لا مَعنى للغَضَبِ بَعضُكم مِن بَعض. ولا مُبَرِّرَ للغَضَبِ وفُقدانِ أعصابِكَ بسببِ شيءٍ فَعَلَهُ الآخرونَ أو قالوهُ عنكَ لأنَّ ذلكَ سَيُسَمِّمُ المَحبَّة.
لقد قالَ "غراندڨيل ووكر" (Grandville Walker): "المَحبَّةُ هي العِلاجُ الوحيدُ للهَيَجان لأنَّ الهَيجانَ هو شَكلٌ آخرُ وَحَسْب مِن أشكالِ الأنانيَّة. والمحبَّةُ الَّتي تَجعلُ الإنسانَ يَنظُرُ إلى خَارِج نَفسِهِ ويُرَكِّز فِكْرَهُ وَنَواياه على خَيْرِ الآخَرينَ هي العِلاجُ الوحيد" [نِهايةُ الاقتباس]. وكُلَّما عَجَّلْتَ في إدراكِ أنَّ الشَّيءَ المُهِمَّ هو الآخرون، قَلَّتِ المشاكِلُ الَّتي يُمْكِنُ أن تَحدُثَ بسببِ التَّعَدِّي على حُقوقِك. لِذا فإنَّ المَحبَّةَ لا تَحْتَدُّ، ولا تَثورُ، ولا تَغْضَب.
والآن، لِنَنظُر إلى السِّمَةِ التَّاسِعَة. وسوفَ نَبتَدِئُ مِن حيث ينبغي أنْ نُكمِل في هذا الصَّباح. السِّمَة التَّاسِعَة مَذكورة في العددِ الخامِس...في نِهايةِ العَدد: "المَحَبَّةُ لا تَظُنُّ السُّوءَ". وهل تُريدونَ أن تَعلموا شَيئًا عنِ المحبَّة؟ هذا هو ما تَعنيهِ هذهِ الكلمة المَذكورة هُنا. فالعِبارَةُ الحَرفِيَّةُ "لا تَظُنُّ السُّوءَ" هي تَرجمة للكلمة اليونانيَّة "لوغيتزوماي" (logizomai). وتلكَ الكلمة هي كلمة تُستخدَمُ في مَجالِ المُحاسَبَة، وهي تَعني حَرفيًّا: "يَحْتَفِظ بالحِسابات". فهي كلمة تُستخدَمُ في الحِساباتِ وَمَسْكِ الدَّفاتِر. والسَّببُ في أنَّكَ تُدَوِّنُ الحِساباتِ في دَفاتِرِ المُحاسَبَةِ هو أن تَتجنَّبَ نِسيانَها. أليسَ كذلك؟ ولأنَّها أمورٌ مُهمَّة. وما يَقولُهُ هُنا هو إنَّ المَحبَّةَ لا تَحْتَفِظُ بِسِجِلٍّ بالإساءاتِ الَّتي وُجِّهَتْ إليها. فالمحبَّةُ لا تَحتَفِظُ بِسِجِلٍّ مَفتوحٍ لكُلِّ إساءة اقْتُرِفَتْ بِحَقِّها. والمَعنى المَقصودُ هو أنْ تُحاسِبَ شَخصًا على خَطأٍ أو شَرٍّ أو إساءَة. فالمحبَّةُ تَغفِرُ وَتَنسَى.
وقد قالَ يُوحَنَّا فَمُ الذَّهَب (Chrysostom)، وَهُوَ أحدُ آباءِ الكنيسةِ البَاكِرَة، قالَ كلماتٍ جَميلة عن ذلك: "المَحبَّة تُشبِهُ شَرارةً تَسقُطُ في البَحرِ وَتَنطَفِئ. فعندما تَسْقُطُ إساءة على مُؤمِنٍ مُحِبٍّ فإنَّها تَغرَقُ فيها بِكُلِّ تأكيد". وهكذا يَنبغي أن يَكونَ الأمرُ. فينبغي أن تَغرَقَ الإساءَةُ في بَحْرِ المَحبَّة.
ولتوضيحِ الفِكرةِ هُنا، يَكفي أن تَنظُروا إلى الكلمة "لوغيتزوماي". وأنا أَذكُرُ هذهِ الكلمة لأنَّ بَعضًا مِنكُم سيَبحَثُ عنها في المَعاجِمِ. ولكِنَّ الكلمة تَرِدُ بصيغةِ الفِعلِ، وهي تُستخدَمُ في العهدِ الجديدِ للإشارةِ إلى غُفرانِ اللهِ. لِذا، كما أنَّ اللهَ لا يَحْتَفِظ بِسِجِلٍّ لخطايانا، يجب علينا نحنُ أيضًا أَلَّا نَحتفِظَ بأيِّ سِجِلَّاتٍ لإساءاتِ الآخرين. والحقيقةُ هي أنَّ الكلمة "لوغيتزوماي" تُتَرجَمُ في العهدِ الجديدِ: "يَحْسِب". وهي تُستخدَمُ في آياتٍ كثيرة. انظُروا مَعي قَليلاً إلى رسالة رُومية 4: 8. ففي رسالة رُومية 4: 8، نَقرأُ مَا يَلي: "طُوبَى لِلرَّجُلِ..." [ولا شَكَّ أنَّ هذهِ الآيَة مُقْتَبَسَة مِنَ المَزمور 32] "طُوبَى لِلرَّجُلِ الَّذِي لاَ يَحْسِبُ لَهُ الرَّبُّ خَطِيَّةً". والآن، اسمَعوني: "طُوبَى لِلرَّجُلِ [بِلُغَةِ رِسالة كورِنثوسَ الأولى والأصحاح 13] الَّذي لا يَحْتَفِظُ الرَّبُّ بِسِجِلٍّ لِشُرورِه".
فالنَّاسُ يَقولون: "ذاتَ يَومٍ، عندما نَذهبُ إلى السَّماءِ، سوفَ تُفْتَحُ سِجِلاَّتُ شُرورِنا". لا! فَلا يوجد سِجِلٌّ كهذا. "طُوبَى لِرَجُل لاَ يَحْسِبُ لَهُ الرَّبُّ خَطِيَّةً". فلا يوجد شَيءٌ مَكتوبٌ في السِّجِلّ. ففي السِّجِلِّ الخاصِّ بِـ "جون ماك آرثر"، إنْ فَتَحْتُهُ سَأجِدُ كلمةً واحدةً فقط مَكتوبة وهي: "بَارٌّ". وسوفَ يُغْلَقُ السِّجِلُّ ويوضَعُ في المَلَفّ. فلا يوجد سِجِلّ. لماذا؟ لأنَّ الرَّبَّ لا يُضيفُ حِسابيًّا خَطايانا. وَهُوَ لا يَحْتَفِظُ بسِجِلٍّ للخَطايا. وهذا حَقٌّ عظيم. وأنا مَسرورٌ بذلك. وماذا عنكُم؟
ونَقرأُ في رسالةِ كورِنثوسَ الثَّانية 5: 19 الرَدَّ التَّالي على ما جاءَ في العَدد 18: "أَيْ إِنَّ اللهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحًا الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ..." والآن لاحِظوا: "...غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ". بعبارة أخرى، بالنِّسبةِ إلى الأشخاصِ الَّذينَ يُؤمِنونَ بالمسيح، لا يَحْتَفِظُ اللهُ بِسِجِلٍّ لِشُرورِهم. فاللهُ لا يَحتَفِظُ بأيِّ حِسابات. واللهُ لا يَظُنُّ السُّوءَ فيهم. وهذه حقيقة عَظيمة. فاللهُ لا يَحْسِبُ أيَّ خَطيَّة على المُؤمِن. وقد تَقول: "حسنًا! ولكِنْ ما الشَّيءُ المَكتوبُ في ذلكَ السِّجِلّ؟" كما قُلتُ، فإنَّنا نَجِدُ الجَوابَ في رِسالةِ رُومية 4: 6: "كَمَا يَقُولُ دَاوُدُ أَيْضًا فِي تَطْوِيبِ الإِنْسَانِ الَّذِي يَحْسِبُ لَهُ اللهُ [ماذا؟] بِرًّا". بِرًّا. ونَقرأُ في العدد 22 مِن رِسالة رُومية والأصحاحِ الرَّابِع: "لِذلِكَ أَيْضاً: حُسِبَ لَهُ بِرًّا". وفي رِسالة يَعقوب 2: 23، نَقرأُ الشَّيءَ نَفسَهُ: "فَآمَنَ إِبْرَاهِيمُ بِاللهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرًّا". بِعبارة أخرى، فإنَّ اللهَ يَحْتَفِظُ فقط بِسِجِلِّ البِرِّ، لا الشَّرِّ. وهذه فِكرة رائعة. فاللهُ لا يُضْمِرُ أيَّ امْتِعاض.
اسمَعوني: لقد أَخطأنا إلى اللهِ. هَل أخطأتَ إلى اللهِ بعدَ إيمانِك؟ هل فَعلتَ ذلك؟ أنا فَعلتُ ذلك. وأنا أفعلُ ذلكَ دائمًا. ولكِن هل تَعلمونَ شَيئًا؟ إنَّهُ لا يَقول: "لقد مَلَلْتُ مِن هذا يا ماك آرثر، وسوفَ أبتدئُ في تَدوينِ خَطاياكَ إنْ لم تَنْصَلِح". لا، إنَّهُ لا يَقولُ ذلك. فهو لا يَحتفِظُ بأيِّ سِجِلَّاتٍ. فهُناكَ غُفرانٌ تَامٌّ. والسَّببُ في ذلكَ هو أنَّهُ يُحِبُّنا. أليسَ كذلك؟ فاللهُ يُحِبُّنا مَحَبَّةً فَائقةً حَتَّى إنَّهُ لا يَحتَفِظُ بِسِجِلٍّ لخطايانا، بل يَغفِرُها لنا كُلَّها ويَستمرُّ في غُفرانِها وغُفرانِها وغُفرانِها. ولكِنَّ الامتِعاضَ يَجعَلُنا نَحْتَفِظُ بِسِجِلٍّ لإساءاتِ الآخرين. وما أكثرَ ما نَفعلُ ذلك! فنحنُ نَحتفِظُ بالسِّجلَّاتِ وَنُطيلُ التَّفكيرَ فيها، ونَقرأُها، ونُعيدُ قِراءَتَها، ونأخُذُ إساءَةً صَغيرَةً قامَ بِها أحدُ الأشخاصِ ونُضَخِّمُها ونَجعَلُ مِنها إسَاءَةً كبيرةً جدًّا. ولكِنَّ اللهَ مَحَبَّة. واللهُ يَكتُبُ كلمةً واحدةً فقط في سِجِلِّهِ وَهي الكَلِمَة: "بَارّ".
ويَحكي أحدُ الكُتَّابِ أنَّهُ في "پولينيزيا" (Polynesia)، في بعضِ الجُزُر، وَجَدَ سُكَّانًا أَصليِّينَ يَصرِفونَ وقتًا طَويلاً مِن حَياتِهم في الحَربِ والقِتال. وقد اعتادَ كُلُّ رَجُلٍ أن يَحتَفِظَ بِأشياءٍ تُذَكِّرُهُ بِكراهِيَّتِه. لِذا فإنَّهُمْ يُعَلِّقونَ في سَقفِ أكواخِهِم، في جَميعِ أرجاءِ الكُوخِ، يُعَلِّقونَ أشياءً. وكُلُّ شَيءٍ مِن تلكَ الأشياءِ الصَّغيرةِ يُمَثِّلُ شَيئًا يَخُصُّ شخصًا فَعَلَ شَيئًا جَعَلَهُم يَكرَهونَهُ. وقد تَقول: "هَذا مُريع!" وبالرَّغمِ مِن ذلك، هل تَتَخَيَّلونَ ذلكَ في مُجتمَعِنا؟ أيْ أنْ يُزَيِّنَ كُلُّ شخصٍ مَنزِلَهُ بأشياءٍ كهذه؟ ولكِنَّنا لا نُجانِبُ الصَّوابَ إنْ قُلنا إنَّ أغلبيَّةَ أذهانِنا تَحْوي أمورًا كهذه. وهذا أمرٌ لا نُحِبُّ أنْ نَعتَرِفَ بِهِ، ولكِنِّي أَخشى أنَّهُ صَحيح.
ولكِنَّ المحبَّةَ لا تَحْتَفِظُ أبدًا بذِكرياتٍ عن إساءاتِ الآخرين، بل إنَّ المحبَّةَ تَنسى بسُرعة، وتَصْفَحُ عن إسَاءاتِ الآخرينَ، وتُرَكِّزُ على حَقيقةِ أنَّ اللهَ يُحِبُّهُم. والمحبَّةُ تَتَرَدَّدُ في تَصديقِ أيِّ إشَاعَة. والمحبَّةُ تَغفِرُ دائمًا. والمحبَّةُ لا تَحْتَفِظُ بِسِجِلٍّ للإساءات، ولا تَحْتَدُّ [كما رَأينا]، ولا تَمْتَعِض. فهذه هي المَحبَّة. فهل تُحِبُّونَ هَكذا؟ فهكذا أَحَبَّ يَسوعُ. وهَكذا ينبغي لنا أن نُحِبَّ.
ثُمَّ إنَّ بولسَ يَذكُرُ لنا السِّمَةَ الثَّامِنَةَ مِنَ السِّماتِ الَّتي تَبتدئُ بصيغةِ النَّفيِ في هذهِ اللَّائحةِ هُنا. لاحِظوها: "المَحَبَّةُ لاَ تَفْرَحُ [بِماذا؟] بِالإِثْم" في العَددِ السَّادِس. "المَحَبَّةُ لاَ تَفْرَحُ بِالإِثْم". والكلمة "إثْم" تُشيرُ ببساطَةٍ إلى عَكْسِ البِرِّ. وهي كلمة تُشيرُ إلى الخطيَّة. فالمحبَّةُ لا تَفرَحُ بالخطيَّة. ويُمكِنُنا أن نَتحدَّثَ عن ذلكَ بطُرُقٍ كثيرة لأنَّ هُناكَ طُرُقًا كثيرةً جدًّا يَفرَحُ النَّاسُ فيها بالخطيَّة. وواحِدَةٌ مِنها تَتَمَثَّلُ في أنَّ هُناكَ أُناسًا يَفرحونَ بخطيَّتِهِم ظَنًّا مِنهُم أنَّهُم سَيَنْجُونَ بِأفعالِهم تلك. "أتَدري ماذا فَعلتُ؟ لقد فَعلتُ كَذا". هل سَمِعتُم يَومًا أُناسًا يَتباهُونَ بخطيَّتِهم؟ لقد ذَهبتُ إلى صَالونِ الحِلاقَةِ في هذا الأسبوع فجاءَ رَجُلٌ وَجَلَس. وكانَ شخصًا مُهَلْهَلَ الشَّخصيَّة، ولكِنْ على أيِّ حَالٍ، لقد جاءَ وجَلَس. قالَ الحَلاَّقُ لَهُ: "عندما أَراكَ أُفَكِّرُ دائمًا في شَيئَيْن". فقد رَحَّبَ بِهِ أوَّلاً ثُمَّ قالَ لَهُ: "عندما أَراكَ أُفَكِّرُ دائمًا في شَيئَيْن: الجِعَّة والسَّجائر". ضَحِكَ ذلكَ الرَّجُلُ وقال: "أجل، هذا أنا. جِعَّة وَسَجائر. ولكِنَّكَ نَسَيْتَ شَيئًا آخَرَ". فقال: "وما هُوَ؟" قال: "النِّساء". أَتَرَوْن؟
وقد كُنتُ جالِسًا هُناكَ فيما كانَ يَقُصُّ شَعرَهُ. فقالَ ذلكَ الشَّخص: "هذا هُوَ أهَمُّ شَيءٍ". أَتَرَوْن؟ وقد راحَ يَتحدَّثُ مُدَّةً تَزيدُ عنِ النِّصفِ سَاعَة عن جَميعِ أصنافِ النِّساءِ اللَّاتي يَلتَقيهِنَّ في الحَاناتِ، وعن كُلِّ الأمورِ الَّتي تَجري. وقد كُنتُ أجلِسُ هُناكَ بِصَمْتٍ مُطْبِق. وكَما تَعلمونَ، كُلَّما زَادَ نُمُوُّ شَعري، انكَشَفَتْ أُذُنايَ أكثر. ولم أَكُنْ أَعلمُ إلى مَتى يُمكِنُني أنْ أحتَمَلِ سَماعَ ذلكَ الحَديث. أتَفهمونَ قَصدي؟ وكانَ ابني "مارك" (Mark) البالِغ مِنَ العُمرِ ثَماني سَنواتٍ يَجلِسُ في ذُهول. وكانَ يَستمرُّ في النَّظَرِ إليَّ كي يَطْمَئِنَّ على أحوالي...كما تَعلمون!
وأخيرًا، بعدَ وقتٍ طَويلٍ مِنَ الاستماعِ إلى هذا الرَّجُلِ الَّذي كانَ فَرِحًا بإثمِهِ، شَعَرْتُ بالغَثَيان. وقد كانَ النَّاسُ يَضحَكونَ، ولكنِّي لم أتمكَّن مِنَ الضَّحِك لأنِّي لم أكُن أستمتِعُ بما يَجري. فالشَّيءُ الوَحيدُ الَّذي شَعَرْتُ بِهِ تُجاهَ ذلكَ الرَّجُل هُوَ الألم لأنِّي أَعلَمُ العَواقِب. وأخيرًا، قالَ الشَّخصُ الَّذي كانَ يَقُصُّ شَعري: "ما هُوَ عَمَلُك؟" وقد كانَ ذلكَ واضِحًا مِن خِلالِ صَمْتي المُطْبِق طَوالَ عِشرينَ دَقيقة. قُلتُ: "هُناكَ شَيءٌ واحِدٌ لا أَفعَلُهُ وَهُوَ التَحَدُّثُ هَكذا". ثُمَّ قُلتُ: "أمَّا الشَّيءُ الَّذي أَفعَلُهُ فهو أنِّي أَرْعَى كَنيسة". حِينئذٍ، سَمِعْتُ المَقَصَّ يُصْدِرُ صَوْتًا غَريبًا! ثُمَّ إنَّهُ قال: "يا للهَول! يا للهَول!"
وقد شَعرتُ بالحُزنِ في قَلبي لأنِّي لا أستطيعُ أن أَفرَحَ بالإثم...حَتَّى إثْمِ ذلكَ الرَّجُل. ولكِن اسمَحوا لي أن أقولَ لكم شَيئًا مُدهشًا: هُناكَ طَريقة للفَرَحِ بالإثم وهي أن تَتَباهَى بخطيَّتِك. وقد تَقول: "مِنَ المُؤكَّدِ أنَّ المُؤمِنينَ لن يَفعلوا ذلك". بَلى، لقد فَعلوا ذلك". وهل تَعلمونَ مَنْ فَعَلَ ذلك؟ الكُورِنثيُّون. اقرأوا الأصحاحَ الخامِس. أجل. فقد كانوا يَقترِفونَ الزِّنَى...زِنَى المَحارِم... ويَتباهونَ بذلك. أليسَ كذلك؟ رسالة كورِنثوس الأولى 5: 2. فقد كانوا يَفتخرونَ حَرفيًّا بذلك ويَتَباهونَ بذلك.
وهذا يُذَكِّرُني دائمًا بِقِصَّة "إيرنست هيمنغواي" (Ernest Hemingway). وقد كانت هُناكَ مَقالَة...فقد كَتَبَتْ مَجَلَّةُ "إتيرنتي" (Eternity Magazine) سِلسلةً عنه. وقد كانت هُناكَ مَقالة يَقولُ فيها: "يُمكِنُكَ أن تُخطئ وأن تَنجو بِفِعلَتِك". ثُمَّ إنَّهُ يَقول: "إنَّ الفِكرةَ القديمةَ المُتَحَفِّظَةَ بِخثصوصِ الخَطيَّةِ، أو إنَّ نَظرةَ الفِكتوريِّينَ أوِ الأُصوليِّينَ القائلة إنَّ هُناكَ عَواقِبَ للخطيَّة هي مُجَرَّدُ هُراء. وهيمنغواي دَليلٌ حَيٌّ على أنَّهُ يُمكِنُكم أن تُخطِئوا وأن تَنْجو بِخَطيَّتِكُم". وقد كانَ يُحِبُّ الخطيَّةَ بِشِدَّة ويَرمي نَفسَهُ بينَ أحضانِها. وبعدَ عَشْرِ سِنين، إلى اليومِ الَّذي كُتِبَتْ فيهِ تلكَ المَقالة، تَلَقَّى رَصاصَةً فَجَّرَتْ دِماغَهُ. فأنتَ تَفرَحُ بالخطيَّةِ فَترةً مَحدودةً وَحَسْب. ولكِن هُناكَ مَنْ يَرغَبونَ في القيامِ بذلكَ، ويَظُنُّونَ أنَّ هذا هو الشَّيءَ الَّذي يَنبغي أن يَفعلوه، وأنَّهُ يُثْبِتُ رُجولَتَهُم، وأنَّهُ يَجعَلُهُم مُحَصَّنين، وأنَّهُم أكبرُ مِنَ الله. أتَرَوْن؟ فكأنَّها عُقْدَةٌ مِنَ الله. وهذا جَانِبٌ واحدٌ.
أمَّا الجانِبُ الآخرُ فهو أن تَفرَحَ بإثمِ شخصٍ آخر لأنَّكَ لا تَفعلُ ذلك. وهذا يَجعَلُكَ تَبدو كما لو أنَّكَ قِدِّيس. هل فَهِمتُهم قَصدي؟ فأنا أُفَكِّرُ دائمًا...حسنًا لنأخُذِ الصُّحُفُ على سَبيلِ المِثال. فَمَبيعاتُ الصُّحُفِ تعتَمِدُ على سَرْدِ قِصَصِ الإثم. أليسَ كذلك؟ فهي قِصَصُ الإثْمِ الَّتي تَسرُدُها صَحيفةُ "لوس أنجليس"، أوْ قِصَصُ الإثْمِ الَّتي تَسرُدُها صَحيفةُ "هيرالد". فأنتَ تَفتَحُ الصَّحيفةُ فتَجِدُ العُنوانَ الرَّئيسيَّ يَتحدَّثُ عن أنَّ فُلانًا هَجَرَ زَوجَتَهُ، وعن حادثةِ اغتِصابٍ، وأنَّ فُلانًا ارتَكَبَ جَريمةً، وأنَّ فُلانًا قَتَلَ، وأنَّ هُناكَ قِصَّةً جِنسيَّةً في البيتِ الأبيض، وأنَّ هذا حَدَثَ هُنا، وذاكَ حَدَثَ هُناكَ، وأنَّ هُناكَ فَسادًا هُنا، وفَسادًا هُناكَ. ونحنُ المُؤمِنونَ نَميلُ إلى القَول: "هذا مُقَزِّز! هَا هُم يَفعلونَ ذلكَ مَرَّةً أخرى". ونحنُ نَجلِسُ مُتَظاهِرينَ بالتَّقوى. وما نَفعَلُهُ حَقًّا هو أنَّنا نُقنِعُ أنفُسَنا بأنَّنا قِدِّيسونَ حَقًّا لأنَّنا لا نَفعلُ ذلك، وأنَّهُ مِنَ الجَميلِ أن يَفعلَ شخصٌ آخرُ ذلك لأنَّهُ يُعطينا مِعيارًا نُقارِنُ أنفُسَنا بِه. وهذا فَرَحٌ بالإثم.
وقد رأيتُ ذلكَ يَحدُثُ في حَالَةِ طَلاق. فقد يَرغبُ شخصانِ بالطَّلاق. وقد يكونُ الشَّخصانِ مُؤمِنَيْن أحيانًا ولا يُوجدُ لديهِما أيُّ سَبَبٍ للطَّلاق. وما أعنيه هو أنَّهُ لا يوجدُ سَبَبٌ كِتابِيٌّ كالزِّنَى. ولكنَّهُما يُريدانِ الطَّلاق. ثُمَّ إنَّ واحِدًا مِنَ الزَّوجَيْنِ يُدرِكُ في أثناءِ دَرسٍ للكِتابِ المُقدَّسِ، أنَّ هُناكَ سَبَبًا واحدً فقط للطَّلاق وَهُوَ الزِّنَى؛ ولكِنْ لا يُوجَد زِنى. لِذا فإنَّهُما في وَرْطَة، وَلا يُمْكِنُهُما أن يَتزوَّجا مَرَّةً أخرى. لِذا فإنَّ كُلًّا مِنهُما يَأمُلُ في أن يُقْدِمَ الشَّريكُ الآخَرُ على الزِّنى. وقد رأيتُ ذلكَ يَحدُثُ مَرَّاتٍ كثيرة جدًّا يَصْعُبُ عَليَّ سَرْدُها. ويُمكِنُكم أن تَعرِفوا ذلك. فقد تَقولُ الزَّوجَة: "الحقيقةُ هي أنِّي لا أدري إنْ كانَ زَوجي قد خَانَني". ثُمَّ عندما يَخونُها، أو تَظُنُّ أنَّهُ قد خَانَها، فإنَّكَ تَتَلَقَّى مُكالمةً هاتفيَّةً مِنها تَقولُ فيها: "اسمَع، لقد تَبَيَّنَ لي أنَّهُ خَانَني. فقد زَنَى". أَتَرَوْن؟ "أنا حُرَّةٌ الآن". أَتَرَوْن؟ كأنَّها كانت تُصَلِّي قَائِلةً: "يا رَبُّ، سَاعِدْهُ على أن يَزني".
وقد تَقولون: "هل يَحْدُثُ هَذا حَقًّا؟" أجل، إنَّهُ يَحْدُث. وقد حَدَثَ مَرَّاتٍ عَديدة في أثناءِ خِدمَتي إذْ إنَّكَ تَرى تلكَ الرَّغبة العَميقة في حُدوثِ ذلكَ الزِّنَى لكي يَكونَ لَديكَ سَبَبٌ مَشروعٌ للزَّواجِ مِن شخصٍ آخر. وهذا مَثَلٌ واحدٌ فقط.
فقد تَفرَحُ بالإثمِ بأنْ تَتَمَنَّى أن يُخطِئَ شخصٌ آخر أو تَفرَحُ أنَّ شخصًا آخرَ قد أخطأَ كي تَظهَرَ أنتَ بِمَظهَرٍ أفضل. أو قد تَسْتَمْتِعُ بالشُّعورِ بالحَصانَةِ مِنَ العَواقِبِ حينَ تَقتَرِفُ خَطِيَّةً. وحَتَّى إنِّي سَمِعتُ مُؤمِنينَ يَقولونَ لي: "لقد مَضَى على اقترافي لهذهِ الخطيَّةِ وقت طَويل، واللهُ لم يَفعل شَيئًا لِمُعاقَبَتي حَتَّى الآن". ولكِنَّ الفِكرةَ بأنَّ اللهَ يُمْهِلُ وَلا يُهْمِلُ هي فِكرة كِتابِيَّة. فلا يُمكِنُكَ أن تَفرَحَ بالإثم إنْ أردتَ. أتَدري لماذا؟ أوَّلاً، لأنَّ الإثمَ يُهينُ اللهَ. وإنْ كُنتَ تُحِبُّ اللهَ فإنَّكَ لن تَرغَبَ في أنْ يُهَان. أليسَ كذلك؟
فما المَعنى الَّذي تَفهَمُهُ مِنَ المَزمور 69: 9 حينَ قالَ دَاوُد: "وَتَعْيِيرَاتِ مُعَيِّرِيكَ وَقَعَتْ عَلَيَّ"؟ لقد قَصَدَ أنَّهُ عندما تُهانُ أنتَ، فإنِّي أَحْزَن. فلا يُمكِنُكَ أن تَفرَحَ بالخطيَّةِ الَّتي تُهينُ اللهَ. فهذا مُحَال. ولكنَّنا نَنظُرُ مِن حَولِنا اليومَ إلى مُجتَمَعِنا، وإلى الأشياءِ الَّتي يَفعَلُها مُجتمَعُنا بِقَصْدِ التَّسلية، وإلى الأشياءِ الَّتي يَحْتَمِلُها مُجتَمَعُنا، وإلى الخَطيَّةِ الوَقِحَةِ الَّتي يَتباهى ويَفتَخِرُ بها مُجتمعُنا. والمُؤمِنُ الَّذي يَفرَحُ بذلكَ أو يُطيقُ ذلكَ لا يَفهَمُ مَعنى أنْ يُحِبَّ اللهَ لأنَّ ذلكَ يُهينُ جِدًّا قَداسَةَ اللهِ وَطَهارَتِهِ حَتَّى إنَّكَ لو كُنتَ تُحِبُّ اللهَ حَقًّا لَحَزِنْتَ في أعماقِكَ ولم تَشعُر بأيِّ فَرَح.
لِذا، لا يُمْكِنُكَ أنْ تَفرَحَ بالإثم. ثانيًا، هذا لا يَختصُّ فقط باللهِ، بل كيفَ يُعْقَلُ أنْ تَفرَحَ بالخطيَّةِ في حين أنَّكَ تَعلَمُ عَواقِبَها؟ وهذا هو ما أستمرُّ في التَّفكيرِ بِهِ بخصوصِ ذلكَ الرَّجُل الَّذي رأيتُهُ في صَالونِ الحِلاقَة. فَعِوَضًا عن أن يَضحَكوا على نُكاتِهِ، كانُوا [في نَظري] مِثلَ المَساميرِ في النَّعش. وكُلُّ ما يَخْطُرُ ببالي بخصوصِ ذلكَ هو أنَّهُ كانَ رَجُلاً بائِسًا. وإنْ لم يَأتِ الرَّبُّ إلى حَياتِهِ ولم يَقبَلِ المَسيحَ فإنَّهُ رَجُلٌ مَحكومٌ عليهِ بالهَلاكِ بسببِ خَطيَّتِه. لِذا، لا يُمكِنُ للمُؤمِنِ أن يَفرَحَ بالخطيَّة. وكما تَرَوْنَ، هذا هو السَّببُ...هذا هو السَّبَبُ الَّذي يَجعَلُ المُؤمِنَ تَوَّاقًا جدًّا لِتَقويمِ الخَطيَّة. فالنَّاسُ يَقولون: "إنْ كُنتُم تُحِبُّونَ الجَميعَ، كيفَ تُؤدِّبُونَ النَّاسَ؟" لأنَّ حُبَّكَ لَهُم يَعني أنْ تَكرَهَ خَطاياهُم.
واسمَحوا لي أن أضرِبَ لَكُم مَثلاً تَوضيحيًّا: رِسالةُ تَسالونيكي الثَّانية 3: 5. وأريدُ منكم أن تَرَوْا السِّياقَ هُنا. فنحنُ نَقرأُ: "وَالرَّبُّ يَهْدِي قُلُوبَكُمْ إِلَى مَحَبَّةِ اللهِ". تَوَقَّفوا هُنا. يا لَها مِن آية رائعة! فهو يَقولُ: "وَالرَّبُّ يَهْدِي قُلُوبَكُمْ إِلَى مَحَبَّةِ اللهِ". فهو يَقولُ: "أريدُ مِنكُم أن تَتَّصِفوا بالمَحبَّة". والآن، لِنَرى المَحبَّةَ العَامِلَةَ إذْ نَقرأُ في العددِ السَّادِس: "ثُمَّ نُوصِيكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ، بِاسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، أَنْ تَتَجَنَّبُوا كُلَّ أَخٍ يَسْلُكُ بِلاَ تَرْتِيبٍ، وَلَيْسَ حَسَبَ التَّعْلِيمِ الَّذِي أَخَذَهُ مِنَّا". وفي العَدد 14: "وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُطِيعُ كَلاَمَنَا بِالرِّسَالَةِ، فَسِمُوا هذَا وَلاَ تُخَالِطُوهُ لِكَيْ يَخْجَلَ، وَلكِنْ لاَ تَحْسِبُوهُ كَعَدُوٍّ، بَلْ أَنْذِرُوهُ كَأَخٍ".
والآن، إنَّهُ يَقولُ ما يَلي: "إنْ كانَ هُناكَ شخصٌ مُؤمِنٌ لا يُطيعُ كَلامَنا، أَدِّبوهُ، واحرِموهُ مِنَ الشَّرِكَة، ولا تُخالِطوهُ". لماذا؟ هذا جُزءٌ مِنَ السَّماحِ لِمَحَبَّةِ اللهِ بالعَمَلِ في حَياتِكَ لأنَّ المَحبَّةَ تَكرَهُ الخَطيَّةَ، ولأنَّ المَحبَّةَ تَدفَعُكَ إلى مُواجَهَةِ الخاطِئِ بأنَّ ما يَفعَلُهُ ليسَ صَائِبًا. والمحبَّةُ تُطَهِّرُ الشَّرِكَةَ وتُزيلُ الخطيَّةَ الَّتي قد تُدَنِّسُ بَقيَّةَ الأشخاص.
لِذا، عندما يأتي شخصٌ ويَقول: "إنَّ كَنيسَتَكُم تُؤدِّبُ الرَّعيَّة. أَلا تعتقدونَ أنَّ هذا بَعيدٌ عنِ المحبَّة؟" فإنِّي أقول: "هذه هي المَحَبَّة". هذه هي المَحبَّة. فالمحبَّة لا تَتَهاوَنُ معَ الشَّرِّ. والمحبَّةُ لا تَفرَحُ بالخطيَّة. لماذا؟ لأنَّ الخطيَّةَ تُهينُ اللهَ وتَجلِبُ التَّأديبَ على الخاطِئ. وهُناكَ شَيءٌ آخرُ صَحيحٌ أيضًا تَقولُهُ هذهِ الآيَةُ، وهو شَيءٌ قد لا تَنتَبِهونَ إليهِ إنْ لم تُفَكِّروا في الآيَةِ جَيِّدًا، وهو أنَّها تُشيرُ إلى النَّميمَةِ لأنَّها لا تُفْسِحُ أيَّ مَجالٍ لِقَولِ أيِّ كَلامٍ شِرِّير. وأنا أُفَكِّرُ كثيرًا في أنَّنا لو لم نَتحدَّث عن أخطاءِ الآخرينَ وَخَطاياهُم فإنَّنا سَنَصْرِفُ أغلبيَّةَ وَقْتِنا صَامِتين. وما أعنيه هو: ماذا سَنَفعل؟ فلو لم نَقرأ الصُّحُفَ ونَسمَع أخبارَ الشُّرورِ في كُلِّ مَكان، ولو لم نَتحدَّث عن إخفاقاتِ وأخطاءِ وخَطايا النَّاسِ مِن حَولِنا، ما الَّذي سَنتحدَّثُ عنه؟ وبالرَّغمِ مِن ذلك، فإنَّ ما جاءَ في هذهِ الآيةَ، وما جاءَ في رِسالةِ يَعقوب والأصحاحِ الثَّالثِ، رُبَّما كان أكبرَ إدانَةِ في العهدِ الجديدِ للنَّميمَة. فالمحبَّةُ لا تَفرَحُ بالإثم. وإنْ لم تَكُن تَفرَحُ بِهِ، فإنَّها لن تَفرَحَ بِسَماعِ شَيءٍ أَثيمٍ، ولن تَفرَحَ بِمُشارَكَةِ شَيءٍ أَثيمٍ.
وهُناكَ مَن يَقول: "ولكِنَّها الحَقيقة. إنَّها الحَقيقَةُ وَحَسْب. فأنا أَعرِفُ أنَّها الحَقيقة. فأنا لا أَفتَرِضُ ذلك، بل هذهِ هي الحَقيقة". اسمَعوني: هذا لا يَعني أنَّهُ يَنبغي لكَ أن تُشارِكَها معَ الآخَرين. فَنَحْنُ نَسمَعُ اليومَ أشخاصًا يَقولونَ ذلك: "أَطْلِعوا الجَميعَ على الحَقيقة. يجب أن تَكونوا مُنْفَتِحينَ هَكذا". وهُناكَ مَنْ يُرَوِّجونَ للتَّدريبِ على رَهافَةِ الحِسِّ، وكُلِّ تِلكَ الأشياء، وعلى إفراغِ ما في جُعْبَتِك، وعلى قَولِ الحَقيقة. ولكِنَّ المحبَّةَ لا تَفرَحُ بإثمِ شخصٍ آخَر. لِذا فإنَّ المحبَّةَ لا تَنْشُرُ تلكَ الأخبار. لماذا؟ لأنَّهُ ما الَّذي يَدفَعُكَ إلى نَشْرِ شَيءٍ يُهينُ اللهَ؟ ولماذا تُريدُ أن تَنشُرَ شَيئًا يُؤذي ويَجرَحُ ويُوَبِّخُ الخَاطِئَ الَّذي فَعَلَ ذلك؟ فإنْ كُنتَ مُحِبًّا للهِ، ومُحِبًّا لذلكَ الشَّخص، لَن تَفعلَ ذلك.
كانَ هُناكَ مُحَرِّرٌ لِصَحيفةٍ مَحليَّة في الوِلاياتِ المُتَّحِدَة سَئِمَ مِنَ النَّاسِ الَّذينَ يُراسِلونَ الصَّحيفةَ دائِمًا ويَقولون: "أنتُم لا تَنقلونَ الأخبارَ بِصِدْقٍ كَافٍ. أنتُم مُنْحازون جدًّا. أنتُم لُطَفاءَ أكثرُ مِمَّا يَنبغي". لِذا فقد قَرَّرَ أن يَرُدَّ على تلكَ الشَّكَاوَى. وقد أَعلَنَ في عَدَدِ الأسبوعِ التَّالي أنَّهُ سيَقولُ كُلَّ الحَقيقةِ عن كُلِّ شَخصٍ وكُلِّ شَيء. وقد تَحَمَّسَ النَّاسُ كَثيرًا لشراءِ الصَّحيفة. وقد بِيْعَتْ كُلُّ النُّسَخِ حَالاً. وقد جَمَعْتُ بَعضَ المَقالاتِ الَّتي كُتِبَتْ في تلكَ الصَّحيفة. وسوفَ أكتَفي بقراءَةِ ثلاثَة نَماذِجَ مِنها:
"ماتَ ’ديف كونكي‘ [Dave Konkie] في مَنزِلِهِ مَساءَ الجُمعةِ الماضي. وقد أُقيمَت جَنازَةٌ كبيرةٌ لَهُ بعدَ ظُهْرِ يومِ الأحد. وقد قالَ الكَاهِنُ إنَّ مَوتَهُ خَسارَةً للمُجتَمَع، ولكنِّي أَشُكُّ في ذلك. فالمُجتمعُ سيكونُ بحالٍ أفضَل بِدونِهِ. وقد قالَ الطَّبيبُ إنَّهُ ماتَ بِنوبةٍ قَلبيَّة. ولكِنَّ هذا هُراء. فالويسكي هو الَّذي قَتَلَهُ".
وإليكُم مَقالَة أخرى: "اجْتَمَعَ نَادي الأرْبِعاءِ الأدبيِّ في مَنزِلِ السَّيِّدَةُ فُلانَة. وقد ذَكَرَ البَرنامَجُ أنَّهُم سيَدرُسونَ مَسرحيَّةَ شِكسبير "جَعْجَعَةٌ بِلا طَحْن" [Much Ado About Nothing]. ولكِنَّهُم لم يَفعلوا ذلك. فالسيِّدةُ الَّتي أُوْكِلَتْ إليها مَهَمَّةُ تَقديمِ الدِّراسةِ لم تَقرأ يَومًا تلكَ المَسرحيَّة. لِذا، لم يَكُن لديهم بَرنامَج. ولكِنَّهُم استَعاضُوا عن ذلكَ بالنَّميمَة على كُلِّ عُضْوٍ لم يَكُن حَاضِرًا. وقد كانتِ الأُمسيةُ كُلُّها شَبيهَة بِعُنوانِ المَسرحيَّة: ’جَعْجَعَةً بِلا طَحْن‘".
ثُمَّ هُناكَ مَقالَةٌ ثَالِثَة، وقد أَحْبَبْتُ هذهِ المَقالة: "تَزَوَّجَ ’وينيفريد جونز‘ [Winifred Jones] وَ ’جيم سميث‘ [Jim Smith] يومَ السَّبتِ في مَبنى الكنيسةِ الميثوديَّة. والعَروسُ فَتاة عَاديَّة جدًّا لا تَعرِفُ أيَّ شَيءٍ عنِ الطَّهْيِ ولم تُساعِد أُمَّها ثَلاثَ مَرَّاتٍ طَوالَ حَياتِها. وهي ليست جَميلةً بأيِّ مِقياسٍ، وهي تَمشي مِثلَ البَطَّة". فإنْ أردتُم الصِّدْقَ ستَحصُلونَ على الصِّدق. "أمَّا العَريسُ فَهُوَ شَخصٌ كَسولٌ جدًّا. فهو يَصرِفُ الجُزءَ الأكبرَ مِن وَقتِهِ في التَّسَكُّعِ حولَ بِركةِ السِّباحَةِ، ويَعيشُ على ظَهْرِ أبَوَيْهِ العَجوزَيْنِ في البيتِ طَوالَ حَياتِهِ. وهو لا يُساوي فِلْسًا. لِذا، ستكونُ الحَياةُ قَاسيةً على كُلٍّ مِنهُما".
ويَكفي حَديثًا عنْ تلكَ الصَّحيفَة. فهُناكَ رِسالة كَتَبَتْها امرأةٌ قَرَّرَتْ أَلاَّ تَكذِبَ عندما طُلِبَ مِنها أن تُوْصِي بفتاةٍ عَمِلَتْ لَديها. وقد كانت هذه هي تَوصِيَتُها: "حَامِلَةُ هذهِ الرِّسالةِ عَمِلَتْ لدينا شَهرًا واحِدًا. وقد أَوْكَلْنا إليها مَهَمَّةَ القيامِ بأعمالٍ مَنزليَّةٍ خَفيفة، ولكنَّها لم تَتمكَّن مِنَ القيامِ بها بِخِفَّةٍ أكثَرَ مِن تلك. وقد وَجَدْنا أنَّها حَريصَة جدًّا حَتَّى إنَّها كَسَرَتْ أفضلَ أطباقٍ وأكوابٍ لَدينا. وقد كانت حَريصَةً على نَظافَةِ المَنزِلِ حَتَّى إنَّها كانت تُخْفي الفَضَلاتِ تَحتَ السِّجَّادَةِ كي لا يَراها أَحَد. وعندما كانت تُقَدِّمُ الطَّعامَ، كانَتْ تُظْهِرُ لِياقَةً شَديدَةً إذْ إنَّها لم تَكُنْ تَضَعُ إصْبَعَ الإبهامَ في الحِساءِ عندما يَكونُ الحِساءُ شَديدَ السُّخونَةِ، ولم تَكُنْ تَسْكُبُ الحِساءَ إلَّا على الضُّيوفِ فقط. وقد كانَ طَهْيُها استِثنائيًّا. والحقيقةُ هي أنَّنا كُنَّا نَتَجَنَّبُهُ يَوميًّا. وسوفَ نَكونُ مُمْتَنِّينَ دائمًا للوقتِ الَّذي عَمِلَتْ فيهِ لَدينا لأنَّهُ كانَ قَصيرًا جدًّا".
فلا بُدَّ مِنْ قَوْلِ شَيءٍ في سَبيلِ الصِّدْق. أليسَ كذلك؟ وكما تَرَوْنَ، فإنَّ المَحبَّةَ لا تَفْرَحُ بإثمِ أيِّ شخص. والمحبَّةُ لا تَسْخَرُ مِنَ الآخرينَ ولا تَسْتَهزِئُ بِهم. فالمحبَّةُ تَسْتُرُ تلكَ الأمورِ بِلِياقَة. والمَحبَّةُ لا تَفرَحُ بالإثم.
وأنا أُحِبُّ تَعريفَ النَّميمَةِ الَّذي يَقول: "النَّميمةُ هي رَذيلَةٌ يَتمتَّعُ فيها المَرءُ بِخَطايا الآخَرين". ولكِنَّ المحبَّةَ لا تَفعلُ ذلك. فالمحبَّة تُبغِضُ الخطيَّة. والمحبَّةُ تُبغِضُ الطَّريقةَ الَّتي تُهينُ فيها الخَطيَّةُ اللهَ والطَّريقةُ الَّتي تُؤذي بها الخطيَّةُ الخاطِئَ.
وقد قالَ "غرانڨيل ووكر" (Granville Walker): "هُناكَ أوقاتٌ يَكونُ فيها الصَّمتُ جُبْنًا. فهناكَ أوقاتٌ ينبغي لنا فيها أن نَقِفَ على أقدامِنا، بِغَضِّ النَّظَرِ عنِ العَواقِبِ، وأن نَتحدَّى الشُّرورَ المُريعَةَ في زَمانِنا. وهُناكَ أوقاتٌ يَكونُ فيها عَدَمُ قِيامِنا بذلكَ هو أشنَعُ أشكالِ الجُبْن. ولكِنْ توجدُ أوقاتٌ أخرى يَكونُ فيها السُّكوتُ مِنْ ذَهَب عندما نَعْلَمُ أنَّ قَوْلَ الحَقيقَةِ سَيَجعَلُ قُلوبَ الآخَرينَ تَنزِفُ بلا مُبَرِّر، وعندما لا يُحَقِّقُ الصِّدقُ أيَّ غَايَة، وعندما لا نَفْعَلُ شَيئًا سِوى إلحاقِ الأذى بالآخَرينَ بسببِ لِسانِنا غيرِ المُنْضَبِط". وهو مُحِقٌّ بِدُوْنِ شَكّ. وكما تَرَوْنَ، فإنَّ المحبَّةَ لا تَفْرَحُ بالإثم. وهي لا تَفرَحُ بالأشياءِ الَّتي تُسيءُ إلى اللهِ وتُحْزِنُ قَلبَ اللهِ. وهي لا تَفرَحُ بما يُؤذي الخاطِئ. لِذا، فإنَّها لا تُسَرُّ بِسَماعِ الخَطيَّةِ. فَما بالُكُم بِنَشْرِها على المَلأ.
وقد تَقول: "وما الَّذي تَفرَحُ بِهِ المحبَّة؟" نَجِدُ الجَوابَ في العددِ السَّادِسِ مِنْ خِلالِ السِّمَةِ الحاديةَ عَشْرَةَ للمحبَّة. وأنا أُحِبُّ هَذِهِ السِّمَة: "المَحبَّةُ تَفْرَحُ بِالْحَقِّ". بالحَقِّ. فهذهِ أفضلُ تَرجمةٍ لَها. المَحبَّةُ تَفرَحُ بالحَقِّ. فهي لا تَفرَحُ بالإثم، بل تَفْرَحُ بالحَقِّ. وهذه مُبايَنَة مُدهِشَة. فلماذا يُبايِنُ بينَ هَذينِ الأمْرَيْن؟ ولماذا لا يَقول: "المَحبَّةُ تَفرَحُ بالبِرّ"؟ لأنَّهُ مِنَ الواضِحِ أنَّ البِرَّ يَتوقَّفُ على ماذا؟ الحَقِّ. فلا يُمكِنُكَ أن تَكونَ بَارًّا إلَّا إذا كُنتَ تَسلُكُ بِحَسَبِ الحَقِّ الإلهِيِّ.
والآن، اسمَعوني: هُناكَ شَيئان أُريدُ مِنكُم أن تَرَوْهُما: المحبَّةُ تَفرَحُ فقط بالحَقِّ عندما يُعَلَّمُ وَيُعاشُ. تَذَكَّروا ذلك. المَحبَّةُ تَفرَحُ فقط بالحَقِّ عندما يُعَلَّمُ ويُعاش. فالمحبَّةُ لا تَفرَحُ بالباطِل. والمحبَّةُ لا تَفرَحُ بالتَّعليمِ الزَّائِف. والمحبَّةُ لا تُطيقُ العَقيدةَ الخاطئة. وبالرَّغمِ مِن ذلكَ فإنَّنا نَسمَعُ أُناسًا يَقولونَ اليومَ: "نحنُ لا نُريدُ أنْ نُثيرَ ضَجَّةً بسببِ ما نُؤمِنُ بِهِ، بل نُريدُ وَحَسْب أن نُحِبَّ النَّاسَ". وكما تَرَوْنَ، هذا هُوَ الفِكْرُ الَّذي أَدَّى إلى ظُهورِ ما صَارَ يُعْرَفُ بالحَرَكَةِ المَسكُونِيَّة. وهذا هُوَ ما جَعَلَ النَّاسَ مِن كُلِّ الأديانِ والمُعتقداتِ يَجتمعونَ معًا باسْمِ المَحبَّة. لِذا فإنَّ أَشخاصًا كثيرينَ يَقولونَ لي: "نحنُ نُريدُ وَحَسْب أن نُحِبَّ الجَميع".
وقد تَحَدَّثْتُ إلى قائِدٍ مَسيحيٍّ مَعروفٍ جدًّا فقلتُ: "ولكِنْ كيفَ يُمكِنُكَ أن تُساوِمُ على الحَقِّ أمامَ أُناسٍ لا يُؤمِنونَ بكلمةِ اللهِ بالطَّريقةِ الَّتي نَعلَمُ أنَّها الحَقّ؟" قال: "إنَّ كلمةَ اللهِ تُعَلِّمُنا أنْ نُحِبَّهُم". ورَدِّي على ذلكَ هُوَ: "ولكِنَّ المَحبَّةَ تَفرَحُ بماذا؟ بالحَقِّ". وهذا هو الأساسُ الَّذي يُمْكِنُ للمحبَّة أن تَسْتَنِدَ إليه. فلا يُمكِنُني أن أَضَعَ ذِراعي حولَ شَخصٍ وأن أُحِبَّهُ بالرَّغمِ مِن أنَّهُ يُعَلِّمُ شَيئًا يُناقِضُ ما يُعَلِّمُهُ الكتابُ المقدَّس. ولا يُمكِنُني أن أَضَعَ ذِراعي حولَ شخصٍ وأن أُحِبَّهُ بكُلِّ مَعنى الكلمة معَ أنَّهُ يَعيشُ حَياةً بَعيدَةً كُلَّ البُعدِ عنِ الحَقِّ. فالمحبَّةُ تَفرَحُ عندما يُعَلَّمُ الحَقُّ. وهي تَفرَحُ عندما يُعاشُ الحَقُّ. ولكنَّها لا تَفرَحُ في غِيابِ هَذينِ الأمْرَيْن. وصَدِّقوني أنَّ أَصغَرَ مُساومةٍ تَنْزِعُ الفَرَحَ مِنَ المحبَّة. فقد أُحِبُّكَ. ولكِنْ عندما تُعَلِّمُ الضَّلالَ، لن أفرَح. وقد أُحِبُّكَ. ولكِنْ عندما تَعيشُ في الخَطيَّةِ فإنِّي لن أفرَح. فأصغَرُ مُساوَمَةٍ تَنْزِعُ ذلكَ الفَرح.
في رِسالةِ يُوحَنَّا الثَّانية، في تلكَ الرِّسالةِ المُهمَّة، نَجِدُ تَعليمًا مُدهشًا ومُفيدًا بهذا الخُصوص. وإليكُم ما يَقول في العَددِ السَّادسِ. وَهُوَ كَلامٌ يَأتي في السِّياقِ الصَّحيحِ هُنا: "وَهذِهِ هِيَ الْمَحَبَّةُ". وَها نَحْنُ نَقرأُ عنِ المَحبَّةِ مَرَّةً أخرى: "وَهذِهِ هِيَ الْمَحَبَّةُ: أَنْ نَسْلُكَ بِحَسَبِ وَصَايَاهُ". والآن، اسمَعوني: هذهِ هي المحبَّة. فهي ليست شُعورًا، وليسَت مَوقِفًا، بل هي إطَاعَةٌ للحَقِّ. "كَمَا سَمِعْتُمْ مِنَ الْبَدْءِ أَنْ تَسْلُكُوا فِيهَا". هذهِ هي المَحبَّة: الطَّاعَةُ، والسُّلوكُ في الحَقِّ. فالمحبَّةُ لا تَسْتَخِفُّ بالحَقِّ. والمحبَّةُ لا تَقولُ: "لا يَهُمُّ ما تُؤمِنُ بِهِ" أو: "لا يَهُمُّ كيفَ تَعيش. فنحنُ نُحِبُّ الجَميعَ بأيِّ حَالٍ مِنَ الأحوال". كَلَّا! فالمحبَّةُ تَسْلُكُ بِحَسَبِ الوَصايا.
وقد تَقول: "وإنْ كانَ هُناكَ شخصٌ يَختَلِفُ عَنَّا قَليلاً، ماذا نَفعَلُ بهذا الخُصوص؟" إنَّ العَدَدَ السَّابِعَ يَجيبُ عن هذا السُّؤال: "أَنَّهُ قَدْ دَخَلَ إِلَى الْعَالَمِ مُضِلُّونَ كَثِيرُونَ، لاَ يَعْتَرِفُونَ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ آتِيًا فِي الْجَسَدِ". بعِبارة أخرى، إنَّهُمْ يُشَكِّكونَ في التَّجَسُّدِ بطريقةٍ أو بأخرى. "هذَا هُوَ الْمُضِلُّ، وَالضِّدُّ لِلْمَسِيحِ. انْظُرُوا إِلَى أَنْفُسِكُمْ لِئَلاَّ نُضَيِّعَ مَا عَمِلْنَاهُ، بَلْ نَنَالَ أَجْرًا تَامًّا". فَهُوَ يَقولُ: قد تَفقِدونَ مُكافأتَكُم بسببِ عَبَثِكُم معَ هَؤلاءِ الأشخاص. "كُلُّ مَنْ تَعَدَّى وَلَمْ يَثْبُتْ فِي تَعْلِيمِ الْمَسِيحِ فَلَيْسَ لَهُ اللهُ". وفي العَددِ العاشِر: "إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأتِيكُمْ، وَلاَ يَجِيءُ بِهذَا التَّعْلِيمِ، فَلاَ تَقْبَلُوهُ فِي الْبَيْتِ، وَلاَ تَقُولُوا لَهُ سَلاَمٌ. لأَنَّ مَنْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ يَشْتَرِكُ فِي أَعْمَالِهِ الشِّرِّيرَة".
والآن، إنَّهُ يَتحدَّثُ وَحَسْب عنِ المَحبَّةِ هُنا، ولكنَّهُ يَقولُ إنَّ المحبَّةَ ليست عُذرًا لعدمِ تَمييزِ الحَقِّ. أَتَرَوْن؟ فالمحبَّةُ تَعْمَلُ في نِطاقِ الوَصايا. والمحبَّةُ تَتجاوَبُ معَ النَّاسِ الَّذينَ يُعَلِّمونَ الحَقَّ. لِذا فإنَّ المَحبَّةَ تَفرَحُ بالأشخاصِ الَّذينَ يُعَلِّمونَ الحَقَّ وبالأشخاصِ الَّذي يَسلُكونَ في الحَقِّ. ولكِنَّ المحبَّةَ لا تَفرَحُ بغيرِ تَمييزٍ بأيِّ شخصٍ وبأيِّ شَيءٍ يَأتي على ذِكْرِ اسْمِ اللهِ أو يَسوعَ بأيِّ حالٍ مِنَ الأحوال. والكِتابُ المُقدَّسُ، كَما تَرَوْنَ، حَازِمٌ جدًّا في التَّعامُلِ معَ الخطيَّةِ عندما يَختصُّ الأمرُ بالسُّلوك. وهو حَازِمٌ جدًّا في التَّعامُلِ معَ الخطيَّةِ عندما يَختصُّ الأمرُ بالعَقيدة.
والآن، لننظُر إلى الجانبِ الإيجابيِّ: "المَحبَّةُ تَفْرَحُ بِالْحَقِّ". وهل تَعلمونَ ما الَّذي تَفعلُهُ المَحبَّة؟ عِوَضًا عنِ التَّباهي بشُرورِ الآخرينَ فإنَّ المحبَّةَ تَبحَثُ عن شَيءٍ صَالِحٍ وتَتحدَّثُ عنهُ. وأنا أُحِبُّ أن أكونَ بِرفقةٍ أشخاصٍ كهؤلاء. فَهُمْ يُساعِدوني كثيرًا. فأنا بِحاجةٍ إلى وُجودِ أشخاصٍ إيجابِيِّينَ مِنْ حَولي، لا إلى أشخاصٍ سَلبِيِّين. فالشَّخصُ السَّلبيُّ هو شخصٌ يَستمرُّ في الانتقاصِ مِن شَأنِ الآخرين. ولكنِّي أريدُ أن أكونَ شَخصًا إيجابيًّا يَرفَعُ مِنْ شأنَ الآخرين. وهُناكَ دائمًا شَيءٌ حَسَنٌ نَقولُهُ عَنهُم. هُناكَ دائمًا شَيءٌ حَسَنٌ. وما أعنيهِ هو: طَالَما أنَّ يَسوعَ تَمَكَّنَ مِنَ العُثورِ على شَيءٍ إيجابيٍّ في بُطرُس، مِنَ المؤكَّدِ أنَّهُ كانَ شخصًا إيجابيًّا. فالأغلبيَّةُ مِنَّا كانوا سَيَطرُدونَ بُطرسَ قبلَ وقتٍ طَويل. وقد رأى يَسوعُ في حَياةِ امرأةٍ زانيةٍ غَسَلَتْ قَدَمَيْهِ بِدموعِ التَّوبةِ شَيئًا إيجابيًّا في حين أنَّ الفَريسيَّ لم يَرَ أيَّ شَيءٍ فيها سِوى الأمورَ السَّلبيَّة. وقد رأى يَسوعُ في السَّامريِّ الغَريبِ الجِنْسِ شَيئًا إيجابيًّا. فقد كانَ يَسوعُ شخصًا إيجابيًّا. فهو يُضيفُ إلى النَّاسِ ولا يَنتَقِصُ مِنهُم. فالمحبَّةُ تُشْبِهُ عَمليَّةَ الجَمْعِ. فهي إيجابيَّة. وهي تُشَجِّعُ على الصَّلاحِ. وهي تَبْحَثُ عن أفضَلِ الصِّفاتِ وَتُثْني عَليها.
وأرجو أن تُعَلِّموا أولادَكُم ذلك. وأرجو أن يَنْمُوا أولادُكُم ويَكونوا أشخاصًا إيجابِيِّين. وأرجو أن يَنْمُوا ويَتَعَلَّموا أنَّ يَتحدَّثوا عنِ الأشخاصِ الآخرينَ بطريقةٍ تُظْهِرُ أفضلَ ما فيهم. وكما تَعلمونَ، فإنَّ الأولادَ يُزْهِرونَ تحتَ شَمْسِ الرُّوحِ الَّذي يُشَجِّعُهم ويُساعِدُهم ويَبنيهُم.
كانَ هُناكَ خَادِمٌ اسكتلنديٌّ عَزيزٌ، وكانَ طَوالَ حَياتِهِ يُحِبُّ النَّاسَ الفُقراءَ في إسكتلندا. وذاتَ يَومٍ، مات. وقد قالَ أحدُ الأشخاصِ عنهُ بعدَ وَفاتِهِ: "لم يَبْقَ في قَريَتِنا شخصٌ يُقَدِّرُ انتصاراتِ الأشخاصِ العَادِيِّين".
وأرجو أن يَكونَ هُناكَ شخصٌ في بَيتِكَ يُقَدِّرُ انتصارات الأشخاصِ العادِيِّين. والمحبَّةُ تَفعلُ ذلك، كما تَعلمون. فهي تَبحَثُ عن الحَقِّ وعنِ السُّلوكِ في الحَقِّ. وهي تَفرَحُ. ومِنْ خِلالِ فَرَحِها بالسُّلوكِ في الحَقِّ فإنَّها تُشَجِّعُ ذلكَ السُّلوكَ البَارَّ. فإنْ كانَ كُلُّ ما تَفعَلُهُ هو الحَطُّ مِن شأنِ الآخرينَ المَرَّةَ تِلوَ المَرَّة تِلو المَرَّة، سَتَحصُلُ على تَجاوُبٍ مُوافِقٍ لذلك. أمَّأ إنْ كُنْتَ تَبني الآخرينَ بطريقةٍ تَجعَلُهم يَشعرونَ أنَّكَ تَرفَعُهم بِوُجودِ الحَقِّ، فإنَّهُم سيَرغبونَ في ذلكَ ويَسْعَوْنَ إلى ذلك. فالمحبَّةُ تَفرَحُ دائمًا بالحَقِّ. وما أرجو حُدوثَهُ في حَياتِكُم، وفي حَياتي أيضًا، هو أن يكونَ رُوحُ اللهِ قد نَجَحَ في زَرْعِ ثَمَرِ المَحبَّةِ، وأنْ تَرَوْا تلكَ المَحبَّة تَشُقُّ طَريقَها وتَعمَلُ بتلكَ الطُّرُق.
والآن، هُناكَ أربعُ سِماتٍ تَبَقَّتْ في العَددِ السَّابِع. وسوفَ نُرْجِئُ دِراسَتَها إلى الأسبوعِ القادِم لأنَّنا لن نُحاوِلَ أن نَتأمَّلَ فيها اليوم. ولكِنِ اسمَحوا لي أن أُذَكِّرَكُم بما تَعَلَّمناهُ في هذا الصَّباح: المحبَّةُ غير أنانيَّة البَتَّة حَتَّى إنَّها لا تَحْتَدُّ أو تَغضَب. فهي تُراعي جدًّا مَصلحةَ الآخرينَ حَتَّى إنَّها لا تَحتَفِظُ بِسِجِلٍّ بِخطاياهُم. وهي تَغارُ جِدًّا على قَداسةِ اللهِ وخَيْرِ الآخرينَ حَتَّى إنَّها لا تَفرَحُ بالإثم. وهي تَعلَمُ أنَّ مِعيارَ الفَرَحِ هُوَ دائمًا الحَقّ. لِذا فإنَّها تَفرَحُ عندما يُعَلَّمُ الحَقُّ وعندما يَسلُكُ الآخرونَ في الحَقِّ. والمحبَّةُ ليسَت شَيئًا يَليقُ بأصحابِ القُلوبِ الفَاتِرَة. والمحبَّةُ ليست شَيئًا يَليقُ بالأشخاصِ العَاطِفِيِّينَ جِدًّا، بل إنَّ المَحبَّةَ هي واحدة مِن أكثرِ الأمورِ صُعوبَةً وَحَزْمًا في الوُجود. وهي ليست للأشخاصِ الضُّعَفاء، بل فقط للأقوياء. فالأمرُ يَتطلَّبُ أكثرَ انْضباطٍ مُمكِن، وأكثرَ تَكريسٍ مُمكِن، وأكثرَ إيمانٍ يُمْكِنُكَ أنْ تَعثُرَ عليهِ في الكتابِ المقدَّسِ كي تَسلُكَ في المحبَّة.
وسوفَ أَخْتِمُ بقِصَّة. فقد سَرَدَ الدُّكتور "سويتنغ" (Sweeting)، رَئيسُ كُليَّة مُودي (Moody) قِصَّةً عن رَئيسِ وُزراءِ إنجلترا العَظيم "وليام غلادستون" (William Gladstone). وإليكُم ما قالَهُ: "في وقتٍ كانَ ’غلادستون‘ يُواجِهُ فيهِ أكبرَ أَزَماتٍ في حَياتِهِ السِّياسيَّة، جَلَسَ وراحَ يَكتُبُ في السَّاعةِ الثَّانيةِ صَباحًا الخِطابَ الَّذي كانَ يَأمُلُ في أنْ يُحَقِّقَ نَصْرًا سِياسِيًّا عَظيمًا في مَجلِسِ العُمومِ في اليومِ التَّالي. وفي السَّاعةِ الثَّانيةِ صَباحًا، طَرَقَتِ البابَ أُمُّ صَبِيٍّ فَقيرٍ وَمَشلولٍ يُوْشِكُ على الموتِ في شَقَّةً مُستأجَرَةٍ في مَكانٍ لا يَبعُدُ كَثيرًا عن هُناك. وقد تَوَسَّلَتْ إلى مُدَبِّرِ المَنزل كي يَسمَحَ لها أن تَتكلَّمَ إلى غلادستون. وقد أَبْلَغَ مُدَبِّرُ المَنزِلِ رِسالَتَها بأنَّها تُريدُ منهُ أن يَأتي إلى شَقَّتِها المُستأجَرة عَسَى أنْ يَبُثَّ رِسالةَ رَجاءٍ وَفَرَحٍ في قَلبِ ابنِها البائِسِ الَّذي يَرقُدُ على فِراشِ المَوت. فقد سَمِعَت أنَّ غلادستون قد يَتمكَّنُ مِن مُساعَدَتِه. وبِدونِ تَرَدُّد، تَوَقَّفَ غلادستون العَظيمُ عن كِتابَةِ أهَمِّ خِطابٍ في حَياتِهِ وصَرَفَ بَقيَّةَ سَاعاتِ اللَّيلِ معَ ذلكَ الصَّبيِّ الصَّغير، وَقادَهُ إلى مَعرفةِ الرَّبِّ يَسوعَ المسيح. وقد بَقِيَ مَعَ الصَّبيِّ حَتَّى بُزوغِ الفَجْرِ، وأَغلَقَ عَينيِّ الصَّبيِّ الَّذي ماتَ، ورَجَعَ إلى بَيتِه وَقَلبُهُ يَفيضُ بسَلامِ الله. وفي وقتٍ لاحقٍ مِنْ صَباحِ ذلكَ اليوم، قالَ لِصَديقٍ لَهُ: ’أنا أَسعَدُ إنسانٍ في العالَمِ اليوم‘".
لماذا كانَ سَعيدًا؟ لأنَّ غلادستون ضَحَّى بكُلِّ سِياسةِ إنجلترا ورُبَّما العَالَمِ، وتَوقَّفَ كي يُظْهِرَ مَحبَّةَ المَسيحِ لطِفلٍ صَغيرٍ يَرقُدُ على فِراشِ الموتِ في شَقَّةٍ مُستأجَرَةٍ في لُندن. وبعدَ ساعاتٍ قَليلة، أَلقى خِطابًا وَصَفَهُ كاتِبُ سِيرَتِهِ الذاتيَّةِ بأنَّهُ أعظَمُ خِطابٍ في حَياتِه. وقد حَقَّقَ النَّصر. وهذا هو الإيثارُ، يا أحبَّائي. هذا هو الإيثار. فالمحبَّةُ غير أنانيَّة. فهل لديكَ إيثار؟
يا رَبّ، نَشكُرُكَ مَرَّةً أخرى على كَلِمَتِكِ الواضِحَة إلينا عنِ المحبَّة. فقدِ ابتدأنا نَرى، أو لقدِ ابتدأتُ أَرى...وصَلاتي هي أن تَكونَ بَقيَّةُ العائلةِ هُنا في كنيسةِ غريس قد ابتدأت تَرى ما تَعْمَلُهُ. ساعِدنا على أن نَرى نَموذَجَ يَسوعَ الكامِلِ لهذه المحبَّة. وساعِدنا على أن نَرى كُلَّ هذهِ السِّماتِ حَتَّى لو في لَمَحاتٍ خَاطِفَةٍ مِنْ وَراءِ حِجابٍ في حَياتِنا، بالقدرِ الَّذي يُساعِدُنا على أن نَراها على حَقيقَتِها. وساعِدنا على أنْ نُزيلَ الحِجابَ ونَسمَحُ لَها أنْ تَفيضَ فينا كي نُحِبَّ بِكُلِّ كِيانِنا لِمَجْدِ اسْمِكَ...تَمامًا كما أَحَبَّ يَسوعُ. نُصَلِّي هذا باسْمِهِ. آمين!

This article is also available and sold as a booklet.