
نَوَدُّ أن نكمل دراستنا الرائعة والممتعة للأصحاح الخامس مِن رسالة أفسُس والأعداد مِن 18-21. وقد صرفنا وقتًا طويلاً في دراسة هذا المقطع لأننا تَطَرَّقنا إلى مواضيع أخرى على مدى نحو ستَّة أسابيع، ولكنَّنا صرفنا وقتًا رائعًا. وسوف نَبقى في هذا النصِّ بعض الوقت. فهذا النصُّ، في رأيي، هو نَصٌّ رائعٌ. وَهُوَ يحوي حقائق عديدة رائعة ومهمة لنا. لذلك، يجب علينا أن نصرف وقتًا كافيًا في دراسته لكي نستوعبه حقًّا. أفسُس 5: 18-21. وأرجو أنْ تُصغوا أثناء قراءتي للنصَّ:
"وَلاَ تَسْكَرُوا بِالْخَمْرِ الَّذِي فِيهِ الْخَلاَعَةُ، بَلِ امْتَلِئُوا بِالرُّوحِ، مُكَلِّمِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِمَزَامِيرَ وَتَسَابِيحَ وَأَغَانِيَّ رُوحِيَّةٍ، مُتَرَنِّمِينَ وَمُرَتِّلِينَ فِي قُلُوبِكُمْ لِلرَّبِّ. شَاكِرِينَ كُلَّ حِينٍ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فِي اسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، ِللهِ وَالآبِ. خَاضِعِينَ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ فِي خَوْفِ اللهِ". ولنبتدئ دراستنا معًا بالصَّلاة:
نسألك، يا أبانا، في هذا الصباح أنْ تُسَكِّنْ قلوبنا مِن جهة الأمور المختصَّة بنا، وأن تساعدنا على إبعاد تفكيرنا عن كُلّ تَقَلُّبات الدَّهر، وعن الصراعات والأمور الأخرى الَّتي تشغل بالَنا. ونحن نسألك، يا رَبّ، أن تأمُر بتصفية أذهاننا لكي نتمكن مِن الدخول إلى حضرتك مِنْ دون أيِّ أفكار مُسَبَّقة، ومِن دون أيِّ افتراضاتٍ مُسَبَّقة، بل بذهنٍ صاحٍ وقلبٍ طاهرٍ لكي نَقبَل مِن يدك كل ما ذَخَرْتَهُ لنا. وليتك، يا ربّ، ترشد عَبْدَكَ المُتكلِّم وأن تجعله إناءً وأداةً فقط لكي يكون المسيح هو المُعَلِّم، ولكي يكون روح الله هو الَّذي يَتحدَّث. وليتك تساعدنا على أن نَسمع مِنكَ، وأن نُغادر هذا المكان عالِمينَ أنَّنا التقينا بشخصك. نُسَبِّحُك باسم المسيح. آمين.
في الليلة الأخيرة الَّتي صَرَفَها يسوع مع تلاميذه (بحسب ما جاء في إنجيل يوحنَّا 13 و 14 و 15 و 16)، وَعَدَهُم بأمورٍ كثيرة ورائعة لا يُضاهيها شيءٌ آخر. فهي أمورٌ رائعة حقًّا. ولكِنَّ المِفتاح لكل هذه الأمور هو شيءٌ واحدٌ فقط وهو: مَجيء الروح القدس. فكل وعدٍ قطعه يسوع في تلك الليلة الأخيرة قبل أنْ يَتعرَّض للخيانة والصَّلب هو وعدٌ يَجِد تحقيقه، بطريقة أو بأخرى، بمجيء الروح القدس. ونحن نعلم أنَّ الله واحد: "اِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ". فهذا هو ما تقوله صلاة "اسْمَع" في العهد القديم. ولكنَّنا نَعلم جيِّدًا أيضًا أنَّ هذا الربَّ الواحد وهذا الإلهَ الواحد قد أَعلن عن ذاته في ثلاثة أقانيم مُتميِّزة. وهذا هو سِرُّ الله المُثَلَّث الأقانيم. فالله واحدٌ، ولكنه موجودٌ بصفته الله الآب، والله الابن، والله الروح القدس. والله يَقطع الوعود لنا غالبًا مِن خلال المسيح ويُؤكِّدها لنا مِن خلال الروح القدس. فالله هو الَّذي قام حقًّا بتنفيذ الوعود الَّتي قَطَعَها لنا أصلاً مِن خلال أقنومه الثالث. لذا فإنَّ روح الله هو ليس سوى الله نفسه في الأقنوم الثالث. وحُلول الروح القدس إلى حياة المؤمن المسيحيّ هو الَّذي يُحَقِّق كُلَّ وعود يسوع المسيح. انظروا معي لَحظةً إلى الأصحاح الرابع عشر مِن إنجيل يوحنا لأنَّ هذا سيساعدنا في ترتيب أفكارنا.
ففي إنجيل يوحنا والأصحاح 14 (وتحديدًا في هذا الأصحاح الرابع عشر – وربما أكثر مِن الأصحاح 13، والأصحاح 15، وحتَّى الأصحاح 16)، يَقطع رَبُّنا للتلاميذ مجموعة مِن الوعود المهمة. فقد كان يسوع على وَشْكِ تَرْك تلاميذه. وَهُوَ لا يريد أن يتركهم خائفين. وَهُوَ يقول عِدَّة مَرَّاتٍ: "لا تَضطرب قلوبُكم" لأنهم كانوا خائفين بسبب تركه لهم. وللتَّعويض عن الفراغ الَّذي سيشعرون به بعد مغادرته، فإنه يَقطع لهم هذه الوعود الرائعة الَّتي ستتحقَّق جميعُها، بطريقة أو بأخرى، مِن خلال حُلول الروح القدس. انظروا مثلاً إلى العدد 16 لأنَّنا نجد هنا لُبَّ الأمر: "رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي لاَ يَسْتَطِيعُ الْعَالَمُ أَنْ يَقْبَلَهُ، لأَنَّهُ لاَ يَرَاهُ وَلاَ يَعْرِفُهُ، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَعْرِفُونَهُ لأَنَّهُ مَاكِثٌ مَعَكُمْ وَيَكُونُ فِيكُمْ".
والآنْ، نحن هنا أمام واحدة مِن أعظم الجُمَل التَّدبيريَّة في الكتاب المقدَّس كُلِّه. فنحن نجد هنا واحدة مِن أعظم الجُمَل عن خُطَّة الله لفترة العهد الجديد. فالروح القدس ماكِثٌ معكم ويكون فيكم. فهذا هو الوعد الخاصُّ بفترة العهد الجديد أو الميثاق الجديد. فبعد يوم الخمسين، لن يقتصر الأمر على أنَّ روح الله سيكون مع شعبه أو أنَّه سيرافقهم، بل إنه سيكون فيهم. وهذا هو الأمر الَّذي سيَجعل كُلَّ الوعود الأخرى تتحقَّق. فإنْ لم يَسكن روح الله في المؤمنين، لا يمكن لكل الأشياء الَّتي وعد بها يسوع أن تتحقَّق تمامًا.
ولكي أُبَيِّن لكم ما أعنيه، انظروا إلى الأعداد الستَّة الأولى مِن الأصحاح 14 إذْ إننا نقرأ هنا أنَّ يسوعَ يَعِدُ تلاميذه بالسَّماء. فنحن نقرأُ في العدد الثاني الوعد التَّالي: "فِي بَيْتِ أَبِي مَنَازِلُ كَثِيرَةٌ، وَإِلاَّ فَإِنِّي كُنْتُ قَدْ قُلْتُ لَكُمْ. أَنَا أَمْضِي لأُعِدَّ لَكُمْ مَكَانًا، وَإِنْ مَضَيْتُ وَأَعْدَدْتُ لَكُمْ مَكَانًا آتِي أَيْضًا وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ، حَتَّى حَيْثُ أَكُونُ أَنَا تَكُونُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا". فقد قَطَعَ يسوع هذا الوعدَ الرائع إذْ قال: "سوف أمضي وأُعِدُّ لكم مكانًا. وسوف أعود وآخذكم لتكونوا معي في ذلك المكان".
ويا له مِن وعدٍ رائعٍ! وإنْ كنتم مِثلي، فإنكم تُحبُّون الوعود المضمونة. أليس كذلك؟ فإنْ قَطَعَ أحد الأشخاص وعدًا لك فإنك تقول: "حسنًا! أنا أُقَدِّرُ وعدك لي، ولكنْ هل لديك أيُّ ضمانة بذلك؟ هل يمكنك أنْ تُؤكِّد لي هذا الوعد؟" والله يَعلم أهميَّة تأكيد وعده. لذا فإنهُ يؤكِّد لنا ذلك في الأصحاح الخامس مِن رسالة كورِنثوس الثانية (ولا حاجة لأن تفتحوا على هذا الأصحاح). وَهُوَ يؤكِّد لنا ذلك أيضًا في الأصحاح الأوَّل مِن رسالة أفسُس إذْ يقول: "الَّذِي هُوَ عُرْبُونُ مِيرَاثِنَا". وَهُوَ يُسَمَّى "ضَمان الرُّوح" في اللُّغة الإنجليزيَّة القديمة. فالكلمة "عُرْبُون" تعني "ضَمان"، أو "دُفعة أولى"، أو "دُفعة تحت الحساب"، أو "خاتَم الخُطوبَة". بعبارة أخرى، فإنَّ المسيح يَقول هنا: "سوف آخذكم إلى السماء لتكونوا معي وتَرِثُوا ملكوتي". وكدُفعة أولى، أو دُفعة تحت الحساب، أو ضَمانَة، أو تأكيد، أو خاتم الخُطوبة للتَّأكيد على أنِّي جَادٌّ بخصوص الزَّواج، سوف أعطيكم الروح القدس". لذلك فإنَّ الروح القدس يَصيرُ الضَّامِنَ لهذا الوعد بالميراث السماويّ. فلو لم يكن الروح القدس يسكن فينا، لَمَا كان لدينا الضَّمان لمعرفة أنَّ المسيح سيُتَمِّم وعده.
وفي عددٍ آخر في هذا الأصحاح، وتحديدًا في العدد 12، يَقطع رَبُّنا وعدًا عظيمًا ورائعًا آخر إذْ يقول: "اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَالأَعْمَالُ الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا يَعْمَلُهَا هُوَ أَيْضًا، وَيَعْمَلُ أَعْظَمَ مِنْهَا، لأَنِّي مَاضٍ إِلَى أَبِي". فيسوع يقول هنا: "سوف تعملون أعمالاً عظيمةً" – وهي ليست عظيمةً في نوعها لأنكم لا تستطيعون أن تصنعوا أعظم مِنها مِن حيث النَّوع، بل أعظم مِن حيث نِطاقِها وَاتِّساعِها. فهي أعظم مِنَ الأعمال الَّتي صَنَعَها هو نفسه. فقد كان يسوع يَعملُ في نِطاقٍ ضَيق جدًّا. وَهُوَ يقول: لأنِّي سأذهب إلى الآب، فإنكم ستعملون أعمالاً عظيمةً". ولكِنْ كيف يُعْقَلُ هذا – ولا سِيَّما في غيابه؟ والجوابُ موجودٌ في أعمال الرُّسُل 1: 8 إذْ يقول رَبُّنا: "لكِنَّكُمْ سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْكُمْ، وَتَكُونُونَ لِي شُهُودًا" ["مو مارتوريس" “mou martures)] "فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى الأَرْضِ". وهذا هو التَّحقيق. فقد شَهِدَ يسوعُ في أورُشَليم. وقد شَهِدَ يسوعُ في اليهوديَّة. أمَّا أنتم فستشهَدونَ إلى أَقْصى الأرض، وفي أماكِنَ لم يذهب إليها يسوع. وسوف تتمكنون من ذلك بسبب الروح القدس. لذلك فإن التَّحقيقَ الفعليَّ هنا يَعتمدُ على روح الله السَّاكن فينا - وإلَّا لما تَمَكَّنَّا مِن الشهادة إلى أقصى الأرض. ونحن لا نملك العُرْبون أو الضَّمان بميراثنا في ملكوته إلَّا إنْ كان لدينا العُربون أو الضَّمان بحضور روح الله.
ثالثًا، إنه يقول في العددَيْن 13 و 14: أريدُ أن أُقَدِّمَ لكم وعدًا آخرَ وَهُوَ الآتي: "وَمَهْمَا سَأَلْتُمْ بِاسْمِي فَذلِكَ أَفْعَلُهُ". وهذا وعدٌ رائعٌ جدًّا. وَهُوَ يُكَرِّره في العدد 14: "إِنْ سَأَلْتُمْ شَيْئًا بِاسْمِي فَإِنِّي أَفْعَلُهُ". فَلِسَانُ حَالِهِ هو: "سوف أُعطيكم مَصْدَرًا وَهُوَ: الصَّلاة. اطلبوا باسمي وأنا سأُحَقِّق طِلبتكم". ولكن هل تَعلمونَ شيئًا؟ إنَّ القيام بذلك أمرٌ صعب، بل هو صعبٌ جدًّا. أتَعلمون لماذا؟ لأننا نقرأ في الأصحاح الثامن مِن رسالة رومية إننا لا نَعلم ما نُصَلِّي لأجله كما ينبغي. ونحن لا نَعرف كيف نُصَلِّي. وَلكِنَّ الرُّوحَ القُدُس نَفْسَهُ يَشْفَعُ فِينَا بِأَنَّاتٍ لاَ يُنْطَقُ بِهَا، وَهُوَ يعرف فكر الآب. بعبارة أخرى، فإنَّ تلك الآية لم تكن قابلة للتطبيق لولا سُكْنى الروح القدس وشفاعته المستمرَّة أمام عرش الله. لذا فإنَّ حقيقة ضمان ميراثنا السماويّ، وحقيقة أننا سنعمل أعمالاً أعظم مِن تلك الَّتي عملها رَبُّنا، وحقيقة أننا نستطيع أن نطلب ما نريد فيكون لنا هي حقيقة قائمة على سُكنى الروح القدس فينا.
فضلاً عن ذلك، سوف تلاحظون أنَّه يقول في العدد 18: "لاَ أَتْرُكُكُمْ يَتَامَى. إِنِّي آتِي إِلَيْكُمْ. بَعْدَ قَلِيل لاَ يَرَانِي الْعَالَمُ أَيْضًا، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَرَوْنَنِي". والآنْ، كيف سيحدث ذلك؟ فسوف تذهب؟ والعالم لن يَراك؟ وما الَّذي تَعنيه بأنَّك ستأتي إلينا؟" نقرأ في العدد 20: "فِي ذلِكَ الْيَوْمِ تَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا فِي أَبِي، وَأَنْتُمْ فِيَّ، وَأَنَا" أين؟ "فِيكُمْ". وفي أيِّ يومٍ علموا أنَّ الله كان فيهم؟ في أيِّ يومٍ عَلِمَ شعب الله أنَّ الله قد جاءَ ليحيا فيهم؟ في يوم الخمسين. فقد نَزَلَ روح الله وسَكَنَ فيهم. وهذا هو تمامًا ما يقوله. فيسوع يقول: "سوف أمضي، ولكنِّي سأعود. وفي ذلك اليوم، ستَعلمونَ أنِّي فيكم". وتحقيق ذلك هو حُلول الروح القدس. فهذه هي الضَّمانة بأنَّ اللهَ يَسكُنُ فِيَّ.
ثم انظروا إلى العدد 27: "سَلاَمًا أَتْرُكُ لَكُمْ. سَلاَمِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا. لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ وَلاَ تَرْهَبْ". والآنْ، لحظة مِنْ فضلكم. فقد وعد يسوع بالسَّلام. وبالمناسبة، انظروا إلى الأصحاح 15 والعدد 11: "كَلَّمْتُكُمْ بِهذَا لِكَيْ يَثْبُتَ فَرَحِي فِيكُمْ". وقد قال يسوع: "أريدكم أن تحصلوا على سلامي" في الأصحاح 14. وَ "أريدكم أن تحصلوا على فرحي" في الأصحاح 15. وقد قال: وَ "أُريدكم أن تحصلوا على محبَّتي" في الأصحاح 13. أتذكرون ذلك؟ المحبَّة، والفرح، والسَّلام. وقد تقول: "حسنًا! إنَّ هذا الوعدَ رائعٌ، ولكِنْ أين نَحصل عليه؟" نقرأ في غلاطيَّة 5: 22: "وَأَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ فَهُوَ: مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ". أتَرَوْن؟
إنَّ كُلّ شيء وَعَدَ به يسوعُ المؤمنَ يومًا يَتحقَّق بسبب سُكْنى وحضور روح الله. وهذا أمرٌ مُهمٌّ جدًّا. فنحن جميعًا نمتلك هذا المصدر الثَّمين. لذلك فإنَّ الربَّ يقول في الأصحاح 16 والعدد 14: "[عندما يأتي الرُّوحُ فإنه] يُمَجِّدُنِي، لأَنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ". بعبارة أخرى، فإنَّ الروح يَصيرُ القناةَ الَّتي تَتحقَّقُ مِنْ خلالها وعود المسيح للمؤمن. هل تفهمون ذلك؟ فهذا أمرٌ مهمُّ جدًّا. فلولا سُكْنى الروح القدس لما تحققت وعود المسيح في حياتك.
ولكن إليكم النُّقطة المهمَّة: معَ أنَّ هذا كُلَّه مُتاحٌ لكَ مِن خلال سُكْنى الروح، فإنه لا يَصحُّ على حياتك ولا يعمل في حياتك إلَّا عندما تمتلئ بالروح. أتفهمونَ ذلك؟ فيمكنكَ أن تحصل على روح الله كما يفعل جميع المؤمنين المسيحيين، ويمكنك أن تَحصل على سُكْنى روح الله، ويمكنك أن تحصل على جميع الإمكانيَّات الَّتي تَضمن تحقيق جميع وعود المسيح هذه. ولكن ما لم تَمتلئ بروح الله أو يُهيمن عليك روح الله، وما لم تَنقاد بروح الله، فإنك لن تعرف يومًا معنى امتلاك هذه الوعود الرائعة. والوعود غير المُتحقِّقة لا تختلف في شيء عن الوعود غير المقطوعة أو غير المحفوظة. ولكنَّ اللهَ أعطاكَ المسيح. وبسبب المسيح فإنَّ بطرس يَصِف هذه الوعود بأنها رائعة وثمينة. وهي مِلْكٌ لك لأنك تمتلكها. ولكنك لن تحصل عليها، ولن تعرف معنى أن تَحصل على الضَّمان في الحياة والموت، ولن تَعرف معنى رؤية أشياء في حياتك أكثر جدًّا ممَّا تطلب أو تَفتكر، ولن تَعرف معنى الحصول على استجاباتٍ فوريَّة للصَّلوات، ولن تعرف مَعنى أنْ يكونَ اللهُ حَيًّا فيكَ، ولن تَعرف معنى الحصول على المحبَّة والفرح والسَّلام إلَّا إذا عرفتَ معنى أن تكون خاضعًا لهيمنة الروح القدس. فمع أنَّك تمتلك الروح القدس، فإنَّه قد لا يكون عاملًا في حياتك. وهذا هو جوهر ما يقوله بولس.
والآنْ لِنَعُد إلى أفسُس 5. فهو يقول إنك إنْ أردتَ أن ترى ثمرًا لكل هذه الأشياء في حياتك، مِن المهمِّ جدًّا أن تمتلئ بالروح. فلا توجد طريقة أخرى. ولا توجد احتماليَّة أخرى لتحقيق هذه الأشياء. وفي جميع هذه الأصحاحات الخمسة مِن رسالة أفسُس، فإنَّ بولس يصف القوَّة العظيمة والإمكانيَّة العظيمة المتاحة للمؤمن. ولكِنَّ الأمر بمُجملة يَتلخَّص في هذا الشَّيء المُنفرد، يا أحبَّائي: يمكنك أن تقرأ جميع الأصحاحات الخمسة الأولى حَتَّى العدد 17 مِنَ الأصحاح الخامس. ولكن إذا توقَّفتَ هنا فسوف تُفَوِّت النقطة المهمة. فما لم تكن خاضعًا للروح القدس، فإنَّ كُلّ المصادر المتاحة لك، وكل المصادر المهمة لكي تحيا حياةَ حِكْمَة، ومحبَّة، ونور وتَفَرُّد، وتواضُع، ووَحدة سَتَضيعُ هَباءً. وإنْ وصلتَ إلى الأصحاح السادس وابتدأتَ في مقاومة الشيطان دون الخضوع لهيمنة الروح القدس، فإنك ستُخْفِق إخفاقًا كبيرًا. وهذا هو لُبُّ الأمر. لذلك، يجب عليك أن تأخذ قلمًا أحمر وأن ترسم مُستطيلًا كبيرًا حول العدد 18 لأنه لُبُّ الأمر.
والآن، عندما نظرنا إلى الأعداد مِن 18 إلى 21 تَحدَّثنا فقط عن العدد 18 وقليلًا عن العدد 19. ولكن عندما نَظرنا إلى النصِّ قُلنا إنَّ هناك ثلاثة أمور نريد أن نراها وهي: المُفارقة، والوصيَّة، والنتائج - المُفارقة، والوصيَّة، والنتائج. وقد درسنا بتفصيلٍ شديدٍ المُفارقة: "لاَ تَسْكَرُوا بِالْخَمْرِ الَّذِي فِيهِ الْخَلاَعَةُ، بَلِ امْتَلِئُوا بِالرُّوحِ". بعبارة أخرى، فإنَّ فرحَنا، وسلامَنا، وابتهاجَنا، وعلاقتنا بالله، وشركتَنا، وقوَّتَنا لا تَنبع مِنَ السُّكْر كما هي حال الوثنيِّين، بل مِنَ الامتلاء بالرُّوح. وهذه هي المُفارقَة.
ومِنْ خلال المُفارقَة تأتي الوصيَّة: "بَلِ امْتَلِئُوا [باستمرار] بِالرُّوح". بعبارة أخرى، ما دامت جميع مصادرنا قائمة على الامتلاء بالروح، وما دامت قُدرتُنا كلُّها قائمة على الامتلاء بالروح، استمرُّوا في الامتلاء بالروح، أو استمرُّوا في الخضوع للروح. وهذا يُشير إلى ضرورة إخضاع حياتنا لحظة تلو الأخرى لمشيئة روح الله وعمله. فالأمر ليس خبرة صُوفِيَّة غريبة أو تجربة ما، بل هو، ببساطة: خُضوعٌ لحظةً تلو الأخرى لروح الله. وهذا لن يحدث في حياتك إلَّا إذا افتكرتَ بأفكارٍ عن روح الله. وهذا لن يحدث إلَّا إذا شَبَّعْتَ قلبك وعقلك وروحك بصفحات كلمة الله. لذلك، أثناء قيامك بهذا الأمر، سوف تكون خاضعًا للروح، ومُمتلئًا بالروح. وعندئذٍ يأتي الأمر الثالث وَهُوَ النتائج.
وهناك ثلاث نتائج يَتحدَّث بولس عنها في هذا النَّصّ، وربما أُضيفُ نتيجة أخرى عندما نَصِلُ إليها بعد بضعة أسابيع. ولكِنْ هناك ثلاث نتائج: أولاً، إنه يقول إنَّكم ستختبرون نتيجةً مِن جهتكم أنتم وهي: التَّرنيم. ثانيًا، سوف تكون هناك نتيجة أخرى مِن جهة الله وهي: الشُّكر. ثالثًا، هناك نتيجة مِن جهة المؤمنين الآخرين وهي: الخضوع. رابعًا، رُبَّما يمكنني أن أُضيفَ نتيجةً أخرى مِن جهة غير المؤمنين وهي: الخدمة. وسوف أُبَيِّنُ لكم قصدي أثناء دراستنا للنَّصِّ.
لذلك، عندما تمتلئ بالروح، فإنَّ جميع علاقاتك ستكون سليمة. فأنت ستتمتَّع بعلاقة سليمة مع نفسك وتكونُ شخصًا مُعافى تمامًا. ويجب أن تعلموا أنَّ الناس يَطلبون المشورة، ويذهبون إلى الأطبَّاءِ النفسيِّينَ، وإلى الأطبَّاء الآخرين، وإلى المُحَلِّلينَ، وإلى المُشيرينَ المسيحيِّينَ، وغيرهم، وغيرهم، وغيرهم، ويتناولون أدويةً مِثل "فاليوم" (Valium) و "ثورازين" (Thorazine) و "ليبريوم" (Librium) وغيرها في محاولة لحلِّ مشاكلهم. وهُم يأخذون غَفْوات طويلة على غِرار قِصَّة "ريب فان وينكل" (Rip Van Winkle) لكي يَنسَوْا كل شيء. ومع أنَّ الناسَ يحاولون أن يهربوا مِن مشاكلهم، فإنَّ الحلَّ للحصول على السلام مع نفسك والحصول على ترنيمة في قلبك يَكْمُنُ في الامتلاء بالروح. فهذا الأمر يَختصُّ بتَمَتُّعِكَ بعلاقةٍ سَليمةٍ بنفسك.
ثانيًا، عندما تتمتَّع بعلاقة سليمة بروح الله، ستجد أنك تفعل ما جاء في العدد 20: "شَاكِرِينَ كُلَّ حِينٍ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ... للهِ". ثالثًا، ستجد أنَّ العدد 21 حَقيقة واقعة إذْ إنك ستَخضع للآخرين مِن حولِك. فسوف تَتَحَلَّى بروح التواضع. وسوف تتحلَّى بالرُّوحِ الذي يقول: "أنا لا أَسعى إلى مَصلحتي الشخصيَّة، بل أَسعى إلى القيام بما هو خيرٌ لك أنت". وحينئذٍ تَصير جميع العلاقات سليمة. أمَّا النقطة الرابعة فتختصُّ بنطاق الخدمة. وَهُوَ شيءٌ نقرأ عنه في الأصحاح السابع مِن إنجيل يوحنَّا إذْ نقرأُ أنَّ رَبَّنا قال: "عندما يَمْلأُكَ روحُ الله، تَجْرِي مِنْ بَطْنِكَ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ إلى الآخرينَ مِنْ حولِك". لذا فإنَّ جميع العلاقات تَتلخَّص في الامتلاء بالروح. فعندما يُسيطر على حياتك فإنَّ كُلّ شيء يصير سليمًا.
وقد كُنَّا نتحدَّث عن النتيجة الأولى وهي: التَّرنيم. وهذا هو العُنصرُ الشخصيُّ. فعندما تصيرُ مسيحيًّا، ويَسكن فيك روح الله، ويملأك روح الله، فإنك تَفرحُ مِنَ الداخل. فالمؤمنُ المُمتلئ بالروح هو مؤمنٌ سعيدٌ أيًّا كانت الظروف. فقد يكون في السِّجن ورِجْلاهُ في المِقْطَرَة (كما حدثَ معَ بولس وسيلا). وبالمناسبة، فإنَّ المِقْطَرَة لم تكن خَشَبَةً كتلك الَّتي ذُكِرَتْ في قِصَّة "سِياحَة المَسيحِيّ" تَتَدَلَّى مِنها يداكَ مِنْ هُنا ورِجْلاكَ مِنْ هُناك، بل كانت تحوي فُتْحاتٍ عديدة تَمتدُّ أكثر فأكثر، وأوسع وأوسع إذْ كانوا يَسحبونَ الرِّجْلَيْنَ إلى أقصى مَدىً ممكن دونَ أنْ تَنْفَسِخان، وكانوا يُثَبِّتونَهُما في تلك الوضعيَّة لأسابيع. وفي وسط تلك الظروف، كان بولُس وسيلا يَصرفان اللَّيل كُلَّهُ في ماذا؟ في التَّرنيم. لماذا؟ لأنَّ الظروف ليست هي المِعْيار، بل إنَّ الامتلاء بالروح هو النُّقطة الجوهريَّة الَّتي تَجعل المؤمنَ يُرَنِّم. وعندما أتمتَّع بعلاقة سليمة بنفسي، وعندما أمتلك سلامًا في قلبي، وعندما أمتلئ بروحه، فإنَّ التَّرنيم هو النَّتيجة الحَتميَّة. وفي نهاية العِظَة في هذا الصَّباح، سَتَرَوْنَ السَّببَ في أنَّ هذه هي نُقطة الذُّروة في تفكيرنا بمُجمله.
لذا فإنَّ النُّقطة الَّتي كُنَّا نتأمَّلُ فيها هي حقيقة أنَّ الأشخاص المُمتلئين بالروح يُرَنِّمون لأنَّ هناكَ شيئًا في قلوبهم. ولعلَّكم تَعرفونَ "جيري ميتشيل" (Jerry Mitchell). فَهُوَ راعٍ في كنيستنا يَخدم في منطقة البَنَّائين ويعمل في الخدمة الكِرازيَّة أيضًا. وقد عاد مِنْ رحلة مُدَّتُها أُسبوعان في إسرائيل. وكان قد ذهب إلى هناك مع مجموعة مِن اليهود مِن الولايات المتَّحدة. وكان أوَّل شخصٍ غير يهوديّ يذهب مع تلك المجموعة تحديدًا. فلم يكن أيٌّ منهم مسيحيًّا. وقد أقامَ في بيت جِنرالٍ إسرائيليٍّ، جنرالٍ إسرائيليٍّ غير مُتديِّن. وهو ليس مُعتادًا على العيش أُسبوعين كامِلَيْن مِن دون مؤمنين مسيحيِّين. وهو ليس مُعتادًا على العيش مِن دون شركة. وعندما عاد، لم يتمكَّن مِن المجيء يوم الأحد ولم يَسْمَعْني أَعِظ. فقد وصل يوم الإثنين وجاء لحضور اجتماع الموظَّفين. وكان أوَّل شيء قاله هو: "أتدري ماذا؟ مِنَ الرائع أن أعودَ إلى شركة الإخوة". وقد قال: "مِنَ الرائع أن أكون هنا". وقد قال: "أتدري ماذا؟ لقد وجدتُ نفسي مُحْبَطًا جدًّا بسبب وجودي في وسط أشخاص غير مؤمنين طَوال الوقت. وعندما كنتُ أَسْتَحِمُّ، كنتُ أُرَنِّمُ". وقد ضَحِكْتُ وضَحِكَ الجميعُ أيضًا.
فهو لم يَسمع ما قُلته، ولكِنَّ هذا هو ما يَفعله الأشخاص المُمتلئون بالروح. وعندما لا يَجِدُ المؤمنُ المسيحيُّ فُرصةً للتَّرنيم فإنه سيبحثُ عن حَمَّامٍ لكي يتمكَّنَ مِنَ التَّرَنُّمِ عن المسيح. فكما تَعلمون، لا يمكنكم القيام بذلك في بعض الفنادق في إسرائيل مِنْ دون الوقوع في المتاعب. وقد قال إنه كان يُغلق باب غُرفته لكي يَقرأ العهد الجديد. فلا بُدَّ مِنَ التَّعبير عن ذلك الفرح النَّاشئ عن سُكْنى الروح القُدُس.
وكما تَعلمون، فإنَّ قِصَّة "سِياحَة المَسيحيّ" (Pilgrim’s Progress) لِـ "جون بَنْيان" (John Bunyan) هي صورة رائعة للحياة المسيحيَّة. ويَحكي الكاتبُ قِصَّةَ المسيحيِّ ويقولُ إنه كان طَوال الطريق يَحيدُ عنِ الطريق. أليس كذلك؟ فهو يسقط في بالوعة اليأسِ ثُمَّ ينهض ويَدخُل قَلعة الشَّكّ، ثُم يَحيدُ عن الطريق فيقودُهُ أحدهم إلى سوق الأباطيل، ويواجه كل تلك المشاكل، ويستمرُّ في الحَيَدانِ عنِ الطريق والابتعادِ عنِ الطريق، ثُمَّ يَعودُ أَدْراجَهُ إلى الطريق القويم طَوالَ الوقتِ إلى أنْ يَسيرَ في النهاية في الطريق الصحيح، ويَعْبُرُ النهرَ أخيرًا، ويَصعدُ التَّلَّ، ويَدخُل المدينة السماويَّة. ولا يَذْكُر "بَنْيان" البَتَّة الامتلاءَ بالروح. ففي كُلِّ "سِياحَة المسيحيّ"، لا نَراهُ يَتحدَّث عن الامتلاءِ بالروح. ولكِنْ هل تعلمون ما الَّذي يُكَرِّره نحو خمسين مَرَّة؟ إنه يقول إنَّ المسيحيَّ يعودُ أَدْرَاجَهُ إلى الطريق القويم ويَسيرُ فيهِ كيف؟ مُرَنِّمًا. فهذه هي طريقة "جون بَنْيان" في قول الشَّيء نفسه. فقد كانَ المسيحيُّ يَمضي في طريقِهِ مُرَنِّمًا. لماذا؟ لأنَّ التَّرنيم يُعَبِّرُ عَمَّا يفعله اللهُ في القلب.
إنَّ الأشخاص المُمتلئين بالروح لديهم تَرنيمة. وبولُس يقولُ، في الحقيقة، إنه عندما يَجتمع الوثنيُّون معًا في صَخَبِهِم وطُقوسهم الشيطانيَّة، فإنهم يفعلون ما يَفعلون وَهُمْ في حالة سُكْر. أمَّا عندما نَجتمع نحن معًا، فإننا نرنم لأنَّ روح الله وَضَعَ ترنيمةً في قلوبنا. لِذلك فإنَّ هذا الأمرَ أساسِيٌّ. ونقرأ في رسالة أفسس 5: 18 أنك إذا كنتَ مُمتلئًا بالروح فإنك ستُرَنِّم. ونقرأ في رسالة كولوسي 3: 16 إنه إذا كانت كلمة المسيح تسكن فيك بِغِنى فإنك ستُرَنِّم. ونقرأ في رسالة يعقوب 5: 13 إنه إذا كان قلبك مُمتلئًا بالفرح فإنك ستُرنِّم. وهذا صحيحٌ. فالله أعطانا التَّرنيمَ لكي نُعَبِّر مِن خلاله عن الفرح.
والآنْ، لقد طَرَحْنا أسئلة عديدة. ولننظر إليها مَرَّة أخرى. فالسؤالُ الصغيرُ الأوَّل هو: في وَسَط مَنْ نُرَنِّم؟ في وَسَط مَنْ نُرَنِّم؟ نقرأ، ببساطة، في العدد 19: "مُكَلِّمِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا". فنحن نُرَنِّم في وسط أنفسنا. فهي ترنيماتُنا. وأنا أُدرك أنَّ الناس مُصَرُّون على استخدام الترانيم كوسيلة كِرازِيَّة. وقد وَعَظْتُ في أماكن مختلفة توجد فيها فِرَق مُعَيَّنة تَعزِف موسيقا مُعيَّنة. وقد كنتُ أسألُ: "لماذا تَعزفونَ هذا النَّوع مِنَ الموسيقا؟" وكانوا يَرُدُّون قائلين: "إنْ أردتَ أنْ تَكرز بالمسيح للناس مِن خلال التَّرانيم، يجب عليك أن تَعزف الموسيقا الَّتي يَستمع إليها الناس". والسُّؤالُ الَّذي أَطْرَحُهُ هو نفسه دائمًا: "وما هو الشَّاهِدُ الكِتابِيُّ الَّذي يقول إنه ينبغي لكم أن تُنادوا بالمسيح مِن خلال المُوسيقا؟" والحقيقة هي أنَّ أحدًا مِن هؤلاء لم يُفَكِّر في هذا السؤال. لذلك فإنهم يقولون: "لا أدري". وهل تريدون أن تَعرفوا شيئًا؟ لا توجد آية واحدة في الكتاب المقدَّس تقول: "رَنِّموا إنْجيل المسيح"، بل إنه يقول: "اكْرِزوا بالإنجيل".
فالله لم يُعطينا الموسيقا لتكون أداةً كِرازِيَّة. وما أعنيه هو أنَّ الموسيقا موجودة منذ وقتٍ طويل. وأنا على يقينٍ بأنَّهُ كانت هناك أوقاتٌ عملت فيها التَّرانيم والتَّسابيح والأغاني الروحيَّة على إضْرام قلب غير المؤمنين وإيْقاظِ ضَميرِهِم. وإنْ كانوا قد سَمِعوا حَقَّ الإنجيل، رُبَّما ساعَدَت التَّرانيم في حَفْزهم على المجيء إلى المسيح. ولكِنَّ هذه مِيْزة ثانويَّة على غِرار ما يَحْدُث عندما تَحيا الحياةَ المسيحيَّة فيصيرُ ذلكَ شهادةً لشخصٍ ما. ولكِنَّ جوهر الكِرازة يَنْصَبُّ على المُناداة بالإنجيل، وعيش الإنجيل، وتعليم الإنجيل. فلا توجد آية تقول لنا إنه ينبغي لنا أنْ نَرْبَحَ العالم للمسيح مِن خلال فِرَق التَّرنيم. وأنا لا أريد أن أكون قاسيًا جدًّا بهذا الخصوص، ولكنِّي أعتقد أنَّه إذا تَفَحَّصْنا مرَّةً أخرى ما يقوله الكتاب المقدَّس عن هذا الموضوع، فإنَّنا سنتخلَّص مِنَ العديد مِن الأفكار الرَّديئة الَّتي يُنادى بها باسم الموسيقا المسيحيَّة تحت شِعار أنَّنا نرغب في توصيل الإنجيل إلى العالم. فلا توجد آية واحدة تقول لنا إنه ينبغي لنا أن نَكرز بالإنجيل في العالم مِن خلال التَّرنيم. وأعتقد أنَّه ينبغي لنا أنْ نَتذكَّرَ ذلك دائمًا.
فيجب علينا أن نُنادي بالإنجيل بِصِفَتِهِ قُوَّةَ الله للخلاص. وأنا على يقينٍ أنَّ الله يريد مِنَّا أنْ نَعلم ذلك يقينًا. فبسبب تأثير الموسيقا الشَّديد على المشاعر، يجب علينا ألَّا نُشَوِّشَ موضوع تقديم الإنجيل مِنْ خلال اللَّعب على المشاعر عوضًا عن أنْ يَتَّخِذَ الناسُ قرارًا واعيًا بقبول المسيح. لذلك، أعتقد أنَّه مِنَ المهمِّ جدًّا أنْ نَعلمَ أنَّ الكتاب المقدَّس يقول إنَّه ينبغي للكنيسة أن تستخدم التَّرانيم بين المؤمنين وفي وسط المؤمنين أنفسهم. فهذا هو المكان المُناسب للتَّرانيم.
وأنا أعتقد أنه مِن الرائع أن يأتي الأشخاص غير المُخَلَّصين ويَسمعوا الترانيم. وأنا أرجو أنْ يُحِبُّوا الترانيم. ولكنهم لن يفهموها بالطريقة الَّتي نفهمها نحن. وهُمْ في حاجة إلى إنجيل يسوع المسيح لكي يأتوا إلى المسيح. وهُمْ في حاجة إلى ما هو أكثر مِن الترانيم. وأنا أخشى حقًّا أنْ تُستخدَمَ الموسيقا كوسيلة بسبب تأثيرها في المشاعر. وإذا جَعلتم الموسيقا شبيهة بموسيقا العالم، قد يعتقد الناس أنَّ الإيمان المسيحيَّ لا يَختلف عن الحياة في العالم. لذلك، قد يكون مِن الصعب جدًّا أن تَحصل على أيِّ تكريسٍ مِن هؤلاء. وأنا لا أريد أن أُطيل الحديث عن هذه النقطة، ولكني أريد منكم أن تَفهموا أنَّ بولس يقول إنَّ الأشخاص المُمتلئين بالروح يُرَنِّمونَ فيما بينهم ويُخاطِبونَ أنفسهم. ففي إسرائيل في العهد القديم، كانت موسيقا بني إسرائيل خاصَّة ببني إسرائيل. فقد كانت موسيقاهم خاصَّة بهم. فقد كانت موسيقا شخصيَّة يُعَبِّرون مِن خلالها عن مشاعرهم بين أنفسهم.
ثانيًا، مِنْ أين يَنبع التَّرنيم؟ مِنْ أين تَنبع موسيقانا؟ نقرأ في العدد 19، أو تحديدًا في نهاية العدد 19: "فِي قُلُوبِكُمْ". والمعنى الحرفيُّ هو: "منْ قلوبكم" – أيْ مِنْ مَصدرٍ داخليٍّ. فالمصدر هو القلب. وقد أخبرتكم في الأسبوع الماضي عَمَّا جاء في الأصحاح الخامس مِن سِفْر عاموس. فقد قال النبيُّ عاموس، بِصِفَتِهِ صوتَ اللهِ، مُخاطِبًا شعبَ اللهِ: "توقفوا عن الغناء لأنَّ قلوبكم ليست مستقيمة. فأنا لا أريدُ أن أسمع أغانيكم". وَهُوَ يقول في الأصحاح السادس: "أنتم أيُّها الشعبُ تتصرَّفونَ بحماقة. فأنتم تَضطجعون على أَسِرَّةٍ مِنَ العاجِ، وتَتَمَدَّدونَ على فُرُشٍ فاخِرَةٍ، وتشربونَ الخمرَ في أوعية كبيرة لأنَّ الكؤوسَ صَغيرة بالنِّسبة إليكم. وأنتم تَسكرونَ وتَنغمسونَ في المَلَذَّاتِ، وتَتَطَيَّبونَ بأفضلِ الأطيابِ، وتَضعونَ المُجَوهراتِ في أعناقِكُم، وتعزفونَ كُلّ هذه الأغاني، وتُرَدِّدونَ كُلَّ هذه التَّسابيح، وتخترعونَ الآلات الموسيقيَّة الجديدة المُعَقَّدة. ولكنِّي لا أريد أن أسمع أيًّا مِنْ هذه الآلاتِ أوِ التَّسابيح. تَوَقَّفوا عن القيامِ بكُلِّ ذلك".
ثم نقرأ في الأصحاح الثامن والعدد الثالث: "سوفَ تَتَحَوَّلُ أغانيكُم إلى عَويل عندما أَنْتَهي مِنكُم". بعبارة أخرى، فإنَّ الموسيقا في ذاتها ليست النُّقطة المهمَّة، بل إنَّ قلب الإنسان المُرَنِّم هو النُّقطة الجوهريَّة. فهذه هي المسألة المهمَّة في نظر الله. فقد تُرَنِّم أجمل ترنيمة في العالم. وقد تُرَنِّم أروع الكلمات الَّتي تُمَجِّد الله في العالم. ولكِنْ إنْ لم يكن قلبك سليمًا أمام الله، سواء كنت تُرَنِّمُ هُنا أو هُناكَ أو في بيتك، فإنَّ هذه هي المسألة المُهمَّة لدى الله. فإن لم يكن قلبك سليمًا، فإنَّ الترنيم لن يُرضيه – مَهْما كنتَ بارعًا في الترنيم. مِن جهة أخرى، مهما كنتَ سَيِّئًا في التَّرنيم، ومهما كنتَ سَيِّئًا في الحفاظ على اللَّحْن، إذا كان قلبك سليمًا ستكون الموسيقا عَذْبة على أُذُن الله. فالقلبُ هو النُّقطة الجوهريَّة.
وأودُّ أن أقول لكم، يا أحبَّائي، أنَّ الكنيسة فقدت نظرتها السَّليمة إلى هذا الأمر اليوم. فقد حَشَدْنا في الأوساط المسيحيَّة مجموعة مِن المُوسيقيِّين والمُرَنِّمين وغيرهم مِمَّن لا يمتلكون قلوبًا سليمةً أمام الله بالرَّغم مِن شُهرتهم وسُمعتهم الهائلة في الأوساط المسيحيَّة. ولكنَّ الله ليس مُهتمًّا بترانيمهم إن لم تكن قلوبهم سليمة. وأنا لا أحاول أن أُقْصِي جميع هؤلاء مِنَ الخدمة، ولكنِّي أعتقد أنَّه ينبغي لهؤلاء أنْ يُراجعوا أنفسهم وأن يُقَوِّموا حياتهم قبل أن يَدَّعُوا أنهم يُمَثِّلونَ موسيقا الله لأنَّ اللهَ يَهتمُّ بالقلب.
والحقيقة هي أنَّه لا يجوز لكم أن تُقَلِّدوا موسيقا العالم بأيِّ حالٍ مِنَ الأحوال. فينبغي أن تكون موسيقانا مختلفة. فموسيقا العالم ستتوقف في يومٍ ما. هل تعلمون ذلك؟ فكل مَحَطَّة إذاعيَّة تُذيعُ الموسيقا ستتوقَّف. وكل الآلات الموسيقيَّة ستتوقف. ولن تعود هناك موسيقا عالميَّة. وقد تقول: "متى سيحدث ذلك؟" في سفر الرُّؤيا والأصحاح 18 – إنْ أردتم أن تقرأوا ذلك. وسوف أريكم ما جاء في الأعداد 20-22. ففي رؤيا 18، يَدينُ اللهُ أنظمة العالم. ونقرأ هنا عن نظامٍ عالميٍّ يُعْرَفُ باسم "بابل". وقد كانت بابل أصل النظام العالميّ الشرير. وسوف تكون هي خاتمة ذلك النظام. لذلك فإنَّ هذا الشكل الأخير للنظام العالميّ المُتمثِّل في ضِدِّ المسيح يُدعى باسم "بابل".
ونقرأ هنا كيف أنَّ بابل المذكورة في الأصحاح 18 ستَزول في نهاية فترة الضيقة العظيمة. وعندما تَزول، سيأتي المسيح ثانيةً ويُؤسِّس مملكته. وواحد مِن الأشياء الَّتي ستحدث هي الآتي: فنحن نقرأ في العدد 21: "وَرَفَعَ مَلاَكٌ وَاحِدٌ قَوِيٌّ حَجَرًا كَرَحىً عَظِيمَةٍ، وَرَمَاهُ فِي الْبَحْرِ قَائِلاً: «هكَذَا بِدَفْعٍ سَتُرْمَى بَابِلُ الْمَدِينَةُ الْعَظِيمَةُ". وعندما يزول النظام كُلُّه، انظروا إلى ما سيَزولُ أوَّلاً إذْ نقرأ في العدد 22: "وَصَوْتُ الضَّارِبِينَ بِالْقِيثَارَةِ وَالْمُغَنِّينَ وَالْمُزَمِّرِينَ وَالنَّافِخِينَ بِالْبُوقِ، لَنْ يُسْمَعَ فِيكِ فِي مَا بَعْدُ". فهذه هي نهاية الموسيقا العالميَّة. هذه هي نهايتها. فسوف تَزول. فالله يقول: "هذا يكفي. لقد زالت". فكُلُّ موسيقا ليست مُمتلئة بالروح ستتوقَّفُ حالاً. فالله هو الَّذي أعطى الموسيقا للبشر. وهي بَرَكَةٌ رائعةٌ. ولكنَّ الإنسانَ أَفْسَدَ تلك الهِبَة الإلهيَّة كما أَفْسَدَ كُلَّ هبة أخرى مِنَ الله. لذلك، سوف يأتي يومٌ يُزيلُ اللهُ فيه الموسيقا.
وهل يمكنكم أن تتخيَّلوا العالم مِن دون موسيقا؟ هل يمكنكم أن تتخيَّلوا ذلك؟ فالناس في مجتمعنا لا يُطيقون الانتظار بعد خروجهم مِن بيوتهم وتَوَجُّهِهِمْ إلى سيَّاراتهم لتشغيل المِذياع. وما أنْ يُغادروا سَيَّاراتِهم ويَدخلوا بيوتهم فإنهم يُسارعون أيضًا إلى تشغيل المِذياع. فالموسيقا تَصْدَحُ في العمل. والموسيقا تَصْدَحُ في المَعمل، وفي المَتجر، وفي وقت الاستراحة بين شَوْطَيْ مُباراة كُرة القدم. فهي تَصْدَحُ باستمرار. والناس لا يريدون أن يواجهوا الحياة مِن دون الموسيقا لأنَّ الموسيقا تَزرع الأفكارَ والكلماتِ في أذهانهم لكي تَمنعهم مِن التفكير في الأمور المهمَّة. والعالم مِنْ دون الموسيقا سيكون مكانًا مُحْبِطًا جدًّا. ولكِنَّ هذا هو ما يقولُ الله إنه سيفعله.
فنحن نقرأ في سِفْر حزقيال 26: 13: "وَأُبَطِّلُ قَوْلَ أَغَانِيكِ، وَصَوْتُ أَعْوَادِكِ لَنْ يُسْمَعَ بَعْدُ". وقد قال ذلك لصُوْر. ثُمَّ جاء الأعداءُ ودَمَّروا المدينة. وقد كانت تلك صورة مُصَغَّرة عَمَّا سيحدث عندما يَدينُ اللهُ العالم. فلن تكون هناك أَغانٍ في جَهَنَّم. فسوف يَقضي النَّاسُ الأبديَّة في جهنَّم مِنْ دون نَغَماتٍ موسيقيَّة، ومِنْ دونِ أغانٍ يُغَنُّونَها، ومِنْ دونِ أيِّ شيءٍ يُخَفِّفُ مِنْ وَطْءِ الدينونةِ الرهيبة الَّتي سيَختبرونها. والتَّرنيمةُ الوحيدة الَّتي ستُرَنَّمُ بعدَ أن يُوْقِفَ اللهُ موسيقا العالم هي التَّرنيمة النابعة مِن قلوب قِدِّيسي الله المُمتلئين بالروح؛ وهي ترنيمة سيَتَرَدَّدُ صَداها في أرجاء الملكوت وتستمرُّ إلى الأبد. إنَّها ترنيمةُ المَفديِّين الأبديَّة. اسْمَعوا: يجب أن تَنْبُع ترنيماتُنا مِن قلوبنا وأنْ تكون فريدة ومُمَيَّزة.
ثالثًا، إلى مَنْ نُرَنِّم؟ إنَّ هذا واضحٌ. أليس كذلك؟ فنحن نقرأ في الأصحاح الخامس والعدد 19، في نهاية العدد: "لِلرَّبّ". فنحنُ نُرَنِّمُ للربِّ. لهذا فقد قلتُ في هذا الصباح إنه لا حاجة إلى التَّصفيق. وأنا أُقَدِّر ذلك ولا بأس في ذلك. وأنا لا أريدكم أن تشعروا بالاستياء بسبب تقديم الشكر بتلك الطريقة إنْ كان هذا هو حقًّا ما في قلوبكم. ولكِنْ لا يوجد ما يُحَتِّم عليكم أن تُعَبِّروا عن شكركم بتلك الطريقة لأنَّنا نُقدِّم ذلك حقًّا للربّ. وإنْ كان يجوزُ لأحدٍ أنْ يُصَفِّق فهو الربّ. وقد كان يُصَفِّق كثيرًا في الليلة الماضية مِنْ خلال أصواتِ الرُّعودِ الَّتي كانت تُدَوِّي في أماكن عديدة. ولكنِّي لا أَظُنُّ أنَّ هذا مُرتبط بالموضوع الَّذي نتحدَّث عنه. فلا أعتقد أنَّ الربَّ يتجاوب بهذه الطريقة.
إنَّ ما أحاول أن أقوله هو أنَّه عندما نُقَدِّم شيئًا للربِّ، فإنَّنا لا نُقدِّمه على سبيل التَّسلية. فإنْ كانت الجَوْقَة تُرَنِّم، أوْ إنْ كانَ أحدُ الأشخاصِ يَعْزِفُ (كما فَعَلَ "روفوس" [Rufus] في هذا الصباح)، أو إن كانَ أحدُ الأشخاصِ يُرَنِّم، فإنهم لا يحاولونَ في الحقيقة أنْ يُقَدِّموا لكم عَرْضًا موسيقيًّا، بل يحاولون أن يُساعدوكم في تركيز أفكاركم مع أفكارهم ورفع تسبيح قلوبكم للربِّ. لذلك، فإنَّ ما يحدث هنا هو ليس تسليةً. فنحن نَنْقادُ جميعًا بطريقة مُوَحَّدة بواسطة المُرَنِّمينَ والموسيقيِّينَ لتسبيح الربِّ نفسه. ويجب أن يكونَ الربُّ هو هَدَفُ تسبيحِنا. فهو مُوَجَّهٌ للربِّ. فينبغي تقديم كل الموسيقا له. وكما تَعلمون، يجب عليكم أن تفحصوا قلوبكم أثناء التَّرنيم. فهناك مَنْ يقول: "إنَّ فُلانة تَنهَض وتُرَنِّمُ طوال الوقت، ولكنِّي أعتقد أنها تَفعل ذلك مِنْ أجل الظُّهورِ فقط". ولكن يجب أن تعلموا أنَّ جميع الأشخاصِ الَّذين يُرَنِّمونَ مِنْ أجل الظهور لا يقفونَ هنا.
وعندما يَحينُ وقتُ التَّرنيمِ الجماعيِّ للرَّعيَّة، هناك أشخاصٌ تَعلو أصواتهم على أصواتِ جميع المُحيطينَ بهم. لذلك فإنَّ أفرادَ الرعيَّة يَلتفتون حولهم ويقولون: "ما أروعَ صَوْتَ هذا الشَّخص!" وقد قال "مارتن لويد-جونز" (Martyn Lloyd-Jones) إنَّ مَن يفعلون ذلك مِنَ الرَّعيَّة أكثر مِمَّنْ يفعلون ذلك في الجَوْقَة الموسيقيَّة. ولا أدري إنْ كان هذا الأمرُ صحيحًا أَمْ لا، ولكنِّي أعتقد أنَّه ينبغي لنا جميعًا أن نُدرك أنَّنا إنْ كُنَّا نرنم مِن قلبٍ ممتلئ بالروح، يجب أن يكون ترنيمُنا مُوَجَّهًا للربِّ وليس للأشخاص المُحيطين بنا لكي يَمْتَدِحوا أصواتَنا.
ونجد في سفر أخبار الأيَّام الثاني والأصحاح الخامس مَثَلاً توضيحيًّا عمليًّا على ذلك. ونحن هُنا أمامَ نَصٍّ رائعٍ. فقد تَمَّ بناءُ الهيكل العظيم. وقد كان ذلك اليوم مجيدًا في حياة بني إسرائيل. ونقرأ في سفر أخبار الأيَّام الثاني 5: 12 أنَّ اللَّاوِيِّينَ (الَّذينَ كانَ التَّرنيمُ مِنْ واجباتهم) اجتمعوا معًا لتكريس الهيكل ووقفوا هناكَ وَهُمْ يَرتدونَ كَتَّانًا أبيضَ ويحملونَ الصُّنُوجَ وَالرَّبَابَ والأعْوادَ. وكان هناكَ مِئَةٌ وَعِشْرُونَ كاهنًا يَنْفُخُونَ فِي الأَبْوَاقِ. وهل لكُم أن تَتخيَّلوا جَوْقَةً موسيقيَّةً تتألَّفُ مِنْ أربعةِ آلافِ مُرَنِّمٍ ومئةٍ وعشرينَ مُبَوِّقٍ؟ فيا لها مِنْ مُناسَبَة رائعة! "وَكَانَ لَمَّا صَوَّتَ الْمُبَوِّقُونَ وَالْمُغَنُّونَ كَوَاحِدٍ" – وكيفَ كانوا كَواحِدٍ؟ "صَوْتًا وَاحِدًا". فقد كانوا كواحِدٍ في أنهم كانوا يَعزفونَ اللَّحْنَ نَفسه، وبالطريقة نفسها، ويُرَدِّدونَ الكلماتِ نفسها.
بعبارة أخرى، فقد كانوا مُمَيَّزينَ ورائعينَ موسيقيًّا. وفضلًا عن ذلك، فقد كانوا مُتَّحِدينَ في تسبيحِ الربِّ وَحَمْدِهِ. بمعنىً آخر، فقد كانوا يَتمتَّعونَ بالعافِيَةِ موسيقيًّا ويَتمتَّعونَ بالعافيةِ في قلوبهم. ونحنُ نقرأ: "وَرَفَعُوا صَوْتًا" (أيْ صوتًا واحدًا) "بِالأَبْوَاقِ وَالصُّنُوجِ وَآلاَتِ الْغِنَاءِ وَالتَّسْبِيحِ لِلرَّبِّ: «لأَنَّهُ صَالِحٌ لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ»". وقد سُرَّ اللهُ بهم جدًّا حتَّى إنَّنا نقرأُ "أَنَّ البَيْتَ، بَيْتَ الرَّبِّ، امْتَلأَ سَحَابًا وَلَمْ يَسْتَطِعِ الْكَهَنَةُ أَنْ يَقِفُوا لِلْخِدْمَةِ بِسَبَبِ السَّحَابِ، لأَنَّ مَجْدَ الرَّبِّ مَلأَ بَيْتَ اللهِ". ويا لها مِن صورة جميلة. فالموسيقا تُمَجِّد الله. واللهُ يتجاوب مِن خلال حُضورهِ القويِّ حتَّى إنهم لم يستطيعوا أنْ يقفوا للخدمة لأنَّ مَجْدَهُ مَنَعَهُم مِنَ الرُّؤية وملأَ المكانَ كُلَّه.
وفي سِفْر الرؤيا، عندما تقرأونَ عن الجَوْقَة العظيمة الَّتي ستُرنِّم في المستقبل، فإنهم يُرَنمون للربَّ قائلين: "مُسْتَحِق هُوَ الْخَروُفُ" ويُسَبِّحونَ اللهَ. فكل التَّرنيمِ مُقدَّمٌ لله. وقد قال "يوهان سيباستيان باخ" (Johann Sebastian Bach) (الَّذي هو بِحَقّ الأبُ الحقيقيُّ للموسيقا الحديثة)، قال هذه الكلمات قبل بضعة قرون: "إنَّ الغاية مِن كُلّ الموسيقا هو مَجْدُ الله". نهاية الاقتباس. وَهُوَ مُحِقٌّ. لذلك، عندما نُرَنِّم، يجب علينا أن نتذكر دائمًا أنَّ ترنيمنا هو تقدمة تسبيح للربّ. وهذا يعني أنَّ الكلمات الَّتي نُرَنِّمها، أيًّا كانت الكلمات الَّتي نُرَنِّمها، ينبغي أن تكون كِتابيَّة. أليس كذلك؟ فيجب أن تعكس حقًّا أفكار الله ومواقف الله وإعلانَ الله. وهناك ترانيم كثيرة لا تَعكس ذلك البَتَّة. فهي خَليطٌ غيرُ مُتجانِسٍ لاهوتيًّا. وهي خاطئة عقائديًّا. فينبغي أن تكون كلماتُنا صحيحة. وليس هذا وحسب، بل يجب أن يُمَجِّدَ اللَّحْنُ الله. فهو الوسيلة الَّتي نُرَنِّم مِن خلالها. وأنا أعتقد أنَّ الترانيم تُقَدَّم أحيانًا إلى الله بطريقة مُبْتَذَلَة حَتَّى إنَّ الله لا يرغب في أن يكون لهُ أيُّ شأنِ بها بسبب ما تُوحي به في النِّظام الَّذي نعيشُ فيه. فيجب أن يكون هناك جمالٌ وتَمَيُّزٌ وتَفَرُّدٌ بحيث يكون مِن الواضح أنَّ هذه الموسيقا مُقَدَّمة لله.
وقد تقول: "هل تَعني، يا جون، أنَّهُ لا يجوز أن يكون للموسيقا أيُّ تأثيرٍ فينا، بل ينبغي أن تكون مُقدَّمة فقط لله دون أنْ نُفَكِّر في أنفسنا؟" هل تَعلمونَ ما الشيء الرائع جدًّا؟ عندما تمتلئون بالروح وتُقدِّمون تلك الموسيقا لله، سوف يكون لها تأثيرٌ فيكم. أليس كذلك؟ ويمكنني أن أقول لكم ما يَعنيه ذلك بالنسبةِ إليَّ. فعندما أجلسُ وأستمع إلى الموسيقا، ويكونُ قلبي مُمتلئًا بالروح، وأُرَنِّم، وأُسَبِّح الربَّ، وأسمعُ المُرَنِّمين والعازِفينَ يفعلونَ ذلك، فإنِّ جِسْمي يَقْشَعِرُّ وقد أَذْرِفُ الدُّموع. فالتَّرنيمُ يترك تأثيرًا رائعًا فِيَّ. وهل تعلمونَ أنِّي إذا عُدتُ يومًا إلى بيتي وكنتُ أشعُرُ بالإحباطِ أوِ الحزنِ، فإنِّي أستمع إلى ترنيمة مُعيَّنة فترتَفِعُ رُوْحي. فهي تَرفعني فوق نفسي وأبتدئُ بالتَّرنيم معَ المُرَنِّمين والعازِفينَ، وأبتدئُ بالتفكير في التَّرنيمة، وأبتدئُ في رَفْعِ قلبي إلى اللهِ فأشعُر بتأثيرها الشَّافي في قلبي.
وزوجتي تُخبرُني دائمًا عن تأثير الموسيقا الرَّائع والمَهَدِّئ لِروحِها – ولا سِيَّما بوجود أربعة أبناء في البيت، وزَوْجٍ مَشغولٍ جدًّا، وحياةٍ سريعةٍ جدًّا طوال اليوم، فإنَّ الموسيقا، أيِ التَّرانيم المُوَجَّهة إلى الربِّ، لها تأثيرٌ مُهَدِّئ في رُوْحِها. وأعتقدُ أنَّ التَّرانيمَ تتركُ هذا التَّأثيرَ وأنَّ اللهَ قَصَدَ أنْ يكونَ للموسيقا هذا التَّأثير.
واسمحوا لي أن أُريكُم آيةً رائعةً وهي 1صموئيل 16: 23. وهي تتحدَّث عن داود. وقد كان داود، دونَ شَكٍّ، موسيقيًّا عظيمًا. فإلى جانب كل شيءٍ آخر أَحْسَنَ القيامَ به، كان موسيقيًّا عظيمًا، وكان عازِفًا ماهرًا، ومُرنمًا مُحترفًا، وكاتبًا عظيمًا للتسابيح كما هو واضحٌ مِن خلال سِفْر المزامير. ولكنَّنا نقرأ في 1صموئيل 16: 23 أنَّ شاوُل استدعى داود. فعندما كان شاوُل يشعر بالانزعاج والاضطراب، وكان يَمُرُّ بأوقاتٍ عصيبة، كان يَستدعي داود ليَعزف له. ونقرأ في منتصف الآية: "أَنَّ دَاوُدَ"، ولن نُقَدِّمَ لكم الصورة كاملةً، بل سنكتفي بالقول إنَّ داوُدَ "أَخَذَ الْعُودَ وَضَرَبَ بِيَدِهِ". ومِنَ الواضحِ أنَّه لم يكن هناك ترنيمٌ في هذه الحادثة، بل إنَّ داودَ اكتفى بالعزفِ على العود. وما الَّذي حدث؟ أنا أعلمُ شيئًا واحدًا وَهُوَ أنَّ داودَ عَزَفَ تلك الموسيقا للربِّ إنْ كان موقفه القلبيُّ آنذاك كما هي الحالُ عادَةً. فقد عَزَفَ داودُ على العودِ للربِّ. ولكِنْ كانت هناك نتيجة ثانويَّة شَعَرَ بها شاوُل. انظروا إلى هذا. فقد حدثت ثلاثة أمور: "فَكَانَ يَرْتَاحُ شَاوُلُ وَيَطِيبُ وَيَذْهَبُ عَنْهُ الرُّوحُ الرَّدِيءُ".
أَتَرَوْنَ ثلاثَ نتائِجَ هنا؟ عَقليَّة، وبدنيَّة، وروحيَّة. فالموسيقا كانت تُؤثِّرُ فيه، في المقامِ الأوَّلِ، عَقليًّا. فقد كان يَرتاح. ومِنَ الواضحِ أنَّه كان يمرُّ بوقتٍ عصيبٍ، وأنَّ عقله كان مُشَوَّشًا، وأنَّ ذِهنه كان مُتْعبًا. ومعَ أنَّ داود كان يَعزفُ للربِّ، فقد كان شاول يشعر بالارتياح ذهنيًّا. وفي القرنين السابع عشر والثامن عشر، كان الأطبَّاءُ يُوْصُوْنَ باستخدام الموسيقا لعلاج المرضى المُصابين بأمراضٍ عقليَّة. وقد كانت لديهم مقطوعات موسيقية مختلفة لعلاج الأمراض العقليَّة المختلفة. وفي وقتنا الحاضر، هناك علاجٌ مُشابهٌ لذلك. فالموسيقا لها تأثيرٌ عظيمٌ. وربما سمعتم القولَ بأنَّ "الموسيقا قادرة على تسكين القلب الَّذي يَشعُر بالوَحْشَة". وهذا صَحيحٌ نوعًا ما. فالموسيقا قادرة على تسكين النَّفس.
وهناك مؤسَّسة في أمريكا تُعرف باسم "ميوزاك" (Muzak) تُوفِّر ما يُسَمَّى بالموسيقا غير التَّرفيهيَّة للاستخدامات المِهَنِيَّة. فمثلاً، عندما تذهب إلى عيادة طبيب الأسنان، فإنك تتساءل عن سبب اختيارك لأحد أطبَّاء الأسنان على الآخر. إنَّ ذلك بسبب مهارته، وبسبب ابتسامته، وربما بسبب الموسيقا الَّتي تسمعها هناك. فالموسيقا لها قدرة مذهلة على تسكين نفسك. وهذا أمرٌ أَثْبَتَتْهُ الدِّراسات. والقائمون على مؤسَّسة "ميوزاك" ليسوا موسيقيِّين في المقام الأوَّل، بل هُم علماء سُلوكِيُّون. وهُم يَعرفون الموسيقا الَّتي تجعلك تشعر بالراحة في كُرْسِيِّ طبيب الأسنان. والأمر نفسُه يَصحُّ في عيادة الطبيب. والشيءُ نفسُه يَصُحُّ في المصنع أو المَعمل. وَهُمْ يُؤكِّدونَ لصاحب العمل أنه إذا استخدَمَ تلك الموسيقا في مَصنعه، فإنَّ العُمَّال سيُنتجون أكثر في وقتٍ أقَلّ. وَهُمْ قادرون على تقديم البراهين على ذلك بالأرقام والنِّسَبِ المِئويَّة.
فضلاً عن ذلك، فقد وجد العُلماء أنَّه في المَتاجِر الَّتي تُشَغَّلُ فيها تلك الموسيقا فإنَّ الزَّبائنَ يَشترونَ أكثر بسبب الموسيقا. فعقلك لا يَضطرب ولا يَتشوَّش بسبب أنواعٍ مُعَيَّنة مِن الموسيقا. فالعديدون منكم يَقودون سيَّاراتهم على الطريق السريع بعد الانتهاء مِنْ أعمالكم وبعدَ يومٍ شاقٍّ فتستمعونَ إلى شيءٍ ما مِثْل مَحَطَّة "كي-بي-آي- جي" (KBIG) لأنها تُذيعُ موسيقا مُهَدِّئة للنَّفس؛ خِلافًا للجُنون الدَّائِرِ مِنْ حَوْلِكُم. وإذا استمعتم إلى موسيقا الرُّوك اليوم ستعرفون سبب كثرة المجانين. فتلك الموسيقا لها تأثيرٌ مباشرٌ فيكم إذْ إنَّها تجعلكم تنزعجون وتضطربون.
ويقول الدكتور "جاي كينان" [Dr. Jay Keenan] (رئيس مؤسَّسة ميوزاك)، وأنا أقتبس كلماتِهِ: "خِلافًا للعقاقير، فإنَّ الموسيقا تؤثِّرُ فينا نفسيًّا وبدنيًّا دون أن تَدخُل مَجرى الدَّمّ. وقد بَيَّنت الدراسات أنَّ الموسيقا قادرة على التَّأثيرِ في عَمَلِيَّاتِ الأيْضِ، وفي دَقَّاتِ قُلوبِنا، وفي نَبْضِنا. وقد تَخَصَّصَت شركة ميوزاك في التَّطبيقات غير التَّرفيهيَّة للموسيقا لأنَّها تَرتبط بالعلوم السلوكيَّة. وقد تَمَّ استخدام التَّأثيرُ القويُّ للموسيقا في برامج تَترك تأثيرًا مُنْضَبِطًا في الناس في أماكن العمل". نهاية الاقتباس. فَهُمْ يعرفون ما يفعلونه بأذهان الناس. فالموسيقا لها تأثيرٌ واضحٌ في الإنتاج، وفي تحسين المبيعات، وفي جعل النَّاس أكثر سعادةً. فالموسيقا تؤثِّرُ في تفكيرنا.
وفي القرن السابع عشر، كان هناك عالمٌ وطبيبٌ ألمانيٌّ مشهورٌ جدًّا اسمه "أثناسيوس كيرشير" (Athanasius Kircher) دَرَسَ تأثير الموسيقا علينا بَدَنِيًّا. وكان هو الَّذي اكتشف أنك إذا وضعتَ ماءً على حَافَةِ الكأسِ وَمَرَّرْتَ إصبعك عليها فإنك ستسمع أصواتًا مختلفة. وقد قام بدراساتٍ أخرى ووجدَ أنَّ الموسيقا تُسَبِّب ذبذباتٍ في الهواء مِن حَوْلِكَ ويمكنها أن تُحْدِث تغييرًا في تَدَفُّق السوائل في جسدك (كالدَّمِ أوِ اللُّعابِ أوِ السائلِ اللِّمفاويِّ، أوْ غيرِهِ). وهو يقول إنك قد تتأثَّر بالنغمات المتوافقة، والنغماتِ النَّشاز، والإيقاع، وحِدَّة الصَّوت. وقد تتأثَّر الأعصاب والعضلات وغيرها – كالنَّبضِ، وضرباتِ القلبِ، وكل شيء.
وربما ترغبون في معرفة شيءٍ ما إذا كنتم قد سمعتم يومًا تلك المقطوعة الموسيقيَّة الَّتي تُعْرَف باسم التَّرَنْتيلَّة (Tarantella). فالتَّرَنتيلَّة لُحِّنَتْ في الأصل اعتقادًا بأنَّ الطَّريقة الَّتي لُحِّنَتْ بها تَجعلها قادرة على تخليص المرءِ مِنْ سُمِّ عنكبوت "الرُّتَيْلاء". وقد كانوا يؤمنونَ حقًّا أنَّ هذا هو ما تفعله موسيقا التَّرَنْتيلَّة. فإذا تَعَرَّضَ شخصٌ للدغة عنكبوتِ الرُّتيلاء، اجعلوه يَسمع تلك الموسيقا. فهي قادرة على تخليص جسمه مِنَ السُّمِّ. وأنا لا أُصَدِّقُ ذلك تمامًا، ولكنَّ هذا يعطيكم فكرة عن نظرة النَّاس عبر العصور إلى تأثير الموسيقا. وَهُمْ يستخدمون الموسيقا الآن لمساعدة المرضى على الشِّفاء في المستشفيات. فإذا أَحْضَرْتَ مَريضَيْن مُصابَيْنِ بالمرض نفسه، ولديهما الأعراضُ نفسُها والتَّخيصَ نفسَهُ، وَأَخْضَعْتَ واحدًا منهما لبرنامجٍ علاجيٍّ موسيقيٍّ، والآخر لا، ستجد أنَّ الشخص الَّذي خَضَعَ للعلاجِ بالموسيقا قد استعادَ عافيتَهُ بوقتٍ أسرع وأنه تَحَسَّن أكثر مِن المريض الآخر في ظروفٍ مُعَيَّنة. فالموسيقا لها تأثيرٌ في البَدَن.
كذلك، فإنَّ للموسيقا تأثيرٌ روحيٌّ. فشاول لم يكن يَشعر بالارتياح والتحُّسن فقط، بل إنَّنا نقرأُ: "وَيَذْهَبُ عَنْهُ الرُّوحُ الرَّدِيءُ". وأعتقدُ أنَّ هذا يعني أنَّ للموسيقا تأثيرٌ روحيٌّ أيضًا. وأنا لا أقولُ إنك إذا كنتَ تُعاني بسبب سُكْنى الأرواح الشِّرِّيرة وسمعتَ لحنًا مُعَيَّنًا فإنَّ الأرواحَ الشريرةَ ستُغادِر. وأنا لا أحاولُ أنْ أُنادي بذلك. ولكنِّي أقولُ إنَّي أُوْمِنُ أنَّ الموسيقا قد تُستخدَم كخدمة روحيَّة في شفاء الجروحِ الروحيَّة لشخصٍ ما. أليس كذلك؟ وأنا أعلمُ أنها فَعَلَتْ ذلك في حياتي مَرَّاتٍ عديدة. فقد أكونُ مُحْبَطًا تمامًا بسببٍ أمرٍ ما، ولكنِّي أجلسُ وأستمع إلى ترنيمة "أُفَضِّلُ رَبِّي على كُلِّ مَالٍ" (I’d Rather Have Jesus Than Anything) فأشعرُ بتأثيرها الرائع على أفكاري الروحيَّة. لذلك، معَ أنَّ الموسيقا تُقَدَّمُ إلى الله، فإنَّها تتركُ تأثيرًا ثانويًّا عَظيمًا فينا. وقد أعطانا اللهُ الموسيقا كَهِبَة رائعة. وعندما تُستخدَم استخدامًا صحيحًا، فإنها قادرة على إنعاش النَّفس، وشفاء الجسد، ورَدّ الرُّوح.
حَسنًا! إذًا، الموسيقا مُهِمَّة. ولنرجع إلى رسالة أفسُس. والآنْ، لدينا سؤالٌ رابعٌ نَوَدُّ أن نطرحه وَهُوَ: إنْ كُنَّا سنُنْتِج هذا النوع مِن الموسيقا، وهي موسيقا رائعة لأنها مُقَدَّمة إلى الله وتترك تأثيرًا رائعًا فينا، ما هي الوسيلة الَّتي سنستخدمها؟ ما هي الوسيلة المقبولة؟ وأنا أذكُرُ أنَّ شخصًا ما كَتَبَ مقالةً عن كنيستنا وانتقَدَنا لأنَّنا سَمَحْنا لعازِفِ غيتارٍ بالعزف في الكنيسة. والحقيقة هي أنَّنا سَمَحْنا لأحد الأشخاص أن يَعزف الغيتار في الكنيسة. فقد نَقَرَ أحَدُهُم الأوتار. وأنا أذكرُ أنَّ تلكَ كانت مقالة كبيرة وأنَّ الجميعَ انزعجوا بسبب ذلك الموضوع وقالوا إنَّنا، بكل تأكيد، كنيسة مُتَحَرِّرة لأنَّنا سَمَحْنا بوجود الغيتار. ولكِنْ مَنِ الَّذي يُحَدِّد ما يمكننا أن نفعله؟ ومَنْ يُحَدِّد الأشياء المقبولة؟ لاحِظوا ما سأقول لأنه مُدهشٌ.
أوَّلاً، هناك جُملة عامَّة في العدد 19. والكلمة الأولى هي ماذا؟ "مُكَلِّمينَ". وهل تَعلمونَ ما هي هذه الكلمة في اللغة اليونانيَّة؟ "لاليئُّو" (Laleo). وهل تعلمونَ مَصْدَرَها؟ "لا-لا-لا-لا-لا" (la-la-la-la-la)، لا-لا-لا-لا" (la-la-la-la). فقط: "لا-دي-دا" (la-de-da). إنها كلمة تُحاكي الصَّوْتَ لأنها تُنْطَقُ هكذا "لا-لا-لا-لا". إنها صوتٌ وحسب. "لاليئُّو" (Laleo). فهي حركة يقوم بها اللِّسانُ فقط، لا-لا-لا. أَتَرَوْن؟ فهي حركة يقوم بها اللِّسان. فعندما يتحرك اللسان، فإنه يقول "لا-لا-لا-لا". فهذا هو كل شيء. وهذا هو معنى الكلمة. إنهُ أيُّ صوت. ويجب أن تعلموا أنه في الأصل، فإنَّ المعنى الأَقْدَم الَّذي نَجِدُهُ لهذه الكلمة هو "الزَّقْزَقَة". وهي كلمة تستخدم كثيرًا في اللُّغة اليونانيَّة الكلاسيكيَّة للإشارة إلى زَقْزَقَة العصافير. وهي تستخدم أيضًا لوصف الطريقة الَّتي يتحدَّث بها الأطفالُ الصِّغار.
قبل بضعة أيَّام، كان لدينا طفلٌ صغير في منزلنا. وقد جلستُ هناكَ وَرُحْتُ أُراقبه مُدَّةَ ساعة أو أكثر. وقد كان مُضْحِكًا حقًّا. فقد كان يقول فقط: "لا-لا-لا-لا-لا-لا" ... فقط "لا-لا-لا". والحقيقة هي أنَّ هذا هو معنى الكلمة "لاليئو" في الأصل. فهي تشيرُ إلى الأصوات الَّتي يُصْدِرُها الأطفال الصغار أو إلى زقزقة العصافير. وهي تستخدم أيضًا لوصف أصوات الحَيَواناتِ، أيْ لوصفِ الأصواتِ المختلفة الَّتي تُصْدِرُها الحَيَواناتُ. وهي تُستخدمُ لوصفِ صوتِ الجَرادِ وصُرْصارِ اللَّيْلِ في اللُّغة اليونانيَّة الكلاسيكيَّة. بعبارة أخرى، فإنَّها تَعني: "أصْواتًا".
وهل رأيتم يومًا مجموعةً مِنَ الأطفال الصِّغارِ الَّذين يأتونَ وهُمْ يَحملونَ وَرَقَ صَنْفَرَة، وَعُوْدَيْنِ خَشَبِيَّيْن، ومُثَلَّثًا، وبعضَ الأدواتِ ويُصدرونَ أصواتًا ... مُجَرَّدَ أصواتٍ؟ هذه هي الطريقة الَّتي كانت تُستَخدمُ فيها الكلمة "لاليئُّو". فمثلًا، إنَّها تُستخدَم في سفر الرُّؤيا 4: 1 إذْ نقرأ: "وَالصَّوْتُ الأَوَّلُ الَّذِي سَمِعْتُهُ كَبُوقٍ". فهو صوتُ بُوْقٍ. وَهي تُستخدم غالبًا في اللغة اليونانيَّة الكلاسيكيَّة للإشارة إلى أصوات الآلات الموسيقيَّة كالقيثارة، والأبواق، والطُّبول، وكل شيء. وهي تُستخدَم في سِفْر الرُّؤيا 10: 4 للحديث عن الرَّعْد: "وَبَعْدَ مَا تَكَلَّمَتِ الرُّعُودُ السَّبْعَةُ بِأَصْوَاتِهَا". فالرعْدُ يُصْدِرُ صَوْتًا. والآنْ، لاحِظوا ما سأقول: فما يقولُهُ بولسُ هُنا هوَ أنَّ "الأشخاصَ المُمتلئينَ بالروح يُصْدِرونَ صَوْتًا". وهذا هو ما يقولهُ أيضًا العهدُ القديم: "اِهْتِفِي لِلرَّبِّ يَا كُلَّ الأَرْضِ". فالنِّطاقُ الَّذي تَصفُهُ الكلمة واسعٌ جدًّا.
والمَعنى المقصود هوَ أيُّ صوتٍ يُقَدَّم إلى الربِّ مِنْ قلبٍ مُمتلئ بالروح في السِّياق الصَّحيح. فقد يكونُ غيتارًا، أو كَمانًا، أو طَبْلًا، أو قيثارةً، أو قَرْنًا، أو بوقًا، أو نايًا، أو مِزْمارًا، أو أيَّ آلةٍ أخرى. وفي هذا المساء، عندما تأتونَ إلى هنا، ستجدونَ خمسةً وأربعينَ أو خمسينَ عازفًا يَعزفونَ كُلَّ هذه الآلات ويُسَبِّحونَ الربَّ فيما بينهم. جميع الأصوات. وهل فَكَّرتم يومًا كيفَ أنَّ اللهَ أَوْجَدَ كل هذه الأصوات العجيبة؟ فكيف سيكون العالم مِنْ دون الموسيقا؟ كيف سيكون؟ وما أعنيهِ هو: هل يمكنكم أن تتخيلوا كيف سيكون الأمر لو لم يكن بمقدورنا أنْ نُرَنِّم؟ أيْ إذا كان الصوتُ البشريُّ نَغَمَةً واحدةً لا تَتغيَّر، وكُنَّا نَتكلَّم مِثل الإنسانِ الآلِيِّ أو مِثل أيِّ شيءٍ آخر، أيْ إنْ كُنَّا نتكلَّم مِثل الحَاسوبِ طَوالَ الوقتِ. فسوف نَفْقِدْ هُويَّتَنا ولن يَرغب أحدٌ في سَماعِنا لأكثر مِن عشر دقائق لأنَّ آذانَهُم سَتَتأذَّى. ولكِنَّ الله أعطانا القدرة على الصُّعودِ والنُّزولِ بأصواتِنا لكي يكونُ حَديثُنا مُمْتِعًا للآخرين. أَتَرَوْن!
والفِكرة هي أنَّ الأصواتَ قادرة على تمجيد الله – جَميع الأصوات. ويجب علينا أن نُصْدِرَ الأصواتَ مِنْ قلوبِنا عندَ تسبيحه. وبالنِّسبة إلى طِفلة صغيرة – وكما تَعلمونَ فإنِّي لا أُحِبُّ أنْ أستخدِم عائلتي لِضَرْبِ الأمثلة التوضيحيَّة. ولكنَّ "ميليندا" (Melinda) الصغيرة تَجعلني أضحكُ لأنها مُعتادة على النهوض في الصباح قبل الآخرين. فنحن جميعُنا ننهض في الساعة السادسة أو السادسة والربع، ولكِنَّ ميليندا تنهض في الساعة الخامسة والنصف. وهي تفعل الشيء نفسه في كل صباح تقريبًا. فهي تنهض مِن السَّرير، وتجلس في مُنتصف الغُرفة، وتُضيءُ مِصْباحَها الصغير، وتُحْضِر كُتُبَها. فهي تمتلك مجموعة كبيرة مِن الكتب المقدَّسة والقصص. فهذا هو كُلُّ ما تعرفه. فقد كُنَّا نقرأها لها مُنذ وِلادَتِها. لذلك فإنها تقرأ تلك الكتب.
وهي تقرأ القصص بنفسها. ومعَ أنَّها لا تستطيع أن تقرأ كلمة واحدة، فإنها تَختلق قِصَّةً بحسب الصُّوَر. وهذا أفضل لأنَّها تَبتدع قصَّة مُختلفة كل يوم استنادًا إلى الصُّوَرِ نفسِها. وهذا يُبقيها مُتَحَمِّسة. لذلك فإنها تَبتدِع القصص وتُغَنِّي بعض الأغاني القصيرة. وهي تُزَقْزِق وَتُصْدِر أصواتًا مُختلفة. وذات صباح، جاءت وقالت لي: "أبي، أبي، استمع". ثُمَّ إنَّها أَصْدَرَتْ صَفيرًا. فقلتُ: "حَبيبتي! أنتِ قادرةَ على الصَّفير!" فقالت: "أجل". والآنْ، صارت لديها طريقة جديدة في إصْدار الأصوات. وأعتقد أنَّ الربَّ يَتَمَجَّدُ عندما يَجلسُ أحدُ الأطفالُ على الأرضِ ويَقرأ لنفسه قِصَّةً عن يسوع، وعندما يُرَنِّم ويُزَقْزِق وَيُصْدِرُ صَفيرًا. فأعتقدُ أنَّ اللهَ يَهْتَمُّ بأنْ يَتِمَّ تسبيحُهُ عندما تَصْدُرُ مِنْ قُلوبِنا أصوات، أيَّا كانت، تَرْمي إلى تَسبيحِه.
ولكنَّهُ يَتَحَدَّثُ بصورة مُحَدَّدة جدًّا. انظروا إلى العدد 19. فما نوع الأصوات؟ هناك نوعان: أوَّلاً، التَّرنيم – في نهاية العدد 19 (وسوفَ نعودُ إلى الجزءِ الآخر)، وثانيًا، التَّرتيل. وهاتانِ هُما الطَّريقتان. وأريدُ أن أُبَيِّن لكم معناهما. فالكلمة "ترنيم" هي ترجمة للكلمة اليونانيَّة "آدو" (ado)، وهي تعني الغِناء بالصوت. وهذه واحدة مِن طُرق إصدار النَّغمات الموسيقيَّة مِن خلال الغِناء بالصوت. ولا خطأ في أنْ يُغَنِّي المرءُ بصوته. فهذا رائعٌ. فأن يقف شخصٌ هُنا ويُرَنِّم مُنفردًا مِن قلبه للربِّ هو أمرٌ رائعٌ. ولا خطأَ في ذلك. وأنا أعرف أماكِنَ يُؤمِنونَ فيها أنَّ الجَوْقَة الموسيقيَّة هي شيءٌ خاطئٌ، وأنه لا يجوز أن يكون لدى الكنيسة جَوْقَة موسيقيَّة. ولكِنْ لماذا؟ فهناكَ جَوْقاتٌ موسيقيَّة في كل الكتاب المقدَّس. وبالنسبة إلى الأشخاص الَّذين يُرَنِّمونَ بمهارةٍ للربِّ فإنَّ ذلكَ الأمرَ هو شيءٌ رائعٌ. ويقول بولُس إنه ينبغي لنا أنْ نُرَنِّمَ بأصواتِنا. وربما لا يكون لديكَ صوتٌ جَيِّدٌ جدًّا، ولكنَّ هذا ليسَ مُهمًّا لأنه ما يزال باستطاعتك أن تُرَنِّمَ بصوتك. أو ربما يكون لديك صوتٌ جيِّدٌ جدًّا وتُرَنِّمُ بصوتك للربِّ.
وأنا أُوْمِنُ حقًّا، ولا أدري ما رأيكم بذلك لأنَّ البعض منكم يعرف في الموسيقا أكثر مِنِّي، ولكنِّي أُوْمِنُ أنَّ الصوتَ البشريَّ هو أروعُ آلةٍ موسيقيَّةٍ في الكَوْن. وهو يَتمتَّعُ بأكبر قدرٍ مِنَ المُرونة. وما أَعنيه هو أنَّهُ لا يوجد مَثيلٌ لهُ. فهوَ مُدهشٌ جدًّا. فالصوتُ البشريُّ يمتلكُ مرونةً عجيبةً. وربما كانتْ آلَةُ الكَمانِ هي أَقْرَبُ آلَةٍ للصوتِ البشريِّ. ولكِنَّ الصوتَ البشريَّ يَتمتَّع بالقدرة على الارتفاعِ والانخفاضِ بالنَّغماتِ، وبالقدرة على القيام بأمورٍ كثيرةٍ، وبالمرونةِ – وهي جميعها أمورٌ عظيمةٌ يَتميَّزُ بها الصوتُ البشريُّ. فاللهُ قد وَهَبَنا أداةً مُدهشةً لتسبيحه.
ويجب أن تَعلموا أنه لا ينبغي لكم أنْ تقفوا هنا للقيام بذلك، بل يمكنكم القيام بذلك في أيِّ مكانٍ تُوْجَدونَ فيه. واللهُ يُمكنُ أن يَتمجَّد بتلك الترنيمة الصغيرة الَّتي تُرَنِّمُها للربِّ بصوتك أكثر مِن صوت أعظمِ مُرَنِّمٍ مُحترفٍ في العالمِ لا يُرَنِّمُ مِن قلبٍ مُمتلئٍ بالروح. فبعض الناس يُفَكِّرونَ قائلين: "إنْ لم تَصْعَد إلى المِنَصَّة، لن تَحظى بفُرصة التَّرنيم للربِّ". وقد قال لي أشخاصٌ طَيِّبون: "أنا أتمتَّعُ بصوتٍ جَميلٍ، واللهُ وَهَبَني موهبةً رائعةً. وأنا أشعرُ أنهُ ينبغي لي أنْ أُرَنِّمَ في الكنيسة". وجوابي هو: "هل أعطاكَ اللهُ هذه الموهبة لكي تُرَنِّم لنا أَمْ لكي تُمَجِّدْهُ؟"
فإذا كنتَ تُمَجِّدُ الله بموهبتك، فَمَجِّدْهُ قدر ما تشاء، ورَنِّم إلى أنْ يَشبع قلبك، وسَبِّح الله. فلا حاجةَ لأن تفعل ذلك هنا. فإنْ كنتم جميعًا نَجَّارون، لا حاجةَ لأنْ يُحْضِرَ كُلٌّ مِنكم مَقْعَدًا خَشبيًّا ويقول: "انظر ماذا صَنَعْت"، ثُمَّ يَنْزِل مِنَ الجهة الأخرى. فلا حاجة للقيام بذلك. فالبعض منكم يَصنع فَطيرَةً رائعةً. ولكِنْ لا حاجةَ لأنْ تأتي ثمانيةَ عَشَرَ أُمًّا إلى هنا وأنْ تَحملَ كُلٌّ مِنْهُنَّ فطيرةً وتقول: "انظر ماذا يمكنني أن أفعل". فلا حاجة للقيام بذلك. اصنَعي الفَطيرةَ وحسب، واجعلي أفراد عائلتك يستمتعون بها، واشكري الربَّ على موهبتِك. وإنْ كنتَ تمتلك موهبة الترنيم، ادخل إلى الحَمَّام، ورَنِّم إلى أنْ يَشبعَ قلبُك. وَرَنِّم في وسط المجموعة في درس الكتاب. ورَنِّم مع أفراد عائلتك. فقط رَنِّم للربِّ.
وما زِلْتُ أَذْكُرُ أنَّ الدكتور "كريسويل" (Dr. Criswell) قال إنَّ أُناسًا كثيرين في كنيسته كانوا يرغبونَ في التَّرنيم مُنْفَرِدين، وأنه لم يكن يَدري ما يفعله بهؤلاء جميعًا. لذلك، فقد خَصَّصَ أُمْسِيَةً للتَّرنيمِ المُنفرِد. وقد قال: "إنْ أرادَ أيُّ شخصٍ منكم أنْ يُرَنِّمَ منفردًا، يمكنه أن يُرنم مقطعًا واحدًا مِن أيِّ ترنيمةٍ يرغب بها في هذه اللَّيلة". وقد جعلهم يقفون جميعًا على المِنَصَّة وانتهى مِنهم جميعًا في ليلة واحدة. لذلك، لا حاجة لأنْ تُرنموا أمام الجميع. ولكِنْ إنْ كنتم مُمتلئين بالروح فَمِنْ حَقِّكُمْ أنْ تُرَنِّموا.
ثانيًا، التَّرتيل. وأوَدُّ أنْ أذكر الآتي بإيجاز: فالكلمة "مُرَتِّلينَ" هي ترجمة غير مُوَفَّقة لأنَّ المعنى المقصود أَغْنى بكثير. فهناك بعض الكنائسِ في أمريكا تُعَلِّمُ أنَّ استخدامَ الآلاتِ الموسيقيَّة خَطِيَّة، وأنه لا توجد آلاتٌ موسيقيَّة في كنيسة العهد الجديد. ولكِنَّ هذه الآية تَنفي ذلك لأنَّ الكلمة "مُرَتِّلين" هي ترجمة للكلمة اليونانيَّة "سَالو" (psallo). والكلمة "سالو" هي الكلمة الَّتي جاءت منها الكلمة "مَزْمور". وهي هُنا "سَالونتيس" (psallontes). ولكِنَّ معناها هو: "يَنْقُر". والكلمة في أصْلِها تُشيرُ إلى النَّقْر. وقد كانت تُستخدمُ في الأصل للإشارة إلى شَدِّ وَتَرِ القوَسْ عندَ إطْلاقِ السَّهْم. فقد كانَ الرَّامي يأخُذُ السَّهْمَ بإصْبَعَيه وَيَشُدُّ الوَتَرَ وَيُطْلِقُ السَّهمَ. لذلك فإنها تَعني: "يُطْلِقُ سَهْمًا. وقد صارت في ما بعد تُشيرُ إلى نَقْرِ أوتار القيثارة. فالكلمة "سالو" تعني: "يَنْقُر أوتار القيثارة".
وعَبْرَ السِّنين، صارت هذه الكلمة تَعني العَزْفَ على ماذا؟ على آلة موسيقيَّة. لذا، أتَدري ما المعنى الَّذي يقصده بولس هنا؟ هناكَ طريقتان لإصدار الأصوات: بالصَّوت وبماذا؟ بالآلات الموسيقيَّة. فهذا هو ما يقصده – فمِنَ الرَّائع أنْ نَعلمَ أنَّ الكلمة "سَالو" تعني العزفَ على آلة موسيقيَّة. والبيانو آلة وَتَرِيَّة. وقد كان الأورغن آلة نَفْخِيَّة، ولكنها صارت الآن آلة إلكترونيَّة تُصْدِر صوتًا يُحاكي صوت الآلة النَّفْخِيَّة بسعرٍ أرخَص. وهناكَ أبواقٌ (كما سَمِعتُم "روفوس" [Rufus] في هذا الصباح). وسوف تسمعونها الليلة أيضًا. اسمعوني: باستطاعتنا أنْ نُسَبِّحَ اللهَ مِن خلال العزف على الآلات الموسيقيَّة. والله يمكن أن يتمجَّد إنْ كانَ القلبُ سليمًا، حتَّى لو لم تكن هناكَ كلماتٌ، وحتَّى لو لم تكن هناك رسالة مُعيَّنة كما هي الحالُ في الترنيمة. فاللَّحْنُ (في جمالِهِ، وفي روعتهِ، وفي تَوافُقِهِ، وفي سُرعتهِ، وفي إيقاعِهِ، وفي كل الإبداعِ الَّذي أَوْدَعَهُ اللهُ في الموسيقا) يمكن أن يكون بالنسبة إليه تسبيحًا رائعًا.
وبالمناسبة، سوف يكون هناك عَزْفٌ موسيقيٌّ عندَ الاختطاف. فسوف يكون هناك عزفٌ مُنفردٌ على البوق. وسوف يكون هناك عزفٌ موسيقيٌّ طوال فترة الضيقة العظيمة. فسوف تُسْمَعُ الأبواقُ. واللهُ يُحِبُّ الأبواقَ حقًّا. ويا لروعة أداء "روفوس" عندما عَزَفَ على البوق في هذا الصباح بصوتٍ عالٍ. فاللهُ يحب ذلك. وسوف أقترحُ على الربِّ أنَّ "روفوس" و "جوني زيل" هما شخصان مناسبان يمكنه أن يستخدمهما في نهاية الدهر. ولكنَّ اللهَ يُسَرُّ بالموسيقا عندما تَصدرُ مِن آلاتٍ موسيقية يعزفها أناسٌ مِن قلوبهم. لذلك، يمكنكم أن تُصَفِّروا للربِّ، وأنْ تُهَمْهِموا كما يفعل الطِّفْلُ الصغير. وقبل بضعة أيام – رُبَّما يومَ الأرْبِعاءِ قبلَ أسبوعين، صَعِدَ الأطفالُ إلى المِنَصَّة ورَنَّموا. وهذه الأشياء هي تسابيح للربِّ. وقد وقفَ الأطفالُ هنا وقرعوا الأجراسَ للربِّ. وكما تَرونَ، فإن هذا كله هو تسبيحٌ للربِّ موسيقيًّا. وكم هو رائعٌ أنَّ اللهَ أعطانا هذه الوسيلة الرائعة للتعبير.
وأخيرًا، كيف ينبغي لنا أن نَصيغَ موسيقانا؟ إنه يَذكُر ثلاث طُرُق: المزامير، والتَّسابيح، والأغاني الروحيَّة. وهذه أمورٌ واضحة ولن أصرفَ وقتًا طويلاً في الحديث عنها. فالمزامير هي ترجمة للكلمة "سالموس" (psalmos)، وهي تشيرُ بصورة رئيسيَّة إلى مزامير العهد القديم. والكلمة تُستخدم للإشارة إلى أشياء أخرى. فهي تُستخدم أحيانًا للإشارة إلى الأناشيد الموجهة إلى الله. وهي تُستخدم للإشارة إلى أشياء أخرى بالمعنى العام. ولكِنَّ الأمر الَّذي يُدهشني هو أنَّ لوقا يَستخدمها حَصريًّا للإشارة إلى المزامير. لذلك، عندما تقرأون هذه الكلمة في كتابات لوقا، فإنه يَعني بها المزامير. وهذا يعني، في نظري، أنَّ هذا هو المعنى المقصود هنا مِنَ التَّرنيم – أيْ ترديد مزامير العهد القديم. ونحنُ لا نرنِّم الكثير مِنَ المزامير كما ينبغي أن نفعل. وأعتقد أنَّ واحدًا مِنَ الأشياء الَّتي فقدتها الكنيسة بسبب ظهور الترانيم والأغاني الَّتي يُرَكِّزُ فيها كاتبوها على حقوق المؤلِّف وعلى الرَّغبة في التَّأليف وما شَابَهَ ذلك هو أنَّنا أَهملنا جزءًا كبيرًا مِنَ الترانيم. وقد تَشَجَّعْتُ حقًّا مؤخَّرًا بحديثي إلى "جاك" وسألتُ الربَّ أن يساعدنا على ترنيم المزيد والمزيد من المزامير. فنحنُ نُرَنِّمُ بعضًا منها الآن. ففي خدمات العبادة مساء أيَّام الأحد، فإننا نُرنِّم المزمور 19 أو المزمور الخامس. ونحن نَستمع إلى المزمور 23 أو نُرَنِّمُه. ونحن نفعل أمورًا عديدة مِنْ هذا القَبيل. فالجَوْقة تُرنم ترانيم عديدة مُستخلصة مِن المزامير. ولكن ربما ينبغي لنا أن نرنم أكثر مِن سفر المزامير. وكما تَعلمون، هناك جَوْقات موسيقيَّة ترنم المزامير. ولديَّ بعض الترانيم القائمة على سفر المزامير فقط. وقد كانت هذه هي الترانيم الَّتي ترنمها الكنيسة الأولى – المزامير.
والآنْ، اسمحوا لي أن أقول لكم إنَّ المزامير تتحدث في الأصل عن طبيعة الله وعمله. والعديد مِن الترانيم الَّتي نرنمها تتحدث عن ذلك. فنحن لدينا ما يُشبه المزامير الحديثة. فهي ليست المزامير الموحى بها في النصِّ العبريِّ، ولكنها ترانيم تَرفع الله وتُمَجِّدُه. والمزامير هي أناشيد تُسَبِّح طبيعة الله وعمله.
ثم هناك التَّسابيح – "هُمْنُوس" (humnos). وهي تعني حرفيًّا: "أغاني تسبيح" ولكِنْ إنْ أردنا أن نُمَيِّزَها عن غيرها، يبدو لي أنَّ التسابيح مرتبطة غالبًا بعمل يسوع المسيح. ففي كولوسي 1، نَجِد تَسبيحة عظيمة. وأعتقد أنَّ المقطع بمُجمله في كولوسي 1 هو تسبيحة حيث نقرأ: "شَاكِرِينَ الآبَ الَّذِي أَهَّلَــنَا لِشَرِكَةِ مِيرَاثِ الْقِدِّيسِينَ فِي النُّورِ، الَّذِي أَنْقَذَنَا مِنْ سُلْطَانِ الظُّلْمَةِ، وَنَقَلَنَا إِلَى مَلَكُوتِ ابْنِ مَحَبَّتِهِ، الَّذِي لَنَا فِيهِ الْفِدَاءُ، بِدَمِهِ غُفْرَانُ الْخَطَايَا. الَّذِي هُوَ صُورَةُ اللهِ غَيْرِ الْمَنْظُورِ، بِكْرُ كُلِّ خَلِيقَةٍ. فَإِنَّهُ فِيهِ خُلِقَ الْكُلُّ: مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، مَا يُرَى وَمَا لاَ يُرَى". ويَرى العديد مِن علماء الكتاب المقدَّس أنَّ هذا المقطع كان تَسْبيحَة للكنيسة الباكرة. وهي تسبيحة مُقَدَّمة إلى يسوع المسيح. وهناك آخرون يؤمنون أنَّ ما جاء في رسالة فيلبِّي أيضًا، في الأصحاح الثاني منها، هو تسبيحة للمسيح. لذلك، يبدو أنَّ التسابيح تحديدًا كانت موجَّهة إلى عمل الفِداء الَّذي قام به المسيح.
لذا فإنَّ المزامير مُوجَّهة إلى طبيعة الله وعمله. والتسابيح موجهة إلى عمل يسوع المسيح على الصليب. وأخيرًا، فإن الأغاني الروحية كانت مِثل الشَّهادات. فهي أغاني بالمعنى الشامل. إنها أغاني، ولكنَّها أغاني روحيَّة تتحدَّث عن مواضيع روحيَّة. واسمحوا لي أن أُبَيِّن لكم ما أَعنيه. فالمزامير تعني أن تستمعوا إلى مزمورٍ رائعٍ مثل المزمور 23: "الرَّبُّ رَاعِيَّ". فهذا مزمورٌ. أو ربما كانت إحدى التسبيحات المُعاصِرة مِثل: "اللهُ ملجأٌ لنا" (A Mighty Fortress Is Our God) تُشبه المزامير. ثم هناك التسابيح. والتسابيح تُشبه تسبيحة "فوقَ تَلٍّ بَعيد" (The Old Rugged Cross) الَّتي تتحدَّث عن عمل الفداء الَّذي قام به المسيح. ثم هناك الأغاني الروحيَّة مِثل "آه كَم يُحِبُّكَ يَسوعُ ويُحِبُّني" (O How He Loves You and Me) وَترنيمة "أُفَضِّلُ رَبِّي على كُلِّ مَالٍ" (I’d Rather Have Jesus Than Anything)، أو أيَّ ترنيمة أخرى تُعَبِّر عن اختباراتِنا وتجاوُبِنا الشخصيِّ.
فكل هذه الأشياء، سواء كانت تسبيحات عظيمة عن الله، أو ترانيم عن الصليب والفداء الَّذي قَدَّمَهُ المسيح، أو سواء كانت ترانيم اختباريَّة عظيمة، فإنها جميعها تُعَبِّر عن قلبٍ مُمتلئٍ بالروح. واسمعوني، يا أحبَّائي: سواءٌ عَزَفْتُمْ هذه الترانيم أو رَنَّمتموها، إن كان القلبُ سليمًا، فإنها تُسِرُّ قلبَ الله. وأقولُ مَرَّة أخرى، عندما تكونُ ممتلئًا بالروح، سيكون هناك فرحٌ مُعَبَّرٌ عنه مِن خلال الترانيم، وفرحٌ مُعَبَّرٌ عنه مِن خلال الموسيقا.
وهل تعلمونَ أنَّنا نواجه مِحنة حقيقيَّة في الموسيقا المسيحيَّة اليوم؟ فهناك أناسٌ كثيرون يستخدمون الموسيقا واسمَ يسوع مِن أجل الرِّبح الماليّ. وهناك أشخاص كثيرون يستخدمون الموسيقا واسم يسوع لاكتساب الشُّهرة. وهناك أشخاص كثيرون يرنمون معَ أنَّ قلوبهم ليست سليمة. وهناك أشخاص يكتبون الترانيم باستخدام أفكارٍ غير كِتابِيَّة ولاهوتٍ غير صحيح. وهناك أشخاصٌ كثيرون يستخدمون ألحانًا موسيقيَّة تُعَبِّر عن حياة العالم ويَحُطُّونَ مِنْ قيمة يسوع مِنْ خلالِ مُساواتِهِ بالعالم. وهم يشبهون "سيمون السَّاحر". فَهُمْ يحاولون أن يحصلوا على الروح القدس مِن أجل الرِّبْحِ الشخصيِّ، ولكنهم يصيرونَ مُفْسِدين. ولكن مِن جهة أخرى، لا تفكروا لحظةً أنه لا توجد موسيقا صحيحة وسليمة. فأينما وجدت أشياء زائفة، وُجدت أيضًا أشياء حقيقة. أليس كذلك؟ فالناس لا يُزَيِّفون أشياءً ليست قَيِّمة. فإنْ كان هناك شيء مُزيَّف، لا بُدَّ أنَّ هناك شيئًا حقيقيًّا.
وأودُّ أن أختم بهذه الفكرة: عندما نُرَنِّم ترانيم حقيقيَّة مِن قلوبٍ مُمتلئة بالروح، هل تعلمونَ ما الَّذي نفعله؟ إنهُ شيءٌ مُذهلٌ. انظروا معي إلى الرسالة إلى العبرانيين 2: 12، وسوف نَختم بهذه الفكرة. فنحن نقرأ في الرسالة إلى العبرانيين 2: 12 ما جاء على لسان يسوع. فيسوع هنا يتحدث إلى الآب. فالرب يسوع المسيح يتحدث إلى الآب. واستمعوا إلى ما يقوله – فهو أمرٌ مُذهلٌ حقًّا إذ إنه يقول: "أُخَبِّرُ" – فهو يَتحدَّث إلى الآبِ الآن – "أُخَبِّرُ بِاسْمِكَ إِخْوَتِي" – وَهُوَ يُشيرُ هنا إلى الكنيسة، أي إلى المؤمنين: "وَفِي وَسَطِ الْكَنِيسَةِ أُسَبِّحُكَ". فهل تعلمون مَن هو أعظم مُرَنِّمٌ مُنْفردٍ في الكون؟ مَن هو؟ يسوع. وهل تعلمون ما الشيء الَّذي يُدهشني حقًّا؟ إنه أمرٌ مُذهلٌ إذْ يقول: "وَفِي وَسَطِ الْكَنِيسَةِ أُسَبِّحُكَ". والنقطة الجوهريَّة هي أنَّه عندما يكون قلبي مُمتلئًا بالروح، وأُرَنِّمُ مِن قلبٍ مُمتلئٍ بالروح، فإنَّ يسوع يقول: "سوف أكونُ أنا الَّذي أُسَبِّحُ الآبَ مِنْ خلالِكَ". وهذا رائعٌ!
ولِعِلْمِكُم، فإنَّ هذه مُجَرَّد طريقة أخرى اختارها اللهُ لاستخدامِنا كقنواتٍ يعمل المسيح مِن خلالها للقيام بعمله. فأنا أعلمُ أنَّ المسيح يُحبُّ الآبَ. وأنا أعلمُ أنَّ المسيحَ يُسَبِّحُ الآبَ مِن الأزل إلى الأبد. وأنا أعلم أن المسيح يسبح الآب كُلّ الوقت. وَهُوَ يقول هنا: يا أبتاه، سوف أُسَبِّحُ تلك التَّسبيحة مِن خلال شعبك". لذلك، عندما يمتلئ قلبي بالروح، وعندما يمتلئ قلبي بفرح الروح وأُقَدِّم ترنيماتي وتسبيحاتي وشُكري لله، وعندما أُرَنِّمُ مِن قلبي الَّذي يفيض بالفرح، فإنَّ يسوعَ المسيح، المسيح الحَيّ الحقيقيّ، يُرَنِّم مِن خلالي. ويا لها مِن فكرة! يا لها مِن فكرة! ويا لها مِن مسؤوليَّة – لأنه عندما أُطْفِئُ الروحَ، فإنِّي أُطفئُ ترنيمةَ المسيحِ إلى الآبِ في حياتي. لِنَحْنِ رُؤوسَنا للصَّلاة:
يا رَبّ، مِنَ الرائعِ أن نَعلمَ أنك تستخدمُنا بهذه الطريقة الرائعة. استخدمنا، يا ربّ، اليوم بهذه الطريقة. فليتَ قلوبَنا تمتلئُ بالتَّرنيم. وعندما نُرنِّم في هذا المساء، ونَعزِف، ونَشترك في التَّسبيح، ليتنا نَسمعُ صوت يسوع يُرَنِّم ويَعزف تسبيحَتَهُ إلى الآبِ مِن خلالِنا. لأجْلِ مَجْدِ اسْمِهِ. آمين!

This article is also available and sold as a booklet.