
افتَحوا كِتابَكُم المُقَدَّس، ولننظُر إلى إنجيل مَتَّى والأصحاحِ الثَّاني. إنجيل مَتَّى والأصحاحِ الثَّاني. ونحنُ نَتَفَحَّص الأعداد 13-23 فيما نُواصِلُ دراسَتِنا لإنجيل مَتَّى. وأنا أَعلمُ أنَّ كثيرينَ مِنكُم قد تَباركوا حَقًّا كما شَارَكْنا. واسمحوا لي أنْ أَرجِعَ إلى الوراء وأُذَكِّرَكُم بهذا النَّصّ. فالفِكرةُ الرئيسيَّةُ في كُلِّ نُبوءاتِ العهدِ القديم هي المَلِكُ الآتي ... المَلِكُ الآتي الَّذي سيَحْكُمُ في المَمْلكةِ الَّتي وَعَدَ اللهُ بها.
وإنْ كانت هُناكَ نُقطة رئيسيَّة تُرَكِّزُ عليها جَميعُ نُبوءاتِ العهدِ القديم، فهي أنَّ اللهَ سيُقيمُ حُكْمَهُ، وأنَّ اللهَ سيُؤسِّس مَملكةً لا مَثيلَ لها، وأنَّهُ سيكونُ هناكَ شخصٌ مُمَيَّزٌ يَحْكُمُ تلك المملكة. وذلكَ الشَّخص هو، دونَ شَكٍّ، الربُّ يسوعُ المسيحُ شخصيًّا.
فهذه هي الفكرةُ الرئيسيَّةُ لجميعِ نُبوءاتِ العهدِ القديم. فالعهدُ القديمُ يَعِدُ مِرارًا وتَكرارًا بأنَّ هُناكَ شخصًا سيأتي، وأنَّهُ يَمتلكُ الطَبيعةَ، ويَمتلكُ الحِكمةَ، ويَمتلكُ القُدرةَ اللَّازمةَ لِسَحْقِ رأسِ الحَيَّة (كما جاءَ في سِفْر التَّكوين 3: 15)، وأنَّهٌ قادرٌ أنْ يَستعيدَ الهَيمنةَ الَّتي فَقَدَها الإنسانُ، وأنْ يُؤسِّسَ مَملكةَ اللهِ على الأرض إلى أبدِ الآبدين. وهذا الشَّخصُ، هذا الشَّخصُ المَمسوحُ الفَريد، هُوَ المَسِيَّا، أيِ المَمسوح، المَلِك. فهذه هي رسالةُ نُبوءاتِ العهدِ القديم.
والحقيقةُ هي، كما ذَكَرْتُ لكم في المَرَّة السَّابقة، أنَّ هناكَ نحو 332 نُبوَّة مُحَدَّدة تَحَقَّقَتْ في الربِّ يسوعَ المسيح. لِذا فإنَّ كُلَّ جانِبٍ مِن جوانبِ حياتِهِ مَذكورٌ في نُبوءاتِ العهدِ القديم. وبحسبِ ما جاءَ في رِسالةِ بُطرس الأولى والأصحاحِ الأوَّل (ويمكنكم أنْ تَنظروا قليلاً إلى هذا النَّصِّ)، فإنَّ الأنبياءَ الذينَ كَتَبوا عن تلكَ الأشياء لم يكونوا يَفهمونَ حَقًّا أهميَّتَها الكاملة. فقد كانوا يَعلمونَ أنَّهُم يَكتبونَ عن شخصٍ سيأتي، ولكنَّهم لم يكونوا يَعْرِفونَ تمامًا كُلَّ التَّفاصيل.
لِذا فإنَّنا نَقرأُ في رسالةِ بُطرسَ الأولى 1: 9 عنِ "خَلاَصِ النُّفُوس. الْخَلاَص الَّذِي فَتَّشَ وَبَحَثَ عَنْهُ أَنْبِيَاءُ، الَّذِينَ تَنَبَّأُوا عَنِ النِّعْمَةِ الَّتِي لأَجْلِكُمْ". بعبارة أخرى، معَ أنَّهم تَنَبَّأوا عن هذا المَلِكِ المُخَلِّص، فإنَّهُم بحَثوا في نُبوءاتِهِم على أَمَلِ أنْ يَفْهَموا تمامًا ما قَصَدوهُ بما قالوه.
ثُمَّ نَقرأُ في العدد 11: "بَاحِثِينَ أَيُّ وَقْتٍ أَوْ مَا الْوَقْتُ الَّذِي كَانَ يَدِلُّ عَلَيْهِ رُوحُ الْمَسِيحِ الَّذِي فِيهِمْ، إِذْ سَبَقَ فَشَهِدَ بِالآلاَمِ الَّتِي لِلْمَسِيحِ، وَالأَمْجَادِ الَّتِي بَعْدَهَا". فقد أُعْطوا نُبوءاتٍ، ولكنَّهم نَظروا إليها وراحوا يَبحثونَ فيها في مُحاولةٍ لِفَهْمِ مَنْ سيُتَمِّمُ هذه النُّبوءات الرَّائعة وَمَتَى سيَتحقَّق ذلك. لِذا فإنَّ العهدَ القديمَ يُقَدِّمُ لنا مَلِكًا. وليسَ مَلِكًا وحَسْب، بل مَلِكًا بشريًّا. وليسَ فقط مَلِكًا بَشريًّا، بل مَلِكًا إلهيًّا، يَهْوَه الله، المَلِك المُتَجَسِّد.
والشَّيءُ المُدهشُ في العهدِ الجديد، والشَّيءُ المُدهشُ في الأناجيلِ بصورة خاصَّة (أيْ في إنجيل مَتَّى، ومَرْقُس، ولوقا، ويوحنَّا) هو أنَّهُمْ صَاغُوا مَعًا الإجابَةَ عنِ العديدِ مِنْ هذه النُّبوءاتِ ورَكَّزوها على شخصِ يَسوعَ المسيح كَبُؤرة إلهيَّة، فَبَيَّنوا أنَّهُ الشَّخصُ الوحيدُ الَّذي يَقدرُ أنْ يُتَمِّمَ هذه النُّبوءات. فَكُلُّ المُدَّعينَ بَرْهَنُوا على بُطلانِ ادِّعاءاتِهِم بسببِ عدمِ قُدرتهم على مُلاءَمَةِ الصُّورة. ولكِنَّ يسوعَ المَسيحَ هُوَ الوحيدُ الَّذي تَحَدَّثَتْ عنهُ هذه النُّبوءات لأنَّهُ يُلائِمُ في كُلِّ جانِبٍ ما تحدَّثَ عنهُ الأنبياء.
وابتداءً مِنْ إنجيلِ مَتَّى الَّذي يَبتدئُ العهدَ الجديد، بلِ ابتداءً مِنَ الأصحاحِ الأوَّلِ مِنْ إنْجيلِ مَتَّى، وَمِنَ الآيةِ الأولى في إنجيلِ مَتَّى، يَتِمُ استعراضُ النَّسْلِ المَلَكِيِّ للمَلِك. وهذا الأمرُ يَستمرُّ حَتَّى سِفْرِ الرُّؤيا. فعندما تَصِلونَ إلى سِفْر الرُّؤيا، تَجِدونَ أنَّهُ يَنْتَهي بِمُلْكِ مَلِكِ المُلوكِ في مَجْدِهِ. فالعهدُ الجديدُ مِنْ بدايَةِ إنجيل مَتَّى إلى نهايةِ سِفْر الرُّؤيا يَرْمي إلى أنْ يُقَدِّمَ لنا ذاكَ الَّذي حَقَّقَ التَّنَبُّؤاتِ المُختصَّة بالمَلِك، أيْ ذاكَ الَّذي هو المَلِك.
فعلى سبيلِ المِثال، فإنَّ الكلمة المُتَرْجَمَة "مَلَكوت" في العهدِ الجديد هي الكلمة اليونانيَّة "بَاسيلِيَّا" (basileia). وقد تَمَّ استخدامُ الكلمة الَّتي تَعني "مَلَكوت" 144 مَرَّة في العهدِ الجديد للإشارةِ إلى مُلْكِ يسوعَ المسيح، أيْ مُلْكِ يَهْوَه الله. فهي تُستخدمُ 144 مَرَّة للحديثِ عن مَلكوتِه. والكلمة المُتَرْجَمَة "مَلِك" وهي "باسيلوس" (basileus)، وَهِيَ إحْدَى الصِّيَغِ المُشتقَّة مِنَ الكلمة "مَلَكوت"، تُستخدمُ في العهدِ الجديد 115 مَرَّة. وهي تُشيرُ في 35 مَرَّة على الأقلّ إشارة مُباشِرَة إلى يسوعَ المسيح.
أمَّا صيغةُ الفِعْل "باسيلُؤو" (basileuo)، وَهُوَ فِعْلٌ يَعْني: "يَمْلِك" فتُستخدَم للإشارة إلى المسيح عَشْرَ مَرَّات. وفي 189 مَرَّة على الأقلّ في العهدِ الجديد، يَقترنُ اسمُ يسوعَ المسيح بالمملكةِ الَّتي وَعَدَ اللهُ في الأسفارِ النَّبويَّة بأنَّهُ سَيُؤسِّسُها. وهذا استخدامٌ هائلٌ ومُكَثَّفٌ في العهدِ الجديد لهذا اللَّفْظ. وهو يُساعِدُنا على أنْ نَرى أنَّ العهدَ الجديد يُرَكِّزُ حقًّا على حقيقةِ أنَّهُ مَلِك.
والسَّببُ الرَّئيسيُّ في كِتابَةِ الأصحاحَيْن 1 و 2 مِنْ إنجيلِ مَتَّى هو أنْ يُؤكِّدَ تلكَ الكلماتِ الَّتي قالَها يسوعُ: "أنا مَلِك. وقد وُلِدْتُ لهذه الغاية". وقد كانَ ينبغي للشَّعبِ اليهوديِّ على أقَلِّ تقدير أنْ يَعرِفَ جَيِّدًا مِنْ خلالِ أحداثِ ولادَتِه أنَّهُ في الحَقيقَة مَلِك. فقد كانَ ذلكَ واضحًا منذُ البداية. فقد كانَ ذلكَ واضحًا مِنْ خلالِ سِلسلةِ نَسَبِهِ في الأصحاحِ الأوَّل. وقد كانَ واضحًا مِن خلالِ ولادَتِهِ العَذراويَّة الَّتي جَعَلَتْهُ يَتجاوَزُ اللَّعنة. وقد كانَ ذلكَ واضحا مِنْ خلالِ سُجودِ صُنَّاعِ المُلوكِ الفُرْسِ لَهُ إذْ إنَّهُم رَأوهُ بوصفِهِ المَلِك. وقد كانَ ذلكَ واضحًا مِنْ خلالِ عَداوةِ هيرودُس الَّذي شَعَرَ بالتَّهديدِ بوصفِهِ مَلِكًا بسببِ ولادةِ مَلِكٍ آخر. وقد كانت هذه طريقة أخرى استخدمَها مَتَّى للقولِ إنَّ هيرودُس أَقَرَّ بأنَّ يسوعَ مَلِك مِنْ خلالِ خَوْفِهِ مِنْ أنْ يَنْتَزِعَ عَرْشَهُ مِنْه.
والغايةُ مِنَ الأصحاحَيْن الأوَّل والثَّاني مِنْ إنجيل مَتَّى هي أنْ يُؤكِّدَا أنَّهُ وُلِدَ مَلِكًا. والطريقةُ الأخيرة الَّتي يَستخدِمُها مَتَّى هي أنَّهُ يَقتَبسُ مِنَ الكلمة النَّبويَّة [أيْ يَقتبسُ مِنَ العهدِ القديمِ] أربعةَ نُبوءاتٍ تُشيرُ إلى المَلِك وتُبَيِّنُ كيفَ أنَّ المسيحَ تَمَّمَ كُلَّ نُبوءَةٍ مِنها. فالمَلِكُ يُتَمِّمُ النُّبوءات. وهناكَ أربعُ نُبوءاتٍ تُبَيِّنُ أنَّ يسوعَ هو المَلِك. فهو يَقتبسُ أربعَ نُبوءاتٍ مِنَ العهدِ القديم تَحَقَّقَتْ فيه.
وهي نُبوءاتٌ مُدهشة جدًّا. وهي تَرتبطُ إحداها بالأخرى بالموقعِ الجُغرافيِّ: بيت لحم، ومِصْر، والرَّامة، والنَّاصرة. فهي وَحْدَة أَدبيَّة تَظْهَرُ في الأصحاحِ الثَّاني. وهناكَ طريقة يَستخدِمُها مَتَّى هُنا إذْ إنَّهُ يَرْبِطُ هذه النُّبوَّاتِ الأربع مَعًا. وما يُدهِشُني دائمًا حينَ أَدرسُ هذه النُّبُوَّاتِ الأربع هو أنَّهُ لا يُمْكِنُ مِنْ وُجهةِ النَّظرِ البشريَّة أنْ تَقترنَ وِلادةُ أيِّ شخصٍ ببيت لحم، ومِصْر، والرَّامة، والنَّاصرة.
وما أعنيه هو أنَّ الإنسانَ يُولدُ في مكانٍ واحِدٍ فقط. ولكِنْ أنْ يَتِمَّ ذلكَ في أربعةِ أماكِن مُختلفة في الأهميَّة، أوْ أنْ تَحْدُثَ على الأقلّ أحداثٌ مُهِمَّة في أربعةِ أماكِن لها علاقة بمكانِ وِلادَتِكَ، فإنَّ هذا يُعَقِّدُ الأمرَ أكثر وَيُقَلِّلُ فُرصةَ حُدوثِ ذلك. وكأنَّ مَتَّى يقول: "أيُّ شخصٍ يُحَقِّقُ هذه النُّبوَّاتِ الأربَع يَستحقُّ أنْ يُتَوَّجَ كَمَلِك". والنُّبوءاتُ تُخبرُنا أنَّهُ مَلِك.
وفي المَرَّة السَّابقة، ناقَشنا النُّبوءةَ الأولى. والنُّبوءةُ الأولى تَرِدُ في الأعداد 4-6 مِنَ الأصحاحِ الثَّاني، وهي تتحدَّثُ عنِ الولادةِ في بيتِ لحم. فنحنُ نَقرأُ في الأصحاحِ الثَّاني والعدد 4: "فَجَمَعَ [هيرودُسُ] كُلَّ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَكَتَبَةِ الشَّعْب، وَسَأَلَهُمْ: «أَيْنَ يُولَدُ الْمَسِيحُ؟» فَقَالُوا لَهُ: «فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ. لأَنَّهُ هكَذَا مَكْتُوبٌ بِالنَّبِيِّ"
ثُمَّ إنَّ مَتَّى يَقتبسُ ما قالَهُ النبيُّ ويُضيفُ كَلِماتٍ مِنْ عِنْدِهِ بِوَحْيٍ مِنَ الرُّوحِ القُدُس فيقول: "وَأَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمٍ، أَرْضَ يَهُوذَا لَسْتِ الصُّغْرَى بَيْنَ رُؤَسَاءِ يَهُوذَا، لأَنْ مِنْكِ يَخْرُجُ مُدَبِّرٌ يَرْعَى شَعْبِي إِسْرَائِيلَ".
وقد وَرَدَتِ النُّبوءةُ الأولى في سِفْر مِيْخا 5: 2، وهي تقولُ إنَّ المسيحَ سيُولدُ في بيتِ لحم. وهذه هي النُّبوءةُ الأولى الَّتي كانَ يَنْبَغي أنْ تُبَيِّنَ لهم حقيقةَ أنَّ هذا هو المَلِك. أمَّا النُّبوءةُ الثَّانية فرأيناها في الآيات 13-15. أليسَ كذلك؟ وقد أَسْمَيْناها: "الخُروجُ مِنْ مِصْر". فهناكَ الولادة في بيتِ لحم، والخُروجُ مِنْ مِصْر. ولَعَلَّكُم تَذكرونَ ما حَدَث: "وَبَعْدَمَا انْصَرَفُوا [في العدد 13]، إِذَا مَلاَكُ الرَّبِّ..." [أيْ بعدَ مُغادَرةِ الرِّجالِ الحُكَماء بعدَ أنْ حَذَّرَهُمُ اللهُ] "...إذا مَلاكُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ لِيُوسُفَ فِي حُلْمٍ قَائِلاً: «قُمْ وَخُذِ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَاهْرُبْ إِلَى مِصْرَ، وَكُنْ هُنَاكَ حَتَّى أَقُولَ لَكَ. لأَنَّ هِيرُودُسَ مُزْمِعٌ أَنْ يَطْلُبَ الصَّبِيَّ لِيُهْلِكَهُ». فَقَامَ وَأَخَذَ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ لَيْلاً وَانْصَرَفَ إِلَى مِصْرَ. وَكَانَ هُنَاكَ إِلَى وَفَاةِ هِيرُودُسَ. لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ مِنَ الرَّبِّ بِالنَّبِــيِّ الْقَائِل: «مِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ ابْنـِـــي»". وقد وَرَدَتْ هذه النُّبوَّة في سِفْر هُوْشَع 11: 1: القائل: "وَمِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ ابْنِي".
لِذا فإنَّ المسيحَ يُتَمِّمُ النُّبوءةَ الثَّانية. فقد دُعِيَ مِنْ مِصْر، وَوُلِدَ في بيتِ لحم. وقد رأينا الرَّمْزَ الرَّائعَ مِنْ خلالِ المُقارنةِ بينَ إسرائيل [بوصفِها ابنَ اللهِ في سِفْر هُوشَع]، والربِّ يسوعَ المسيح بوصفِهِ ابْنَ اللهِ في إنجيل مَتَّى.
وهذا يَقودُنا إلى النُّبوَّة الثَّالثة الَّتي سنَبتدئ بها دَرْسَنا في هذا المساء. وسوفَ نُسَمِّيها: "عَويلُ الرَّامَة" ... عَويلُ الرَّامة. فهناكَ الولادة في بيتِ لحم، والخُروجُ مِنْ مِصْر، والعَويلُ في الرَّامَة في الأعداد 16-18. وهذا ليسَ مَقطعًا يَسْهُلُ رَبْطُهُ بالنُّبوَّة. لِذا، أريدُ مِنكم أنْ تُفَكِّروا بوضوحٍ معي في أثناءِ دِراسَتِنا.
والآنْ، تَذَكَّروا أنَّ يسوعَ وُلِدَ، دُوْنَ شَكٍّ، في حَظيرة، أوْ في كَهْفٍ في جانِبِ تَلٍّ في بيتِ لحم. وفي الوقتِ الَّذي جاءَ فيهِ المَجوس، كانَ قد كَبُرُ بِضعةَ أشهُر. وقد هَرَبتِ العائلةُ إلى مِصْرَ وبَقَوْا فيها بِضعةَ أشهُر. ثُمَّ إنَّ المَلاكَ قالَ لهم إنَّهُ بِمَقدورِهِمْ أنْ يَرْجِعوا. وفي مُطْلَقِ الأحوال، بعدَ أنْ ماتَ هيرودُس، لم يَهْدُروا وَقتًا، بل ابتدأوا في الرَّحيلِ إلى الدِّيار.
ولكِنَّ هذه ليست القِصَّة كُلَّها لأنَّ هناكَ شيئًا حَدَثَ في المُنتصَف. فقبلَ عَودتهِم، ينبغي أنْ نَرْجِع إلى أرضِ إسرائيل لِنَعْرِفَ مَا كانَ يَجري آنذاك إذْ نُقرأُ في العدد 16: "حِينَئِذٍ لَمَّا رَأَى هِيرُودُسُ أَنَّ الْمَجُوسَ سَخِرُوا بِهِ...". وبالمُناسبة، فإنَّ الكلمة "سَخِروا"، أو "إمبايتزو" (empaizo) باليونانيَّة، تَعني "سَخِروا" عادَةً، ولكِنْ بسببِ استخدامِها في التَّرجمةِ السَّبعينيَّة في سِفْرِ إرْميا 15: 10 بِمَعنى: "يَخْدَع"، فإنَّها تُستخدَم أيضًا بمعنى خِداعِ شَخْصٍ ما. وليسَ فقط خِداعَهُ، بلِ الاستهزاء بِهِ مِنْ خلالِ خِداعِه. وهذا هو ما افْتَرَضَ هيرودُسُ أنَّ المَجوسَ فَعَلوهُ بِهِ. فقد خَدَعوهُ بأنْ مَضَوْا في طَريقٍ آخر.
إذًا، لَمَّا رَأَى هِيرُودُسُ أَنَّ الرِّجالَ الحُكَماءَ [أيِ المَجوس] سَخِرُوا بِهِ [أوْ خَدَعوه]، غَضِبَ جِدًّا. فَأَرْسَلَ وَقَتَلَ جَمِيعَ الصِّبْيَانِ الَّذِينَ فِي بَيْتِ لَحْمٍ وَفِي كُلِّ تُخُومِهَا، مِنِ ابْنِ سَنَتَيْنِ فَمَا دُونُ، بِحَسَب الزَّمَانِ الَّذِي تَحَقَّقَهُ مِنَ الْمَجُوس".
ولَعَلَّكُم تَذكرونَ ما حَدَثَ سابقًا في القصَّة (وتحديدًا في العدد 7). فقد تَحَقَّقَ هيرودسُ مِنَ المَجوسِ عَنْ زَمانِ وِلادةِ المسيح، أيْ عن زَمانِ ولادةِ المَلِك. وقد فَعَلَ ذلكَ لا لأنَّهُ أرادَ مَعلوماتٍ تُؤكِّدُ حَقَّ المَلِكِ في المُلْك، بل لأنَّهُ أرادَ أنْ يَقتُلَ المَلِك، وأرادَ أنْ يَعْرِفَ عُمْرَهُ. لِذا فقد طَرَحَ ذلكَ السُّؤال. ونحنُ نَقرأُ هنا أنَّهُ عندما حَصَلَ على تلكَ المَعلومة، "أَرْسَلَ وَقَتَلَ جَمِيعَ الصِّبْيَانِ مِنِ ابْنِ سَنَتَيْنِ فَمَا دُونُ" لأنَّ هذا العُمْرَ يَقَعُ في الإطارِ الزَّمَنِيِّ الَّذي أَخْبَرَهُ المَجوسُ عنه.
والآنْ، لِنَنظُر إلى العدد 16، ونَتأمَّل فيهِ شيئًا فشيئًا على أَمَلِ مُساعَدَتِكُم في فَهْمِه. وإنْ كُنْتُم مَعَنا في الأسابيعِ السَّابقة، لا شَكَّ أنَّكُم تَعلمونَ أنَّ هيرودس كانَ شخصًا مُرَوِّعًا، وقاسيًا، ومَجنونًا إذْ إنَّهُ قَتَلَ أشخاصًا كَثيرينَ في فَترةِ حُكْمِهِ كَمَلِكٍ أَدومِيٍّ على إسرائيل. ولكِنَّنا نَقرأُ هُنا أنَّهُ شَعَرَ بأنَّ المَجوسَ سَخِروا بِهِ فَغَضِبَ جِدًّا.
والكلمة اليونانيَّة المُستخدمة هُنا هي: "ثوماؤو" (thumoo)؛ وهي كلمة قويَّة جدًّا. وهي تَعني حرفيًّا: "اسْتَشاطَ غَضَبًا" ... اسْتَشاطَ غَضَبًا. فقد انْفَجَرَ حَرفيًّا وَثارَتْ ثائِرَتُه. فقد اهْتاجَ جِدًّا. وإنْ كانَتْ ذاكِرَتي صحيحة، مِنَ المُدهشِ أنَّ هذا الفِعْلَ يَرِدُ بصيغةِ المَبني للمَجهول. بعبارة أخرى، فقد عَجِزَ عَنْ تَمالُكِ نَفسِهِ. وهو لم يكن يَفعلُ ذلكَ بإرادَتِه، بل كانَ خَاضِعًا لِقُوَّةٍ ما. فقد خَرَجَ غَضَبُهُ عَنْ سَيطرَتِه.
والحقيقةُ هي أنَّ غَضَبَهُ جَعَلَهُ يَفْقِدُ عَقْلَهُ. وما أعنيه هو أنَّهُ لو كانَ لَديهِ عَقْلٌ أَصْلاً لأدركَ ما كانَ يَجري آنذاك وقال: "حسنًا، إنَّ هؤلاءِ الرِّجالَ الحُكَماء، أيِ المَجوسَ، أذكياءَ ولن يَعودوا. وَمِنَ المُرَجَّحِ أيضًا أنَّهم حَذَّروا عائلةَ ذلك الطِّفل". أليسَ كذلك؟ ومِنَ المؤكَّدِ أنَّ عائلةَ الطِّفلِ ستَهْرُب. فلو أنَّهُ استخدمَ عَقلَهُ لَفَكَّرَ بهذه الطريقة. "إنْ خَدعوني، مِنَ المؤكَّدِ أنَّهُم حَذَّروا تلك العائلة"، أو: "إنْ خَدعوني، مِنَ المؤكَّدِ أنَّهُم فَعلوا ذلك".
ولكِنَّ غَضَبَهُ أَعْماه فَلَمْ يَخْطُرْ هذا الأمرُ بِبالِه. وقد أَمَرَ بِقَتْلِ كُلِّ صَبِيٍّ في تلك المنطقة. فقد أرسلَ جُنودَهُ ليقتلوهُم جميعًا. ولا شَكَّ أنَّهُ بمقدوركم أنْ تتخيَّلوا الجُنودَ وَهُمْ يَنتقلونَ مِنْ بيتٍ إلى بيت، ويُطارِدونَ الأُمَّهاتِ الهَارِباتِ اللَّاتي يَحْتَضِنَّ أبناءَهُنَّ الصِّغارَ، ويَنْظُرْنَ الجُنودَ وَهُمْ يَخْطِفونَ كُلَّ صَبِيٍّ مِنْ حِضْنِ أُمِّهِ ويَطْعَنونَهُ في قَلْبِهِ بِسَيْفِهم حَتَّى المَوْت. فهذا هو ما حَدَثَ في بيتِ لحم بسببِ غَضَبِ هذا الرَّجُل.
ونحنُ نَقرأُ أنَّ هذا حَدَثَ لا فقط في بيتِ لحم، بل أيضًا في جَميعِ تُخومِها والمَناطِقِ المُحيطةِ بها. وسوفَ تُلاحِظونَ أيضًا أنَّهُ قَتَلَ الصِّبْيانَ "مِنِ ابْنِ سَنَتَيْنِ فَمَا دُون". وما يُدهشُني هو أنَّ هيرودُس لم يُبالي بمعرفةِ أنْ كانَ هذا الطِّفلُ هو المَلِكُ الحقيقيّ. وقد كانَ مِنَ المُرَجَّح جدًّا أنْ يكونَ المَلِك الحَقيقيّ لو أنَّهُ فَكَّرَ في الأمر. ولَعَلَّهُ فَكَّرَ في ذلك وأدركَ ذلك لأنَّ الأنبياءَ قالوا إنَّهُ سيُولدُ في بيتِ لحم. وأنا أعتقد حقًّا أنَّهُ أَدركَ في عَقلِهِ أنَّ هذا هو الملك الحقيقيّ وأنَّهُ ينبغي أنْ يَتخلَّصَ مِنه. لِذا فقد عَقَدَ العَزْمَ على إعْدامِ الملكِ الحقيقيِّ لإسرائيل، المَسِيَّا المَلِك الحَقيقيّ.
لِذا فإنَّ الآيةَ تقولُ إنَّهُ قَتَلَ كُلَّ الصِّبْيانِ مِنِ ابْنِ سَنَتَيْنِ فَمَا دُونُ. وهذا مُدهشٌ. فلماذا فَعَلَ ذلك؟ فأنا مُقتنِعٌ بأنَّ الطِّفلَ لم يكن قد بَلَغَ سَنَتَيْن، بل رُبَّما كانَ عُمرُهُ نحوَ سِتَّة أشُهر في ذلك الوقت. ولكِنْ لماذا قَتَلَ كُلَّ الصِّبْيان مِنِ ابْنِ سَنَتَيْنِ فَمَا دُونُ؟ يَرى بعضُ المُفَسِّرينَ أنَّ أيَّ طِفلٍ اجتازَ عيدَ ميلادِهِ الأوَّل كانَ يُحْسَبُ طِفْلاً في سَنَتِهِ الثَّانية. ولكِنْ عندما يَبلغُ عُمْرُ الطِّفلِ ثلاثَ عَشْرَةَ شَهْرًا، فإنَّهُ يُعَدُّ ابْنَ سَنَتَيْن. فقد كانَ يُحْسَبُ في سَنَتِهِ الثَّانية. لِذا فقد تَعامَلَ معَ هؤلاءِ الصِّبْيان على هذا الأساس.
ويقولُ آخرون: "لا، بل إنَّ المَعنى المقصود هو الصِّبْيان الَّذينَ بَلَغوا عُمْرَ سَنَتَيْن، وإنَّهُ كانَ يُحاولُ أنْ يتحقَّقَ مِنْ قَتْلِ الصَّبيِّ في حالِ أنَّ المَجوسَ أخطأوا في الحِسابِ أوِ التَّقديرِ، أو في حالِ أنَّهم حَاولوا أنْ يَخدعوه قليلاً في المَرَّةِ الأولى. لِذا فقد أَرادَ أنْ يَقْتُلَ جَميعَ الصِّبْيانِ المُحْتَمَلين في ذلك المكان أوْ حَوْلَهُ. لِذا فقد قَتَلَ جَميعِ الصِّبيانِ مِنِ ابْنِ سَنَتَيْنِ فَمَا دُون. وأيًّا كانَ التَّعليل، فإنَّهُ فَكَّرَ في أنَّهُ إنْ قَتَلَ كُلَّ الصِّبيان مِنِ ابْنِ سَنَتَيْنِ فَمَا دُون فإنَّهُ لا بُدَّ أنْ يَقتُلَ الصَّبيَّ الَّذي أرادَ أنْ يَقْتُلَهُ.
ولا حَاجَةَ إلى التَّحَدُّثِ عَنْ فَظَاعَةِ الشَّرِّ الكامِنِ وراءَ ما فَعَل. فهذا أمرٌ واضح. ولا يُعْقَلُ أنَّ شخصًا يَفعل ذلك. وسوفَ تَزدادُ دَهْشَتُنا حينَ نَعلمُ أنَّهُ عَلِمَ أنَّ هذا هو المسيح، وأنَّ هذا هو المسيَّا، وأنَّ هذا هو المَلِك. ويا لها مِن جَريمة شِرِّيرة، وشَنيعَة، ونَكْراء بِكُلِّ مَعنى الكلمة. وأعتقد أنَّ هذه الجريمة الشَّنيعة كانت بِدايةَ أَحزانِ إسرائيل بسببِ رَفْضِهِمْ لِمَلِكِهِم. فقد كانت هذه هي البداية فقط. وأعتقد أنَّ مَتَّى يريدُ مِنَّا أنْ نَرى أنَّهُ منذُ بدايةِ حياةِ المسيَّا، كانَ هُناكَ رَفْضٌ أدَّى إلى الموت ... مُنْذُ البِداية. فقد كانَ هناكَ عَدَمُ إيمانٍ وشَرٌّ أَدَّيا إلى حُدوثِ مُصيبةٍ ومأساة.
وبالمناسبة، يا أحبَّائي، إذا فَكَّرتُم بأنَّ المذبحة الَّتي حدثت في بيتِ لحم كانت مذبحة كبيرة، اسمعوني: لم تكن تلكَ المَذبحة شيئًا يُذْكَر. فهي لا تُقارَن بالكارثة الَّتي وقعت في سنة 70 ميلاديَّة إذْ إنَّ مَليونًا ومِئَةَ ألفِ يهوديٍّ قُتِلوا على يَدِ جُنودِ تِيْطُس (Titus). فقد كانت هذه هي البداية وَحَسْب.
وسوفَ أقولُ لكم شيئًا آخر. لا يُمكن مُقارنة هَاتَيْنِ الحادِثَتَيْن بما سيحدثُ في فترةِ الضِّيقةِ العظيمة حينَ يأتي المسيحُ الدَّجَّال، وهو أَدْهى جِدًّا مِنْ هيرودُس، ويَسْفِكُ دِماءً يهوديَّةً أكثرَ مِنْ أيِّ وقتٍ مَضَى. فقد كانت تلك هي البداية فقط. إنَّها البداية وَحَسْب.
وقد تقول: "حسنًا! ولكِنْ ما سَبَبُ ذِكْرِ هذه المَجزرة هنا؟" لأنَّها تُتَمِّمُ النُّبوَّة. انظروا إلى العدد 17: فَمِنْ خلالِ قَتْلِ هؤلاءِ الصِّبْيان "حِينَئِذٍ تَمَّ مَا قِيلَ بِإِرْمِيَا النَّبِــيِّ الْقَائِلِ: «صَوْتٌ سُمِعَ فِي الرَّامَةِ، نَوْحٌ وَبُكَاءٌ وَعَوِيلٌ كَثِيرٌ. رَاحِيلُ تَبْكِي عَلَى أَوْلاَدِهَا وَلاَ تُرِيدُ أَنْ تَـتَعَزَّى، لأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَوْجُودِينَ»". بعبارة أخرى، فإنَّهم ليسوا على قَيْدِ الحَياة. فقد ماتوا. وَهُمْ ليسوا بِموجودين.
والآن، أريدُ مِنكم أنْ تُرَكِّزوا معي في هذه النُّقطة لكي تَفهموها. فَمَتَّى يقولُ إنَّ هذا حَدَثَ لكي يَتِمَّ ما جاءَ في النُّبوَّة. وهذه هي المَرَّة الوحيدة الَّتي تُشيرُ فيها الأناجيلُ إلى هذه الحادثة. وهذا مُدهشٌ! ولكنَّ هذا يُوافِق فِكرةَ مَتَّى المُختصَّة بِتَتميمِ النُّبوَّات عندَ ولادة المسيح لكي يُؤكِّدَ أنَّهُ كانَ المَلِك.
والآنْ، ما هي الأحوالُ الَّتي قيلت فيها تلك النُّبوَّة؟ ولكي تَعرِفوا الإجابة، افتحوا على سِفْر إرْميا 31: 15. وهذا مُدهشٌ. إرْميا 31: 15. وقد عَلِمْنا مِنْ خلالِ النُّبوءَتَيْنِ الأولى والثَّانية أنَّ كُتَّابَ العهدِ الجديدِ يُفاجِئونَنا أحيانًا في طريقةِ استخدامهم للعهدِ القديم.
وأحيانًا، قد لا نَفهمُ هذا النَّوعَ مِنَ الاستخدام. وهذا يَتطلَّبُ مِنَّا أنْ نُوَسِّعَ آفاقَنا قليلاً. وأريدُ منكم أنْ تَرَوْا ما يَحدثُ هنا. فالنُّبوَّة مذكورة في سِفْر إرْميا 31: 15. والشَّيءُ المُدهشُ بخصوصِها هو أنَّها لا تَبدو هنا نُبوءَةً. ولكنَّها نُبوءة (والآن اسمعوني) لأنَّ مَتَّى قالَ إنَّها كذلك؛ لا لأنَّ هذا أَمْرٌ ظَاهِرٌ بوضوح في النَّصّ.
إرْميا 31: 15: "هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: صَوْتٌ سُمِعَ فِي الرَّامَةِ، نَوْحٌ، بُكَاءٌ مُرٌّ. رَاحِيلُ تَبْكِي عَلَى أَوْلاَدِهَا، وَتَأبَى أَنْ تَتَعَزَّى عَنْ أَوْلاَدِهَا لأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَوْجُودِينَ". فهذا هو النَّصّ. وهذه هي النُّبوَّة. والآن، لنتحدَّث عنِ السِّياق لكي نَفهمَها ونَفهمَ كيفيَّة تَطبيقِها.
لقد كانت نُبوءاتُ إرْميا على الأرجح أكثرَ نُبوءاتٍ مُحْزِنَة في كُلِّ تاريخِ إسرائيل لأنَّها أَعلَنَتِ دَينونةَ أُمَّةٍ تُحْتَضَر. فقد كانت نُبوءَتَهُ تُشْبِهُ النُّبوءةَ الأخيرة. وقد أَعْلَنَها وَهُوَ يَبكي. وقد كانَ يَعلمُ أنَّهُ لن يُصغي إليهِ أحد، وأنَّ أحدًا لن يتوب، وأنَّ السَّبْيَ شَيءٌ لا مَفَرَّ مِنْهُ حَقًّا. لِذا فقد أَعلنَ إرْميا الدَّينونة.
وفي وقتٍ لاحقٍ، سيأتي واحدٌ أعظم مِنْ إرْميا ويُعلِنُ مَرَّةً أُخرى الدَّينونَةَ نَفسَها على الأُمَّةِ نَفسِها. وهو سَيَفعلُ ذلكَ بِدُموعٍ أيضًا. وذاتَ يومٍ، جَلَسَ يسوعُ مُقابِلَ أورُشليم. والكتابُ المقدَّسُ يَقولُ إنَّهُ قال: "يَا أُورُشَلِيمُ، يَا أُورُشَلِيمُ! ... كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلاَدَكِ كَمَا تَجْمَعُ الدَّجَاجَةُ فِرَاخَهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهَا، وَلَمْ تُرِيدُوا!" ... "يَا قَاتِلَةَ الأَنْبِيَاءِ وَرَاجِمَةَ الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهَا".
والكتابُ المقدَّسُ يُخبرُنا أنَّهُ بَكَى. لِذا فإنَّ إرْميا يَنظرُ إلى الشَّعبِ الَّذي حُكِمَ عليهِ بالدَّينونة ويَبكي. ويسوعُ يَنظرُ إلى الشَّعبِ الَّذي حُكِمَ عليهِ بالدَّينونة ويَبكي. والآن، رَكِّزوا معي لكي نَرى كيفَيَّةَ ارتباطِ هَذينِ الأمرينِ مَعًا. لا تَفْقِدُوا تَركيزَكُم الآن. فَحَتَّى في نُبوءةِ إرْميا، هُناكَ رَجاءٌ عَظيم؛ سَواءٌ صَدَّقْتُمْ ذلكَ أَمْ لم تُصَدِّقوه.
والحقيقةُ هي أنَّ هذه النُّقطة مُدهشة جدًّا. فَمِنَ الأصحاح 30 مِنْ سِفْرِ إرْميا إلى الأصحاح 35 مِنْ سِفْر إرْميا؛ أوْ بالحَرِيِّ إلى الأصحاح 33. مِنَ الأصحاح 30 إلى الأصحاح 33، هناكَ أربعةُ أَصحاحاتٍ في مُنتصفِ هذا السِّفْر تَزْخُرُ بالرَّجاء والفَرَح والتَّعزية. فَإرْميا يَتَنَبَّأُ عنِ الدَّينونة. وقد حَدَثَ السَّبيُ البابليُّ بعدَ وقتٍ ليسَ بالطَّويل وَوَقَعُوا في الأسْر. وقد كانت تلك مأساة مُريعَة. ولكِنْ في مُنتصفِ هذه الدَّينونَة، هناكَ تَعزية عظيمة ورجاءٌ عظيمٌ في الأصحاحات 30-33.
لِذا، لاحِظوا ما يَلي: إنَّ هذه الجُملة عنِ البُكاء، والرِّثاء، والأطفال، وكُلِّ ذلك، تأتي في وَسْطِ المَقطعِ الَّذي يَزْخُرُ بالرَّجاء، وفي وَسْطِ المَقطعِ الَّذي يَزْخُرُ بالتَّعزية، وفي وَسْطِ المَقطعِ الَّذي يَزْخُرُ بالفَرَح. لماذا؟ لأنَّهُ بالرَّغمِ مِنْ وجودِ بُكاء، وبالرَّغمِ مِنْ وجودِ رِثاء، وبالرَّغمِ مِنْ وجودِ نَحيب، فإنَّ هذه الأصحاحات تَنْظُرُ بِعَيْنِ التَّرَقُّبِ إلى المَسِيَّا الآتي. فهذه الأصحاحاتُ تَنظرُ بِعَيْنِ التَّرَقُّبِ إلى ذاكَ الَّذي سيأتي ويُصَحِّحُ كُلَّ شيء. فسوفَ يكونُ هُناكَ تَغيير.
والحقيقة هي: انظروا إلى إرْميا 31: 16؛ أيْ إلى الآيةِ الَّتي تَليها في هذه النُّبوَّة: "هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: امْنَعِي صَوْتَكِ عَنِ الْبُكَاءِ، وَعَيْنَيْكِ عَنِ الدُّمُوعِ، لأَنَّهُ يُوجَدُ جَزَاءٌ لِعَمَلِكِ، يَقُولُ الرَّبُّ. فَيَرْجِعُونَ مِنْ أَرْضِ الْعَدُوِّ. وَيُوجَدُ رَجَاءٌ لآخِرَتِكِ، يَقُولُ الرَّبُّ. فَيَرْجعُ الأَبْنَاءُ إِلَى تُخُمِهِمْ".
بعبارة أخرى، فإنَّ اللهَ يَقولُ لإرْميا: "إنَّهُ يومٌ حَزين. وهناكَ دَينونة. ومِنْ حَقِّكَ أنْ تَبكي. ولكِنْ تَوَقَّفْ عنِ البُكاءِ بعدَ الآن لأنَّي سأفديهم". وقد فَعَلَ ذلك. فقد فَعَلَ ذلك بعدَ 70 سنة ... بعدَ 70 سنة. والشَّيءُ نَفسُهُ يَصِحُّ في استخدامِ النُّبوَّةِ مِنْ قِبَلِ مَتَّى. فهناكَ بُكاءٌ. وراحيلُ تَبْكي على أولادِها. وهناكَ عَويلٌ. وهناكَ رِثاء بسببِ المأساة، والدَّمار، والدَّينونة الَّتي حَلَّتْ على أُمَّةٍ رَفَضَت المسيَّا. ولكِنْ في الوقتِ نفسِه، هناكَ رَجاءٌ لأنَّهُ حَتَّى آنذاك، كانت هناكَ بَقِيَّة. وذاتَ يومٍ، بحسب ما جاءَ في رسالة رُومية والأصحاح 11، سيَجمعُ اللهُ تلكَ الأُمَّة بأسرِها. أليسَ كذلك؟ وسوفَ يَرُدُّهُم وَيَرَوْنَ مَسيحَهُم.
ويقولُ النبيُّ زَكَرِيَّا: "فَيَنْظُرُونَ إِلَيَّ، الَّذِي طَعَنُوهُ، وَيَنُوحُونَ عَلَيْهِ كَنَائِحٍ عَلَى وَحِيدٍ لَهُ". وسيكونُ هُناكَ خَلاصٌ مَرَّةً أُخرى في أُمَّةِ إسرائيل. وبولُس يقول: "وَهكَذَا سَيَخْلُصُ جَمِيعُ إِسْرَائِيل". لِذا، يمكنكم أنْ تَرَوْا أنَّ هُناكَ تَشابُهًا عامًّا. وهذا هو كُلُّ ما سأتحدَّثُ عنهُ الآن. فهناكَ تَشابُهٌ عَامٌّ.
فإرْميا تَحَدَّثَ عنِ الدَّينونة. وبَنُو إسرائيلَ بَكَوْا بسببِ الدَّينونة. ولكِنَّ إرْميا قال: "لا تستمرُّوا في البُكاء لأنَّ الأحوالَ ستتغيَّر، وسيكونُ هناكَ خَلاص". والشَّيءُ نَفسُهُ يَصِحُّ على المسيح. فعندما جاءَ المسيحُ، كانَ هناكَ بُكاءٌ لأنَّ رَفْضَهُمْ لَهُ جَلَبَ عليهم الدَّينونة. ولكِنْ لا تَستمرُّوا في البُكاءِ لأنَّ الأحوالَ ستتغيَّر، وسيكونُ هُناكَ خَلاصٌ لإسرائيل. فهذا هو وَجْهُ الشَّبَه.
فقد كانَ هناكَ بُكاء. فعندما حَدَثَ السَّبْيُ وتَشَتَّتَ الشَّعْبُ، كانَ هناكَ بُكاء. وعندما حَدَثَتِ المَجزرةُ في أورُشليم في البداية، كانت تلكَ إشارة إلى كَراهِيَةِ وَحِقْدِ وَرَفْضِ هيرودُس، وإشارةً إلى رَفْضِ وَعَدَمِ مُبالاةِ رُؤساءِ الكَهَنَة وَالكَتَبَة والشَّعب، كانَ لا بُدَّ مِنْ وُجودِ ثَمَنٍ ينبغي أنْ يُدْفَع.
ولكِنَّ كلمةَ الربِّ هي العَدْل. فلا بُدَّ أنَّهُ كانَ هناكَ رَجاءٌ في قُلوبِ الأُمَّهاتِ في زمنِ إرْميا. ولا بُدَّ أنَّهُ كانَ هناكَ رَجاءٌ في قُلوبِ الأُمَّهاتِ في زَمَنِ يسوع لأنَّهُ كانَ هُناكَ تَغْييرٌ سيَحدُث. فما زَالَ هُناكَ رَجاء. وما زَالَ هُناكَ خَلاص.
والآن، نُلاحِظ أنَّ هذه الفِكرة بِرُمَّتِها مُرتبطة بالرَّامة وَراحيل. وهذه هي النُّقطة الجوهريَّة. انظروا معي الآن إلى إنجيلِ مَتَّى ودَعونا نَتحدَّث عن ذلك: الرّامَة وراحيل. وهذه نُقطة مُدهشة. فما عَلاقَةُ الرَّامة بذلك؟ وما عَلاقةُ راحيل بذلك؟
لنتحدَّث عنِ الرَّامة. فقد كانتِ الرَّامة مدينةً. والآن لاحِظوا ما سأقول: وقد كانت تَبْعُدُ نحوَ ثمانية كيلومترات إلى الشَّمالِ مِنْ أورُشليم. حسنًا؟ ثمانية كيلومترات. وهي ليست مَدينةً حَقًّا، بل أَشْبَهُ بِقَرية. والآن، أريدُ منكم أنْ تُلاحِظوا شيئًا. راقبوا: في إسرائيل، كانت هناكَ مَملكتان: المَملكة الشَّماليَّة، والمَملكة الجَنوبيَّة. حسنًا؟ وكانَ الخَطُّ الفاصِلُ – والآن لاحظوا ما سأقول: لقد كانَ الخُطُّ الفاصِلُ بينَ المَملَكَتَيْن يَقَعُ عندَ الرَّامة تمامًا. حسنًا؟ فقد كانتِ الرَّامة المدينة الحُدوديَّة بينَ المملكة الشَّماليَّة والمملكة الجنوبيَّة. ويمكنكم أنْ تَتَحَقَّقوا مِنْ ذلك في سِفْرِ المُلوك الأوَّل 15: 17. فقد كانت تَبْعُدُ ثمانية كيلومترات إلى الشَّمالِ مِنْ أورُشليم.
وقد كانتِ الرَّامة هي المَكانُ الَّذي كانَ الغُزاةُ الأجانِب قد أَمَروا فيهِ الشَّعْبَ المَهْزومَ بالتَّجَمُّع مِنْ أَجْلِ تَرحيلِهم إلى أماكِن بعيدة. فعندما جاءَ الغُزاةُ لِتَرحيلِ بني إسرائيلَ إلى السَّبْي، كانت الرَّامَة بَلْدَةَ التَّرْحيل. وبسببِ مَوقِعِها، صارت رَمْزًا لدى المَملكة الشَّماليَّة والمملكة الجنوبيَّة؛ أيْ كِلتا المَملكتَيْن. فكأنَّ الرَّامة هي المكانُ الوحيدُ الَّذي اجْتَمَعَ فيهِ بنو إسرائيل معًا. فقد كانت الرَّامة نُقْطَةَ تَلاقي المَملكتَيْن. وقد كانت الرَّامة دائمًا مُقْتَرِنَة بالبُكاء لأنَّ التَّرْحيلَ إلى السَّبيِ كانَ قد حَدَثَ في الرَّامة. لِذا فقد كانتِ الرَّامةُ مَكانًا مُقْتَرِنًا بالبُكاء.
والآن، لماذا يَتحدَّثُ إرْميا عن راحيل؟ الحقيقة هي أنَّ إرْميا يَرسِمُ صُورةً. وهو لا يَعني بذلك أنَّ راحيل ذَهبت بالضَّرورة إلى الرَّامة وَبَكَتْ. بل إنَّ راحيل هي رَمْزٌ لأُمَّهاتِ إسرائيل. والرَّامة هي رَمْزٌ لِتَرحيلِ أبناءِ وَبناتِ إسرائيل. وأُمَّهاتُ إسرائيل يَبْكينَ لأنَّهُنَّ يَرَيْنَ أبناءَهُنَّ يُسَاقُونَ بَعيدًا. فهذه هي الفِكرة.
والمُدهشُ هو أنَّ راحيل كانت الزَّوجة المُفَضَّلة لدى يَعقوب. وراحيلُ وَلَدَتْ يوسُف. ويوسُف كانَ أَبَ أفرايِم وَمَنَسَّى. وَهُما يُمَثِّلانِ المملكة الشَّماليَّة. والحقيقة هي أنَّ المملكة الشَّماليَّة تُسَمَّى غالبًا: "أَفرايم". لِذا، إذا أَخَذْنا هذهِ الفِكرة بعينِ الاعتبار فإنَّ المملكة الشَّماليَّة تُرى في الحقيقة بوصفِها أفرايم الَّذي كانَ ابْنَ يوسُف الَّذي كانَ ابْنَ راحيل. لِذا فإنَّ راحيلَ وَلَدَتْ مِنْ رَحِمِها المملكة الشماليَّة. حسنًا؟ فقد وَلَدَت المملكة الشَّماليَّة.
ثانياً، راحيلُ وُلَدَت أيضًا بَنْيامين. فقد وُلَدتْ راحيلُ أيضًا بَنْيامين. وبنيامينُ ذَهَبَ إلى الجَنوبِ. وَهُوَ يَقْتَرِنُ بالمملكة الجنوبيَّة. لِذا فإنَّ ما تَرَوْنَهُ هنا هو أنَّ راحيل هي رَمْز. وإرْميا يَرى في الأصحاح 31 وكأنَّ راحيل حَيَّة. وهو يَرى راحيل وكأنَّها تَقِفُ في الرَّامة في وقتٍ تَمَّ فيهِ تَرحيلُ أبناءِ المملكة الشَّماليَّة إلى السَّبْيِ مِنْ قِبَلِ أشور. وقد تَمَّ تَرحيلُ أبناءِ المملكةِ الجنوبيَّة إلى السَّبْيِ مِنْ قِبَلِ بابل.
وقد جاءتُ كُلٌّ مِنَ المملكة الشَّماليَّة والمملكة الجَنوبيَّة مِنْ رَحِمِ راحيل. لِذا فإنَّ راحيلَ تَبْكي وهي تَرى كِلا الجانِبَيْنِ مِنْ عائِلَتِها يَقَعانِ في السَّبْي. وهي رَمْزٌ للأُمَّهاتِ البَاكِياتِ في تاريخِ شعبِ اللهِ لأنَّهُ تَمَّ تَرحيلُ أبنائِهِنَّ وَبَناتِهِنّ. وهو تُصْغي إلى بُكائِهِنَّ وتَبتدئُ هي الأُخرى تَبْكي. وهي تَبْكي بِمَرارة.
فأوَّلاً، لقد حُرِمَتْ مِنْ إسرائيل وأفرايم، ثُمَّ مِنْ يهوذا وبَنيْامين. وقد كانت راحيلُ هي الَّتي قالت في سفر التَّكوين 30: 1: "هَبْ لِي بَنِينَ، وَإِلاَّ فَأَنَا أَمُوتُ!". فهي الَّتي كانَتْ مِنْ بينِ كُلِّ الأُمَّهاتِ تُريدُ أنْ تَكونَ أُمًّا. وها هي تَقِفُ الآنَ في وَسْطِ هاتَيْنِ الأُمَّتَيْن فيما يَقِفُ واحِدٌ مِنْ نَسْلِها في هذا الجانِب، والآخرُ في ذلكَ الجانب. وهي تَنظرُ إليهما كِلِيْهِما وَهُما يُساقانِ إلى السَّبْيِ إلى بَلَدٍ مُخْتَلِف فَتَنْهَمِرُ دُموعُها.
لِذا فإنَّ إرْميا يَستخدِمُ رَمْزَ راحيل وهي تَقِفُ في الرَّامة، ويقول: "إسرائيلُ تَبْكي بسببِ سَبْيِ أبنائِها". وعندما تَمَّ سَبْيُ الشَّعْب، بَدا أنَّ اللهَ قد تَخَلَّى عن أولادِهِ، أيْ أولادِ راحيل. فكأنَّ اللهَ قد تَخَلَّى عن شَعبِهِ.
ولكِنْ ما إنْ قَدَّمَ إرْميا صُورةَ راحيل وهي تَبكي حَتَّى نَقرأُ بعدَ ذلكَ مُباشرةً: "تَوَقَّف عنِ البُكاءِ لأنَّهُ سَيَتِمُّ رَدُّ الأُمَّة". فهناكَ رِسالةُ خلاص. وَهُمْ سيَرجِعون. وقد رَجَعوا حقًّا. فقد رَجَعوا حَقًّا.
والحقيقة هي أنَّهُ يَتَحَدَّثُ في الأصحاح 33 عن غُصْنِ البِرِّ الَّذي هو يسوعُ المسيحُ الَّذي سَيَرُدُّهُم. وفي النِّهاية، سَيَتَحَوَّلُ الحُزنُ إلى فَرَح مِنْ خلالِ خَلاصِ البَقِيَّة الَّذي تَحَقَّقَ مِنْ خلالِ السَّبْيِ وما حَدَثَ بَعْدَ ذلك.
والآن، اسمعوني: إليكُم كيفَ يَنْظُرُ مَتَّى إلى هذا الأمر. فَمَتَّى يُرينا أنَّ الرُّوحَ القُدُسَ قَصَدَ أيضًا أنْ يَستخدِمَ هذا الرَّمزَ وهذهِ الصُّورة لكي يُعْلِنَ وقتَ ولادةِ المسيح. وحينَ رأى مَتَّى قَتْلَ أطفالِ بيتِ لحم، كأنَّهُ رَأى راحيل تَبكي ثانيةً. لذا فإنَّهُ يَنْتَقي هذهِ الاستعارة الرَّائعة مِنْ سِفْر إرْميا. وَهُوَ يَرى راحيل تَبكي على أولادِها. ولماذا راحيل تحديدًا؟ لأنَّ راحيل كانت أَشْبَهُ بِأُمِّ إسرائيل. وقد كانَ قَبْرُ راحيل (انتبهوا جَيِّدًا) لقد كانَ قَبْرُ راحيل خارجَ مدينةِ بيتِ لحم. وإذا زُرْتَ ذلك المكان، سَيُشيرُ سائقُ الأُجرة إلى ذلكَ المكان.
ويُخبرُنا بعضُ شُرَّاحِ الكتابِ المقدَّسِ شيئًا مُدهشًا جدًّا. فالكلمة "رَامَة" تَعني: "هَضْبَة". وأيُّ مَكانٍ مُرْتَفِعٍ في إسرائيل هو "رَامَة". وبيتُ لَحْم مُرتَفِعَة. ويَرى البعضُ أنَّ بيتَ لحم في تلك الأيَّام كانَ يُشارُ إليها بالرَّامة. فهناكَ أماكِن عَديدة تُسَمَّى "رَامَة" في تاريخِ إسرائيل. فهناكَ بِضْعَةُ أماكِنْ تَسَمَّى "هَضْبَة".
وَيَعتقدُ البعضُ أنَّ راحيل تَبْكي في الرَّامة (كما يَقولُ مَتَّى) لأنَّ قَبْرَ راحيل قَريبٌ مِنْ بيتِ لحم، ولأنَّ بيتَ لحم صارت مَعروفة بالرَّامة (أيِ الهَضْبَة أوِ المكانِ المُرتفِع). لِذا فإنَّ هذا الاسمَ الَّذي استخدَمَهُ إرْميا كَرَمْزٍ في سِفْرِهِ لم يَكُنْ سِوى صُورة أُخرى لِما سيَحدث مَرَّةً أخرى عندما يأتي المَسِيَّا.
لِذا فإنَّ راحيل تَبكي ثانيةً. وفي هذه المَرَّة، إنَّها تَبكي لا لأنَّ بابلَ أو أشورَ قد أَهْلَكَتْ شَعْبَها، بل لأنَّ هيرودُس فَعَلَ ذلك. لأنَّ هيرودُس فَعَلَ ذلك. والسَّببُ هذه المَرَّة لا يَختصُّ بِقُوى سياسيَّة أجنبيَّة، بل هو مَلِكُ أُمَّةِ إسرائيل نَفْسِها. والتَّعزية تأتي حالاً لأنَّهُ بالرَّغمِ مِنْ أنَّ المَلِكَ قد أُبْعِدَ وأنَّ الذَّبْحَ مُستمرٌّ، فإنَّ المَلِكَ سيعود. أليسَ كذلك؟ مِنْ مِصْر. وسوفَ يُكْرَزُ بإنجيلِهِ وتَخْلُص بَقِيَّة.
لِذا، لا حاجة، يا راحيل، إلى البُكاءِ بعدَ الآن. يُمْكِنُكِ أنْ تَتَوَقَّفي. صَحيحٌ أنَّ حُزْنَ أُمَّهاتِ بيتِ لَحْم الثَّكَالى كانَ شَديدًا على أبنائِهِنَّ الَّذينَ قَتَلَهُم هيرودُس. وصحيحٌ أنَّ هذه كانت إشارة إلى الدَّينونة القادمة. وصحيحٌ أنَّها كانت علامة على عُبوديَّة إسرائيل المُريعة الَّتي كانت ما تَزالُ قائمةً حتَّى ذلكَ الحين. ولكِنْ في النِّهاية، سيكونُ هناكَ مَصير. والمَصيرُ هو بَرَكَة وخَلاص للبقيَّة الَّتي تُؤمِن.
إنَّ هؤلاءِ الأطفال الصِّغار لم يكونوا يَعلمونَ شيئًا. فهؤلاءِ الأطفال الأحبَّاء الصِّغار في بيتِ لحم في ذلك الوقت كانوا أوَّلَ الضَّحايا في الحربِ الَّتي نَشَبَتْ بينَ مَمالِكِ هذا العالَم ومملكةِ مَسيحِهِ. فقد كانوا أوَّلَ ضَحايا الحرب. ولكِنْ في النِّهاية، سيكونُ هناكَ نَصْر.
وفي ضَوْءِ فَهْمي للكتابِ المقدَّس في اللَّحظةِ الَّتي ماتَ فيها هؤلاءِ الأطفال ذَهَبوا حالاً ليَكونوا في حَضرةِ اللهِ الَّذي يَضُمُّ الصِّغارَ إلى صَدْرِهِ ويقول: "لا تَمْنَعوهم، لأَنَّ لِمِثْلِ هؤُلاَءِ مَلَكُوتَ السَّمَاوَات". وينبغي للأُمَّهاتِ أنْ يَتوقَّفْنَ عنِ البُكاءِ لأنَّ هذا الطِّفلَ الَّذي ذَهَبَ الآنَ إلى مِصْر سيعودُ ليُقَدِّمَ لَهُنَّ الخلاصَ الَّذي يُتيحُ لَهُنَّ أنْ يَتَّحِدْنَ مَعَ أطفالِهِنَّ.
ويا للعَجَب! فقد قَدَّمَ لنا النبيُّ صُورةً. ونحنُ لم نَفهم الصُّورة. وكما تَرَوْنَ، يا أحبَّائي، فإنَّنا لا نَفهمُ كُلَّ نُبوءاتِ العهدِ القديم. فهناكَ نُبوءاتٌ ينبغي أنْ نَنتظرَ إلى أنْ يُفَسِّرَها لنا العهدُ الجديدُ لأنَّكُمْ رُبَّما تَتذكَّرونَ أنَّ الرَّسولَ بولسَ يُسَمِّي مَجيءَ المسيَّا المَرَّةَ بعدَ المَرَّة ماذا؟ سِرًّا. وَهُوَ مُخْفَى. وكُتَّابُ العهدِ الجديد المُوْحى إليهم بالقَدْرِ نَفسِهِ أيضًا مِنَ الرُّوحِ القُدُس هُمُ الَّذينَ يَكْشِفونَ السِّرَّ لنا.
ونحنُ نَجِدُ أنَّ هذا هو ما كانَ إرْميا يَقولُهُ بالرَّغْمِ مِنْ أنَّهُ لم يَكُنْ يَفهم مَعْناه. فمعَ أنَّهُ أرادَ أنْ يَنْظُرَ إلى هذه النُّبوءة وأنْ يَعْرِفَ مَعْناها، فإنَّهُ لم يتمكَّن مِنْ ذلك. والمَعنى لم يَتَّضِح إلَّا عندما أرسلَ اللهُ مَتَّى وأَوْحى إليهِ مِنْ خلالِ الرُّوحِ القُدُس أنْ يُقَدِّمَ المَعنى والتَّفسيرَ لتلك الآية. وبالتَّالي فقد أَثْرَاها بطريقة رائعة وَطَبَّقها على المسيح.
لِذا فقد جاءَ المَلِكُ إلى بيتِ لحم (كما تَنَبَّأَ ميخا). وقد ذَهَبَ إلى مِصْر (كما تَنَبَّأَ هُوْشَع). وقد سَبَّبَ بُكاءً في الرَّامة مِنْ قِبَلِ رَاحيل الَّتي كانَتْ رَمْزًا لأُمَّهاتِ إسرائيل (تمامًا كما تَنَبَّأَ إرْميا). وأخيرًا ... أخيرًا، في أثناءِ تَقديمِ مَتَّى لهذه الصُّورة البديعة عنِ المَلِكِ الآتي مِنْ خلالِ استعراضِ النُّبوءات، فإنَّهُ يَقتبسُ نُبوءةً أخرى تَختصُّ باسْمِ النَّاصِرَة.
العدد 19: "فَلَمَّا مَاتَ هِيرُودُسُ". وبالمُناسبة، يَقولُ "يوسيفوس" في كِتابِهِ "العَادِيَّات اليَهوديَّة" (Antiquities)، وقد فَكَّرْتُ في أنَّكُمْ قد تَهتمُّونَ بمعرفةِ ذلك. فهو يقولُ إنَّ هيرودُس ماتَ بسبب: "تَقَرُّح في الأمعاء، وَخَمَج وَدُوْدٌ في الأعضاء، واخْتِلاجَاتٌ مُتَكَرِّرة، وَنَفَسٌ كَريهٌ. ولم يَنْجَح الأطبَّاءُ ولا الحَمَّاماتُ السَّاخِنَةُ في عِلاجِه". وأعتقد أنَّ هذه كانت مِيْتَة مُناسِبَة لِشَخْصٍ كهذا.
مَتَّى 2: 19: "فَلَمَّا مَاتَ هِيرُودُسُ، إِذَا مَلاَكُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ فِي حُلْمٍ لِيُوسُفَ فِي مِصْر". ولَعَلَّكُم تَذكرونَ أنَّ الملاكَ قالَ لَهُ أنْ يَنتظر هُناكَ حَتَّى يَقولَ لَهُ إذْ نَقرأ في العدد 13 أنَّهُ قالَ لَهُ:
"اذهب إلى مِصْر وامْكُثْ هناك". ولا أعتقد أنَّ العائلة بَقِيَتْ هناكَ وقتًا طويلاً لأنَّ هيرودس ماتَ بعدَ ذلك بوقتٍ قصير. وبعدَ أنْ مات، فإنَّ النَّصَّ يَتقدَّم إذْ إنَّ الملاكَ جاءَ وقالَ إنَّ المكانَ التَّالي في تحقيقِ الكلمة النَّبويَّة هو النَّاصِرَة.
العدد 20: "قُمْ وَخُذِ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ". وأقولُ مَرَّةً أخرى إنَّهُ في كُلِّ مَرَّة يُذْكَرُ فيها الاثنان، فإنَّ الطِّفْلَ يُذْكَرُ أوَّلاً. "وَاذْهَبْ إِلَى أَرْضِ إِسْرَائِيلَ، لأَنَّهُ قَدْ مَاتَ الَّذِينَ كَانُوا يَطْلُبُونَ نَفْسَ الصَّبِيِّ". ومِنَ الواضحِ أنَّ هيرودس لم يكن الشخصَ الوحيد. فقد كانَ هناكَ أشخاصٌ آخرون مُتَوَرِّطون. والربُّ أَزالَهُمْ مِنَ الطريقِ أيضًا. ونحنُ لا نَعرفُ المزيدَ عن ذلك، ولكِنَّ الآيةَ تَتَحَدَّثُ بصيغةِ الجَمْعِ هُنا: "يُمْكِنُكُمْ أنْ تَعودُوا الآنَ. فقد مَاتُوا".
العدد 21: "فَقَامَ وَأَخَذَ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَجَاءَ إِلَى أَرْضِ إِسْرَائِيل". والآن، سوفَ تُلاحظونَ أنَّهُ لا يوجد مكانٌ مُحَدَّد. فقد عادوا وَحَسْب إلى إسرائيل. ومِنَ المؤكَّدِ أنَّهُم جاءوا مِنْ جِهَةِ مِصْر. ومِنَ المُرجَّحِ أنَّهم جاءوا مِنَ الجنوبِ مُرورًا ببيتِ لحم وأورُشليم. ورُبَّما اعتقدوا أنَّ هذا هو المكان الَّذي ينبغي أنْ يَسْكُنوا فيه.
وفي نهايةِ المَطاف، لقد كانا يَعلمان أنَّ الطِّفْلَ هو عِمَّانوئيل، الله مَعَنا. وقد كانا يَعلمان أنَّهُ سيكونُ المُخَلِّص، يَسوع، لأنَّهُ سيُخَلِّصْ شَعْبَهُ. وقد كانا يَعلمان أنَّهُ مَسيحُ الله. وقد كانا يَعلمان ذلك لأنَّ مَلاكَ اللهِ أخبرهما بذلك. ورُبَّما ظَنَّا أنَّ أورُشليم هي المكان أو رُبَّما بيتَ لحم الَّتي وُلِدَ فيها. ولأنَّهُ المَلِك، مِنَ الأفضل أنْ يَبقيا في الجِوار. ولكِنَّ ذلكَ تَغَيَّرَ سَريعًا جدًّا.
فنحنُ نَقرأُ في العدد 22 عن يُوسُف: "وَلكِنْ لَمَّا سَمِعَ أَنَّ أَرْخِيلاَوُسَ يَمْلِكُ عَلَى الْيَهُودِيَّةِ عِوَضًا عَنْ هِيرُودُسَ أَبِيهِ، خَافَ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى هُنَاكَ". فقد خافَ أنْ يَبقى في الجُزءِ الجَنوبيِّ، أيْ في أورُشليم أو بيتِ لحم. وتأكيدًا لِمَخاوِفِهِ: "وَإِذْ أُوحِيَ إِلَيْهِ فِي حُلْمٍ، انْصَرَفَ إِلَى نَوَاحِي الْجَلِيل".
والآنْ، أريدُ مِنكم أنْ تَعلموا لماذا خَافَا. قبلَ أنْ يموتَ هيرودس، كانَ يَحْكُمُ آنذاكَ كُلَّ شيء. ولكِنْ عندما ماتَ، كانتِ المَملكة شاسعة. وقد حَكَمَ شخصٌ اسْمُهُ "هيرودُس أنتيباس" (Herod Antipas) منطقةَ الجليلِ في الشَّمال. وحَكَمَ "أرخيلاوُس" (Archelaus) منطقةَ اليهوديَّة.
وقد كانَ هذانِ الوَالِيان ابْنا هيرودُس. وَمِنَ الواضحِ أنَّهُما لم يُقْتَلا. وقد كانا أَقَلَّ نُفوذًا مِنْ أبيهِما، ولم يكونا مَلِكَيْن. فقد كانا حَاكِمَيْنِ أوْ وَالِيَيْن. لِذا فقد حَكَمَ أنتيباس في منطقة الجليلِ في الشَّمال، وَحَكَمَ أرخيلاوُس في الجنوب. وعندما سَمِعَ يوسُف أنَّ أرخيلاوُس يَحْكُم على اليهوديَّة، خافَ أنْ يُقيمَ هناك. وإليكُم السَّبب:
فعندما كانَ هيرودُس على قَيْدِ الحياة، اكْتَسَبَ أرخيلاوُس سُمْعَتَهُ. فقد قَرَّرَ هيرودُس أنْ يُقيمَ تِمثالاً على شكلِ نَسْرٍ ذَهَبِيٍّ ضَخْمٍ وكبير (وَهُوَ الرَّمزُ الَّذي كانَ مُفَضَّلاً لدى الرُّومان) وأنْ يُقيمَ هذا النَّسْرَ الذَّهبيَّ الضَّخمَ فوقَ بَوَّابةِ الهَيكلِ اليهوديّ. حسنًا؟ ولكِنَّ تلك الفِكرة لم تَلْقَ أيَّ استحسان. فبالنِّسبة إلى اليهود، كانت تلكَ نَجاسَة.
والحقيقة هي أنَّهُ بالنِّسبة إليهم، كانَ مَا فَعَلَهُ انتهاكًا لما جاءَ في سِفْرِ الخروج 20: 4 لأنَّهُ يَعْني التَّعَبُّدَ لآلهةٍ أخرى. والسَّببُ في أنَّهُم اعتقدوا ذلك هو لأنَّ الرُّومانَ (لاحِظوا ما سأقول) لأنَّ الرُّومانَ كانوا يُساوونَ بينَ النَّسْرِ مِنْ جِهَة، وَ "زوس" (Zeus) و "جوبيتر" (Jupiter) مِنْ جِهَة أخرى. لِذا فقد كانَ النَّسْرُ يَرْمِزُ إلى إلَهٍ أو إلَهَيْنِ مِنْ آلِهَتِهم. وقد كانوا يَضَعونَ صَنَمًا بالمَعنى الحَرفيِّ فوقَ الهيكل.
وقد كانَ هناكَ مُعَلِّمانِ يَهوديَّانِ مَشهوران في ذلكَ الوقت: الأوَّلُ يُدعى "يهوذا" (Judas) والثَّاني "مَتِيَّاس" (Matthias). وأرْجو ألَّا تَخْلِطُوا بينَ هَذَيْنِ المُعَلِّمَيْنِ والشَّخصَيْنِ اللَّذَيْنِ يَحْملانِ نَفْسَ الاسْمَيْنِ في الكتابِ المقدَّس. فهذانِ اسْمانِ شائعانِ جِدًّا. وقد جَمَعَ "يَهوذا" وَ "مَتِيَّاس"، هذانِ المُعَلِّمانِ اليهوديَّانِ المَشهورانِ والمُتَبَحِّرانِ في شَريعةِ اللهِ، جَمَعا تلاميذهُما وقالا: "هل سَتَسْمَحوا بحدوثِ هذا الأمر؟ هل ستَسمحوا بحدوثِه؟ هل ستَسمحوا لهذا الشَّخص أنْ يَضَعَ نَسْرًا في الهيكل؟" وقد أَثَارَا حَماسَةَ تلاميذِهما. ولا شَكَّ أنَّ التَّلاميذَ بارعونَ في ذلك. وهكذا فقد أَثارا حَماسَتَهُم.
وأنا أَتذكَّرُ دائمًا كِتابًا مِنْ تأليف "ويليام ويلبرفورس" (William Wilberforce) بعُنوان: "الثَّورة لأيِّ سَبَبٍ مِنَ الأسباب" (Revolution for the Hell of It) قالَ فيه إنَّ بعضَ التَّلاميذِ جاءوا إليهِ وسألوهُ قائِلين: "نحنُ لدينا مجموعة تَرْغَبُ في الثَّورة. فهل لديكَ سَبَبٌ مُقْنِعٌ للقيامِ بِثَورة؟" فالتَّلاميذُ قد يَنْجَرِفونَ هكذا أحيانًا. لِذا فقد شَعَرَ هؤلاءِ التَّلاميذُ بالحماسة وكانَ لديهم سَبَبٌ مَنْطِقِيٌّ حقًّا. فقد كانوا وَطَنِيِّينَ وَمُتَدَيِّنين.
لِذا فقد أثارَ هذانِ المُعَلِّمانِ اليهوديَّانِ حَماسةَ التَّلاميذ فَتَسَلَّقوا إلى سَطْحِ الهيكل وابتدأوا في تَحطيمِ ذلكَ النَّسْرِ بِفُؤوسِهِم. فقد صَعِدوا إلى هناكَ وَحَطَّموا ذلكَ الشَّيء. وقد تَمَّ اعْتِقالُهُم وَمَثَلوا أمامَ هيرودُس. ولكي يَتَجَنَّبَ هيرودسُ حدوثَ ثَورة، أَرسلهم إلى أريحا لِمُحاكمتهم. وقد حَصَلوا على عُقوبة مُخَفَّفَة. أمَّا المُعَلِّمانِ فَتَمَّ إعدامُهُما.
والآنْ، لقد ماتَ هيرودُس في عيدِ الفِصْحِ الَّذي أَعْقَبَ هذه الحادثة. وقد نَشَبَتْ ثورة في أورُشليم بسببِ إعدامِ هذين المُعَلِّمَيْن. وقد حَدَثَ ذلك قبلَ عودة يسوعَ مِنْ مِصْر مُباشرةً. فقد حدثت ثَورة كبيرة بسبب إعدامِ هذين المُعَلِّمَيْنِ العَظيمَيْن. وقد أَخْمَدَ أرخيلاوُس [الَّذي كانَ حاكِمًا آنَذاك] أَخْمَدَ تلك الثَّورة عن طريقِ قَتْلِ ثلاثةِ آلافِ يَهوديٍّ. فقد أَلقى القبضَ عليهم وَأعْدَمَهُم جميعًا. وكانَ الأغلبيَّة منهم، أوْ ليسَ الأغلبيَّة، بل بالحَرِيِّ: كانَ كثيرونَ مِنهُم زائرينَ جاءوا للاحتفالِ بعيدِ الفِصْح. لِذا فقد كانَ ذلكَ الوقتُ وقتًا عَصيبًا تَأجَّجَتْ فيهِ مَشاعِرُ بني إسرائيلَ الدَّينيَّة فَأدَّى ذلكَ إلى مَجزرةٍ وإلى قَتْلِ ثلاثةِ آلافِ يَهوديّ.
لِذا فقد كانَ اليهودُ يَكرهونَ أرخيلاوُس ويَرْتَعِبونَ منه. والحقيقة هي أنَّهُ كانَ فاسدًا جدًّا. وقد فَاقَ أَباهُ في الفَسادِ؛ على غِرارِ بعضِ المُلوكِ في العهدِ القديم. وَحَتَّى إنَّ الرُّومانَ خَلَعوه. وكما تَعلمون، فقد وَضَعوا عِوَضًا عنهُ عِدَّةً وُلاةٍ كانَ واحِدٌ منهم هو "بيلاطُس البُنْطِيّ".
وهذا هو السَّببُ الَّذي جَعَلَ يوسُف يَتَرَدَّد في الذَّهابِ إلى اليهوديَّة. وقد تأكَّدَتْ أفكارُهُ لأنَّ اللهُ حَذَّرَهُ إذْ نَقرأُ في العدد 22: "وَإِذْ أُوحِيَ إِلَيْهِ فِي حُلْمٍ، انْصَرَفَ إِلَى نَوَاحِي الْجَلِيل". فقد قالَ لَهُ المَلاكُ: اذْهَبْ إلى الجَليل". ثُمَّ نَقرأُ في العدد 23 عنِ السَّبب: "وَأَتَى وَسَكَنَ فِي مَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا نَاصِرَةُ، لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِالأَنْبِيَاءِ: «إِنَّهُ سَيُدْعَى نَاصِرِيًّا»".
وهذا هو العُنصرُ الرَّابعُ في النُّبوءاتِ المُخْتَصَّةِ بولادَتِه لكي يُرينا أنَّهُ وُلِدَ مَلِكًا. فقد كانَ لا بُدَّ أنْ يَرْجِعَ إلى النَّاصرة. وبالمناسبة، لقد كانتِ النَّاصرة هي مَوْطِن يوسُف ومَريم الأصليّ. أليسَ كذلك؟ فبحسب ما جاءَ في إنجيل لوقا 2: 4، فإنَّهما كانا مِنَ النَّاصِرَة. وقد عَادا تَتْميمًا لنُبوءةِ الأنبياءِ الَّذينَ قالوا إنَّهُ سيُدعى نَاصِرِيًّا.
والكلمة "نَاصِرِيّ" (والآن، اسمعوا ما سأقول): إنَّ هذه الكلمات: "إِنَّهُ سَيُدْعَى نَاصِرِيًّا" غير مَذكورة في أيِّ مكانٍ في العهد القديم. حسنًا؟ والآنْ، انظروا إليها مَرَّة أخرى: "لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِالأَنْبِيَاءِ [بِصيغةِ الجَمْع]: «إِنَّهُ سَيُدْعَى نَاصِرِيًّا»". وإنْ بَحَثْتُم في الأسفارِ النَّبويَّة عنْ نَبِيٍّ قالَ ذلك، لن تَعثروا على واحد في العهدِ القديم. وقد تقول: "ما الَّذي تَعنيه بأنَّهُ لا يوجد نَبِيٌّ قالَ ذلك؟" لا توجد لدينا آية تقولُ ذلك في العهدِ القديم، ولا يوجد لدينا سِجِلٌّ بأنَّ أيَّ نَبِيٍّ قالَ ذلك.
وهناكَ أشخاصٌ قد يَقْرِنونَها بما جاءَ في إشعياء 11: 1 عن أنَّ المسيحَ غُصْنٌ ("نيتسير" [netser])؛ وهي كلمة عِبريَّة. وَهُمْ يقولونَ إنَّ الكلمة "نيتسير" تُشْبِهُ كَلِمَة "نَاصِرَة"؛ ولكِنَّهم لم يُوَفَّقوا في هذا التَّفْسير. وأنا غيرُ مُقْتَنِعٍ حَقًّا بذلك. فهو ليسَ تفسيرًا سليمًا. فَضْلاً عن ذلك، يجب علينا أنْ نَجِدَ تفسيرًا للكلمة "أنبياء" بصيغةِ الجَمْع. فهذا لا يَنطبق على إشعياء 11: 1 فقط. وفي نَظري، مِنَ الغَريبِ جِدًّا أنْ لا تكونَ هناكَ صِلَة.
إنَّ مَتَّى يقول: "الأنبياء". وقد تقول: "حسنًا! وكيفَ تُفَسِّرُ ذلك". إنَّ الأمرَ بسيطٌ جِدًّا. إنَّهُ أمرٌ يَسْهُلُ جدًّا تَفسيرُه. فالأنبياءُ قالوا ذلك. ولكِنَّ ذلك لم يَكُنْ قد دُوِّنَ في العهدِ القديم حتى ذلك الحين إلى أنْ دَوَّنَهُ مَتَّى أخيرًا. وقد تقول: "حسنًا! ولكنَّهُ يقولُ إنَّ أنبياءَ العهدِ القديمَ قالوا ذلك. فهل قالوا أشياء لم تُدَوَّن؟" أرجو ألَّا تَهُزّكُمْ الإجابة. أجل! وبالمناسبة، هناكَ أمور كثيرة مُهِمَّة قيلت ولم تُدَوَّن في العهدِ القديم.
فعلى سبيل المِثال، نَقرأُ في رسالة يهوذا والعدد 14: "وَتَنَبَّأَ عَنْ هؤُلاَءِ أَيْضًا أَخْنُوخُ السَّابعُ مِنْ آدَمَ قَائِلاً: «هُوَذَا قَدْ جَاءَ الرَّبُّ فِي رَبَوَاتِ قِدِّيسِيهِ»". فقد قالَ أَخْنوخُ ذلك. وهل تُريدونَ أنْ تَعلموا شيئًا؟ إنَّ العهدَ القديمَ لا يَذكُرُ أنَّهُ قالَ ذلك. فهذا القَوْلُ ليسَ مُدَوَّنًا هناك. وكيفَ نَعلمُ أنَّهُ قالَ ذلك؟ لأنَّ يَهوذا قالَ إنَّهُ قالَ ذلك. وكيفَ عَلِمَ يهوذا؟ لأنَّ يهوذا تَلَقَّى ماذا؟ تَلَقَّى وَحْيًا مِنْ رُوْحِ اللهِ القُدُّوس.
وهل تَعلمونَ مَنِ الَّذي قالَ إنَّ المسيَّا سيُدعى نَاصِريًّا؟ لقد قالَ الأنبياءُ ذلك. ولكِنَّ هذا القَوْلَ لم يُدَوَّن حَتَّى زَمَنِ مَتَّى، ولكنَّهُ دُوِّنَّ هُنا. وهل تُريدونَ أنْ تَعلموا شيئًا رائعًا جدًّا؟ إنَّ مَتَّى لا يُقَدِّمُ أيَّ تفسير. بل إنَّهُ يقولُ وَحَسْب إنَّ الأنبياءَ قالوا إنَّهُ سَيُدْعى نَاصِرِيًّا. وهذا يُخْبِرُني أنَّ هذا القولَ كانَ شائعًا؛ أيْ إنَّ النَّاسَ كانوا يَعلمونَ أنَّ الأنبياءَ قالوا ذلكَ عنِ المسيَّا. فقد كانَ هذا القَوْلُ أمرًا شائعًا في رأيي.
لِذا فإنَّ مَكانَ وِلادَةِ رَبِّنا هي في بيتِ لحم. وقد دُعِيَ مِنْ مِصْر. وهناكَ بُكاءٌ في الرَّامة. وَهُوَ سيُدعَى ناصِرِيًّا. وقد كانتِ النَّاصرةُ مكانًا مُحْتَقَرًا جدًّا. والآن، اسمعوني: لقد كانت مَكانًا مُحتقرًا جدًّا حَتَّى إنَّ الكلمة "ناصِرَة" أوْ "ناصِرِيّ" صارَتْ مُرادِفَةً للكلمة "وَضيع". فإنْ قالَ لَكَ أَحَدُهُم: "أنتَ نَاصِرِيّ" فإنَّهُ يَعني بذلكَ إهانَتَك. والحقيقةُ هي أنَّهُ عندما ابتدأتِ الكنيسةُ الأولى، كانَ كَثيرونَ يُطلقونَ عليهم ذلكَ الاسم للتَّحقيرِ أوِ السُّخرية.
ونَقرأُ في أعمالِ الرُّسُل 24: 5: "فَإِنَّنَا إِذْ وَجَدْنَا هذَا الرَّجُلَ [والحَديثُ هُنا هو عن بولُس] مُفْسِدًا وَمُهَيِّجَ فِتْنَةٍ بَيْنَ جَمِيعِ الْيَهُودِ الَّذِينَ فِي الْمَسْكُونَةِ، وَمِقْدَامَ شِيعَةِ النَّاصِرِيِّينَ". فقد كانت تُستخدمُ للتَّحقير. وأعتقد أنَّ هذا واحد مِنْ أسبابِ وجودِ هذه النُّبوءةِ هُنا. فالعهدُ القديمُ، يا أحبَّائي، قالَ مِرارًا وتَكرارًا عن يسوعَ إنَّهُمْ سيَحتقرونَهُ، ويَحتقرونَهُ، ويَحتقرونَهُ. وَهُوَ سيكونُ مَرفوضًا، وَيكونُ مُبْغَضًا، وَيَنظرونَ إليهِ بازْدِراء.
وهذا هو ما يَقولُهُ المزمور 22. وهذا هو ما يَقولُهُ المزمور 69. وهذا هو ما يَقولُهُ إشعياء 49. وهذا هو ما يَقولُهُ إشعياء 53. وهذا هو ما تَقولُهُ الآية دانيال 9: 26. والتَّلْمودُ (Talmud)، وَهُوَ كِتاباتُ مُعَلِّمي اليهود، يَدعو يَسوع "ييشو هَاناتزري" (Yeshu Ha-Notzri)؛ أيْ: "النَّاصِرِيّ" فَهُمْ لا يَدْعونَهُ: "البَيْت لَحْمِيّ". البَتَّة! مَعَ أنَّهُ وُلِدَ هُناك. ولكنَّهُمْ لا يَدْعونَهُ كذلك. بل يَدْعونَهُ "النَّاصِرِيّ" لأنَّهُ لَقَبٌ للتَّحقير.
ويُخْبِرُنا "جيروم" (Jerome) عن صَلاةٍ تُصَلَّى في مَجْمَعِ اليهود يُلْعَنُ فيها المَسيحيُّونَ بوصفِهِم "ناصِرِيِّين". فَهُمْ يقولون: "لِيُمْحَ أسْماؤهُمْ مِنْ سِفْرِ الحياةِ ولا يُكْتَبونَ معَ الأبرارِ، هؤلاءِ النَّاصِرِيِّين". ولو أنَّ يسوعَ نَشَأَ في بيتِ لحم، ولو أنَّهُ نَشَأَ في أورُشليم، لما كانَ مُحْتَقَرًا بالطريقةِ نَفسِها. ولكِنَّ اللهَ قالَ إنَّهُ سيكونُ مُحْتَقَرًا. ولأنَّهُ نَشَأَ في النَّاصرة، زادَ احْتِقارُهُ أكثرَ فأكثر. لِذا، كانَ لا بُدَّ أنْ تكونَ النَّاصرة. فالنَّاصرةُ هي الَّتي سَتُعْطيهِ لَقَبَ "يَسوعَ النَّاصِرِيّ". وهذا سيَجْعَلُهُ يَحْمِلُ لَقَبًا مُحْتَقَرًا أكثر - تَمامًا كما تَنَبَّأَ اللهُ. فقد كانَ مُحتقَرًا، ومَرفوضًا، وقد قَتَلوهُ في النِّهاية؛ ذاكَ النَّاصِرِيّ.
وكما تَرَوْنَ، فإنَّ كُلَّ مَكانٍ مِنْ هذه الأماكِن مُهِمٌّ جدًّا لشخصيَّة يسوعَ المسيح. ومَتَّى يَرْسِمُ صُورةً رائعةً. فَميخا قالَ إنَّ المَلِكَ سيأتي إلى بيتِ لحم. وقد جاءَ إلى بيتِ لحم. وهوشَع قالَ إنَّ المَلِكَ سيُدْعى مِنْ مِصْر. وقد دُعِيَ مِنْ مِصْر. وإرْميا قالَ إنَّهُ سيكونُ هناكَ بُكاءٌ في الرَّامة يُشْبِهُ بُكاءَ راحيل؛ كما جاءَ في نُبوءة إرْميا. وقد حَدَثَ ذلك إذْ إنَّ الأُمَّهاتِ بَكَيْنَ على أطفالِهِنَّ بجانبِ قبرِ راحيل في رَامَةِ بَيْتِ لَحْم. وقد قالَ الأنبياءُ قديمًا إنَ اسْمَهُ سيُدعى نَاصريًّا، وإنَّهُ سيكونُ مِنَ النَّاصرة. وقد حَدَثَ ذلك.
وفي كُلِّ نُقطة، فإنَّهُ يُتَمِّمُ نُبوءةً تُؤكِّدُ حَقَّهُ في المُلْك. وهذا هو ما يَقولُهُ مَتَّى. فهذا هو المَلِك. فَمِنْ خلالِ نَسْلِه، ومِنْ خلالِ ولادَتِه، ومِنْ خلالِ عِبادَتِه، ومِنْ خلالِ الغَيرةِ والكَراهِيَة، ومِنْ خِلالِ تَحقيقِ النُّبوَّات، وُلِدَ هذا الإنسانُ مَلِكًا. ولهذا السَّبب جاءَ إلى العَالَم. دَعونا نُصَلِّي:
يا أبانا، نحنُ نَعلمُ أنَّ جَلالَ يسوعَ ليسَ جَلالاً مَرسومًا. وسُلطانُهُ ليسَ سُلطانًا مُبَهْرَجًا. وهو ليسَ جَلالاً لامِعًا كالشُّهُبِ ويَزولُ بسُرعة. بل هو مُلْكٌ أبديّ. فيسوعُ يَمْلِكُ وسَيملِكُ إلى أبدِ الآبدين. لا بِقُوَّةِ جيشِه، ولا بِكَثرةِ جُنودِه، ولا بِعَظَمَةِ دَولَتِهِ الأرضيَّة، بل بِفَضْلِ شَخْصِهِ. ونحنُ نُدركُ، يا أبانا، أنَّهُ لا يوجد شيءٌ يَقدِرُ أنْ يُعيقَهُ عنْ أنْ يَضَعَ على رأسِهِ تَاجًا تِلْوَ الآخر على النَّقيضِ مِنْ جَميعِ المُلوكِ الآخرينَ الَّذينَ جاءوا وَمَضَوْا.
ونحنُ نَرى في القِصَّةِ، يا رَبّ، ثلاثةَ رُدودِ أفعال. فهناكَ رَدُّ فِعْلِ أولئكَ الَّذينَ كانوا غَيْرَ مُبالينَ، الَّذينَ تَجاهَلوا كُلَّ شيء (كرؤساءِ الكهنة والكَتَبة). وهُناكَ رَدُّ فِعْلِ هيرودُس وأولئكَ الَّذينَ أبغَضوهُ وكَرِهوه، وأَرادوا لهذا الطِّفلِ أنْ يموتَ لأنَّهُمْ أعداؤُهُ. وهناكَ رَدُّ فِعْلِ الحُكماءِ أوِ المَجوسِ الَّذينَ سَجَدوا لَهُ.
ونحنُ نَعلمُ أنَّ ما يَفْعَلُهُ مَتَّى هو أنَّهُ يَدْعو اليهودَ (مِنْ خلالِ ما كَتَبَهُ قبلَ سَنواتٍ طويلة)، ويَدعو جميعَ البَشَرِ عبرَ العُصور إلى الاعترافِ بيسوعَ مَلِكًا عِوَضًا عنْ أنْ يكونوا مُبْغِضينَ لَهُ وغَيْرَ مَبالينَ بِه.
لِذا، يا أبانا، فإنَّنا نُصَلِّي أنْ نَراهُ ثانيةً بِوَصْفِهِ مَلِكَ المُلوكِ ورَبَّ الأرباب، وأنْ نَسْجُدَ عندَ قَدَمَيْهِ وَنَعْبُدهُ. نُصَلِّي هذا باسْمِهِ العظيمِ والمَجيد. آمين!

This article is also available and sold as a booklet.