
أرجو أنْ تفتحوا كِتابَكُم المقدَّس حَتَّى نَنظُرَ إلى إنجيل مَتَّى والأصحاحِ الخامِس مَعًا. إنجيل مَتَّى والأصحاح الخامس. أَرى أحيانًا أنَّهُ كُلَّما زَادَ قِصَرُ الآيةِ، زادت قُدرتي على الحديثِ عنها. والسَّببُ في ذلكَ يَرْجِعُ عادةً إلى أنَّكَ عندما تَدرس آيةً واحدةً فإنَّكَ تُرَكِّزُ عليها كآية واحدة لأنَّها تَزْخُرُ بالمعاني.
وهي تَزْخُرُ بالحَقّ. وسوفَ نَرى مِن خلال دراستِنا للتَّطويباتِ (الَّتي سندرسها واحدةً واحدة) أنَّهُ بالرَّغمِ مِنْ أنَّ كُلًّا مِنها هي جُمَلة واحدة بسيطة، وآية واحدة فقط، فإنَّهُ ينبغي لنا أنْ ندرسَها واحدةً واحدة لأنَّها تَزْخُرُ جِدًّا بالحَقِّ العَظيم.
لذلك، في هذه الليلة، سوف نتأمَّل في العدد الثالث؛ أيْ في بداية التَّطويبات، وفي مُقدِّمة العِظَة على الجَبَل. فالعددُ الأوَّل يقول: "وَلَمَّا رَأَى الْجُمُوعَ صَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ، فَلَمَّا جَلَسَ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلاَمِيذُهُ. فَفتحَ فاهُ وعَلَّمَهُمْ قَائِلاً: ’طُوبَـى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ‘".
وكما دَرَسنا في درسِنا الأخير، فإنَّ يسوعَ جاءَ كي يُعطي الإنسانَ سَعادَةً. وقد جاءَ يسوعُ كي يُعطي الإنسانَ بَرَكة. وقد جاءَ يسوعُ كي يَجْعَلَ الحياةَ ذاتَ مَغزى. والمِفتاحُ لهذا النَّوعِ مِنَ السَّعادة وهذا النَّوعُ مِنَ الغِبْطَة الَّتي تتحدَّث عنها هذه التَّطويبات (وقدِ تَحَدَّثنا عنِ مَعنى الكلمة "طُوْبَى" في المَرَّة السَّابقة) ... إنَّ المِفتاحَ لهذا النوع مِنَ الغِبْطَة هو أنْ نَحْيا وفقَ مِعيارٍ جديدٍ للحياة ونوعٍ جديدٍ مِنَ الحياة. وهذا هو ما يُوكِّدُهُ يسوعُ في العِظَة على الجبل.
ففي الأصحاحات 5-7 مِنْ إنجيل مَتَّى، يَضَعُ رَبُّنا مِعْيارًا مُناقِضًا للحياةِ، ومِعْيارًا يُناقِضُ كُلَّ شيءٍ يَعْرِفُهُ العالمُ ويُمارِسُه. وَهُوَ نَهْجٌ جَديدٌ للحياة يُؤدِّي إلى الغِبْطَة "مَكاريوس" (Makarios). وقد رأينا أنَّ هذه الغِبْطَة هي سعادة داخليَّة عميقة، وشُعورٌ عميقٌ وحقيقيٌّ بالغِبْطَة، وسَعادة لا يستطيع العالمُ أنْ يُقَدِّمَها. فهي لا تَنشأ عنِ العالَم، ولا تنشأ عنِ الظُّروف، ولا تَخضع للتَّغييرِ بسببِ العالمِ أوِ الظُّروف. فهي لا تَنشأ خارجيًّا، ولا تَتأثَّر بالظُّروف الخارجيَّة.
لِذا فإنَّ وَعْدَ المسيح في العِظَة على الجَبَل يأتي في البداية. فهو يقول: "إذا عِشْتَ وَفْقًا لهذه المعايير، ستَختبر الغِبْطَة". لِذا فإنَّنا نجد في العدد 3: "طَوْبَى"، وفي العدد 4: "طُوبى"، وفي العدد 5: "طُوبى". وفي العدد 6، والعدد 7، والعدد 8، والأعداد 9 و 10 و 11. وأخيرًا، نتيجة لهذه الغِبْطَة كُلِّها، نقرأ في العدد 12: "افْرَحُوا وَتَهَلَّلُوا".
فالعِظَة على الجبل بمُجملِها تُمَهِّدُ لنفسِها بِوَعْدٍ بالغِبْطَةِ، والسَّعادةِ، والرِّضا الداخليِّ العميق. وقد قُلنا أيضًا في المَرَّة السَّابقة إنَّ هذه الغِبْطَة، وهذهِ الفَرْحَة، وهذه البهجة، وهذه السَّعادة الَّتي يَحيا فيها المؤمنون ويَتمتَّعون بها هي في الحقيقة عَطِيَّة مِنَ الله لأنَّ الكلمة "مَكاريوس" أو "مُبارَك" هي صِفَة مِن صِفاتِ الله.
وأعظمُ فَهْمٍ مُتاحٍ للكلمة "طُوْبَى" يَأتي مِنْ فَهْمِ أنَّ اللهَ مُبارَكٌ: "طُوبَى لِلشَّعْبِ الَّذِي الرَّبُّ إِلهُهُ". طُوبَى لِلشَّعْبِ الَّذِي الرَّبُّ إِلهُهُ لأنَّهُ، فوقَ الكُلِّ، مُبارَكٌ. "مُبارَكٌ اللهُ" (كما يَقولُ الكتابُ المُقدَّسُ): "مُبَارَكٌ الربُّ يَسُوعُ المَسِيحُ". وإنْ كانَ اللهُ والمسيحُ مُبارَكَيْن، وإنْ كانا يَمتلكان هذه الغِبْطَة العميقة الداخليَّة، ويَشعُران بهذا الشُّعورِ العَميقِ بالرِّضا والسَّعادة بمُقتضى الطَّبيعةِ الإلهيَّة، فإنَّ الأشخاصَ الذينَ يمكنهم أنْ يَشتركوا في هذه الطَّبيعة الإلهيَّة هُمُ الوحيدونَ الذينَ يمكنهم أنْ يَختبروا نفسَ تلكَ الغِبْطَة.
ففقط عندما نَشترك في ذاتِ طبيعةِ اللهِ، يمكننا أنْ نَكونَ مَغبوطين، ويمكننا أنْ نَخْتَبِرَ هذه السَّعادة. فهي ليست مُتاحةً لأيِّ شخصٍ خارِجَ نِطاقِ الأشخاصِ الذينَ يَعرفونَ اللهَ. لِذا فقد جاءَ يسوعُ وقَدَّمَ مِعيارًا جديدًا للحياة. وتَركيزُهُ لم يكن مُنصَبًّا على الأمورِ الخارجيَّة، بل على الداخليَّة. وَهُوَ لم يكن يُخبرهم عن طريقة جديدة يَعيشونَ بها كُلَّ يوم، بل كانَ يُعَلِّمُهُم عن نَهْجٍ جديدٍ للتَّفكير؛ وهذا يُؤدِّي إلى طريقةٍ جديدةٍ يَحْيَوْنَ بها كُلَّ يوم. فهو لم يكن يتحدَّثُ فقط عنِ السُّلوك، بل كانَ يتحدَّثُ عنِ المواقف. وقد كانَ يقولُ إنَّ الجُزءَ الداخليَّ مِنْ حياةِ الإنسانِ هو المِفتاحُ الحقيقيُّ للسَّعادة. وفي الأسبوعِ الماضي، تَحَدَّثنا عن حقيقة أنَّكَ قد تُكَدِّس الكَمَّ الَّذي تَشاء مِنَ الأشياء الخارجيَّة، ولكنَّ ذلكَ لن يَمْنَحَكَ أيَّة سعادة داخليَّة.
لِذا فإنَّنا نَرى أنَّ يسوعَ يُقَدِّم البَرَكَة والسَّعادة وَفْقًا لمِعيارٍ جديدٍ للحياة، ومِعيارٍ جديدٍ للسُّلوك؛ وَهُوَ مِعيارٌ بَارٌّ؛ أوْ (إنْ شِئْتُم) يُمكنكم أنْ تَستخدموا هذا المُصْطَلَحَ الرَّئيسيَّ: "مِعيارٌ نَاكِرٌ للذَّات". مِعيارٌ ناكِرٌ للذَّات. فهذه العِظَة، أعظمُ عِظَة وُعِظَتْ يومًا، دونَ شَكٍّ، تُرَكِّزُ على هذا النَّوعِ مِنَ السَّعادة وهذا النَّوعِ مِنَ الغِبْطَة. والشَّيءُ المُدهشُ بخصوصِها (كما قُلنا في المَرَّة السابقة) هو أنَّ الأشخاصَ الوحيدينَ الَّذينَ يمكنهم أنْ يَختبروا هذه الغِبْطَة هُمُ الأشخاصُ الذينَ يَعلمونَ أنَّهم لا يستطيعون أنْ يَعيشوا بهذه الطريقة مِنْ تِلْقاءِ أنفسهم. لِذا فإنَّهم يُتَّكِلونَ تمامًا على يسوعَ المسيح.
والآنْ، تَذَكَّروا أنِّي قُلتُ لكم في المَرَّة السابقة أنَّ الجُموعَ كانوا هناك، وأنَّهم كانوا يَسمعونَ ويُصْغون. ولكِنَّ الرِّسالة كانت مُوَجَّهة في الحقيقة إلى الاثْنَيْ عَشَر لأنَّهُ لا يمكن لأيِّ شخصٍ خارِجَ نِطاقِ الإيمانِ بيسوعَ المسيحِ أنْ يَختبرَ هذه الغِبْطَة. ولا يمكن لأيِّ شخصٍ لا يَمتلك القُوَّة الإلهيَّة العامِلَة في حياتِه أنْ يَتَصَرَّف بهذه الطريقة. ولا يمكن لأيِّ شخصٍ لم يِبْلُغ هذه النُّقطة المُحَدَّدة مِنَ التَّواضُع أنْ يَعْرِف ويَختبِر أيًّا مِنْ هذه البَرَكاتِ العظيمة. فشُرَكاءُ الطبيعةِ الإلهيَّةِ هُمُ الوحيدونَ الذينَ يَستطيعونَ أنْ يَعرفوا هذه الغِبْطَة.
وأنا أُوْمِنُ، يا أحبَّائي، أنَّ هذه الرِّسالة هي لنا جميعًا. وأنا أَعْلَمُ أنَّهُ مِنْ زاوِيَة تاريخيَّة فإنَّ بَعْضَ الإنجيليِّينَ اعْتَرَضوا على العِظَةِ على الجَبَل قائلينَ إنَّها صَعْبَة جِدًّا. فما جاءَ في إنجيل مَتَّى 5: 48: "فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ" هو أمرٌ صَعْبٌ جِدًّا وليسَ مُوَجَّهًا إلينا. وما دامَ هذا الأمرُ صَعبًا جِدًّا، مِنَ المُؤكَّدِ أنَّهُ يُشيرُ إلى المُلْكِ الألفِيِّ. مِنَ المؤكَّدِ أنَّهُ يُشيرُ إلى الملكوتِ. وقد قالَ أُناسٌ كثيرونَ إنَّ العِظَة على الجَبَل تتحدَّثُ عنِ الحياةِ في الملكوت. فهي مبادئ تَختصُّ بالملكوت. ولكِنْ هناكَ عَقَبات كثيرة تَعْتَرِض هذا التَّفسير. فهو تفسيرٌ مُستحيلٌ لأسبابٍ عديدة:
أوَّلاً، إنَّ النَّصَّ لا يقول: "هذه المبادئ تَختصُّ بالمُلْكِ الألفيِّ". ثانيًا، لقد وَعَظَ يسوعُ هذه العِظَة أمامَ أُناسٍ لم يكونوا يَحْيَوْنَ في المُلْكِ الألفيِّ. وفي نظري، هذه هي أعظمُ حُجَّةٍ على الإطلاق. ثالثًا، سوفَ تَصيرُ العِظَةُ على الجبل عَديمَة المَغزى إنْ قُلنا إنَّها تَختصُّ بالمُلْكِ الألفيِّ لأنَّها تقول: "طُوبَـى لِلْمَطْرُودِينَ مِنْ أَجْلِ الْبِرِّ... طُوبَـى لَكُمْ إِذَا عَيَّرُوكُمْ وَطَرَدُوكُمْ وَقَالُوا عَلَيْكُمْ كُلَّ كَلِمَةٍ شِرِّيرَةٍ، مِنْ أَجْلِـي، كَاذِبِين". ففي المُلْكِ الألفيِّ، يا أصدقائي، لن يَنْجو أحدٌ يَفعلُ هذه الأشياء لأنَّ الربَّ سَيَحْكُمْ بِقَضيبٍ مِنْ حَديد.
وهذا يَجْعَلُ ما جاءَ في إنجيل مَتَّى 5: 44 (وفي العَديدِ مِنَ الآياتِ الأخرى) عَديمَ المَعنى: "أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ". فهي الفكرة نفسُها. فلن يحدثَ أيٌّ مِنْ هذه الأمور في المَلكوت. وبالمناسبة، هناكَ سببٌ آخر يَجعلني أعتقد أنَّ هذه العِظَة هي لجميع المؤمنين في كُلِّ العُصور وَهُوَ أنَّ كُلَّ مَبْدَأ موجود في العِظَة على الجَبَل موجودٌ في موْضِعٍ آخر في العهد الجديد.
فهذه ليست مُجَرَّد عِظَة لبعضِ القِدِّيسينَ المُمَيَّزينَ الَّذينَ يَحْيَوْنَ في الملكوت، بل هي لنا نحن. وهي تُبَيِّن نَمَط الحياة الَّذي ينبغي أنْ يَنْتَهِجَهُ المؤمِنُ في كُلِّ عَصْر. وهي تدعونا إلى اعْتِمادِ مِعْيارٍ جديدٍ للحياة. فيسوعُ يقولُ لنا: "اسمعوني: هذه هي الطريقة الَّتي ينبغي أنْ تَحيَوْا بها إنْ أردتُمْ أنْ تَعرفوا السَّعادة، وإنْ أردتُم أنْ تَعرفوا الغِبْطَة".
وأليسَ مِنَ الرَّائعِ أنَّ اللهَ يُقَدِّمُ لنا ذلك، وأنَّ اللهَ ليسَ إلهًا مُتَجَهِّمًا، وأنَّ اللهَ لا يَجِدُ مُتعةً كبيرةً في جَعْلِ المَطَرِ يَهْطُلُ في أيِّ حَفْلٍ مُهِمٍّ لديك. فاللهُ يُريدُ لكَ السَّعادة ويُريدُ لَكَ البَرَكَة. وَهُوَ يُعطينا هنا المبادئ.
وهناكَ شيءٌ آخر ينبغي أنْ أذْكُرَهُ بهذا الخُصوص وَهُوَ أنَّ هذا نَهْجٌ مُمَيَّزٌ للعَيْش. فإنْ عِشْتَ بهذه الطريقة، أَعِدُكَ بأنَّكَ ستكونُ شخصًا مُختلفًا. أجل! ومِنْ عِدَّة أَوْجُه، أعتقد أنَّهُ يمكننا أنْ نقولَ إنَّ المسيحيِّينَ اليومَ قد فقدوا ما يُمَيِّزهُم. وقد تَحدَّثنا عن ذلكَ قليلاً في الصَّباح. أليسَ كذلك؟ فقد صِرْنَا نَتَمَثَّلُ بالعَالَم. وقد صِرْنا نَتَشَبَّهُ بالعَالَم.
فقد صِرْنا نُقَلِّدُ مُوسيقا العَالَم، ونَتَبَنَّى نَظرةَ أَهْلِ العالمِ إلى الجِنْس، والزَّواج، والطَّلاق، والأخلاق، وحَرَكاتِ التَّحَرُّر، والماديَّة، ونظرتَهُم إلى الطَّعامِ، ونَظرتَهُم إلى المشروباتِ الكُحوليَّةِ، ونَظرتَهُم إلى الرَّقْصِ، ونَظرتَهُم إلى التَّسليةِ، ونَظرتَهُم إلى الرِّياضةِ، ونَظرتَهُم إلى كُلِّ الأشياءِ الأخرى. فقد صِرْنا نَسْبَحُ معَ التَّيَّارِ وصارَ مِنَ السَّهْلِ علينا أنْ نَفْقِدَ تَمَيُّزَنا.
ونحنُ نَرى في وقتِنا الحاضِرِ شيئًا لا شَكَّ أنَّ قَلْبَ الربِّ حَزِنَ بِسَبَبِهِ طَوالَ السِّنين منذ نَشْأةِ الكنيسة، وَهُوَ: فَسادُ المسيحيَّة. ويسوعُ يقولُ حقًّا هنا: "إنَّ اللهَ يُريدُ منكم أنْ تَحْيَوْا بطريقة مُختلفة. فاللهُ لا يُريدُ منكم أنْ تَحْيَوْا بالطريقةِ الَّتي يَحيا بها الآخرونَ جميعًا. وإنْ عِشْتُمْ بهذه الطريقة ستكونونَ سُعَداء. وإنْ عِشْتُم بهذه الطريقة ستكونونَ مَغبوطين".
وأنا أُوْمِنُ دائمًا أنَّ المُصَنِّعينَ يَعرفونَ عنْ مُنْتَجاتِهِم أكثرَ مِنْ أيِّ شخصٍ آخر. وإنْ اشتريتُ سَيَّارةً فإنَّ أوَّلَ شيءٍ أفعَلُه هو أنِّي أقرأَ ذلكَ الكُتَيِّب الصَّغير الَّذي يقولُ لي ما ينبغي أنْ أفعَل. فأنا أَعرفُ كيفَ أَضَعُ المِفْتاحَ فيها وكيفَ أَقودُها. ولكِنْ يجب عليَّ أنْ أعرفَ أُمورًا أخرى. أوْ إنِ اشتريتُ جهازًا ما، يجب عليَّ أنْ أقرأَ دَليلَ التَّشغيل كي أعرفَ تَعليماتِ المُصَنِّعِ حَوْلَ كيفيَّة عمل ذلك الجهاز.
ومِنَ المُدهشِ في نظري أنَّ خَالِقَ كُلَّ شخصٍ يَحيا في العالمِ هو الله؛ وبالرَّغمِ مِن ذلك فإنَّ أُناسًا قليلينَ يَرغبونَ في الالتفاتِ إليه واكتشافِ أفضلِ طريقةٍ لاختبارِ السَّعادة، وأفضلِ طريقةٍ لاختبارِ الغِبْطَة، وأفضلِ طريقة لاختبارِ الرِّضا. فأنتَ خَلَقْتَني. لِذا، أَخْبِرْني أنتَ. ويَسوعُ يَفْعَلُ ذلكَ هنا.
وأقولُ مَرَّةً أخرى إنَّهُ يُرَكِّز على الدَّاخل. واسمحوا لي أنْ أُضيفَ الآتي: إنَّ الفكرة بأنَّ يسوعَ يُرَكِّز على الداخل ويُركِّز على مواقفِنا ومشاعِرِنا وأفكارِنا لا تَعني أنَّهُ لا يُبالي بالخارِج. فحينَ يكونُ الدَّاخِلُ على ما يُرام، يكونُ الخارجُ على ما يُرام. فالإيمانُ بِدونِ أعمالٍ ماذا؟ مَيِّت. فيجب أنْ تكونَ هناكَ أشياء خارجيَّة. وأنتَ خُلِقْتَ في المسيح يسوع لأعمالٍ صَالِحَةٍ. ولكِنَّ الأشياءَ الخارجيَّةَ السَّليمة، والأشياءَ الخارجيَّةَ القويمة لا تَأتي إلَّا مِنَ الدَّاخِل.
وأعتقد أنَّ "مارتن لويد-جونز" يُقَدِّمُ أفضلَ مَثَلٍ توضيحيٍّ قَرَأتُهُ يومًا. وإليكُم ما يقول: "خذوا، مَثَلاً، نِطاقَ المُوسيقا. فالإنسانُ قد يَعْزِفُ مَقطوعةً موسيقيَّةً عظيمةً بِدِقَّة مُتناهية. وقد لا يَقترِف أيَّةَ غَلْطَة البَتَّة. ومع ذلك، قد نَكونُ على حَقٍّ إنْ قُلنا عنهُ إنَّهُ لم يَعْزِف حَقًّا سوناتا بيتهوفن المعروفة باسم ’ضَوْء القَمَر‘ـ صَحيحٌ أنَّهُ عَزَفَ النَّغَمات الموسيقيَّة عَزْفًا صحيحًا، ولكنَّها لم تكن تلكَ السُّوناتا. إذًا، ما الذي كانَ يَفعلُه؟ لقد كانَ يَعْزِفُ النَّغماتِ الصَّحيحة بطريقةٍ ميكانيكيَّة، ولكنَّهُ أَخْفَقَ في إظْهارِ رُوْحِ المَقطوعة الموسيقيَّة وفي فَهْمِ مَعناها الحقيقيِّ. فهو لم يكن يَفعل ما عَناهُ بتهوفِن وَقَصَدَهُ.
"وهذه، في رأيي، هي العلاقة بين الكُلِّ والأجزاء. فالفَنَّانُ، أيِ الفَنَّانُ بِحَقّ، هو دائمًا على صواب. وحَتَّى إنَّ أعظمَ الفَنَّانينَ لا يستطيعونَ أنْ يُهْمِلوا القواعِدَ والتَّعليمات. ولكِنَّ هذا ليسَ الشَّيءَ الَّذي يَجْعَله فَنَّانًا عظيمًا. بل إنَّهُ هذا الشَّيءُ الإضافيُّ: التَّعبير. إنَّها الرُّوح. إنَّها الحياة. إنَّها كُلُّ ما يَستطيعُ أنْ يُعَبِّرَ عنه".
وهذه، في نظري، هي العلاقة بين ما هُوَ "خَاصّ" وما هُوَ "عَامّ" في العِظَة على الجَبَل. فلا يمكنك أنْ تَعزلهما أو أنْ تَفْصِلَ بينَهُما. فمعَ أنَّ المؤمنَ يُرَكِّزُ على الرُّوح، فإنَّهُ مَعْنِيٌّ أيضًا بالحَرْف. ولكِنَّهُ لا يَهتمُّ فقط بالحَرْف، بل لا يجوزُ لهُ البَتَّة أنْ يَهتمَّ بالحَرْفِ بِمَعْزِلٍ عنِ الرُّوح.
مِن جهة أخرى، إنْ كنتَ تَقولُ إنَّكَ تَهتمُّ بالرُّوحِ ولا تَحيا بحسبِ ناموسِ اللهِ فإنَّكَ كاذِبٌ. ومِن جهة أخرى، إنْ كنتَ تحاولُ أنْ تُطَبِّقَ ناموسَ اللهِ مِنْ دونِ الرُّوحِ فهذا يَعني أنَّكَ مُراءٍ. فالاثنان يَسيران جنْبًا إلى جَنْب. فالرُّوحُ هو الموقف السَّليم، والحَرْفُ هو الطَّاعة النَّاتجة عن ذلك. لذا فإنَّ الرُّوحانيَّة الحقيقيَّة تبتدئُ مِنَ الدَّاخل وتَلْمَسُ الخارج.
وحينَ تنظرونَ إلى التَّطويبات، ستَرَوْنَ أنَّها كالمُفارَقاتِ المُقَدَّسة. فهي تَعارِضُ كُلَّ شيءٍ يَعرفُهُ العالم تقريبًا. واسمحوا لي أنْ أقولَ شيئًا كمُلاحظة هامشيَّة صغيرة. فأنتُم تَرَوْنَ الكلمة "طُوْبَى". والكلمة "طُوْبَى" أو "مُبارَك" لها كَلِمَة مُناقِضَة في الكتاب المقدَّس. فنَقيضُ "مكاريوس" هو "أُوَاي" (ouai) الَّتي نُتَرْجِمُها: "وَيْل". ونَقيضُ "البَرَكَة" هو "اللَّعنة". فهذا هو نَقيضُ الكلمة "طُوْبَى". وقد قالَ يسوعُ في العِظَة على الجَبَل "طُوْبَى"، ثُمَّ التفتَ إلى الفَرِّيسيِّينَ لاحقًا وقال: "وَيْلٌ لكم". فهاتانِ الكلمتانِ مُتناقِضَتان.
واسمحوا لي أنْ أقولَ إنَّ الكلمة "طُوْبَى" والكلمة "وَيْل" لَيْسَتا أُمْنِيَتَيْنِ بالمعنى الحقيقيّ، بل إنَّهما لَفْظَتانِ قَضَائِيّتان. فيسوعُ لا يقولُ: "أَتَمَنَّى لَكُمُ البَرَكَة"، بل يقول: "طُوبى للرَّجُلِ الَّذي يَسْلُكُ في كَذا، أوْ يَفعَلُ كَذا، أوْ يُفَكِّرُ هكذا". وهو يَقولُ في مَواضِع أُخرى: "وَيْلٌ للرَّجُلِ الَّذي يَفْعَلُ كذا". وهاتانِ لَفْظَتانِ قَضَائِيَّتان، لا مُجَرَّد أُمنيتَيْن وَحَسْب.
وحينَ نَتأمَّل في هذهِ التَّطويباتِ، وإلى هذه الألفاظِ القضائيَّةِ الَّتي يُعْلِنُها اللهُ: "طُوبى للشَّخصِ الَّذي يَفعل كَذا أوْ للشخصِ الَّذي يُفَكِّرُ هكذا"، فإنَّنا نَرى تَسَلْسُلاً. انظروا معي بسُرعة إلى العدد الثَّالث. أوَّلاً، نحنُ نَرى "المَسَاكِين بالرُّوح". والمَسْكَنَة بالرُّوح هي الموقفُ السَّليمُ تُجاه الخطيَّة. وهي تَقودُ إلى الحُزْن (كما نَرى في العدد 4)؛ وَهُوَ حُزْنٌ يَقودُ (بعدَ أنْ تَرى خُطيئَتَكَ وتَحْزَن) إلى الوَداعَةِ والشُّعورِ بالاتِّضاع، ثُمَّ إلى السَّعيِ والجُوع والعَطَشِ إلى البِرِّ. فيمكنكم أنْ تَرَوْا التَّتابُع.
وهذا يُؤدِّي بِدَوْرِهِ إلى الرَّحمة (في العدد 7)، وإلى نَقاوةِ القلبِ (في العدد 8)، وإلى صُنْعِ السَّلامِ (في العدد 9). وإنْ كُنْتَ رَحيمًا، وطاهِرَ القلبِ وصَانِعَ سَلامٍ فإنَّكَ سَتُعَيَّرُ وتُطْرَدُ وتُتَّهَمُ زُوْرًا. لماذا؟ لأنَّهُ في الوقتِ الَّذي تَصيرُ فيهِ مِسْكينًا بالرُّوح، وتَحْزَن على الخطيَّة، وتَصيرُ مُتواضِعًا، وتَسْعى في طَلَبِ البِرِّ، وتُظْهِر الرَّحمةَ ونَقاوةَ القلبِ، وتَصيرُ صَانِعَ سَلامٍ فإنَّكَ سَتُهَيِّجُ غَضَبَ العالَمِ كَثيرًا حَتَّى إنَّهُم سيُظهرونَ رُدودَ فِعْلٍ عَنيفةٍ ضِدَّك.
ولكِنْ بعدَ هذا كُلِّه، نقرأ في العدد 12: "افْرَحُوا وَتَهَلَّلُوا، لأَنَّ أَجْرَكُمْ عَظِيمٌ فِي السَّمَاوَات". وعندما تَحْيَوْنَ بهذه الطريقة (أيْ عندما تكونونَ مَساكينَ بالرُّوح، وتَحْزَنونَ على الخطيَّة، وتَصيرونَ مُتواضِعين، وتَسْعَوْنَ في طَلَبِ البِرِّ، وتَصيرونَ بسببِ ذلكَ رُحَماءَ وصَانِعي سَلامٍ، ويَطْرُدُكُمُ العالَمُ، ويَضطهِدُكُم، ويقولونَ عليكم كُلَّ هذه الأشياء)، يمكنكم أنْ تَتَيَقَّنوا أنَّ ما جاءَ في العدد 13 صَحيح. فأنتُم مِلْحُ الأرض. وهذا هو ما يَتطلَّبُهُ الأمر. وأنتُم نُورُ العالَم. ولا يمكنكم أنْ تكونوا مِلْحًا ونُورًا، يا أحبَّائي، ولا يمكنكم أنْ تبتدئوا بالعدد 13 ما لم تبتدئوا بالعدد الثَّالث أوَّلاً.
لذلك، لننظر إلى العدد الثَّالث: "طُوبَـى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ". وهذه نُقطة أساسيَّة جدًّا وضَروريَّة جدًّا. وسوفَ أَطْرَح عليكم خمسة أسئلة في هذا المساء. وأريدُ منكم أنْ تُجيبوا عنها معي فيما ننظر إلى هذه الجُملة. لماذا يَبتدئُ المسيحُ بهذا الأمر؟ لماذا يَبتدئ بالمَسْكَنَة بالرُّوح؟ فطالما أنَّهُ يتحدَّث عن حياةٍ مِنْ نوعٍ جديد، وعن مِعيارٍ جديد، وعن طريقةٍ جديدة في الحياة، لماذا يَبتدئ بهذه النُّقطة؟ لماذا يقولُ إنَّ هذا هو مَصْدَر السَّعادة؟
ببساطة: لأنَّها الصِّفة الأساسيَّة للمؤمنِ المسيحيّ. فهي أوَّلُ شَيءٍ ينبغي أنْ يَحدُث في حياةِ أيِّ شَخصٍ يَدخُل ملكوت الله. فلا أحدَ يَدْخُل ملكوتَ الهِ على أساسِ الكِبْرياء. فالمَسْكَنَة بالرُّوح هي الطَّريقُ الوحيدُ للدُّخول. وبابُ ملكوتِ الربِّ يسوعَ المسيحِ مُنْخَفِضٌ جِدًّا حَتَّى إنَّهُ يجب على مَنْ يُريدُ أنْ يَدْخُلَهُ أنْ يَزْحَفَ على رُكْبَتَيْه.
ويَبتدئ يسوعُ بالقول: "هناك جَبَلٌ ينبغي أنْ تَصْعَدَهُ. وهناكَ مُرتفعاتٌ ينبغي أنْ تَتَسَلَّقْها. وهناكَ مِعيارٌ ينبغي أنْ تَعيشَ بموجبه. ولكِنَّكَ لا تستطيعُ القيامَ بذلك. وكُلَّما زادَتْ سُرْعَةُ إدراكِكَ لهذه الحقيقة، زادت سُرعتُك في السَّعْي إلى ذلك". بعبارة أخرى، فإنَّهُ يقولُ لك إنَّكَ لا تستطيع أنْ تَمتلئ إلَّا إذا أَدْرَكْتَ أنَّكَ فارغٌ. ولا يمكن أنْ تَصيرَ لَكَ قيمَة إلَّا إذا صِرْتَ عَديمَ القيمة.
وما يُدهشنُي هو أنَّ المسيحيَّة المُعاصِرة تَفْتَقِر كثيرًا إلى مفهوم إفْراغِ الذَّات. فأنا أرى كُتُبًا كثيرةً عن كيفيَّة الامتلاء بالفرح، وعن كيفيَّةِ الامتلاء بكذا، وكيفيَّة الامتلاء بكذا، وعن كيفيَّة الامتلاء بالرُّوح، وهَلُمَّ جَرَّا. وهناك كُتُب كثيرة عن كيفيَّة الامتلاء بأشياء مُختلفة، ولكِنِّي لا أَظُنُّ أنِّي رأيتُ يومًا كتابًا عن كيفيَّة إفراغِ ذاتِكَ مِنْ ذاتِك. فهل تتخيَّلونَ كتابًا بعُنوان: "كيفَ تَكون لا شَيء"؟ فسوفَ يُحَقِّقُ كِتابٌ كهذا مَبيعاتٍ هائلة في وقتِنا الحاضِر: "كيفَ تَكونُ نَكِرَة".
والحقيقة هي أنَّهُ في الكثيرِ مِنْ مَسيحيَّتِنا المُعاصرة فإنَّ النَّزعة الفَرِّيسيَّة فينا تَتَغَذَّى على الكِبرياء. أمَّا المَسْكَنَةُ بالرُّوحِ فهي أساسُ كُلِّ النِّعَم. وإنْ لم تَكونوا مَساكينَ بالرُّوح، يا أحبَّائي، فإنَّ هذا يَعني أنَّكُم تُؤمنونَ بأنَّ الثَّمَرَ يُمكن أنْ يَنمو مِنْ دونِ شَجَرَة، وبأنَّ نِعَمَ الحياةِ المسيحيَّة يمكن أنْ تَنمو مِنْ دونَ اتِّضاع. ولكِنَّ هذا مُستحيل. فإنْ لم تكن مِسْكينًا بالرُّوح، لا يُمكنكَ أنْ تَحصُلَ على النِّعمة. وحَتَّى إنَّهُ لا يمكنكَ أنْ تَصيرَ مَسيحيًّا ما لم تَكُنْ مِسْكينًا بالرُّوح.
وحينَ تَحيا حياتَكَ المسيحيَّة، لن تَخْتَبِرَ النِّعَمَ الأخرى للحياة المسيحيَّة طالما أنَّكَ لستَ مِسْكينًا بالرُّوح. وهذا أمرٌ صعب. فيسوعُ يقول: "ابتدئ مِنْ هُنا. فالسَّعادة هي مِنْ نَصيبِ المُتواضِعين". السَّعادة هي مِنْ نَصيبِ المُتواضِعين. وما لم نَكُنْ مَساكين بالرُّوح، لن يكونَ المسيحُ قَيِّمًا بالنِّسبة إلينا لأنَّنا لا نستطيعُ أنْ نَراهُ طَالَما أنَّنا نُرَكِّزُ على أنفُسِنا. فما لم نُدرِك نَقائِصَنا وحاجاتِنا وبُؤسَنا، لن نتمكَّنَ يومًا مِنْ إدراكِ قيمة المسيح الَّتي لا تُضَاهَى. وما لم نَعرف مِقْدارَ اللَّعنةِ المَصْبوبَة علينا، لا يمكننا أنْ نُقَدِّر مَجْدَهُ على حَقيقَتِه. وما لم نستوعِب الدَّينونة الَّتي تنتظرنا، لا يمكننا أنْ نَفهمَ روعةَ محبَّتِهِ لنا حَتَّى إنَّهُ فَدانا. وما لم نُدْرِك فَقْرَنا، لا يمكننا أنْ نَفْهَمَ غِناه.
لِذا فإنَّهُ مِنَ الجَافي خَرَجَتْ حَلاوَة. فَبالرَّغْمِ مِنْ مَوْتِنا فإنَّنا نَصيرُ أحياء. ولا يوجد إنسانٌ يأتي إلى يسوعَ المسيح، ولا يوجد إنسانٌ يَدْخُل الملكوت إلَّا إذا زَحَفَ على رُكْبَتَيْه بسببِ إدراكِهِ لِخَطيئَتِهِ المُريعَة وتوبته. ونحنُ نقرأ في سِفْر الأمثال 16: 5: "مَكْرَهَةُ الرَّبِّ كُلُّ مُتَشَامِخِ الْقَلْبِ". وَأَمَّا الْمُتَوَاضِعُونَ فَيُعْطِيهِمْ نِعْمَةً. ويجب أنْ يكونَ هذا الأمرُ في البداية. لِذا فإنَّهُ يُذْكَرُ في البداية. اسمعوني: إنَّ الطريقة الوحيدة لِدُخولِ ملكوتِ اللهِ هي أنْ تَعترف بِحالَتِكَ المُزْرِيَة، وتَعترف بعدم قُدرتك على الوَفاءِ بمَطالِبِ اللهِ، وأنْ تَعترف بأنَّكَ عاجِزٌ عنِ القيام بذلك – عاجِزٌ عنِ القيام بذلك.
وقد اختبَرَ بولُس ذلك. ولا أَظُنُّ أنَّنا سنُخَصِّص وقتًا للحديثِ عَمَّا جاءَ في الأصحاحِ الثالثِ مِنْ رسالة فيلبِّي، ولكِنَّ الجَوْقَةَ رَنَّمَتْ في هذه اللَّيلة تَرنيمةً جميلةً عن هذا الموضوع. وبولس يقولُ في هذهِ الآية: "مِنْ جِهَةِ الْبِرِّ الَّذِي فِي النَّامُوسِ، بِلاَ لَوْمٍ". وَهُوَ يقول: ولكِنَّنا "لاَ نَتَّكِلُ عَلَى الجَسَد"...لا نَتَّكِلُ على الجسد. والأمرُ بِرُمَّتِهِ يَبتدئُ مِنْ هُنا، يا أصدقائي. فلا يمكنكَ أنْ تدخلَ مَلكوتَ اللهِ إلَّا إذا كنتَ تَشعرُ أنَّكَ عَديمُ الحِيْلَة. ولا يمكنكَ أنْ تدخلَ مَلكوتَ اللهِ إلَّا إذا كنتَ تَشعرُ أنَّكَ بائِسٌ. فإنْ أردتَ أنْ تَختبرَ السَّعادة في أثناءِ حياتِكَ في ملكوتِهِ، يجب عليكَ أنْ تَشعرَ دائمًا أنَّكَ عَديمُ الحِيْلَةِ وبائِس.
فقد قالت الكنيسة في لاوُدِكِيَّة: "أَنَا غَنِيٌّ...وَلاَ حَاجَةَ لِي إِلَى شَيْءٍ". ولكِنَّ يسوعَ يقولُ لهم: "وَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ أَنْتَ...فَقِيرٌ وَأَعْمَى وَعُرْيَانٌ. فأنتَ تَظُنُّ أنَّكَ غَنِيٌّ، ولكنَّكَ لستَ كذلك". وما أكثرَ الحَمْقى في العالمِ لأنَّهم لا يُدركونَ الحقيقة بَتَّةً. وَهُمْ يُشبهونَ تلكَ الخادمة الصَّغيرة الَّتي كانت تَعمل لدى "سينيكا" (Seneca) إذِ استمرَّت تقولُ للجميع إنَّهُ بالرَّغْمِ مِنْ أنَّها وُلِدَتْ عمياء فإنَّها ليست عمياء. فقد كانت تقول: "أنا لستُ عَمياء، بل إنَّ العَالَمَ مُظْلِم". ولكِنَّ هذه حَماقة. وهناكَ أُناسٌ اليومَ يقولون: "أنا لستُ أعمى، بل إنَّ العالَمَ مُظْلِم. فهذه هي حالُ العالَم". ولكِنَّ الحَمْقى هُمُ الَّذينَ لا يُدركونَ الحقيقة. "أَنَا غَنِيٌّ...وَلاَ حَاجَةَ لِي إِلَى شَيْءٍ". فقد كانوا بائِسين.
ويسوعُ يَبتدئ مِنْ هُنا لأنَّ هذا هو المكانُ الَّذي ينبغي أنْ تَنْطَلِقَ مِنْهُ. فهذا هو المكانُ الَّذي ينبغي أنْ تَبتدئَ مِنْهُ لكي تَخْلُص. وهذا هو المكانُ الَّذي ينبغي أنْ تَنطلقَ منهُ لكي تَحيا الحياةَ المسيحيَّة في غِبْطَة. فلا يوجد مَكانٌ للكِبرياء. وكما قُلتُ، فإنَّ المسيحيَّة اليوم في عالَمِنا تَتَغَذَّى على الكبرياء. فهي تتغذَّى عليها وحسب؛ أيْ على رَفْعِ شَأنِ الفَرْد.
ونأتي إلى السُّؤال الثَّاني. فالسُّؤال الأوَّل هو: لماذا يَبتدئ الأمُر مِنْ هُنا؟ لأنَّهُ ينبغي أنْ يَبتدئَ مِنْ هُنا. فلا يمكنكَ أنْ تأتي إلى اللهِ ما لم تُدرك أنَّكَ مُفْلِسٌ رُوحيًّا. وهذه هي الطَّريقة الَّتي يجب عليك أنْ تَحيا بها حَياتَكَ المسيحيَّة. فأنتَ لا تَملكُ أيَّ شيءٍ في جسدِك...لا شيء.
السُّؤال الثَّاني: ما المقصودُ بالتَّعبير "مَساكين بالرُّوح"؟ فنحنُ نَعلمُ الآنَ لماذا يَبتدئُ الأمرُ مِنْ هُنا. لأنَّها نُقطةُ البداية. ولكِنْ ما الَّذي يَعنيه ذلك تَحديدًا؟ وما نَوْعُ "المَسْكَنَة" الَّتي يَتحدَّثُ عنها؟ هناكَ أُناسٌ يَقولونَ إنَّها "مَسْكَنَةٌ" مَادِّيَّة. وَهُمْ يَقتبسونَ ما جاءَ في إنجيل لوقا 6: 20: "طُوبَاكُمْ أَيُّهَا المَسَاكِينُ، لأَنَّ لَكُمْ مَلَكُوتَ اللهِ". وَهُمْ يَقولون: "أَتَرَوْن؟ إنَّهُ يَتَحَدَّثُ عنِ المَسْكَنَةِ وَحَسْب". لا!
فعندما تَجِدُ آيَتَيْنِ في الكتابِ المُقدَّسِ أوْ في الأناجيل، يجب عليكَ أنْ تُقارِنَ بينَهُما. "طُوْبَى للمَساكين". أيُّ مَساكين؟ فهُناكَ أنواعٌ كثيرةٌ للفَقْر. أليسَ كذلك؟ فقد تَكونُ فَقيرًا مِنْ جِهَةِ المَال. وقد تكونُ فقيرًا مِنْ جِهَةِ التَّعليم. وقد تكونُ فقيرًا مِنْ جِهَةِ الأصدقاء. وقد تكونُ فقيرًا مِنْ جِهَةِ أمورٍ كثيرة. لذلك، عندما تَقرأُ إنجيل لوقا: "طُوبَاكُمْ أَيُّهَا المَسَاكِينُ" وتَجِدُ إنجيل مَتَّى يقول: "طُوبَـى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوح"، يجب عليك أنْ تَستنتِج بسهولة أنَّ مَتَّى يُخْبِرُنا عن نَوْعِ المَسْكَنَةِ الَّتي يُشيرُ إليها لُوقا. فهذا هُوَ كُلُّ ما في الأمر. إنَّها ليست مُشكلة كبيرة. فنحنُ نَنْظُرُ إلى الآيَتَيْنِ "قَارِنِينَ الرُّوحِيَّاتِ بِالرُّوحِيَّاتِ".
إذًا، ما نَوْعُ المَسْكَنَة هُنا؟ هُناكَ مَسْكَنَةٌ بِمَعْنى الفَقْرِ المَادِّيِّ. وهناكَ أشخاصٌ كثيرونَ كَتَبوا عن هذه الفكرة وقالوا إنَّ اللهَ يُبارِكُ الفُقراءَ ويُعطيهم مَلكوتَهُ. والآنْ، اسمحوا لي أن أقولَ لكم شيئًا، يا أصدقائي. إنْ كانَ يَعني وَحَسْب الأشخاصَ الذينَ لا يَملكونَ مالاً، فإنَّ أسوأَ عَمَلٍ قد نُقْدِمُ عليهِ (بوصْفِنا مُؤمِنينَ) هو أنْ نُعطي شخصًا مالاً. فهذا يَعني أنَّ الحَدَّ مِنَ الفَقْرِ هو أَمْرٌ مُريع.
وهذا يَعني (في هذه الحالة) أنَّ إطْعامَ الجِياعِ هُوَ أمرٌ سَخيف وأنَّهُ يجب علينا أنْ نتوقَّفَ حالاً عن مساعدةِ أيِّ شخصٍ فقير. والحقيقة هي أنَّهُ يجب علينا (في هذه الحالة) أنْ نُجَرِّدَ أكْبَرَ عَدَدٍ مِمْكِنٍ مِنَ النَّاسِ مِنَ المال لكي يكونوا جميعًا مَساكين. فيجب علينا أنْ نَكونَ مُحْتالين! فيجب علينا أنْ نَجْمَعَ كُلَّ ذلكَ المال. ولكِنْ إنْ فَعَلْنا ذلك فإنَّنا (نحنُ الَّذينَ حَصَلْنا على المال) سنكونُ الخاسِرين. وهذا سُخْفٌ.
فلا يمكننا أن نَجولَ في العالمِ وأنْ نُلغي ذلكَ الشَّيء لأنَّ هذا يَعني أنْ نُغْلِقَ كُلَّ مَيْتَمٍ، وكُلَّ مُستشفى، وكُلَّ الإرساليَّاتِ، وكُلَّ شيءٍ يُساعِدُ النَّاسَ المُحتاجين. لِذا، هلِ السَّعادَة الرُّوحيَّة تأتي نَتيجَة الفَقْرِ المَادِّيَّ؟ لا. مِن جهة أخرى، فإنَّ الغِنَى يُمكن أنْ يُفْسِدَ النَّاسَ حقًّا. وأعتقد أنَّ النَّاسَ الفُقراءَ مادِّيًّا لديهم نُقطة انطلاق جَيِّدة في الحياة لأنَّهُ، سَواءٌ صَدَّقْتُمْ ذلكَ أَمْ لم تُصَدِّقوه، فإنَّ بُؤسَهُمْ يَجعلَهُم يَبحثونَ عَنْ مَصْدَرٍ خارِجَ نِطاقِ أنفُسِهم.
فالاكتفاءُ الذَّاتيُّ لدى الأغنياء يَجعلهم غيرَ راغِبينَ في مَعرفةِ اللهِ. لِذا فإنَّ الكتابَ المقدَّسَ يقول "إِنَّ مُرُورَ جَمَل مِنْ ثَقْب إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ" لأنَّهُ يَتَّكِل على غِناه. أمَّا الإنسانُ الفَقيرُ فليسَ لديهِ ما يَتَّكِلُ عليه. ولكِنْ كانَ هُناكَ بعضُ الأشخاصِ الأتقياءِ الأغنياء. ولكِنَّهم ليسوا كثيرين. فهناكَ نيقوديموس، ويوسُف الَّذي مِنَ الرَّامَة. وهُناكَ أشخاصٌ رائعونَ في العهد القديم أيضًا. ولا شَكَّ أنَّ فِليمون كانَ غَنِيًّا أيضًا. ولكِنْ كما تَعلمون، فإنَّ اللهَ لا يَتحدَّثُ هنا عنِ الفَقْرِ المادِّيِّ. والحقيقة هي: هل تَعلمونَ أنَّ داوُدَ قالَ في كُلِّ سِنِي حَياتِهِ أنَّهُ لم يَرَ صِدِّيقًا تُخُلِّيَ عَنْهُ، وَلاَ ذُرِّيَّةً لَهُ تَلْتَمِسُ خُبْزًا؟
وفي حياةِ بولُس، هناكَ أوقاتٌ شَعَرَ فيها بالجوع. وهناكَ أوقاتٌ شَعَرَ فيها بالعَطَش. ولكِنَّهُ لم يَكُنْ يومًا مُتَسَوِّلًا بائسًا. وفي أثناءِ تَجَوُّلِ الربِّ يسوعَ مَعَ تلاميذِهِ الاثني عَشَر، لم يَطْلُب يومًا طَعامًا مِنْ أحَد. فقد اتَّهَموهم بالجُنون – أيْ اتَّهموا تلاميذَ الربِّ بذلك. وقد اتَّهموهم بالجَهْل. وقد اتَّهموهم بأنَّهُمْ فَتَنوا المَسْكونَة. وصَدِّقوني أنَّهُم لو كانوا مُتَسَوِّلين لاتَّهموهم بذلكَ أيضًا. ولكِنَّهم لم يَتَّهِموهُم بذلكَ يومًا.
وقد تقول: "ما نَوْعُ هذهِ المَسْكَنَة؟" سوفَ أُخبركم. المَسَاكين بالرُّوح. المَسَاكين بالرُّوح. ولنتأمَّل في هذهِ العِبارَة. فالكلمة "مِسْكين" ("توكاس" [ptochos]) هي كلمة مُدهشة. فالفِعْلُ (والآنْ لاحِظوا ما سأقول): فالفِعْلُ اليونانيُّ يَعني: "الانْكِماشُ أمامَ شَيءٍ ما أوْ شَخْصٍ ما"؛ أيْ "أنْ تَنْقَبِضَ وَتَنْكَمِشَ على نفسِكَ كما يَفْعَلُ المُتَسَوِّل". فهذا هو معناها. فهو يَعني أنْ تَنْكَمِشَ على نفسِكَ وتَنقبِض كما يَفعلُ المُتَسَوِّل.
واللُّغةُ اليونانيَّةُ الكلاسيكيَّةُ تَستخدِم هذه الكلمة للإشارة إلى الشَّخصِ المُعْدَم الَّذي يَعيشُ مُتَسَوِّلاً، والذي يَنْكَمِشُ على نفسِهِ في رُكْنٍ ويَسْتَنِدُ إلى الحائِطِ وَيَمُدُّ يَدَهُ طَلَبًا للمَال. والسَّبَبُ في الانكماشِ والانقباضِ هو أنَّهُ لا يُريدُ أنْ يَراهُ الآخَرون. فهو يَشْعُرُ بِالعَارِ الشَّديد حَتَّى إنَّهُ لا يُريدُ أنْ يَعْرِفَ أَحَدٌ هُوِيَّتَه. فالمُتَسَوِّلونَ يُظْهِرونَ كُلَّ هذهِ المَظاهِر. فكُلُّ هذه الأشياء تَظهَرُ على وُجوهِهِم. وَهُمْ يَتَصَرَّفونَ بهذه الطريقة لِئَلَّا يَعْرِفَهُم أحَد.
وبالمُناسبة، فإنَّ الكلمة "مَساكين" هُنا هي ذاتُ الكلمة المُستخدَمة في لوقا 16 إذْ نَقرأُ: "وَكَانَ مِسْكِينٌ [أيْ: مُتَسَوِّلٌ] اسْمُهُ لِعَازَرُ". فهذا هو مَعنى هذه الكلمة. فهي لا تَعني "فَقيرًا" وحسب، بل تَعني فَقيرًا مُعْدَمًا. وبالمناسبة، هناكَ كلمة أخرى في الكتاب المقدَّس تُشيرُ إلى الفَقْرِ العادِيِّ وهي: "بينيس" (penes). و "بينيس" تُستخدَمُ بهذا المَعنى أوْ بالمَعنى الآخر، ولكنَّ "بينيس" تَعني عامَّةً أنَّكَ فَقيرٌ جِدًّا وأنَّهُ يجب عليكَ أنْ تَعْمَلَ لكي تَسُدَّ حاجاتِكَ الأساسيَّة فقط.
أمَّا الكلمة "تُوكاس" (ptochos) فتعني أنَّكَ مُعْدَمٌ حَتَّى إنَّكَ تُضْطَرُّ إلى التَّسَوُّل. فأنتَ مُجَرَّدٌ مُتَسَوِّلٍ مُنْقَبِضٍ ومُنْكَمِشٍ على ذاتِك. أمَّا الكلمة "بينيس" فتعني أنَّكَ قادرٌ على كَسْبِ رِزْقِكَ وأنَّكَ قادِرٌ على سَدِّ حاجاتِكَ الأساسيَّة. ولكِنَّ الكلمة "توكاس" تَعني أنَّكَ تَتَّكِلُ تمامًا على مُساعَداتِ الآخرين. فأنتَ لا تَملِكُ أيَّ شيءٍ، لا مَهاراتٍ ولا أيَّ شيءٍ آخر. وفي حالاتٍ عديدة، فإنَّكَ مَشْلولٌ أو أَعْمى، أوْ أَصَمّ، أوْ أَخْرَس. فأنتَ غيرُ قادرٍ على إِعالَةِ نفسِكَ في المُجتمع. لِذا فإنَّكَ تَجلسُ في رُكْنٍ وَتَمُدُّ يَدَكَ بِخِزْيٍ في الهواء مُسْتَجْدِيًا النِّعْمَةَ والرَّحمةَ مِنْ شخصٍ آخر. فأنت لا تَمْلِك أيَّ موارِد ذاتيَّة تَسُدُّ إعْوازَكَ. فهي تَعني الاتِّكال الكامِل على الآخرين.
فهي لا تَعني فقيرًا وحَسْب، بل تَعني أنَّكَ مُتَسَوِّلٌ مُعْدَم. ويسوعُ يَقول: "إنَّ هذا الرَجُلَ" (اسمعوا ذلك): "رَجُلٌ مَغْبوطٌ". وقد تقول: "لا بُدَّ أنَّكَ تَمْزَح". لا! فهو لا يتحدَّثُ عنِ التَّسَوُّلِ المادِّيِّ، ولا عنِ الفَقْرِ الماديَّ، بل هو يتحدَّثُ عنِ المَسْكَنَةِ بالرُّوح. اسمعوني: إنَّ هذا الوصفَ هو أفضلُ تَشْخيصٍ لحالةِ الإنسانِ على الإطلاق. فالإنسانُ فارِغٌ، ومِسْكينُ، ولا حَوْلَ لَهُ ولا قُوَّة. فهل يستطيعُ الإنسانُ أنْ يَعْمَلَ لِكَسْبِ خَلاصِه؟ وهل هوَ فَقيرٌ بِمَعْنى "بينيس" (penes) – أيْ أنَّهُ قادِرٌ على القيامِ ببعضِ الأعمال، وأنَّهُ إنِ اجْتَهَدَ بما يَكفي وعَمِلِ بِجِدٍّ فإنَّهُ قد يَتَمَكَّنْ مِنْ دُخولِ السَّماءِ بقُدرتِه؟ فهل تَظُنُّونَ أنَّهُ يَستطيعُ أنْ يَفعل ذلك؟ لا. فهو ليسَ "فقيرًا" وحسب، بل هُوَ "مُعْدَمٌ". فَهُوَ غيرُ قادرٍ البَتَّة على القيامِ بأيِّ شيءٍ، وَهُوَ مُتَّكِلٌ تمامًا على نِعْمَةِ شَخْصٍ آخر.
لِذا فإنَّ يسوعَ يقول: "يا لِغِبْطَة المُتَسَوِّلينَ المُعْدَمينَ المُنْقَبِضينَ والمُنْكَمِشينَ على أنفُسِهِم. ويا لَهُ مِنْ خَبَرٍ سَارٍّ، يا أحبَّائي. فالعالَمُ يقول: "يا لِغِبْطَةِ الأغنياءِ، والمَشهورينَ، والمُكْتَفينَ ذاتيًّا، والمُتَكَبِّرين". والآنْ، ما مَعنى "بالرُّوح"؟ اسمحوا لي أنْ أتحدَّثَ عن ذلكَ قليلاً. فهذهِ الكلمة تَعني: "مِنْ جِهَةِ الرُّوح"، وَهُوَ الجُزْءُ الدَّاخليُّ مِنَ الإنسان، وليسَ الجسد (الَّذي هو الجُزْءُ الخارجيُّ). فهذا هُوَ كُلُّ ما في الأمر. فهو يَتَسَوَّلُ مِنَ الدَّاخِل، لا بالضَّرورة مِنَ الخارِج.
وقد عَبَّرَ إشعياءُ عن ذلكَ بالكلماتِ التَّالية في إشعياء 66: 2: "وَإِلَى هذَا أَنْظُرُ". واللهُ هُوَ المُتَكَلِّمُ هُنا. استمعوا إلى ما يقول: "وَإِلَى هذَا أَنْظُرُ: إِلَى المِسْكِينِ وَالمُنْسَحِقِ الرُّوحِ وَالمُرْتَعِدِ مِنْ كَلاَمِي". إنَّهُ الرَّجُلُ الَّذي يَرتعِدُ مِنَ الدَّاخل بسبب بُؤسِهِ. ونقرأُ في المزمور 34: 18 هذه الكلمات: "قَرِيبٌ هُوَ الرَّبُّ مِنَ المُنْكَسِرِي القُلُوبِ، وَيُخَلِّصُ المُنْسَحِقِي الرُّوح". ونقرأ في المزمور 51: 17: "ذَبَائِحُ اللهِ هِيَ رُوحٌ مُنْكَسِرَةٌ. القَلْبُ المُنْكَسِرُ وَالمُنْسَحِقُ يَا اَللهُ لاَ تَحْتَقِرُهُ".
ونقرأُ في سِفْرِ إشعياء 57: 15: "لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ العَلِيُّ المُرْتَفِعُ، سَاكِنُ الأَبَدِ، القُدُّوسُ اسْمُهُ: فِي المَوْضِعِ المُرْتَفِعِ المُقَدَّسِ أَسْكُنُ، وَمَعَ المُنْسَحِقِ وَالمُتَوَاضِعِ الرُّوحِ، لأُحْيِيَ رُوحَ المُتَوَاضِعِينَ، وَلأُحْيِيَ قَلْبَ المُنْسَحِقِينَ". اسمعوني، يا أحبَّائي: إنَّ اللهَ يُصْغي إلى الأشخاصِ الَّذينَ يَنسحقونَ مِنَ الدَّاخِل، لا إلى الأشخاصِ الَّذينَ يَشعرونَ بالاكتفاءِ الذاتيِّ، ولا إلى الأشخاصِ الَّذينَ يَظُنُّونَ أنَّهم يستطيعونَ أنْ يُخَلِّصوا أنفُسَهم بأنفسهم، ولا إلى الأشخاصِ الَّذينَ يؤمنونَ بمواردِهم الذاتيَّة؛ بل إلى الأشخاصِ البائِسينَ المُتَسَوِّلين.
وهذا لا يَعني أنَّهُم فُقراءَ رُوحِيًّا بِمَعنى أنَّهم يَفتقرونَ إلى الحَماسَة. وهذا لا يَعني أنَّهُم كَسَالَى أوْ بَليدونَ أوْ غيرُ مُبالينَ أوْ خَامِلون. فهذا ليسَ المَعنى المَقصود البَتَّة. فالشَّخصُ المِسْكينُ بالرُّوح هو شخصٌ يَشْعُرُ بِعَدَمِ الاكتفاءِ الذَّاتيِّ. فَهُوَ شَخْصٌ مُفْلِسٌ.
واسمحوا لي أنْ أُقَدِّمَ لكم مَثَلاً توضيحيًّا. انظروا معي إلى الأصحاح 18 مِنْ إنجيل لوقا. فنحنُ نَقرأ في لوقا 18: 9 القِصَّةَ التَّالية: "وَقَالَ لِقَوْمٍ وَاثِقِينَ بِأَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ أَبْرَارٌ، وَيَحْتَقِرُونَ الآخَرِينَ هذَا الْمَثَلَ". ونحنُ نَرى هُنا النَّقيض. فإليكم المَعنى المُضادّ للمَساكين بالرُّوح. إليكم المُتَكَبِّرونَ بالرُّوح؛ أيِ الأشخاصُ الذينَ يَتَّكلونَ على أنفسهم، ويَظُنُّونَ أنَّهُم أبرار، ويَحتقرونَ الآخرين. فَهُمْ يَقولون: "سوفَ نَفْعَلُ ذلكَ بأنفُسِنا. فنحنُ لدينا جَميعُ المُوارِد اللَّازمة، وَهَلُمَّ جَرَّا".
"إِنْسَانَانِ صَعِدَا إِلَى الْهَيْكَلِ لِيُصَلِّيَا، وَاحِدٌ فَرِّيسِيٌّ وَالآخَرُ عَشَّارٌ. أَمَّا الْفَرِّيسِيُّ فَوَقَفَ يُصَلِّي فِي نَفْسِهِ هكَذَا: اَللّهُمَّ أَنَا أَشْكُرُكَ أَنِّي لَسْتُ مِثْلَ بَاقِي النَّاسِ الْخَاطِفِينَ الظَّالِمِينَ الزُّنَاةِ، وَلاَ مِثْلَ هذَا الْعَشَّارِ. أَصُومُ مَرَّتَيْنِ فِي الأُسْبُوعِ، وَأُعَشِّرُ كُلَّ مَا أَقْتَنِيهِ. وَأَمَّا الْعَشَّارُ فَوَقَفَ مِنْ بَعِيدٍ، لاَ يَشَاءُ أَنْ يَرْفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ". فَهُوَ يُشْبِهُ المُتَسَوِّل. فهو مُنْكَمِشٌ على نفسِه. وَهُوَ لا يَنْظُر إلى أعلى. وَهُوَ لا يَنْظُر حَتَّى إلى الله.
فهو مُنْكَمِشٌ على نفسهِ: "بَلْ قَرَعَ عَلَى صَدْرِهِ قَائِلاً: اللّهُمَّ ارْحَمْنِي، أَنَا الْخَاطِئَ". وهل تريدونَ أنْ تَسْمَعوا التَّشْخيصَ الَّذي قَدَّمَهُ يَسُوع؟ "أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ هذَا نَزَلَ إِلَى بَيْتِهِ مُبَرَّرًا دُونَ ذَاكَ، لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يَتَّضِعُ، وَمَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ يَرْتَفِعُ".
اسمعوني. إنَّ هذا واضحٌ تَمَامَ الوُضوح. فهذه العِبارَةُ تُشيرُ إلى الشَّخصِ المُنْكَسِر والمُنْسَحِق. فيسوعُ يَقول: "طُوبَـى للمُعْدَمين"؛ أيْ: طُوبى للأشخاصِ الذينَ يَشْعُرونَ بانْسِحاقٍ في أرواحِهِم. طُوبى للمَساكين بالرُّوح، أيْ للأشخاصِ الَّذينَ يَشعرونَ بِفَراغِهِمِ الرُّوحِيِّ وَبإفلاسِهِمِ الرُّوحِيِّ ويَنْكَمِشونَ على أنفسِهم في رُكْنٍ ما ويَصرُخونَ إلى اللهِ طَلَبًا للرَّحمة. فهؤلاءِ هُمُ المَغبوطون. لماذا؟ لأنَّهُم الأشخاصُ الوحيدونَ الَّذينَ يُمْكِنُهُم أنْ يَحْصُلوا على المَصْدَرِ الحقيقيِّ للسَّعادة. وَهُمُ الأشخاصُ الوحيدونَ الَّذينَ يَعرفونَ اللهَ. وَهُمُ الأشخاصُ الوحيدونَ الَّذينَ يَعرفونَ السَّعادةَ الإلهيَّة. فالمَلَكوتُ مِنْ نَصيبِ هَؤلاء.
وقد عَبَّرَ يَعقوبُ عن ذلكَ بالطَّريقةِ التَّالية. فهذا لم يَرِدْ فقط في العِظَة على الجَبَل، بل إنَّ يَعْقوبَ قالَ هذا أيضًا. فهو يقولُ في رسالة يعقوب 4: 10: "اتَّضِعُوا قُدَّامَ الرَّبِّ" [فيَفْعَلُ ماذا؟] فَيَرْفَعَكُمْ". والمَسْكَنَةُ هُنا ليست مَسْكَنَةً تَتَمَرَّدُ عليها الإرادَة، بل هي مَسْكَنَةٌ تَنْحَني لها الإرادَةُ منْ مُنْطَلَقِ الاتِّكالِ العَميقِ والخُضوع. وأَخْشَى أنَّ هذا التَّعليمَ لم يَعُدْ تَعليمًا مُسْتَساغًا في الكنيسة اليوم. فنحنُ نُرَكِّزُ كثيرًا على المشاهيرِ، والخُبراءِ، والنُّجومِ، والأغنياء، والمَسيحيِّينَ المَشهورين. ولكِنَّ السَّعادَةَ هي مِنْ نَصيبِ المُتواضِعين.
وهل تَسْمَحونَ لي أنْ أُوَضِّحَ هذهِ النُّقطة لكم؟ اسمعوني وَحَسْب. فيعقوب...لقد كانَ ينبغي ليعقوب أنْ يَخْتَبِر المَسْكَنَةَ الرُّوحيَّةَ قبلَ أنْ يَتَمَكَّنَ اللهُ مِنَ استخدامِه. فقد صَارَعَ اللهَ طَوالَ اللَّيلِ في الأصْحاح 32 مِنْ سِفْر التَّكوين. وأخيرًا، خَلَعَ اللهُ مِفْصَلَ فَخْذِهِ. أَتَذكرونَ ذلك؟ فقد خَلَعَ مِفْصَلَ فَخْذِهِ. وقد طَرَحَهُ أرضًا على ظَهْرِهِ فقال: "أنا أَسْتَسْلِم! لا يُمكنني أنْ أَفعلَ ذلكَ بمُفردي". والكتابُ المقدَّسُ يقول في سِفْر التَّكوين 32: 29 هذهِ الكلماتِ الَّتي أُحِبُّها: "وَبَارَكَهُ [اللهُ] هُنَاكَ". فَقَد جَعَلَهُ اللهُ مَغْبوطًا.
ولا يَسَعُني إلَّا أنْ أُفَكِّرَ في إشَعْياء الَّذي استخدَمَهُ اللهُ استخدامًا رائعًا. ولكِنَّهُ لم يَكُنْ صَالِحًا قَطّ للاستخدام قبلَ أنْ يَصيرَ مِسْكينًا بالرُّوح. ونَرى ذلكَ مِنْ خلالِ مَرْثاتِهِ على وَفاةِ "عُزِّيَّا" المَلِك. فقد ماتَ المَلِكُ عُزِّيَّا فتضايَقَ إشعياء كثيرًا ولم يكن يُفَكِّر سِوى في خَسارَتِه وفي مَعْنى عَدَمِ وُجودِ الملك عُزِّيَّا. ولكِنَّ اللهَ اقْتَحَمَ حَياتَهُ بِنِعْمَتِهِ وَبَيَّنَ لَهُ أنَّ الشَّخصَ المُهِمَّ حَقًّا لم يَكُن عُزِّيَّا. فقد أَراهُ نَفْسَهُ عَالِيًا ومُرْتَفِعًا في رُؤيا. وبسببِ تلك الرُّؤيا قالَ إشعياء في الأصحاح السَّادس مِنْ سِفْر إشعياء: "وَيْلٌ لِي! إِنِّي هَلَكْتُ، لأَنِّي إِنْسَانٌ نَجِسُ الشَّفَتَيْنِ...لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ رَأَتَا الْمَلِكَ". وحينئذٍ بارَكَهُ اللهُ.
وكذلكَ هِيَ حَالُ جِدْعُون. فقد أَدْرَكَ "جِدْعون" (في سِفْر القُضاة 6: 15) عَدَمَ كِفايَتِهِ فقال: "أَسْأَلُكَ يَا سَيِّدِي، بِمَاذَا أُخَلِّصُ إِسْرَائِيلَ؟ هَا عَشِيرَتِي هِيَ الذُّلَّى فِي مَنَسَّى، وَأَنَا الأَصْغَرُ فِي بَيْتِ أَبِي". أيْ: "يبدو أنَّكَ لم تُوَفَّق في اخْتياري!" فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: "الرَّبُّ مَعَكَ يَا جَبَّارَ البَأس". وهل تَعلمونَ مَنْ هُوَ أعظمُ جَبَّارِ بَأسٍ؟ إنَّهُ الرُّجُلُ الَّذي يَعرفُ أنَّهُ عاجِزٌ في ذاتِهِ. وقد كانت هذه هي الرُّوحُ الَّتي يَتَّصِفُ بها مُوْسَى. فقد قالَ لَهُ اللهُ: "مُوسَى! أُريدُ مِنْكَ أنْ تَقودَ شَعْبي". وقد كانَ يَعْلَمُ أنَّهُ ليسَ جديرًا قَطّ بهذه المُهمَّة. فقد كانَ يُدركُ تمامًا ضَعْفَهُ المُريع وخَوْفَهُ وعَدَمَ كِفايَتِهِ حَتَّى إنَّ اللهَ استخدَمَهُ.
وقد كانَتْ هذهِ هي حالُ قلبِ داوُد حينَ قال: "مَنْ أَنَا أَيُّهَا الرَّبُّ الإِلهُ...حَتَّى أَوْصَلْتَنِي إِلَى هُنَا؟" ونحنُ نَرى ذلكَ أيضًا في بُطْرُس الَّذي كانَ مُنْدَفِعًا، ومُعْتَدًّا بنفسِه، وواثقًا بنفسِهِ بطبيعته؛ ولكنَّهُ قال: "اخْرُجْ مِنْ سَفِينَتِي يَا رَبُّ، لأَنِّي رَجُلٌ خَاطِئٌ". وقد كانت هذه هي البداية الحقيقيَّة لبُطرس. وقد أَقَرَّ الرَّسولُ بولُس أنَّهُ لا يَمْلِك في جسدِهِ شيئًا صالحًا، وأنَّهُ أَوَّلُ الخُطاة، وأنَّهُ كانَ مُجَدِّفًا، ومُضْطَهِدًا، وأنَّ كُلَّ ما لديه هو مُجَرَّد نُفايَة وقُمامَة، وأنَّهُ يَحْسَبُ كُلَّ رِبْحٍ خَسارَة، ولا يَتَّكِل على الجسد. فهو يَكتفي بالقليل. وقُوَّتُهُ تُكْمَلُ في ضَعْفِهِ.
اسمعوني: حينَ تَعترِفُ بضَعفِكَ، وحينَ تُقِرُّ بأنَّكَ لا شيء، فإنَّ هذه ليست النِّهاية، بل هي البِداية. ولكِنَّ هذا الأمرَ [اسمعوني جيِّدًا] هو أصعبُ شيءٍ قد تَفْعَلُهُ يومًا. إنَّهُ أصعبُ شيءٍ قد تَفْعَلُهُ يومًا. فيسوعُ يقولُ إنَّ أوَّلَ شيءٍ ينبغي أنْ تَقولَهُ هو: "لا أستطيع...لا أستطيع أنْ أفعلَ ذلك...لا أستطيع". فهذه هي المَسْكَنَة بالرُّوح.
وأنا أُفَكِّرُ في مَثَلِ العَبْدِ الَّذي لا يَغْفِر في الأصحاح 18 مِنْ إنجيل مَتَّى. فَهُوَ حَقٌّ عظيم. فقد كانَ هذا العَبْدُ مَدينًا بمبلغٍ كبيرٍ مِنَ المال لن يَتمكَّنَ يَوْمًا مِنْ سَدادِه - البَتَّة. فقد كانَ مبلغًا ضَخْمًا جِدًّا مِنَ المال. ونقرأ في العدد 26: "فَخَرَّ العَبْدُ وَسَجَدَ لَهُ [أيْ أمامَ سَيِّدِهِ] قَائِلاً: يَا سَيِّدُ، تَمَهَّلْ عَلَيَّ فَأُوفِيَكَ الجَمِيعَ". فقد كانَ يقول: "تَمَهَّل عَلَيَّ وَحَسْب! فأنا لديَّ المَصادِر الَّتي تُمَكِّنُني مِنْ سَدادِ المَبلغِ كاملاً". ويا لحماقته! فلم تكن هناك طريقة البَتَّة لِسَدادِ ذلكَ الدَّيْن. وقد كانَ يسوعُ يقولُ في ذلك المَثَل: "مِنَ الحماقَةِ أنْ تَقولَ للرَّبِّ: ’تَمَهَّلْ عَلَيَّ. فسوفَ أَفْعَلُ كُلَّ ما هُوَ مَطلوبٌ مِنِّي‘".
إنَّ المَسْكَنَةَ بالرُّوح تُشيرُ إلى انْعِدامِ الكِبرياء، وانْعِدامِ الاتِّكالِ على الذَّات، وانْعِدامِ الاعتمادِ على الذَّات. فيجب أنْ نُفْرِغَ ذَواتَنا قبلَ أنْ نَتَمَكَّنَ مِنْ مَلْئِها. فيجب أنْ نَفعلَ ذلك. وهذه هي الطريقة الَّتي ينبغي أنْ نَحيا بها، يا أصدقائي. فالأمْرُ لا يَنتهي بالخلاص، بل يجب علينا أنْ نَحْيا هكذا. وهل تَعلمونَ أنَّني اخْتَبَرْتُ ذلكَ مَرَّةً تلو الأخرى تلو الأخرى. فعندما أُدْرِكُ أنِّي سأَصْعَدُ إلى المِنْبَر وأَعِظُ أمامَكُم، فإنَّ أَوَّلَ شيءٍ يَخْطُرُ بِبَالي وفِكري هو: "يا رَبّ. يجب أنْ تُعينَني. يجب أنْ تُعينَني. فأنا أَعْرِفُ الأساليبَ، يا رَبّ، ولكنَّي لا أُريدُ ذلك. فأنا لا أُريدُ الأساليب. لذلك، أرجوكَ أنْ تُعينَني. أرجوكَ أنْ تُعينَني".
وقد كانَ القِدِّيس "أوغسطينوس"، قبلَ اهتدائِهِ، مُفْتَخِرًا بذكائِهِ. وقد كانَ مُفتخِرًا بمعرفتِه. وَهُوَ يقولُ إنَّ ذلكَ مَنَعَهُ مِنَ الإيمان. ولكِنْ بعدَ أنْ أَفْرَغَ نفسَهُ مِنْ كبريائِه عَرَفَ اللهَ. كذلكَ فإنَّ "لوثَر" (مارتِن لوثَر العَظيم) تَرَهْبَنَ في أيَّامِ شَبابِهِ. فقد تَرَهْبَنَ ظَنًّا مِنْهُ أنَّهُ يستطيعُ أنْ يَحْصُلَ على الخلاصِ مِنْ خلالِ التَّقوى. ولكنَّهُ اكتشفَ أنَّهُ عاجِزٌ عنِ القيامِ بذلك. وقد أَفاقَ يومًا، في أثناءِ حياةِ الكَهَنوتِ الَّتي كانَ يَعيشُها، وأدركَ أنَّهُ يَشْعُرُ بِفَشَلٍ ذَريع. فَقد عَجِزَ عنِ القيامِ بذلك طَوالَ تلكَ السِّنين. وقد أدركَ عَجْزَهُ التَّامَّ عن إرضاءِ الله. وقد أَخْلى نَفْسَهُ مِنْ نفسِهِ. وقد أَدْرَكَ أنَّ كُلَّ شيءٍ يَختصُّ بالخَلاصِ إنَّما يُوَفِّرُهُ اللهُ مِنْ خلالِ الإيمان. وقد كانَتْ تلكَ هي بِدايةُ حَرَكَةِ الإصْلاح.
وقد كَتَبَ أحَدُ الأشخاصِ هذه الكلماتِ الجميلة: "مَعَ أنَّني لا أستطيعُ أنْ أُرَنِّمَ عَنْ مِلْءَ مَحَبَّتِكَ، ولا أنْ أُخْبِرَ عنها، ولا أنْ أَعْرِفَها فيما أنا موجودٌ هُنا في الأسفل، فإنَّني آتي بِإنائي الفارِغ حَتَّى تَملأَهُ أنتَ، أيُّها الربُّ المُحِبُّ، لأنَّكَ نَبْعُ الماءِ الحَيّ. فأنا إناءٌ فارِغ. فأنا لا أستطيعُ أنْ آتي إليكَ بِفِكْرَةٍ مُحِبَّةٍ أوْ نَظْرَةٍ مُحِبَّة. ولكنِّي آتي إليكَ وآتي ثانيةً بِصِفَتي شخصًا خاطئًا فَارِغًا أَتَوَسَّلُ إليكَ لأنَّكَ تُحِبُّني".
وهذه هي خُلاصَةُ هذا الحَقِّ العظيم. فالمبدأُ الأوَّلُ للعِظة على الجبل هو أنَّكَ لا تستطيعُ أنْ تَفعلَ ذلكَ بمُفردِك. فهناكَ نَمَطٌ حَياةٍ جَديد ينبغي أنْ تَعيشَهُ. ونَمَطُ الحياةِ الجَديد هذا يَعِدُكَ بالسَّعادة الأبديَّة. ولكنَّكَ لا تستطيعُ أنْ تَفعلَ ذلكَ بمُفردك. لِذا فإنَّ المِعيارَ الوحيدَ للحياةِ يَقْتَصِرُ على الأشخاصِ الذينَ يَعْلَمونَ أنَّهُمْ لا يَستطيعونَ القيامَ بذلك.
وهذا المفهومُ واضِحٌ، على ما أعتقد، مِنْ خِلالِ إعطاءِ الشَّريعةِ على جَبَلِ سِيْناء. فعندما أَعطى اللهُ شَريعَتَهُ [والآنْ فَكِّروا مَعي]، عندما أَعطى اللهُ شَريعَتَهُ على جبل سيناء وَنَهَى عَنْ عِبادَةِ الأصْنامِ، وَنَهى عنِ الوَثنيَّةِ، ونَهَى عنِ السَّرِقَةِ، ونَهى عنِ القَتْلِ، وَهَلُمَّ جَرَّا، وَنَهى عنْ شَهادَةِ الزُّوْر. ولكِنْ في الوقتِ الَّذي كانَ اللهُ يُعْطي تلكَ الشَّريعة، كانَ النَّاسُ في الأسفل يَكْسِرونَها. أليسَ كذلك؟ فقد كانَ اللهُ يُعطيها لِمُوْسَى، وكانَ هارونُ يَقودهُمْ في مُمارَساتٍ وَثَنِيَّة. لِذا، مُنْذُ البداية، تَرَوْنَ حَقيقة أنَّ مَعاييرَ اللهِ ليسَتْ في نِطاقِ قُدرةِ الإنسان.
وقد أَدركَ بعضُ بَني إسرائيل ذلك. فقد أدركوا أنَّهم لم يكونوا يَحفظونَ مِعيارَ اللهِ. لِذا فقد قَدَّموا الذَّبائحَ، واعترفوا بخطاياهم، وجاءوا باتِّضاعٍ. وبِفَضْلِ نِعْمَةِ اللهِ الغَنيَّة، غَفَرَ لهم. ولكِنْ كانَ هناكَ أشخاصٌ آخرونَ ظَنُّوا أنَّهم قادرونَ على القيامِ بذلك. لذا فقد افتخروا بِبِرِّهم الذَّاتيِّ وحاولوا أنْ يَحْفَظوا النَّاموس. ولكنَّهُمْ لم يَتمكَّنوا مِن ذلكَ أيضًا. لذا فقد قَلَّلوا مِنْ شأنِ النَّاموسِ. لِذلكَ فقد ابتدأَ مُعَلِّمو اليهودِ يُضيفونَ التَّقاليد. وقد رَفَعُوا مِنْ شَأنِ التَّقاليدِ لأنَّ تَطْبيقَ التَّقاليدِ كانَ أَسْهَلُ مِنْ تَطبيقِ شَريعَةِ الله.
اسمعوني: إنَّ التَّقاليدَ الَّتي وَضَعوها هُمْ أنْفُسُهُمْ إلى جانِبِ التَّوراةِ، أيْ وَصَايا التَّلمودِ، أوْ تلكَ التَّقاليدَ اليهوديَّةَ الَّتي وَضَعوها هُمْ أنفُسُهم إلى جانبِ التَّوراةِ (الَّتي هي شَريعة الله الصَّحيحة)، ليست سِوى مِعْيارًا مُخَفَّفًا لكي يَتَمَكَّنَ النَّاسُ، على أَقَلِّ تَقدير، مِنَ الشُّعورِ بالرِّضا نَوْعًا مَا. وقد كانَ مُعَلِّمو اليهودِ يقولون: "نحنُ نُحاولُ أنْ نَحمي شريعةَ اللهِ". ولكِنَّ الحقيقة هي أنَّهم كانوا يُخَفِّضونَ المَعاييرَ حَتَّى إنَّهُ حينَ جاءَ يَسوعُ كانوا بارِعينَ في القيامِ بالأمورِ الخارجيَّة، وكانوا يَعيشونَ حَياةً يَنْتَهِكونَ فيها يوميًّا شريعةَ اللهِ.
وكما تَرَوْن، فقد كانَ هناكَ أُناسٌ يَظُنُّونَ أنَّهُ بمقدورهم أنْ يَفعلوا ذلك. ولكِنَّهم لم يَنْجَحوا. أمَّا الأشخاصُ الَّذينَ كانوا يَعرفونَ اللهَ فكانوا يقولون: "نحنُ لا نستطيع، يا رَبّ". وقد قاموا، بِكُلِّ تواضُعٍ وصَبْرٍ، بتقديمِ ذَبائحِ الاعتراف فَغَفَرَ اللهُ لهم. والشَّيءُ نَفسُهُ يَصِحُّ على العِظَة على الجَبَل. فهذه هي الشَّريعة. وهذا هو نَهْجُ الحياة. ولكِنَّكَ لا تَستطيعُ القيامَ بذلك. ويجب عليكَ أنْ تُقِرَّ بذلك. وبقُوَّةِ الرُّوحِ القُدُسِ والاتِّكالِ على يسوعَ المسيحِ، يجب عليكَ أنْ تَرْغَبَ فيها. وحينئذٍ، يجب عليكَ أنْ تَتَعامَلَ مَعَ إخْفاقاتِكَ مِنْ خلالِ التَّوبةِ المُتواضِعَةِ والاعتراف.
وقد رَفَعَ يسوعُ المِعْيارَ عالِيًا حينَ قال: "فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ. وقد قال: "إِنْ لَمْ يَزِدْ بِرُّكُمْ عَلَى الكَتَبَةِ وَالفَرِّيسِيِّينَ لَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّماوَاتِ". وَهُوَ يقول: "أنْتُمْ تُعَلِّمونَ" (في مَتَّى 15: 9) وَصايا النَّاسِ على حِسابِ وَصايا اللهِ". ولكِنَّ هذا لَنْ يُسَاعِدَ في تَحْقيقِ ذلك.
إنَّ الغايةَ الرئيسيَّةَ للنَّاموس [اسمعوني]، إنَّ الغايةَ مِنَ العِظَة على الجَبَل هي نفسُ الغايةِ مِنْ إعْطاءِ الشَّريعَةِ على جَبَلِ سِيْناء. فالغاية هي أنْ يُبَيِّنَ لَكُمْ أنَّكم عاجزونَ عنِ القيامِ بذلك. فقد كانتِ الغايةُ مِنَ العِظَةِ على الجَبَل هي أنْ يُبَيِّن لهم أنَّهم لا يستطيعونَ القيام بذلك، وأنَّهُ ينبغي لهم أنْ يَكونوا مَساكينَ بالرُّوح، وأنْ يَتَّكِلوا تمامًا على الله. فلا يمكنك أنْ تُقَدِّمَ هذهِ المعاييرَ لشخصٍ لم يَتَجَدَّد بعد وأنْ تتوقَّع منهُ أنْ يَحياها. فهل تَعلمونَ كيفَ سيكونُ ذلك؟ أعتقد أنَّ "جيمس بويس" (James Boyce) يُقَدِّمُ هذا المَثَل التوضيحيّ. ففي الملكوت، سوفَ يَرْبُضُ الأسدُ مَعَ الخَروف. أليسَ كذلك؟ فالأسدُ سيَربُضُ معَ الخروف. ألا تَجدونَ ذلكَ الأمرَ رائعًا؟
فإنْ أردتُم أنْ تُجْرُوا تَجربةً، اذهبوا إلى حديقةِ الحَيَوانِ وادخُلوا قَفَصَ الأَسَدِ وعَلِّموا ذلكَ الأَسَدَ الحَقَّ المُختصَّ بالمُلْكِ الألفيِّ. عَلِّموا ذلكَ الأَسَدَ أنَّهُ سيَرْبُضُ معَ الخَروفِ ورَسِّخوا هذه الحقيقة في ذِهْنِهِ. ثُمَّ خُذوهُ وضَعوهُ معَ الخروف. أتَعلمونَ ما الَّذي سيَحدُث؟ لن يَعودَ هُناكَ خَروف. أتَدرونَ لماذا؟ لأنَّ الأَسَدَ لن يَتَعاوَنَ وَفْقًا لما جاءَ في العِظَة. فيجب على الأَسَدِ أنْ يَحصل على طبيعة جديدة. أَتَرَوْن؟ فلا يمكنك أنْ تُعَلِّم العِظَة على الجَبَل لشخصٍ غير مُتَجَدِّد وأنْ تتوقَّعَ منهُ أنْ يَحياها. فيجب عليه أنْ يَمتلك طبيعةً جديدة. وهذا يَبتدئ بالمَسْكَنَةِ بالرُّوح.
لِذا فقد طَرَحْنا سُؤالَيْن: لماذا يَبتدئُ المسيحُ بالحديثِ عنِ المَسْكَنَة بالرُّوح؟ لأنَّها البداية. وما مَعنى ذلك؟ إنَّهُ يَعني أنْ نكونَ مُتَّضِعين. فهذا هو مَعنى "المَساكين بالرُّوح". وما هي النَّتيجة؟ إنَّ الأسئلة المُتبقِّية قصيرة. لِذا، لا تقلقوا. ما هي النَّتيجة؟ انظروا وتأمَّلوا: "لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ". فالنَّتيجة رائعة: "لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ". فهذا إعلانٌ، يا أصدقائي، وليسَ أُمنية. فهذا هُوَ كُلُّ ما في الأمر. "لأنَّ لَهُمْ" ... وبالمُناسَبَة: لَهُمْ وَحْدَهُم الملكوت. لَهُمْ وحدَهُم.
إذًا، مِنْ نَصيبِ مَنْ مَلَكوتُ السَّماواتِ؟ فقط مِنْ نَصيبِ المَساكينِ بالرُّوح. والكلمة "لَهُمْ" تَعني: "لي أنا". فأنا مَشمولٌ بالكلمة "لَهُمْ". فقد جئتُ إلى المسيح مُعْتَرِفًا بأنِّي مُفْلِسٌ في حَياتي. وقد سَألتُ اللهَ المَرَّة تلوَ الأُخرى أنْ يُساعدني على أنْ أحيا كُلَّ يومٍ مِن حياتي في نفسِ ذلكَ التَّواضُع والاتِّكال. وأنا أرجو أن أكونَ كذلكَ كُلَّ يوم. وأنا أعرفُ أنِّي سَلَكْتُ في ذلكَ الطَّريقِ وأنَّ خَلاصي أبَدِيٌّ. فأنا جُزْءٌ مِن ذلك. لِذلك، هل تَعلمونَ ما الَّذي تقولُهُ هذه الكلماتُ لي؟ "طُوبى للمساكينِ بالرُّوح لأنَّ لَكُم مَلَكوتُ السَّماواتِ" – لي أنا...لي أنا. فأنا جُزْءٌ مِن ذلك. وهذا مُدهشٌ.
وبالمناسبة، فإنَّ الفِعْلَ هُنا يَرِدُ بصيغة المُضارع. فالملكوتُ لَهُمْ، ولي، ولَنا الآنْ. فنحنُ لا نتحدَّث فقط عنِ المُلْكِ الألفيِّ. صحيحٌ أنَّهُ سيأتي يومٌ يَتَحَقَّقُ فيهِ ذلك، ولكنَّهُ لكم الآن. وصَحيحٌ أنَّ هناكَ مُلْكًا ألفيًّا ستتحقَّق فيهِ وُعودُ الملكوتِ تحقيقًا كامِلاً وتامًّا؛ ولكنَّ الملكوتَ هُوَ الآن. وَمُلْكُ المسيحِ هُوَ الآن. والسَّعادة هي الآن. والغِبْطَة هي الآن. فملكوتُ السَّماواتِ هُوَ مُلْكُ المسيح. وهُناكَ بُعْدٌ مُستقبليٌّ مَسيحانيٌّ لهذا الملكوت. وهُناكَ بُعْدٌ حَاضِرٌ لَهُ أيضًا. فنحنُ الآنَ مَمْلَكَةُ كَهَنَة. ونحنُ الآنَ رَعايا يَسوعَ المسيح. ونحنُ الآنَ مُنْتَصِرون.
ونحنُ (كما جاءَ في الأصحاحِ الثَّاني مِنْ رِسالة أفسُس) نَجْلِسُ مَعَهُ في السَّماويَّاتِ ونَتمتَّعُ بِغِنى نِعْمَتِهِ ولُطْفِهِ علينا مِنَ الآنْ إلى أبدِ الآبِدين. فنحنُ نَتمتَّع بالنِّعمة الآن. اسمعوني: نحنُ نَتمتَّع بالنِّعمة الآن، نِعْمَة الملكوت. ونحنُ سنتمتَّع بالمجدِ لاحقًا. فالملكوتُ (كَما أراهُ) هو نِعْمَةٌ وَمَجْد. ونحنُ نَتمتَّع بالنِّعمة الآن، وسنتمتَّع بالمَجْدِ لاحقًا. ويا لهُ مِنْ حَقٍّ عظيم! وهل تَعلمونَ مَعنى أنْ يَكونَ الملكوتُ مِنْ نَصيبِكُم؟ هذا هو مَعنى هذه الكلمة: أنْ يَكونَ مِنْ نَصيبِكُم – أنْ تَمتلكوا الملكوت، وأنْ يَصيرَ مِنْ نَصيبِكُم. وما مَعنى سِيادَة المَسيح ومُلْك المسيح. أتَعلمونَ مَا مَعنى ذلك؟ أنَّكُمْ رَعِيَّتُه، وأنَّهُ يَعتني بكم، وأنَّهُ يُعطيكم ما تَحتاجونَ إليه ويُعطيكُم سُؤْلَ قُلوبِكُم.
وقد كَتَبَ أحدُ الأشخاص: "إنَّهُ يُبْقينا مُمْتَلِئينَ بِوَفْرَة، مُمتلئينَ نِعْمَةً، ورَحمةً، وقُوَّةً". وأيًّا كانتِ الأشياءُ الَّتي تنتظرُنا في الملكوت، فإنَّهُ حاضِرٌ الآنَ ويُعطينا مِنْ فَيْضِ غِناه. وهوَ أمينٌ دائمًا مَعَنا ويُعْطينا فَرَحًا لا يُنْطَقُ بِهِ لأنَّنا خَاصَّتُه. ونحنُ أغنياءَ روحيًّا. فنحنُ نَتمتَّع بكُلِّ بَركاتِه الرُّوحيَّة في السَّماويَّاتِ في المسيح. فهي هُنا والآن. وفي يومٍ ما، سنحصُلُ على المزيد".
حسنًا! لقد بَقِيَ أمامَنا سُؤالان. ومِنَ الضَّروريّ والمُهِمِّ أنْ نَعْرِفَ أنَّهُ إنْ كانَتِ المَسْكَنَةُ بالرُّوحِ تَعني الاتِّضاعَ، والإفلاسَ الرُّوحِيَّ، والشُّعورَ التَّامَّ بالعَجْزِ، اسمحوا لي أنْ أقولَ إنَّهُ لا يوجد شَيءٌ مُثيرٌ للاشمئزاز، وإنَّهُ لا يوجد شيءٌ يُثيرُ الغَثيانِ في قلبِ اللهِ أكثرَ مِنَ الكِبْرياءِ الرُّوحيَّة. فهي تُفْسِدُ كُلَّ ذلك. والتَّكَبُّرُ يَبْلُغُ مَداهُ حينَ تَظُنُّ أنَّكَ وَصَلْتَ إلى مُستوىً رُوحِيٍّ عَالٍ بسببِ أَدائِكَ على أيِّ صَعيدٍ كَان.
وقد بَقِيَ سُؤالانِ أخيران: كيفَ نَصيرُ مَساكينَ بالرُّوح؟ وقد تقول: "جون! أنا أَفْهَمُ الرِّسالةَ المَقصودة هُنا: أنْ أَكونَ مِسْكينًا بالرُّوح. ولكِنْ كيفَ أصيرُ مِسْكينًا بالرُّوح؟" حَسَنًا! لا تُحاول أنْ تَفعل ذلكَ بقُدرَتِك. فقد كانت هذه هي حَماقة الرَّهْبَنَة. فقد ظَنَّ هؤلاءِ الرُّهْبانُ جميعًا أنَّهُ يمكنهم أنْ يكونوا مَساكينَ بالرُّوحِ مِنْ خلالِ ذهابِهِم إلى مكانٍ مُنْعَزِلٍ، ومِنْ خلالِ بيعِ مُمتلكاتِهم، ومِنْ خلالِ ارتداءِ مَلابِسَ قَديمَة بالِيَة والجُلوسِ في دَيْرٍ في مَكانٍ ما دونَ امْتِلاكِ أيِّ شيء. لا! فقد كانت هذه هي حماقة التَّنَسُّك، والرَّهْبَنَة، وإنكار الذَّات، وَبَتْرِ أعْضاءِ الجسد. فقد راحَ البعضُ منهم يَقطعونَ بعضَ أعضاءِ جَسَدِهِم. وقد ظَنُّوا أنَّهم يُنْكِرونَ أنفسَهُم بتلكَ الطريقة ويَصيرونَ مَساكينَ بالرُّوح.
وبالمناسبة، لا يمكنك القيام بذلك مِن خلال النَّظر إلى نفسِك. كذلك، لا يمكنك القيام بذلك مِن خلال النَّظر إلى الآخرين. فلا تحاول أنْ تَجِد شخصًا آخر ليكونَ مِعْيارًا لك. فهناكَ مكانٌ واحدٌ فقط تنظر إليه إنْ أردتَ أنْ تكونَ مِسْكينًا بالرُّوح وهو أنْ تُرَكِّزَ على الله. فهذا هوَ الشَّيءُ الأوَّل. انظر إلى الله. واقرأ كلمَتَهُ. وَتَلاقى مَعَ شَخْصِهِ في صَفحاتِ الكِتابِ المقدَّس. انظر إلى المسيح. انظر إلى المسيحِ دائمًا. فحينَ تُرَكِّزُ نَظَرَكَ على يَسوعَ المسيحِ فإنَّكَ لا تَعودُ مُعْتَدًّا بنفسِك. لا تَعودُ مُعْتَدًّا بنفسِك.
ثانيًا، لا فقط أنْ تَنظُروا إلى اللهِ. فسوفَ أُعطيكم ثلاثة مبادئ بسيطة: إذا أردتُم أنْ تَعْرِفوا مَعنى أنْ تكونوا مَساكينَ بالرُّوح، انظروا إلى اللهِ عِوَضًا عنِ النَّظَرِ إلى أنفُسِكم أوْ إلى الآخرين. انظروا إلى الله. ثانيًا، أَمِيْتُوا الجَسَدَ. أَميتوا الجَسَد. فحَتَّى إنَّ الخِدْماتِ، حَتَّى إنَّ الخِدْماتِ في هذا الجيل تَتَغَذَّى على الكبرياء في حالاتٍ كثيرة. لِذلك، يجب علينا أنْ نَجِدَّ في طَلَبِ الأشياءِ الَّتي تُميتَ شَهْواتِنا الجسديَّة.
والحقيقة هي أنَّني اختبرتُ أُمورًا في حياتي الشخصيَّة قبلَ أَقَلِّ مِنْ سَنَة ساعَدَتْني في اعتقادي على فَهْمِ مَعنى ذلك. فَمِنَ الصَّعْبِ بالنِّسبةِ إليَّ أنْ أَخْتَبِرَ هذا النَّوعَ مِنَ المَسْكَنَةِ بالرُّوح. ولكنِّي أعتقد أنَّني فَهِمْتُ ذلك إلى الحَدِّ الَّذي طَلَبْتُ فيهِ حَقًّا الأشياءَ الَّتي تُميتُ جَسَدي. فكما تَعلمونَ، مِنَ السَّهْلِ عَلَيَّ أنْ أَقْبَلَ التَّقديرَ مِنَ الآخرين.
وَمِنَ السَّهلِ عليَّ أنْ أسمعَ الأصواتَ تقول: "شُكرًا لكَ يا جون. لقد تَبارَكْتُ بِعِظَتِك"، أو: "لقد خَلَصْتُ حينَ سَمِعْتُ عِظَتَك" أو: "إنَّ كَنيسَتَكَ رائعة"، أو: "ما أروعَ العِظَةَ الَّتي قَدَّمْتَها!". مِنَ السَّهلِ عليَّ أنْ أَقْبَلَ عباراتِ المَديحِ هذه. بل إنَّهُ مِنَ السَّهلِ جِدًّا أن أَقْبَلَ عباراتِ الإطراء. فلا حَاجَةَ إلى الصِّراعِ بهذا الخُصوص.
ولكنِّي شَعَرْتُ قبلَ فَتْرَة بِجُوْعٍ في قلبي. وكَما تَعلمونَ، قد يكونُ مِنَ السَّهْلِ جِدًّا على المرءِ أنْ يَشْعُرَ بالإشْفاقِ على الذَّاتِ وبالمَسْكَنَةِ. ولكنِّي شَعَرْتُ بجوعٍ في قلبي لطلبِ الأشياءِ الَّتي تُميتُ الجسد. وقد وَجَدْتُ نفسي تقريبًا راغبًا في أنْ أَنْطَرِحَ على وَجْهي على الأرضِ لأنَّ ذلكَ قادَني إلى حَضْرَةِ اللهِ. وفي حَضْرَةِ اللهِ، وَجَدْتُ نَفسي مُعْوَزًا.
فقبلَ وقتٍ ليسَ بالطَّويل، واجَهَني أشخاصٌ بأمورٍ فَعَلْتُها وأَزْعَجَتْ بعضَ النَّاسِ جِدًّا. وقد كانَ رَدُّ فِعلي الأوَّل هو أنَّ ذلكَ يُؤلِمُني جِدًّا لأنَّني إنْ كُنْتُ قد أخطأتُ فإنِّي لم أَتَعَمَّد أنْ أُخْطِئ. وفجأةً، ابتدأَ اللهُ يُكَلِّمُ قلبي عن حقيقة أنَّني بحاجة إلى ذلك أكثرَ مِنْ أيِّ شيءٍ آخر. فقد كنتُ بحاجة إلى مَنْ يُواجِهني بحقيقة أنَّني لا شيء. وقد أَدْرَكْتُ أنَّ كُلَّ الأشياءِ الَّتي حَلُمْتُ بها يومًا أوْ تَمَنَّيتُ القيامَ بها لأجْلِ اللهِ (وهي، بالمُناسَبَة، أُمورٌ لا يَحْتاجُ اللهُ إلَيَّ للقيامِ بها لأنَّهُ قادرٌ أنْ يَقومَ بها بنفسه مِنْ خلالي)، أنَّ كُلَّ شَيءٍ يُمْكِنْ أنْ يَختفي بِلَمْحِ البَصَر. وحينَ أدركتُ بُؤسي، وخسارتي، وإخفاقي، وحماقتي، وأنَّ ما فَعَلْتُهُ كانَ خاطِئًا، شَعرتُ براحةٍ أكبر جِدًّا مِنْ تلكَ الَّتي أشعرُ بها حينَ أَسْمَعُ كلماتِ الإطراء.
وقد يُساعدكم ذلك في إِماتَةِ الجسد. وسوفَ أذكُرُ نُقطةً ثالثةً. وهذه أشياء أراها في حياتي الشخصيَّة. فيجب عليَّ أنْ أنظُرَ إلى اللهِ طَوالَ الوقتِ. ثانيًا، يجب عليَّ أنْ أُميتَ الجسد. فأنا لا أريدُ أنْ أَتَلَهَّفَ إلى الأشياءِ الَّتي هِيَ مُجَرَّد إطراء. ولكِنْ هُناكَ شَيءٌ ثالثٌ أعتقد أنَّهُ بسيط وَهُوَ أنْ نَطْلُب. فهل تُريدُ أنْ تكونَ مِسْكينًا بالرُّوح؟ اطْلُب. فهناكَ صِفَة واحدة يَتمتَّعُ بها المُتَسَوِّل. فهو يَفعل ماذا دائمًا؟ يَطْلُب. هل لاحَظتُم ذلك؟ فهو دائمًا: يَطْلُب: "وَأَمَّا العَشَّارُ فقال: اللّهُمَّ ارْحَمْنِي، أَنَا الْخَاطِئَ". وقد قالَ يسوع: "إِنَّ هذَا نَزَلَ إِلَى بَيْتِهِ مُبَرَّرًا". طُوْبَى للمَساكينِ بالرُّوح لأنَّ لَهُمْ مَلَكوت السَّماوات. ولماذا ابتدأَ يسوعُ بهذا الكلام؟ لأنَّهُ لُبُّ الأمر.
وما مَعنى المَسْكَنَة بالرُّوح؟ إنَّها تَعني أنْ تكونَ مُفْلِسًا رُوْحِيًّا، وأنْ تَعْلَمَ ذلك. وما هي النَّتيجة؟ أنَّكَ تَصيرُ مَالِكًا للملكوتِ هُنا والآنْ وإلى الأبد. وكيفَ تَصيرُ مِسْكينًا بالرُّوح؟ انظُر إلى اللهِ، واحْرِصْ على إِمَاتَةِ الجَسَد، واطْلُبْ. تَوَسَّل! فهو لم يُمانِع ولو قليلاً.
ونأتي إلى السُّؤالِ الأخير: كيفَ أَعْرِفُ إنْ كُنْتُ مِسْكينًا بالرُّوح؟ كيفَ تَعْرِفُ أنَّكَ مِسْكينٌ بالرُّوح؟ فيجب عليكَ أنْ تَفْحَصَ نَفسَك. وكيفَ تَعْرِفُ ذلكَ حقًّا؟ سوفَ أُقَدِّمُ لكم سبعة مبادئ. وسوفَ أذْكُرُها بإيجاز. فكيفَ أعلَمُ أنِّي مِسْكينٌ بالرُّوح؟ أنْ تَكونَ مَفْطومًا عَنْ ذاتِكَ. أنْ تَكونَ مَفْطومًا عَنْ ذاتِكَ. فنحنُ نَقرأُ في المزمور 131: 2: "نَفْسِي نَحْوِي كَفَطِيمٍ". ويا لها مِنْ فِكرةٍ رائعة!
فالشخصُ المِسْكينُ بالرُّوح يَفْقِدْ شُعورَهُ بِذاتِه. فالذَّاتُ تَختفي. إنَّها تَختفي. فكُلُّ تَفْكيرِكَ يَنْحَصِرُ في اللهِ، وفي مَجْدِهِ، وفي الآخَرينَ واحتياجاتِهِم. فالذَّاتُ تَختفي. فأنْتَ تكونُ مَفْطومًا عن ذاتِكَ. ثانيًا: أنْ تَكونَ مَسْبِيًّا بِرَوْعَةِ المَسيح. أنْ تَكونَ مَسْبِيًّا بِرَوْعَةِ المسيح. فسوفَ تَكونونَ كما جاءَ في رسالة كورِنثوس الثانية 3: 18: "نَاظِرِينَ مَجْدَ الرَّبِّ". وسوفَ تقولون: "أَرِنا الربَّ وَكَفانا". وسوفَ تَقولون: "أَشْبَعُ إِذَا اسْتَيْقَظْتُ بِشَبَهِكَ". أنْ تَكونَ مَسْبِيًّا بِرَوْعَةِ المَسيح.
ثالثًا: إذا كنتَ مِسْكينًا بالرُّوح، لن تَتَذَمَّرَ يومًا على أَحْوالِك. البَتَّة. أتَعْلَم لماذا؟ لأنَّكَ لا تَستحقُّ أيَّ شيءٍ بأيِّ حالٍ مِنَ الأحوال. أليسَ كذلك؟ فما الَّذي لديكَ لِتُقَدِّمَهُ؟ والحقيقةُ هي أنَّهُ كُلَّما زادَتْ قَسْوَةُ أَحْوالِكَ، زَادَتْ حَلاوَةُ النِّعْمَة. وكُلَّما زادَتْ حاجَتُكَ، زادَتْ وَفْرَةُ ما يُقَدِّمُهُ لَك. فعندما تَكونُ بحاجةٍ إلى كُلِّ شيءٍ فإنَّكَ تَصيرُ في مَرْكَزٍ يُتيحُ لكَ الحُصولَ على كُلِّ نِعْمَةٍ. فلا تُوْجَد أيُّ مُعَطِّلات. أَتَرَوْن؟ فسوفَ تَتألَّم دونَ أنْ تَتَذَمَّرَ لأنَّكَ لا تَستحقُّ أيَّ شيء. وفي الوقتِ نفسِه، فإنَّكَ تَطلُب نِعْمَتَهُ.
إذًا، كيفَ تَعلم أنَّكَ مِسْكينٌ بالرُّوح؟ سوفَ تَكونُ مَفْطومًا عن نفسِك، وسوفَ تَكونُ مَسْبِيًّا بِرَوْعَةِ المسيح، ولن تَتذمَّر على أحوالِكَ لأنَّهُ كُلَّما زَادَ أَلَمُك، زَادَتْ حَلاوَةُ النِّعْمَة.
رابعًا: أنْ تَرى فقط جَوانِبَ القُوَّةِ في الآخرينَ وجَوانِبَ الضَّعْفِ فيك. أنْ تَرى فقط جَوانِبَ القُوَّةِ في الآخرينَ وجَوانِبَ الضَّعْفِ فيك. فالمِسْكينُ بالرُّوحِ، أيِ الشَّخصُ المُتواضِعُ حَقًّا، هو الشخصُ الوحيدُ الَّذي يُقَدِّرُ جَميعَ الأشخاصِ الآخَرين.
خامسًا: أنْ تَصرِفَ وقتًا أطوَل في الصَّلاة. لماذا؟ لأنَّ المُتَسَوِّلَ يَتَسَوَّلُ دائمًا. فهو يَطْرُقُ في أغلبِ الأوقاتِ على بابِ السَّماءِ ولا يَتوقَّف إلَّا بعدَ أنْ يَأخُذَ البَرَكة. فهل تُريدُ أنْ تَعْرِفَ إنْ كُنْتَ مِسْكينًا بالرُّوح؟ هل أنتَ مُفْطومٌ عن نَفسِكَ؟ وهل أنتَ مَسْبِيٌّ بِرَوْعَةِ المَسيح؟ وهل أنتَ لا تتذمَّر البَتَّة أيًّا كانَتِ الأحوال؟ وهل تَرى فقط جَوانِبَ القُوَّةِ في الآخَرينَ وجَوانِبَ الضَّعْفِ فيكَ؟ وهل تَصرِف وقتًا طويلاً في اسْتِجْداءِ النِّعْمَة.
سادسًا: إذا كنتَ مِسْكينًا بالرُّوح، ستَقْبَل المَسيحَ بشُروطِهِ هُوَ، لا بِشروطِكَ أنتَ. ستَقْبَل المَسيحَ بشُروطِهِ هُوَ، لا بِشروطِكَ أنتَ. فالخاطِئُ المُتَعَجْرِفُ قد يَقبَلُ المَسيحَ في أوقاتِ فَراغِهِ، وقد يَقْبَلُ المسيحَ دُوْنَ أنْ يَتَخَلَّى عن شَهَواتِهِ، وقد يَقبَلُ المسيحَ دونَ أنْ يَتخَلَّى عن فَسادِهِ الأخلاقِيِّ. ولكِنَّ المِسْكينَ بالرُّوحِ هوَ شخصٌ يائِسٌ جِدًّا حَتَّى إنَّهُ مُستعِدٌّ للتخلِّي عن أيِّ شيءٍ لكي يَرْبَحَ المسيح. أَتَرَوْن؟
لِذا فإنَّ "توماس واطسون" (Thomas Watson) يقول: "القَلْعَةُ الَّتي مَضَى على حِصَارِها وقتٌ طَويلٌ وصارَت جاهزةً للاحتلال ستَستسلِم بأيَّة شُروط لكي تَنْجو بحياتِها. وقد يَسْمَحُ الشَّخصُ لقَلْبِهِ أنْ يَكونَ مَعْقِلاً لإبليس ويَظَلُّ يُقاوِمُ المسيحَ وقتًا طويلاً. لذلك، حالَما يُعْطيهِ اللهُ النِّعمةَ لكي يكونَ مِسْكينًا بالرُّوحِ ويَرى نفسَهُ مَلْعونًا مِنْ دُوْنِ المسيح، فإنَّهُ يَسْمَحُ للهِ أنْ يَتَمَجَّد، ويَسْمَحُ للهِ أنْ يَفْعَلَ مَا يَشاء. فهو سيقولُ لَهُ ببساطة: ’يَا رَبُّ، مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَل؟‘" وقد كانَ واطسون مُحِقًّا. فالشَّخصُ المِسْكينُ بالرُّوحِ يَقْبَلُ المسيحَ بِشُروطِ المَسيح.
سابعًا وأخيرًا: عندما تكونُ مِسكينًا بالرُّوح، سَتُسَبِّحُ اللهَ وتَشْكُرُهُ على نِعمَتِه. وإنْ كانت هناكَ صِفَة واحدة يَتَّصِف بها المِسْكينُ بالرُّوح فهي الشُّعورُ بالامتنانِ الشَّديدِ لله. لماذا؟ لأنَّ كُلَّ شيءٍ لديكَ هُوَ عَطِيَّة مِنْه. لِذا، نَقرأُ في رسالة تيموثاوس الأولى 1: 14 أنَّ الرَّسولَ الحَبيبَ بولُس يقول: "وَتَفَاضَلَتْ نِعْمَةُ رَبِّنَا جِدًّا". فالمَساكين بالرُّوح يَمْتَلِئونَ بالشُّكْر.
إذًا، كيفَ تَعْلَم أنَّكَ مِسْكينٌ بالرُّوح؟ ولماذا تَبتدئُ التَّطويباتُ بهذه التَّطويبة؟ لأنَّها الأساس. وما مَعْنى المَسْكَنَة بالرُّوح؟ إنَّها الشُّعورُ العَميقُ بالإفلاسِ الرُّوْحِيِّ. وما هي نَتيجَتُها؟ امتلاكُ مَلَكوتِ السَّماواتِ في الحاضِر. وكيفَ أَصيرُ مِسْكينًا بالرُّوح؟ بأنْ أَنْظُرَ إلى اللهِ، وأُميتَ الجَسَد، وأُصَلِّي. وكيفَ أَعْلَمُ أنِّي مِسْكينٌ بالرُّوح؟ لقد شَارَكْتُ ذلكَ مَعَكُمْ للتَّوّ. فسوفَ تَكونُ مَفْطومًا عن نفسِك، ومَسْبِيًّا بِرَوعةِ المسيح، ولا تتذمَّر مِنْ أحوالِك، وتَرى جوانبَ القُوَّة في الآخرين وجوانبَ الضَّعفِ فيك. وسوفَ تَصْرِفُ وقتًا أطول في الصَّلاة، وتَقْبَلُ المسيحَ بشُروطِهِ هُوَ، وتَشْكُرُ اللهَ على كُلِّ شيء.
وقد لَخَّصَ كاتِبُ هذه التَّرنيمةِ ذلكَ لنا فقال: "لا يوجدُ في يَدِي ما أُقَدِّمَهُ". ثُمَّ ماذا يقولُ بعدَ ذلك؟ "بل أَتَمَسَّكُ فقط بِصَليبِك". لِنَحْنِ رُؤوسَنا حَتَّى نُصَلِّي.
نُصَلِّي، يا أبانا، ألَّا تكونَ هُناكَ أُمورٌ مُصْطَنَعَة في حياتِنا، وألَّا نَسْعَى إلى إفْقارِ أنْفُسِنا بأنْفُسِنا، بل أنْ نَعْرِفَ المَعنى الحقيقيَّ للمَسْكَنَة بالرُّوح. ساعِدنا، يا رَبّ، على أنْ نَعْرِفَ ما قالَهُ بولُس: "وَلكِنْ لاَ أَنَا، بَلْ نِعْمَةُ اللهِ الَّتِي مَعِي". فقد كُنَّا مُجَدِّفين. وقد كُنَّا بِلا تَقوى. وقد كُنَّا غيرَ مُسْتَحِقِّين (وما نَزالُ كذلك). لذا ساعِدنا، يا رَبُّ، على أنْ نَعرفَ أنَّنا لا نَستطيعُ سِوى بِنِعْمَتِكَ أنْ نُوْجَدَ في مَلَكوتِك.
وإنْ كانَ يوجد بيننا في هذا المساء أشخاصٌ لم يَدخُلوا بعد مَلَكوتَكَ لأنَّهم ليسوا مُستعدِّينَ للقيام بأصعبِ شيءٍ في حياتِهِم (أيْ أنْ يقولوا: "لا أستطيع! لا أستطيعُ أنْ أُرضي اللهَ! ولا أستطيعُ أنْ أُطَبِّقَ وَصاياه! ولا أستطيعُ أنْ أُطَبِّقَ شَرائِعَهُ! ولا أستطيعُ أنْ أحيا بهذه الطريقة)، ليتَ هذا الوقتَ يكونُ الوقتَ الَّذي يَنْطِقونَ بِهِ بهذه الكلمات. وحينَ يُقِرُّونَ بِعَجْزِهِم، ليتَهُم يَعلمونَ أنَّكَ أنْتَ تسْتطيعُ. فأنتَ تَستطيعُ بِقُدرتِك أنْ تُعطيهم القُوَّة مِنْ خلالِ المسيحِ لكي يَفعلوا ما هُمْ عاجِزونَ عَنْ فِعْلِهِ بأنفُسِهم.
ونحنُ نَشكُرُكَ، يا أبانا، لأنَّ أشخاصًا كثيرينَ مِنَّا جاءوا عندَ الصَّليب حيثُ زَحَفْنا إلى مَلَكوتِكَ في اتِّضاعٍ ونحنُ نَشْعُرُ بأنَّنا لا شَيء وبعدمِ استحقاقِنا. وبعدَ أنْ دَخَلْنا، يا رَبّ، رأينا ما فَعَلْتَهُ مِنْ خلالِنا. فَمِنَ السَّهلِ جِدًّا أنْ نكونَ مُتَكَبِّرينَ ومَغرورينَ. ونحنُ نَنسى، يا رَبُّ، أنَّنا استَمَرَّينا بالاحتفاظِ بتلكَ النِّعمةِ وبالاحتفاظِ بتلكَ السَّعادَةِ مِنْ خِلالِ الاحتفاظِ بِتِلْكَ المَسْكَنَةِ بالرُّوحِ.
افْطُمْنا عنْ أنفُسِنا. واجْعَلْنا مَسْبِيِّينَ بِرَوْعَةِ المَسيح حَتَّى نَكونَ حَقًّا مَساكين بالرُّوح، وحَتَّى نَدْخُل مَلَكوتَكَ ونَحْظَى بِالغِبْطَةِ وبِالبَرَكَةِ والسَّعادَةِ الَّتي هِيَ مِنْ نَصيبِ المَساكينِ بالرُّوح. وليتَنا نكونُ مُختلفينَ جِدًّا عنِ العَالَمِ حَتَّى يَرَوْا بوضوحٍ أنَّنا نَنْتَمي إليكَ. باسْمِ المسيح. آمين.

This article is also available and sold as a booklet.