
إنجيل مَتَّى (الأصحاح الخامِس والعدد 8). وأودُّ أنْ أقرأَ على مَسامعكم كُلَّ الآياتِ في التَّطويبات لكي تُهَيِّئوا أذهانَكم، ثُمَّ سنُصَلِّي معًا ونتأمَّل معًا في هذه الآية المُنفردة. فابتداءً بالعدد الأوَّل، يَكْتُبُ مَتَّى: "وَلَمَّا رَأَى الْجُمُوعَ صَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ، فَلَمَّا جَلَسَ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلاَمِيذُهُ. فَفتحَ فاهُ وعَلَّمَهُمْ قَائِلاً: ’طُوبَـى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. طُوبَـى لِلْحَزَانَى، لأَنَّهُمْ يَتَعَزَّوْنَ. طُوبَـى لِلْوُدَعَاءِ، لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ. طُوبَـى لِلْجِيَاعِ وَالْعِطَاشِ إِلَى الْبِرِّ، لأَنَّهُمْ يُشْبَعُونَ. طُوبَـى لِلرُّحَمَاءِ، لأَنَّهُمْ يُرْحَمُونَ. طُوبَـى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ، لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللهَ. طُوبَـى لِصَانِعِي السَّلاَمِ، لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللهِ يُدْعَوْنَ. طُوبَـى لِلْمَطْرُودِينَ مِنْ أَجْلِ الْبِرِّ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. طُوبَـى لَكُمْ إِذَا عَيَّرُوكُمْ وَطَرَدُوكُمْ وَقَالُوا عَلَيْكُمْ كُلَّ كَلِمَةٍ شِرِّيرَةٍ، مِنْ أَجْلِـي، كَاذِبِينَ. اِفْرَحُوا وَتَهَلَّلُوا، لأَنَّ أَجْرَكُمْ عَظِيمٌ فِي السَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُمْ هكَذَا طَرَدُوا الأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ‘". لنشترِك معًا في الصَّلاة:
يا أبانا، نأتي إليكَ في هذا المساء بشُعورٍ عميقٍ بالحاجة في حياتِنا الشَّخصيَّة. وكُلُّ ما يَتطلَّبُهُ الأمرُ هو نَظرة خاطِفة إلى هذه الآية لكي نَعرف أنَّنا، في أنفُسِنا، لا يمكن أنْ نكونَ مُؤهَّلين لأنَّهُ توجد في حياتِنا، يا رَبّ، أمورٌ غير طاهرة، ولأنه توجد دائمًا أمورٌ غير صحيحة. ونحنُ، يا رَبّ، أشخاصٌ نَشعُرُ بالجوعِ والعطشِ إلى البِرّ. وهو بِرٌّ نَعلمُ أنَّ حُصولَنا عليهِ بأنْفُسِنا هو مِنْ رَابِعِ المُستحيلات. ونحنُ نَتوقُ إلى أنْ نكونَ أنقياءَ القلبِ، يا رَبّ؛ ولكِنَّ المعركة صَعبة جدًّا. والنَّقاوة الَّتي نَسعى إليها خادِعَة جِدًّا. فحينَ نَظُنُّ أنَّنا قد حَصلنا عليها، فإنَّنا نَفْقِدُها. لذا، صَلاتي، يا رَبّ، هي أنْ تُساعِدَني مِن خلالِ النُّورِ الفاحِصِ لكلمةِ اللهِ العاملةِ بواسطةِ رُوْحِ اللهِ القُدّوُسِ على إنْ أفْحَصَ حياتي الشَّخصيَّة في هذا المساء. وساعِد كُلَّ شخصٍ مِنَ الأحبَّاءِ المُجتمعينَ هُنا على أنْ يَفحصَ حياتَهُ أيضًا.
وقبلَ كُلِّ شيءٍ، أنا مُمتنٌّ جدًّا، يا أبي، لأنَّ هؤلاءِ النَّاسَ يأتونَ لكي يَعرفوا الحَقَّ الَّذي تُعَلِّمُهُ هذه الكلمة. أشكُرُكَ على هؤلاءِ الأشخاصِ الَّذينَ يَفحصونَ حياتَهُم في ضَوْءِ كلمَتِك إذْ إنَّهُم يأتونَ لا ليَسمعوا أمورًا مُدهشةً تُناقَشُ هُنا، ولا ليَسمعوا بعضَ الأفكارِ الَّتي لا صِلَةَ لها بالحياةِ، ولا ليسمعوا أمورًا تُداعِبُ مُخَيِّلاتِهم، بل يأتونَ لأنَّهم يَعلمونَ أنَّ ما سيَسمعونَهُ يَختصُّ بنقاوةِ القلبِ ولأنَّهم يريدونَ أنْ يَفحَصوا حَياتَهُم في نُوْرِ كلمةِ اللهِ. وأنا شَكورٌ جِدًّا، يا رَبّ، على هذهِ الرُّوح لأنِّي أَعلمُ أنَّكَ تَستطيعُ أنْ تَعْمَلَ في مِثلَ هذا الموقفِ القَلبيِّ، وأنَّكَ تَستطيعُ أنْ تُكَمِّلَ هذا النَّوعَ مِنَ الأشخاصِ، وأنْ تُشَكِّلَهُمْ وتُعطيهم نُضْجًا لكي يَتَمَثَّلوا أكثرَ فأكثرَ بيسوعَ المسيح. لذا، صلاتي، يا رَبّ، هي ألَّا تكونَ كلماتي كلماتِ إنسان، وألَّا أتكلَّمَ بقوَّةِ ذهني وبقدرتي الشَّخصيَّة، بل أنْ أكونَ مُجَرَّدَ فَمٍ يَستخدِمُهُ روحُ اللهِ للتكلُّم. وليتَنا لا نُصغي إلى أيِّ حِكمةٍ بشريَّة، بل ليتَنا نُصغي إلى صَوْتِ اللهِ. وليتَنا لا نُطَبِّقُ الحَقَّ على الآخرينَ، بل أنْ نُطَبِّقَهُ فقط على أنفُسِنا. أعْطِنا الأمانَةَ لكي نَفعل ذلك. وساعِدنا على ألَّا نُفَكِّرَ في تطبيقِ ذلك على أيِّ شخصٍ آخر، بل فقط على أنفُسِنا. ونحنُ نُصَلِّي، يا أبانا، أنْ نكونَ في نهايةِ دراسَتِنا هذهِ مُؤهَّلينَ تأهيلاً أفضل لِخِدمتِك، ومُكَرَّسينَ لتمجيدِكَ أكثرَ مِنْ أيِّ وقتٍ مَضى. وبهذا التَّرَقُّب، نَشكرُكَ على ما سَتَصْنَع. باسْمِ المَسيح. آمين!
هناكَ بعضُ الأشياء في الكتاب المقدَّس تَشعرونَ أنَّهُ بمقدوركم أنْ تَحتملوها. فهناكَ حقائق في الكتاب المقدَّس تَشعرونَ أنَّهُ بمقدوركم أنْ تَستوعبوها وأنْ تُشاركوها معَ الآخرين. ولكِنْ توجد أمورٌ أخرى تبدو أنَّها آبارٌ لا قَعْرَ لها. فهي آبارٌ لا يُسْبَرُ عُمْقُها. وهي حقائق لا يمكننا أنْ نَفْهَمَ اتِّساعَها. وهذا الحَقُّ واحدٌ مِنها. وأنْ نحاولَ أنْ نَدرسَ جُملةً كهذه "طُوبَـى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ، لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللهَ" في وقتٍ قصيرٍ هي إهانة للهِ، وإهانة لقُوَّة وعُمق وغِنى كلمتِه. فهذا القَوْلُ هُوَ، في رأيي، واحدٌ مِن أعظمِ الأقوالِ في كُلِّ الكتاب المقدَّس. ولا يمكنني بأيِّ حالٍ مِنَ الأحوالِ أنْ أبتدئَ في دِرَاسَتِهِ؛ فَكَمْ بالحَرِيِّ أنْ أُمَحِّصَهُ. فهو واحدٌ مِن تلكَ التَّعاليمِ العَميقةِ جدًّا الَّتي تَتَخَطَّى أيَّ شيءٍ آخر مُعْلَن في الكتاب المقدَّس.
فيُمكِنُنا أنْ نَتَتَبَّعَ موضوعَ "طَهارَةِ القلبِ" مِن بدايةِ الكتاب المقدَّس إلى نهايتِه، أو كما قالَ طِفْلٌ صَغيرٌ: "مِنْ سِفْرِ التَّكويرِ إلى سِفْرِ الرُّؤبا". ففكرةُ أهميَّةِ نَقاوةِ القلبِ مِنْ أجلِ مُعايَنَةِ اللهِ هي فكرةٌ عَظيمةٌ لا يُسْبَر غَوْرُها. وهي تَرتبط تقريبًا بكُلِّ فِكرة كتابيَّة أخرى. لذا، لا يمكننا بأيِّ حالٍ مِنَ الأحوالِ أنْ نُلِمَّ بهذا الموضوعَ مِنْ جَميعِ جوانِبِه. ولكنَّنا تَضَرَّعنا إلى اللهِ أنْ يُساعِدَنا في التَّركيزِ، على أقلِّ تَقدير، على المَعنى الرَّئيسيِّ الَّذي سيكونُ غَنِيًّا وذا مَغزى بالنِّسبة إلينا.
ونَحْنُ نَتْبَعُ في دراسةِ التَّطويباتِ طريقةَ طَرْحِ الأسئلةِ والإجابةِ عنها. وكما قُلنا لكم، لا يمكنكم أنْ تَضَعُوا مُخَطَّطًا لجُملة بسيطة كهذهِ في الحقيقة. فكُلُّ ما ينبغي أنْ تَفعلوه هو أنْ تُفَكِّكوها. وأنا أَجِدُ أنَّ أفضلَ طريقةٍ لدراسةِ نَصٍّ كهذا هي مِنْ خلالِ طَرْحِ الأسئلة. وهذا هو ما أفعلُه. والحقيقة هي أنَّ ما أُقَدِّمَهُ لكم في هذه الأسابيع هو، ببساطة، الأسئلة الَّتي طَرَحْتُها أثناءَ دراستي لهذه الآيات. والسُّؤالُ الأوَّلُ الَّذي طَرَحْتُهُ عن هذه الآية هو الآتي: ما هو سِياقُ هذه الكلمات؟ فما هي الظُّروفُ الَّتي قالَها يسوعُ فيها؟ أوَّلاً: سِياقُها التَّاريخيُّ؛ أيْ: ما الَّذي أَشارَ إليهِ يسوعُ؟ وما المسألة الَّتي كانَ يتحدَّثُ عنها حينَ قالَ ذلك؟ وليسَ هذا فحسب، بل أيضًا التَّسلسُلَ الزَّمنيَّ. فلماذا تأتي هذه الكلماتُ هُنا في لائحةِ التَّطويبات؟ وفي نَظري، يبدو أنَّ هذه النُّقطة رئيسيَّة جدًّا، ورائعة جدًّا ومُهِمَّة جدًّا جدًّا حَتَّى إنَّها لا تبدو في المكانِ الصَّحيحِ أوَّلَ وَهْلَة إذْ قد نَظُنُّ أنَّها وُضِعِتْ في ذلكَ المكانِ بالخطأ. فأنا أتساءَلُ لماذا لم توضَع في مكانٍ أكثر أهميَّة؛ رُبَّما في البداية أوِ الوَسَط أوِ النِّهاية!
إذًا، ما هي الخلفيَّة وما هو سِياقُ هذه الكلمات؟ أوَّلاً: تاريخيًّا، ثُمَّ: أدبيًّا؟ والآنْ، لننظر إلى التَّاريخِ أوَّلاً. ولا حاجةَ إلى أنْ أَصْرِفَ وقتًا طويلاً جدًّا في الحديثِ عن ذلك لأنَّكم لا بُدَّ أنَّكُمْ قد فَهِمْتُهم التَّاريخَ فهمًا رائعًا أثناءَ دراستنا للخلفيَّة الَّتي تَكَلَّمَ فيها رَبُّنا هُنا. ولكنِّي سأحاولُ أنْ أُنْعِشَ ذاكِرَتَكُم. ولعَلَّكُم تَذكرونَ، قبلَ كُلِّ شيءٍ، أنَّهُ في الوقتِ الَّذي جاءَ فيهِ يسوعُ المسيحُ إلى العالمِ، وفي الوقتِ الَّذي ابتدأَ فيهِ خِدْمَتَهُ في الجليل وأورُشليم، كانَ بَنو إسرائيلَ في حالة يائسة؟ فقد كانوا في حالة يائسة اقتصاديًّا، وسياسيًّا، والأهمُّ مِن ذلك: رُوحيًّا. وقد تَحدَّثنا بإسْهابٍ كبيرٍ عنِ الحالة السِّياسيَّة في إسرائيل. وقد تحدَّثنا عن حقيقة أنَّهم كانوا يَترقَّبونَ مَجيءَ مَسِيَّا يَعْمَلُ على تأسيسِ كِيانٍ سياسيٍّ، وعلى الإطاحةِ بالاحتلالِ الرُّومانيّ، وعلى تأسيسِ الملكوت. وقد تحدَّثنا عن ذلك. ولكنِّي أريدُ في هذا المساء أنْ أُرَكِّزَ نوعًا ما على حالةِ بني إسرائيلَ الرُّوحيَّة في الوقتِ الَّذي جاءَ فيهِ يسوعُ لأنَّ هذه هي المسألة الَّتي يُعالِجُها رُبُّنا بصورة رئيسيَّة في العِظَة على الجَبَل. فهو يَتحدَّثُ عن أمورٍ روحيَّةٍ هُنا. وهي ليست سياسيَّة، وليست اقتصاديَّة؛ بل رُوحيَّة؛ ولا سِيَّما العدد الثَّامِن. فهذه التَّطويبة تَتَحَدَّثُ في جوهَرِها عن واقعٌ رُوحيٍّ.
والآنْ، سوفَ أتحدَّثُ عنْ حالةِ إسرائيلَ الرُّوحيَّة في الوقتِ الَّذي ابتدأَ فيهِ يسوعُ خِدمتَه. فقد كانَ الأغلبيَّة منهم يَتعرَّضونَ للقَمْعِ بسببِ الشَّخصيَّةِ القاسيةِ للفَرِّيسيِّين. فقد كانَ التَّأثيرُ الأكبر والهَيْمَنةُ الأعْظَم على بني إسرائيل في زمنِ خِدمةِ المسيح يُمارَسانِ مِنْ قِبَلِ الفَرِّيسيِّين. والحقيقة هي أنَّ النِّظامَ النَّاموسيَّ يَميلُ غالبًا إلى الهَيمنةِ على الأمور في كُلِّ مَكانٍ يُوجدُ فيه. وَهُوَ يَميلُ إلى رَسْمِ مِثْلِ هذهِ الحُدودِ المُطْلَقَةِ حَوْلَ الأشياءِ المَقبولة رُوحيًّا فتَصيرُ سِمَتُهُ السَّائدةُ (بسببِ الشَّخصيَّةِ الصَّارمةِ) هي القَمْعُ والهَيْمَنَة. لِذا، في هذا الوقتِ تَحديدًا مِن تاريخِ بني إسرائيل، كانَ الفَرِّيسيُّونَ القُوَّةَ المُهيمِنَة على حياةِ الشَّعب. وبسببِ عدمِ قدرتهم على حِفْظِ ناموسِ مُوسى، ابتكروا قوانينَ جديدة يمكنهم أنْ يُمارسوها لكي يُسَكِّنوا ضَمائرَهم مِن خلالِ حِفْظِ تقاليدهم البشريَّة ما داموا عاجِزينَ عنْ حِفْظِ نواميسِ الله. وبسببِ سُوْءِ تفسيرهم لشريعةِ مُوسى، وبسببِ الالتزامِ الظَّاهريِّ بشريعة موسى، وبسببِ التَّقاليدِ الَّتي أَضافوها إلى شريعةِ مُوسى، فَرَضُوا نِظامًا قاسيًا وصَارِمًا جدًّا مِنَ الواجباتِ الناموسيَّة على النَّاس. وبالمُناسبة، كانَ مِنَ المُستحيل أنْ يُطَبِّقَ النَّاسُ تلكَ التَّقاليد. وكانَ ذلكَ الأمرُ واحدًا مِن أسبابِ إحباطِ النَّاموسيِّ الَّذي جاءَ إلى يسوعَ وقالَ لهُ أخيرًا، في مُحاولةٍ أخيرةٍ للانصياعِ إلى النِّظامِ النَّاموسيِّ الَّذي عَجِزَ عن تطبيقِه: "يَا مُعَلِّمُ، ما أهَمُّ شيءٍ ينبغي أنْ نَفعلَه؟ فقط اذكُر لي شيئًا واحدًا يمكنني أنْ أَفعلهَ لكي أُرْضيك. ما هو هذا الشَّيء الواحِد؟" فقالَ لهُ الربُّ: "هذا سَهْلٌ. تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَقَرِيبَكَ مِثْلَ نَفْسِكَ. فإنْ فَعلتَ ذلكَ تكونُ قد حَفِظْتَ النَّاموسَ والأنبياء".
ولكِنَّ الأمرَ لم يكن سَهلاً جدًّا. أليسَ كذلك؟ ولكنَّهُ كانَ ناموسِيًّا مُحْبَطًا وَصَلَ إلى تلكَ النُّقطة لأنَّه لم يكن بمقدورهم أنْ يَحفظوا كُلَّ النَّاموس. والحقيقة هي أنَّ القادةَ أنفسَهم قَرَّروا (وهذا شيءٌ يمكنكم أنْ تَكتشفوهُ بأنفُسِكم إنْ كُنتُم تَقرأونَ التَّاريخ) أنَّهُ إنْ كانَ بمقدورِكَ أنْ تَحفظَ بِضعة شرائعَ فقط، فإنَّ اللهَ سَيَتَفَهَّمُ الأمر. ثُمَّ إنَّهم عَجِزوا حتَّى عنِ القيامِ بذلك. لذا فقد قالوا إنَّهُ إنْ كانَ بمقدورِكَ فقط أنْ تَختارَ شريعةً واحدةً وأنْ تَحْفَظَها، فإنَّ اللهَ سيَتفهَّمُ الأمرَ. وهذا هو ما قَصَدَهُ ذلكَ النَّاموسيُّ. ما الشَّيءُ الواحدُ الَّذي أستطيعُ أنْ أفعلَه؟ والشَّيءُ المُدهشُ هو أنَّهُ حينَ تَنظرونَ إلى كُلِّ النَّاسِ في إسرائيل، مِنَ الواضحِ لي أنَّهم كانوا مُحْبَطينَ بسببِ نِظامٍ نَاموسيٍّ كانوا عاجِزينَ عنْ حِفْظِه. وقد أدَّى ذلكَ إلى إحساسِهِمِ العَميقِ بالذَّنب، وإلى إحباطهم وقَلقِهم. وهذا شيءٌ لا بُدَّ أنْ يَحْدُثَ في حياةِ أشخاصٍ مُكَرَّسينَ حَقًّا؛ بِغَضِّ النَّظَرِ عنْ مَدى سَطحيَّة ذلك مِنْ جِهَةِ حَقيقةِ اللهِ، ومِن جهةِ حَقيقةِ أنَّ اللهَ أَعْلَنَ ذاتَهُ مِنْ خلالِ الشَّرائِع. لِذا فَقَدْ فَرَضُوا هُنا مَجموعةً مِنَ الشَّرائع، وكانوا مَجموعةً مِنَ النَّاسِ المُتديِّنينَ في الأصل، وكانوا يَعلمونَ أنَّهُ يجبُ عليهم أنْ يُطيعوا هذه الشَّرائع. فهذا هو ما كانَ مُجتمَعُهم يَقولُهُ لهم. ولكنَّهم كانوا يَعلمونَ أنَّهُ لا يمكنهم أنْ يَفعلوا ذلك. لِذا فقد عاشوا حياةً مُمتلئة بالإحباطِ الشَّديد، والقلق، والشُّعورِ بالذَّنبِ؛ كما هي حالُ أيِّ شخصٍ يَعيشُ في ظِلِّ أيِّ نِظامٍ ناموسيٍّ. فهذا نِظامٌ يَستحيلُ تَطبيقُه. ولا شَكَّ أنَّهُ يمكنكم أنْ تَضَعُوا نِظامًا يَضُمُّ الأشياء الَّتي يمكنكم أنْ تَفعلوها وأنْ تُبَرِّروا أنفُسَكُم مِن خلالها. ولكِنْ في هذه الحالة، كانَ اليهودُ بِلا رَجاء. لِذا، كانَ قَمْعُ النِّظامِ النَّاموسيِّ قد جَعَلَهُم يَشعرونَ بمشاعر هائلة مِنَ الذَّنب.
وعلى الصَّعيدِ الشَّخصيِّ، أنا أُوْمِنُ بأنَّ هذا الأمرَ كانَ واحدًا مِنَ الأشياءِ الَّتي أَسْهَمَتْ إسْهامًا هائلاً في نَجاحِ خِدمةِ يُوحنَّا المَعمدان. فأنا أعتقدُ أنَّ يوحنَّا المَعمدان كانَ لديهِ جُمْهورٌ في الأصل لأنَّ النَّاسَ كانوا يَبحثونَ حرفيًّا عن مَكانٍ يَلتجئونَ إليهِ للتحرُّرِ مِنْ عِبْءِ الخطيَّة الثَّقيل. وعندما كانَ يُوحنَّا المَعمدانُ يَكْرِزُ في البَرِّيَّة، رُبَّما تَذكرونَ أنَّ جُمهورًا غَفيرًا تَجَمَّعَ مِنْ حَوْلِهِ. فقد جاءوا إليهِ بأعدادٍ غَفيرة. وحَتَّى إنَّنا نَقرأُ أنَّ الفَرِّيسيِّينَ والصَّدُّوقِيِّينَ والكَتَبَةَ جاءوا أيضًا. وأعتقدُ أنَّ السَّببَ في القوْلِ إنَّ كُلَّ إسرائيل وكُلَّ أورُشليم خَرَجَتْ وراءَ يوحنَّا هو أنَّ النَّاسَ كانوا يَعيشونَ في ظِلِّ هذا القَمْعِ الرَّهيب، وفي ظِلِّ الشُّعورِ المُصَاحِب لذلك بسببِ النِّظامِ النَّاموسيِّ، وأنَّ قُلوبَ النَّاسِ كانت حَزينَة حقًّا بسببِ تَوْقِها إلى الغُفران، وبسببِ حاجَتِها إلى الخلاص، وبسببِ حاجَتِها إلى ما يُعَزِّي نُفوسَهُم المُتْعَبَة. فقد كانوا يَصرخونَ مِنْ أجلِ مَجيءِ مُخَلِّص، ويَصرخونَ مِنْ أجلِ مَجيءِ فَادٍ، ويَصرخونَ مِن أجلِ مَجيءِ شخصٍ لا يَفرض مَزيدًا مِنَ الوصايا عليهم. فَهُمْ لم يكونوا بحاجة إلى مُعَلِّمٍ آخر يأتي بشريعة أخرى، بل إلى شخصٍ يأتي ويَغفِر لهم كَسْرَهُمْ للشَّرائعِ الَّتي كَسَروها دائمًا. وقد كانوا يَعلمونَ أنَّ اللهَ وَعَدَ مُنذُ وقتٍ طويلٍ بِإرسالِ فَادٍ. وكانوا يَعرفونَ ما قالَهُ إشعياءُ بما يَكفي لأنْ يَعلموا أنَّهُ سيأتي شخصٌ يَغفرُ لهم خطاياهُم، وأنَّهُ سيأتي شخصٌ يُكَفِّر عن آثامِهم، وأنَّهُ سيأتي شخصٌ يُصَحِّحُ الأخطاء، وأنَّهُ سيأتي شخصٌ يَعْثُر على البقيَّةِ الأمينةِ والصَادقة حَقًّا؛ أيِ الأشخاصِ الذينَ يَعبدونَ اللهَ حَقًّا، وأنَّهُ سيأتي ويُطَهِّرَهُم.
وَهُم يَعرفونَ كلماتِ حِزقيال بأنَّ اللهَ سيأتي ذاتَ يومٍ وأنَّهُ سَيَرُشُّ عليهم ماءً طَاهِرًا فَيُطَهَّرُون، وأنَّ اللهَ سيَنْزِعُ قَلْبَ الحَجَرِ وَيُعْطِيَهُمْ قَلْبَ لَحْمٍ، وأنَّ اللهَ سيُطَهِّرُهُمْ مِنْ كُلِّ نَجَاسَتِهِم، وأنَّ اللهَ سيُطَهِّرُهُم مِنْ خَطاياهُم. وكانوا يَعرفونَ شَهادةَ داوُد الَّذي كانَ يَعرفُ مَعنى الحُصولِ على ذلكَ الشُّعورِ بالغُفران، والذي كانَ يَعرفُ مَعنى أنْ يَصْرُخَ ويَقول: "طُوبَى لِرَجُل لاَ يَحْسِبُ لَهُ الرَّبُّ خَطِيَّةً". فقد كانوا يَعرفونَ ذلك؛ ولكنَّهم لم يَختبروهُ قَطّ. لِذا فقد كانوا هُنا يَشعرونَ بِقُوَّة بِوَطْأةِ القَمْعِ الرَّهيب. وحينَ جاءَ يوحنَّا المَعمدان وأَعلنَ أنَّ هُناكَ مَسِيَّا، وأنَّ هُناكَ فَاديًا، وأنَّ هناكَ مُخَلِّصًا، لا عَجَبَ في نَظري أنَّهُمْ جاءُوا ليسمعوه. وعندما ابتدأَ يقول: "تُوبُوا، لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّماوَاتِ"، لم يَتَوَانَوْا ولو قليلًا في التَّوبة لكي يُخَفِّفوا ذلكَ الحِمْل الثَّقيل ويَطلبوا الغُفرانَ الَّذي يُعطيهِ المسيَّا.
وواحدٌ مِنَ الأسبابِ الَّتي تَدْفَعُني إلى الإيمانِ بِصِحَّةِ ذلك هو أنَّهُ يبدو أنَّ هذا هوَ الشَّوقَ الَّذي كانَ في قلبِ النَّاسِ حينَ التقَوْا يَسوع. فمثلاً، انظروا مَعي إلى الأصحاحِ الثَّالثِ مِن إنجيل يُوحَنَّا. إنجيل يُوحنَّا والأصحاح الثَّالث. ففي إنجيل يوحنَّا 3: 1، نَقرأُ: "كَانَ إِنْسَانٌ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ اسْمُهُ نِيقُودِيمُوسُ، رَئِيسٌ لِلْيَهُود". فنحنُ هُنا أمامَ فَرِّيسيٍّ. وقد كانَ نيقوديموس رَجُلاً صادقًا جدًّا. وإنْ كانَ صادِقًا حقًّا (وأنا أعتقدُ أنَّهُ كانَ كذلك لأنَّ هذا هُوَ ما اجْتَذَبَهُ إلى المسيح)، وإنْ كانَ نَزيهًا، فقد كانَ يَعلمُ أنَّهُ في وَرطة حقيقيَّة. وتُسْتَخْدَمُ هُنا صيغَةُ التَّوْكيد. فقد كانَ هذا الرَّجُلُ المُعَلِّمَ والرَّئيسَ في إسرائيل. فقد كانَ رَجُلاً مُتَفَوِّقًا في حِفْظِ المبادئِ الإلهيَّة. فقد كانَ رَجُلًا بارِزًا. ولكنَّهُ كانَ رَجُلاً مُحْبَطًا. وكانَ قَلبُهُ مُمتلئًا قلقًا. وقد جاءَ إلى يسوعَ وقال: "يَا مُعَلِّمُ، نَعْلَمُ أَنَّكَ قَدْ أَتَيْتَ مِنَ اللهِ مُعَلِّمًا، لأَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَعْمَلَ هذِهِ الآيَاتِ الَّتِي أَنْتَ تَعْمَلُ إِنْ لَمْ يَكُنِ اللهُ مَعَهُ". وهذهِ بَصيرةٌ عظيمةٌ تُعَبِّرُ عَمَّا كانَ يَجولُ في ذِهنِه. فقد وَجَدَ شخصًا أَتى مِنَ اللهِ. لماذا؟ لأنَّهُ أرادَ أنْ يَعرفَ ما قالَهُ اللهُ عَنْ شَيءٍ ما.
وقد جاءَ في اللَّيلِ إلى يسوعَ وقال: "أنتَ أَتَيْتَ مِنَ اللهِ. وأنا أَعلمُ أنَّكَ أتيتَ مِنَ اللهِ بسببِ ما تَفعَل. فلا أحدَ يَقْدِرُ أَنْ يَعْمَلَ تلكَ الأشياء ما لم يَكُنْ قد أَتى مِنَ اللهِ". وقد كانَ يَفتكرُ في قلبِهِ بالسُّؤالِ العَظيمِ التَّالي. وما هوَ السُّؤال؟ السُّؤالُ هو: ماذا ينبغي أنْ أَفعَل لأَكونَ بَارًّا؟ ماذا ينبغي أنْ أَفعَل لكي أَدخُل ملكوتَك؟ ماذا ينبغي أنْ أفعل لأكونَ ولدًا للهِ؟ ماذا ينبغي أنْ أفعل لكي يَفديني اللهُ؟ كانَ هذا هو السُّؤال؟ وبالمناسبة، لم يَطْرَح نيقوديموس هذا السُّؤال. لماذا؟ لأنَّ الفُرصَة لم تُتَحْ لَهُ. فقد قَرَأَ يَسوعُ ما يَدورُ في ذِهنِه. وقد أجابَ يسوعُ على السُّؤالِ الَّذي لم يَطْرَحْهُ في العدد الثالث. فقد أجابَ يسوعُ سُؤالَهُ الَّذي لم يَسأله. أليسَ هذا رائعًا؟ وأحيانًا، قد لا تُضْطَرُّ حَتَّى إلى طَرْحِ السُّؤال. فهو يُجيبُ عنهُ. وهو يُقدِّمُ الإجابة. وقد أجابَ يَسوعُ عنِ السُّؤالِ الَّذي كانَ يَعْتَمِلُ في قلبِهِ وَقَالَ لَهُ: "الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ اللهِ". وماذا كانَ سُؤالُ نيقوديموس؟ كيفَ يُمْكِنُني أنْ أَرى مَلكوتَ اللهِ؟ أَتَرَوْن؟ هذا هو السُّؤال؟ فقالَ يسوع: "بأنْ تُوْلَدَ ثانيةً". وقد كانَ هذا هو السُّؤالُ الَّذي يَعْتَمِلُ في قَلبِ اليهودِ في زمنِ المسيح. فقد نَظَرَ نيقوديموس إلى حياتِهِ وقال: "أنا أَعلمُ أنِّي فَرِّيسيٌّ. وأنا أُحاولُ أنْ أَحفظَ النَّاموسَ، وأنا رَئيسٌ في الأرضِ، وأنا مُعَلِّمٌ للشَّريعةِ، وما إلى ذلك. ولكنِّي لستُ واثقًا مِنْ أنَّ هذا يَكفي". فقد كانَ صادقًا في الإقرارِ بخطيئته بالرَّغمِ مِن أنَّهُ كانَ يُحاولُ أنْ يَحفظَ النَّاموس؛ ولكنَّهُ فَشِلَ فَشَلاً ذَريعًا. لِذا فإنَّهُ يقول: "ماذا ينبغي أنْ أَفعل لكي أدخُل الملكوت؟"
وأرجو أنْ تَفتحوا على الأصحاحِ السَّادسِ مِن إنجيل يُوحنَّا والعدد 28. وهُنا يأتي النَّاسُ مَرَّةً أخرى. ولا شَكَّ أنَّ يسوعَ عَمِلَ هذهِ المُعجزة العَظيمة إذْ أَشْبَعَ ما يَزيدُ عن خمسةٍ وعِشرينَ ألفًا دونَ أَدنى شَكّ. وقد قالوا لَهُ في العدد 28 (وهذا أمرٌ واضحٌ تمامًا): "مَاذَا نَفْعَلُ حَتَّى نَعْمَلَ أَعْمَالَ اللهِ؟" وقد أجابَ يسوعُ وقالَ لهم: "هذَا هُوَ عَمَلُ اللهِ: أَنْ تُؤْمِنُوا بِالَّذِي هُوَ أَرْسَلَهُ". وهل تَعلمونَ ماذا كانوا يَسألونَ في الحقيقة؟ إنَّهُ نفسُ السُّؤالِ الَّذي طَرَحَهُ نيقوديموس. نحنُ نَعلمُ كُلَّ النِّظامِ النَّاموسيّ. ونحنُ نَعلمُ كُلَّ الأنظمة الطَّقسيَّة. وقد حَفِظْنا كُلَّ هذه الطُّقوس. وقد مَارَسْنا كُلَّ التَّقاليد. ولكِنْ ماذا ينبغي أنْ نَفعل حتَّى نَعرفَ حقيقةَ عَمَلِ اللهِ؟ أَتَرَوْن؟ فكيفَ نَتَخَطَّى الأمورَ الطَّقسيَّةَ ونَعرِف الحقيقة؟ إنَّهُ السُّؤالُ نفسُه؟ وهو يُعَبِّرُ عن موقفِ قلوبِ بني إسرائيلَ في هذا الوقت. فقد أرادوا شيئًا حقيقيًّا. وقد أرادوا أنْ يَعلموا كيفَ يَدخلونَ حقًّا إلى الملكوت لأنَّكَ إنْ كنتَ تَدخُلُ الملكوتَ مِن خلالِ حِفْظِ النَّاموس فإنَّ أحدًا لن يَدْخُلَ الملكوت. وقد كانوا يَعلمونَ ذلكَ، إنْ كانوا صادِقين.
ثُمَّ انظروا معي إلى الأصحاحِ العاشرِ مِنْ إنجيل لوقا، والعدد 25. وهذا نَصٌّ مُباشرٌ جدًّا: "وَإِذَا نَامُوسِيٌّ قَامَ يُجَرِّبُهُ قَائِلاً: ’يَا مُعَلِّمُ، مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ؟‘" وبِمَعْزِلٍ عَمَّا قالَهُ يسوعُ لَهُ، فإنَّ هذا هو السُّؤال نفسهُ. فهذا هو السُّؤالُ الَّذي أرادَ الجَمْعُ أنْ يَعرفَ إجابَتَه. وهذا هو السُّؤالُ الَّذي أرادَ نيقوديموس أنْ يَعرفَ إجابَتَه. ما هوَ المِعيار؟ بعبارة أخرى: ما هي الطَّريقة الَّتي تَدْخُلُ بها الملكوت؟ وكيفَ تَتَحَرَّرُ مِنَ مَشاعِرِ الذَّنبِ والقلقِ والإحباطِ الَّتي تَشعُرُ بها حينَ تَعيشُ في ظِلِّ نِظامٍ ناموسيٍّ يُطالِبُكَ بإرضاءِ اللهِ مَعَ أنَّكَ تَعلمُ أنَّكَ لا تَستطيعُ القيامَ بذلك؟ فقد كانَ هذا، دائمًا وأبدًا، هوَ السُّؤال الَّذي يَعْتَمِلُ في قُلوبِ النَّاس.
وفي إنجيل لوقا 18: 18، نَجِدُ رَجُلاً آخر. وفي هذه المَرَّة، إنَّهُ ليسَ ناموسيًّا، بل هُوَ حاكِمٌ شابٌّ. ولكِنَّ سؤالَهُ كانَ مُشابهًا تمامًا: "وَسَأَلَهُ رَئِيسٌ قِائِلاً: ’أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ، مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ؟‘" أَتَرَوْن؟ إنَّهُ دائمًا السُّؤالُ الرَّئيسيُّ نفسُهُ. كيفَ نَعْرِف الحقيقة؟ أَتَرَوْن؟ كيفَ نَتَخَطَّى الطُّقوس؟ كيفَ نَحصُلُ على الغُفران؟ كيفَ نَدخُل الملكوت؟ فَهُمْ لم يكونوا يَشعرونَ بالأمان، كَما تَرَوْن. فإذا كنتُمْ تَعيشونَ في ظِلِّ نِظامٍ ناموسيٍّ لا يمكنكم أنْ تَحفظوه ولا يمكنكم أنْ تُمارسوه، ستَشعرونَ بعَدَمِ الأمانِ بصورة مُريعَة. وقد كانوا يَرغبونَ في مَعرفةِ كيفَ يَحصُلونَ على الشُّعورِ بالأمان، وكيفَ يمكنهم أنْ يَعرفوا أنَّهم مُواطنونَ في الملكوت. وأعتقد حقًّا أنَّ هذا الوقتَ كانَ أفضلَ وقتٍ لِمَجيءِ يسوع لأنَّهُ كانَ يَملكُ الإجابة الصَّحيحة. فكما تَرَوْنَ، فإنَّ اللهَ إلَهٌ قُدُّوس. ولأنَّهُ قُدُّوسٌ، فإنَّهُ بارٌّ تمامًا ولا توجد فيهِ خطيَّة؟ واللهُ يُقدِّمُ الخلاصَ للإنسانِ الخاطئ. والإنسانُ الخاطئُ يَقولُ في نفسه: "كيفَ يُعْقَلُ أنَّ اللهَ القُدُّوسَ سَيُخَلِّص إنسانًا خاطئًا؟" واليهوديُّ يَقول: "كيفَ يُعْقَلُ ذلك؟" واليهوديُّ الصَّادِقُ والمُكَرَّسُ يقول: "كيفَ يمكنني أنْ أَدخلَ ملكوتَ اللهِ في حين أنِّي غيرُ قادرٍ على حِفْظِ نواميسِ اللهِ؟ فإنْ كانَ هذا هوَ الشَّرْطُ، كيفَ يمكنني أنْ أفعلَ ذلك؟"
وهذا يَطرحُ السُّؤالَ الَّذي يُجيبُ عنهُ يسوعُ في التَّطويبات. والسُّؤالُ، ببساطة، هو: كيفَ يمكنُ للمرءِ أنْ يَخْلُص؟ كيفَ يُمكنُ للمرءِ أنْ يَخْلُص؟ كيفَ تَدخُلُ الملكوت؟ كيفَ تَرِثُ الحياةَ الأبديَّة؟ كيفَ تَتَبَرَّرُ؟ كيفَ يمكنُكَ أنْ تَصِلَ إلى النُّقطةِ الَّتي يَستطيعُ فيها اللهُ القُدُّوسُ الَّذي بلا خطيَّة أنْ يَقْبَلَك؟ كيفَ يمكن أنْ يَحْدُثَ ذلك؟ وصَدِّقوني أنَّ هذا هو السُّؤالَ الَّذي كانَ يَدورُ في أذهانِ أغلبيَّةِ النَّاسِ الَّذينَ كانوا يَجلسونَ على سَفْحِ جَبَلِ الجليل فيما كانَ رَبُّنا يَتكلَّم في إنجيل مَتَّى والأصحاحِ الخامِس.
والآنْ، لَعَلَّكُم تَذكرونَ أنَّهُ كَانَ يَطُوفُ كُلَّ الْجَلِيلِ يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِهِمْ، وَيَكْرِزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ، وَيَشْفِي كُلَّ مَرَضٍ، وأنَّ خَبَرُهُ ذَاعَ فِي كُلِّ مكان. وعندما جاءَ الجَمْعُ، سَمِعوا عنهُ، ورَأَوْهُ، وسَمِعوا تَعليمَهُ، وكانت أخبارُ مُعجزاتِهِ مُنتشرة في كُلِّ مكان. وكانَ لديهم سؤالٌ مُهمٌّ واحد: كيفَ يمكن للمرءِ أنْ يَدْخُلَ الملكوت؟ ما نوعُ البِرِّ الَّذي ينبغي أنْ يَكونَ لدينا لكي يَقْبَلَنا المسيَّا، ولكي نَصيرَ جُزءًا مِنَ الملكوت؟ كيفَ نَدْخُل؟ وأعتقد أنَّهُ مِنْ بينِ جميعِ التَّطويباتِ الأخرى، فإنَّ هذه التَّطويبةَ الواردةَ في العدد الثَّامن تُقَدِّمُ الإجابةَ عن هذا السُّؤال: "طُوبَـى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ، لأَنَّهُمْ..." ("آوْتُوي" [autoi] أيْ: هُمْ وُحْدُهُمْ ولا أَحَدَ سِواهُم. فهي صيغة توكيديَّة) "يُعَايِنُونَ اللهَ". وإنْ كانَ بمقدوري أنْ أُعيدَ صِياغةَ ذلك، أتَعلمونَ مَنِ الَّذي يَدخُلُ الملكوت؟ الأنقياءُ القلبِ. فَهُمْ وَحْدُهُم (ولا أَحَدَ سِواهُم) سيُعاينونَ اللهَ في ملكوتِهِ. هذا هو الجواب: إنَّهُمُ الأنقياءُ القلبِ.
والآنْ، راقِبوا الآتي: إنَّهُم ليسوا الأشخاصَ الَّذينَ يُمارسونَ الغَسْلاتِ الخارجيَّة. وهُم ليسوا الأشخاصَ الَّذينَ يُمارسونُ الطُّقوسَ الخارجيَّة. وهُم ليسوا الأشخاصَ الَّذينَ اخْتَرْتُ أن أُسَمِّيَهُم: "دِيانَة الإنجاز البَشَرِيّ". وهُم ليسوا الأشخاصَ الَّذينَ يُمارسونَ المَظاهرَ الدِّينيَّة، والأعمال الخارجيَّة ونِظامَ البِرِّ الذَّاتيِّ. بل إنَّهُمُ أنْقياءُ القلبِ الَّذينَ يُعاينونَ اللهَ. فهؤلاءِ فقط هُمُ الَّذينَ يُعاينونَ اللهَ. ويا لها مِنْ جُملة رائعة! فهذه هي الإجابة عنِ السُّؤالِ الَّذي طَرَحَهُ النَّاسُ والذي أجابَ عنهُ يَسوع. وهي جُملة قويَّة. فأنقياءُ القلبِ (دونَ سِواهم) يُعاينونَ اللهَ. والإنسانُ يَميلُ...وأريدُ مِنكم أنْ تَسمعوا ما سأقول...إنَّ الإنسانَ يَميلُ إلى مُقارَنَةِ نفسِهِ بالآخرين. بعبارة أخرى، فإنَّكَ تَستخدِمُ معْيارَ شخصٍ آخر. وهذا يُشبِهُ ما جاءَ في رِسالة كورِنثوس الثَّانية والأصحاح 11 إذْ نَقرأُ عنِ الرُّسُلِ الزَّائفينَ الذينَ يَفْحَصونَ أنفُسَهُم في ضَوْءِ أنفُسِهِم. وقد تَحدَّثنا عن ذلك. أليسَ كذلك؟ وقد كانَ الفَرِّيسيُّون بارِعينَ في ذلك. بعبارة أخرى، حينَ تَرغبُ في فَحْصِ شخصيَّتِكَ، أو حينَ ترغبُ في فَحْصِ أخلاقِكَ، أو حينَ ترغبُ في فحصِ قِيَمِكَ، أو حينَ تَرغبُ في فخصِ صَلاحِكَ، يمكنكَ أنْ تجِدُ دائمًا شخصًا أَسْوَأَ مِنْكَ كَمِعْيار. أليسَ كذلك؟ فَكِّروا في الأمر. مِنَ المؤكَّدِ أنَّكُم ستَفعلونَ ذلك. فسوفَ تبحثونَ دائمًا عن مِعيارٍ بَشَرِيٍّ أَدنى.
وهذا هو ما كانَ الفَرِّيسيُّون يَفعلونَهُ. فقد جاءَ الفَرِّيسيُّ وصَلَّى في نَفسِهِ قائلاً: "اَللّهُمَّ أَنَا أَشْكُرُكَ أَنِّي لَسْتُ مِثْلَ بَاقِي النَّاسِ...وَلاَ مِثْلَ هذَا الْعَشَّارِ البائِس". أَتَرَوْن؟ فقد كانَ المِعيارُ الَّذي اخْتارَهُ أَدْنَى مِنْه. وهل تَعلمونَ مَعنى ذلك؟ هذا يعني أنَّ المعيارَ البشريَّ الأسْمى هو أَحَطُّ إنسانٍ على وَجْهِ الأرض. لأنَّهُ إنْ كانَ كُلُّ شخصٍ يُقَيِّمُ ذاتَهُ في ضَوْءِ شخصٍ أَدنى مِنه، فإنَّ الأمرَ سيَنحدرُ تَدريجيًّا إلى أنْ يَصِلَ في نهايةِ المَطافِ إلى أَحَطِّ شخصٍ في العالم. ولكِنَّ اللهَ لَمْ يَضَع هذا المِعيار. فعندما وَضَعَ اللهُ مِعيارًا للشَّخصيَّة المقبولة، لم يَقُل إنَّهُ يَنبغي لَكَ أنْ تكونَ أفضلَ مِنَ العَشَّار، ولا أنْ تكونَ أفضلَ مِنْ رَجُلٍ عَديمَ الأخلاق، ولا أنْ تكونَ أفضلَ مِن شخصٍ كاذِبٍ أوْ لِصٍّ أوْ مُحْتال، ولا أنَّهُ يَنبغي لكَ أنْ تكونَ أفضلَ مِن شخصٍ لا يُنْصِفْ مَنْ هُمْ حَوْلَهُ؛ أيْ أفضلَ مِنْ شخصٍ ظَالِم. ولا أنْ تكونَ أفضلَ مِن شخصٍ يَضْرِبُ أبناءَهُ. ولا أنْ تكونَ أفضلَ مِنْ شخصٍ قاتِلٍ. بل إنَّهُ قالَ إنَّكَ إنْ أردتَ أنْ تُعايِنَ اللهَ، يجب عليكَ أنْ تكونَ طاهرًا إلى أيِّ حَدٍّ؟ مِئَة بالمئة. والمِعيارُ هوَ اللهُ إذْ نَقرأُ في رِسالة بُطرس الأولى والأصحاح الأوَّل: "كُونُوا قِدِّيسِينَ لأَنِّي أَنَا قُدُّوسٌ". وإنْ أردتَ أنْ تَسمعَ ذلكَ كما جاءَ في العِظَة على الجَبَل، ستجدُ ذلكَ في الأصحاحِ الخامسِ والعدد 48: "فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ". فهذا هوَ المِعيار.
والآنْ، معَ أنَّ النَّاسَ يريدونَ أنْ يجعلوا المِعيارَ هو أسوأُ إنسانٍ على وجهِ الأرض، فإنَّ اللهَ يُقيمُ نَفْسَهُ المِعيارَ لأنَّهُ كُلِّيُّ القَداسَةِ والبِرِّ، ولأنَّهُ الإلَهُ الوحيدُ للكَوْن. إذًا، مَنْ سيَدخلُ الملكوت؟ ومَن سيذهبُ إلى السَّماء؟ ومَنْ سيَخْلُص؟ ومَنْ يَصْلُحُ أنْ يَقِفَ في حَضرةِ اللهِ؟ ومَنْ سيُعايِنُ الله؟ ومَنْ سيَرى اللهَ وَجْهًا لوجه؟ ومَن سيَدخُل إلى نَعيمِه؟ ومَن سيَختبر البَرَكَة؟ ومَن سيَعرف السَّعادة الحقيقيَّة؟ فقط أنقياءُ القُلوبِ. وعندما ابتدأتُ في التَّفكيرِ في ذلك، قلتُ: "لا بُدَّ أنَّ كَلامَهُ كانَ ضَرْبَةً لَهُمْ في الصَّميم في تلكَ الأيَّام" لأنَّهُم كانوا يَهتمُّونَ كثيرًا بالأمورِ الخارجيَّة. أليسَ كذلك؟ فقد كانَ الفَرِّيسيُّونَ يَغضبونَ إنْ لم يَغْسِل النَّاسُ أيديهم بطريقة مُعَيَّنة، وإنْ لم يَستخدموا آنِيَة وأشياء مُحَدَّدة، وإنْ لم يَفعلوا كُلَّ تلكَ الأشياء. والرَّبُّ يَقولُ إنَّهُم كانوا بارعينَ في تَعْشيرِ النَّعْنَعِ والكَمُّونِ والأنِيْسون. بعبارة أخرى، لقد كانوا يَحْرِصونَ على تَقديمِ العُشورِ عنِ النَّباتاتِ والأعشابِ الصَّغيرة. ولكنَّهم لم يَكونوا يَهتمُّونَ بالمحبَّةِ، والحقِّ، والرَّحمةِ، والعَدالة. فقد كانوا بارعينَ في اقْتِطاعِ عُشْرِ تلكَ الأعشابِ الصَّغيرة. وقد كانَ كُلُّ ذلكَ مُصْطَنَعًا.
لِذا فقد قالَ يسوعُ لهم: أنتُم "تُشْبِهُونَ قُبُورًا مُبَيَّضَةً تَظْهَرُ مِنْ خَارِجٍ جَمِيلَةً، وَهِيَ مِنْ دَاخِل مَمْلُوءَةٌ عِظَامَ أَمْوَاتٍ. أنتُم تُشْبِهونَ قُبورًا مُبَيَّضَةً. يا لَكُمْ مِنْ مُرائين! يا لَكُم مِنْ مُرائين!" فقد كانَ كُلُّ ما يَفعلونَهُ خارجيًّا. لذا فقد أَخَذَ الربُّ ذلكَ الرِّياءَ الَّذي يَرْتَدونَهُ كَثَوْبٍ وَمَزَّقَهُ بتلكَ الجُملة المُنفرِدَة. إذًا، مَنْ سيُعايِنُ اللهَ؟ ليسَ الذينَ يَهتمُّونَ بالمظاهرِ الخارجيَّة، بل الأشخاصُ الأنقياءُ مِنَ الدَّاخِل. أتَرَوْن؟ فهؤلاءِ فقط يُعاينونَ اللهَ. والآن، قد تقولون: "إنْ كانتْ هذه الجُملة بهذه الأهميَّة، وإنْ كانت بالغة الأهميَّة، وإنْ كانتَ تَطويبةً مُهِمَّةً إلى هذا الحَدِّ، لماذا تأتي في هذا الموقِعِ مِنَ اللَّائحة؟" حسنًا! هل يمكنني أنْ أقولَ شيئًا الآن؟ إنَّ كُلَّ واحدة مِنْ هذه التَّطويباتِ مُهِمَّة جدًّا. فلا يمكنكَ أنْ تَحْذِفَ أيًّا مِنها. وما أعنيه هو أنَّ كُلَّ تَطويبة مِن هذه التَّطويباتِ مُهِمَّة. وهي تَتَعاقَبُ تَعاقُبًا جميلاً بترتيبٍ بَديعٍ بحسب فكْرِ الله. فأهميَّةُ التَّطويبةِ لا تُقاسُ بمكانِها في البداية أوِ النِّهايةِ أوِ الوَسَط. فهي مُتساوية في أهميَّتِها. وهي كُلُّها جُزءٌ مِنَ الشَّيءِ نفسِه. وهي كُلُّها جُزءٌ مِنْ حَقٍّ واحدٍ عظيم. فلا يمكنك أنْ تَعْزِلَ واحدةً منها عنِ البقيَّة. وأودُّ، يا أحبَّائي، أنْ أقولَ لكم الآتي: إنَّ ابنَ الملكوتِ هو شخصٌ يَمتلك كُلَّ هذهِ الصِّفات. أَتَرَوْن؟ كُلَّ هذهِ الصِّفات. فلا يمكنكَ أنْ تَختارَ جُزءًا مِنها وتَرفُضَ الجُزءَ الآخر. ولا يمكنكَ أن تقول: "حسنًا! لِنُلْقِ نَظرةً ونَرى! فهناكَ تَطويباتٌ عديدة. لِنَرى! سَأُلقي نَظرة". لا! لا يمكنكَ أنْ تَفعلَ ذلك. فهذهِ حياةٌ مُتكاملة. وحالَما تَبْتَدِئُ هذهِ الحياةَ الَّتي تَتَّصِفُ بالمَسْكَنَةِ بالرُّوح، فإنَّ البقيَّةَ تَتَوالى بِفَضْلِ نِعمةِ اللهِ العَجيبة.
وأنتَ تَبتدئُ بحقيقةِ أنْ تكونَ مِسْكينًا بالرُّوح. وحينَ تَرى نفسَكَ كما لو كنتَ مُتَسَوِّلاً يَجْلِسُ في رُكْنٍ مِنَ الشَّارِعِ ويَمُدُّ يَدَهُ مَسْتَجْدِيًا مَنْ يَتَحَنَّن عليه، تكونُ قد أدركتَ أنَّكَ لا تَستطيعُ أنْ تَكْسَبَ شيئًا. وبوصفِكَ مُتَسَوِّلاً تَخْجَلُ مِنْ إظْهارِ وَجهِك، فإنَّكَ تَمُدُّ يَدَكَ وأنتَ تَشعُرُ بعدمِ الكِفايَة وتَطلبُ الإحسانَ مِنَ الله. والأمرُ يَبتدئُ مِن هُنا. وحينَ تَمُدُّ يَدَكَ وتَسْتَعْطي كما لو كنتَ مُتَسوِّلاً، فإنَّ تجاوُبكَ التَّالي هو أنْ تَحْزَنَ على خطاياكَ الَّتي وَضَعَتْكَ في ذلكَ الموقف. وبسببِ شُعورِكَ المُريع بالخطيَّة فإنَّكَ تَتَواضَعُ أمامَ اللهِ الكُلِّيِّ القداسَة. فلا يمكنكَ أنْ تَفعلَ شيئًا آخرَ سِوى أنْ تكونَ مُتواضِعًا. وفي تَواضُعِكَ، فإنَّ كُلَّ ما يُمكنكَ أنْ تقومَ بهِ هو أنْ تَصْرُخَ وأنْ تَجوعَ وتَعطشَ إلى البِرِّ الَّذي لا يمكنكَ أنْ تَحْصُلَ عليهِ ولكِنْ يجب أنْ تَحصُلَ عليه. ثُمَّ ماذا يَحدُثُ؟ إنَّهُ يُسْبِغُ عليكَ رَحْمَةً. وهذه هي التَّطويبةُ الَّتي تأتي بعدَ ذلك إذْ إنَّكَ تَصيرُ واحدًا مِنَ الأشخاصِ الرُّحَماء. وحالما تُرْحَمُ ويُطَهِّرُ اللهُ قَلْبَكَ بِرَحْمَتِهِ لأنَّكَ تَجوعُ إلى بِرِّهِ، فإنَّكَ تَصيرُ حينئذٍ (وحينئذٍ فقط) نَقِيَّ القَلْبِ. وحينَ تَصيرُ نَقِيَّ القلبِ، يُمكنكَ حينئذٍ فقط أنْ تَصيرَ صَانِعَ سَلام.
وكما تَرَوْنَ، هناكَ تَتَابُعٌ لا يُمْكِنُ فَصْلُه. وحالَما تَصيرُ صانِعَ سَلامٍ في العالَم، سَتَجِدُ أنَّ العَالَمَ يَضْطَهِدُكَ ويَفتري عليكَ، ويُبْغِضُكَ، ويَحتقرُكَ؛ ولكِنْ لا بأسَ في ذلك لأنَّ العدد 12 يَقول إنَّهُ يمكنكَ أنْ تَفْرَح إذْ إنَّ اللهَ سيُكافِئُك. لِذا، فإنَّ واحدًا مِن أسبابِ وُجودِ هذهِ التَّطويبة هُنا هو أنَّ التَّتابُعَ طَبيعيٌّ. فنقاوةُ القلبِ تأتي بعدَ أنْ تَجوعَ وتَعطشَ إلى البِرِّ، وبعدَ أنْ يُسْبِغ اللهُ رَحْمَتَهُ عليكَ. ورَحْمَتُهُ هي الَّتي تُنَقِّي قلبَك. فالرَّحمةُ هي الَّتي تُنَقِّي قلبَكَ الشِّرِّير. وهي ليست شيئًا تَكْسَبُهُ بجدارَتِك، بل هي شيءٌ يُسْبِغُهُ اللهُ عليكَ برحمَتِه. ومِنَ القلبِ النَّقِيَّ الَّذي يَتَنَقَّى بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ، تَنْبُعُ النَّقاوةُ الَّتي تَجْعَلُكَ تُعاينُ اللهَ. ولكِنْ هناكَ فِكرة جميلة أخرى أيضًا عن سَبَبِ وجودِ هذه التَّطويبة هُنا. فالتَّطويباتُ السَّبعُ الأولى جميعًا تَتوافَقُ توافُقًا بَديعًا. فالتَّطويباتُ الثَّلاثُ الأولى تَقودُ إلى التَّطويبةِ الرَّابعةِ، ثُمَّ تَليها التَّطويباتُ الثَّلاثُ اللَّاحقة. والتَّطويبةُ الرَّابعةُ (الَّتي تُبْدو وكأنَّها الذُّروة) هي الجُوعُ والعَطَشُ إلى البِرِّ.
فأنتَ تَبتدئُ بالمَسكنةِ بالرُّوحِ. وِمنْ هذهِ المَسْكَنَةِ الرُّوحيَّةِ يَنْبُعُ الحُزْنُ على الخطيَّة. وحينَ تَرى نَفسَكَ خاطئًا تَمامًا فإنَّكَ تَتواضَعُ وتَصيرُ وَديعًا أمامَ اللهِ. وفي تلكَ النُّقطة فإنَّكَ تَصرُخُ وتَطْلُبُ البِرَّ. وحينئذٍ يَعملُ اللهُ. وأنتَ تَجِدُ رَحْمَتَهُ وتجدُ نَقاوةَ القلبِ، وتَجِدُ عَطِيَّةَ صُنْعِ السَّلامِ إذْ إنَّ هذهِ تَنْسابُ مِنَ التَّطويبةِ الرَّابعة. فالتَّطويباتُ الثَّلاثُ الأولى تَقودُ إليها. والتَّطويباتُ الثَّلاثُ الَّتي تَليها تَنْسابُ مِنها. ولكِنْ هل لاحظتُم شيئًا أكثر تَعقيدًا؟ ولنَرَى إنْ كانَ بمقدوري أنْ أُبَيِّنَ ذلك. فالتَّطويبتانِ الأولى والخامسة، والثَّانية والسَّادسة، والثَّالثة والسَّابعة تبدوانِ مُتوافقتَيْنِ أيضًا. فمثلاً، إنَّ المَسَاكينَ بالرُّوحِ هُمُ الَّذينَ يُدركُونَ أنَّهم ليسوا سِوى مُتَسَوِّلينَ فَيَرحمونَ الآخرين. أليسَ كذلك؟ فلأنَّك مُتَسَوِّلٌ، أنتَ تَعلمُ أنَّ أيَّ شيءٍ حَصَلْتَ عليهِ هو هِبَة رَحْمَة فَتَميلُ إلى أنْ تكونَ رَحيمًا أنتَ أيضًا. ثانيًا، إنَّ الأشخاصَ الَّذينَ ينوحونَ على خطاياهُم هُمُ الَّذينَ يَختبرونَ نَقاوةَ القلبِ لأنَّهُ ما لم تَحْزَن على خطيئتِك، لا يمكنكَ أنْ تَتَطَهَّرَ مِنْ تلكَ الخطيَّة. فالتَّوبةُ الحقيقيَّةُ تَتَطَلَّبُ حُزْنًا. لِذا، يبدو أنَّ الحُزنَ مُرتبطٌ بطريقةٍ ما بنقاوةِ القلبِ. وأخيرًا، إنَّ الوُدَعاءَ هُمْ صَانِعو السَّلام. وسوفَ أقولُ لكم شيئًا تَعَلَّمْتُهُ قبلَ وقتٍ طويلٍ حينَ دَرَسْتُ الأصحاحَ الثَّاني مِن رسالة فيلبِّي. فلا أحدَ (وأنا أعني حرفيًّا: لا أَحَدَ) يَستطيعُ أنْ يكونَ صانِعَ سَلامٍ ما لم يَفعلْ ذلكَ مِنْ قلبٍ مُتواضِع.
وكما تَرَوْن، فإنَّ المُتَسَوِّلينَ هُمُ الَّذينَ يَرحمونَ الآخرين. والحَزانى هُمُ الَّذينَ يَملكونُ قُلوبًا نقيَّةً. والوُدعاءُ هُمْ صَانِعو السَّلام. لِذا، هناكَ طريقة جميلة تُنْسَجُ فيها هذهِ التَّطويباتُ معًا فَنَرى مِن خلالِها كيفَ يَعملُ فِكْرُ اللهِ. لِذا فإنَّها تأتي في مكانِها الصَّحيحِ تاريخيًّا. وهي تأتي في مكانِها الصَّحيحِ زَمَنِيًّا. والآن، تَذَكَّروا أنَّهُ كانَ يوجدُ بينَ الحُشودِ في ذلكَ اليوم ناموسيُّونَ فَرِّيسيُّونَ. وبالمناسبة، إنَّهُم موجودونَ في كُلِّ حَشْدٍ دينيٍّ. وما أعنيهِ هو أنَّ العالمَ مُمتلئٌ بهم. وَهُمْ يَظُنُّونَ أنَّهم سيدخلونَ السَّماءَ بسببِ إنجازاتهمِ البشريَّة إذْ يقولون: "إنَّني على ما يُرام". "مِنَ المؤكَّدِ أنَّ الرَّبَّ لن يُلقيني في جَهَنَّم. فأنا لا أَرْكُلُ القِطَط. وعندما يُواجِهُ جاري مُشكلةً فإنِّي أَمُدُّ لَهُ يَدَ المُساعدة". "أنا كذا وكذا". أو "أنا لم أفعل يومًا كذا، ولم أقتُل إنسانًا، ولم أَهْجُر زوجتي. وأنا أبٌ صالحٌ حقًّا. وأنا أُنْفِقُ على أبنائي، ولا أترُكهم مِن دونِ ملابس. وقد فَعلنا أفضلَ ما يُمكنُنا أنْ نَفعلَ في هذه الحياة". وهذه هي ديانةُ الإنجازِ البشريّ. وهناكَ أشخاصٌ، كما تَعلمونَ، يَذهبونَ إلى واحدٍ مِنَ المَعابِدِ البوذيَّةِ، ويَدخلونَ، ويُوْقِدونَ شيئًا صغيرًا، ويَضعونَ وَجْبَةَ طعامٍ صَغيرة هناك. وَهُم يحاولونَ أنْ يَشُقُّوا طريقَهُم إلى السَّعادةِ القُصوى في اعتقادِهِم (أوِ "النِّيرفانا" “Nirvana”) ظَنًّا منهم أنَّهم سيُحَقِّقونَ ذلكَ الحُلْمَ البديعَ الَّذي لا وُجودَ لَهُ. وَهؤلاءِ يَملأونَ العالَم.
ولكِنْ توجد ديانَتانِ فقط في العالم. حسنًا؟ دِيانَتانِ فقط. فالنَّاسُ يقولون: "عَجَبًا! هناكَ دياناتٌ كثيرة جدًّا". لا! ديانتانِ فقط. ديانتانِ فقط في كل العالم. ديانة الإنجازِ البشريِّ؛ وهي تأتي بأسماءٍ لا حَصْرَ لها. ولكنَّها جميعًا مُتشابهة. وبِمُوجِبِها، أنتَ تَكْسَبُ خلاصَكَ بنفسِك. وهناكَ ديانةُ الإنجازِ الإلهيِّ. وهي تقولُ إنَّكَ لا تستطيعُ أنْ تَفعلَ ذلك، بل إنَّ اللهَ فَعَلَ ذلكَ في المسيح. وهناكَ ديانة واحدة فقط تقولُ ذلك وهي: المسيحيَّة. فهاتانِ هُما الدِّينَتانِ الوَحيدتانِ في العالم: ديانةُ الإنجازِ البشريِّ، وديانةُ الإنجازِ الإلهيِّ. ويجب عليكَ أنْ تَختار. وتأتي ديانةُ الإنجازِ البشريِّ بأسماءٍ كثيرة جدًّا؛ ولكنَّها مُتشابهة. وهي كِذبة مِن أكاذيبِ الشَّيطان. لذا، في كُلِّ حَشْدٍ، ستجدُ أُناسًا يَتَّكِلونَ على تَخليصِ أنفُسِهِم بأنفُسِهم، ويُريدونَ أنْ يَشُقُّوا طريقَهم إلى السَّماء، وأنْ يَذهبوا إلى هناكَ بِطَاقَتِهم الشَّخصيَّة، وبقوَّتهم الذَّاتيَّة، وبمواردهم المُستقلَّة.
وقد كانَ هؤلاءِ في ذلكَ الحشدِ في ذلكَ اليوم. ولكِنَّ الربَّ يسوعَ المسيحَ عَرَّاهُمْ وَكَشَفَهُم على حَقيقَتِهم. فقد كانوا مُكْتَفينَ بالطُّقوسِ الخارجيَّة. وكانوا مُكْتَفينَ بالأعمالِ السَّطحيَّة، وبالبِرِّ السَّطحيِّ، وبالأنظمةِ الَّتي تَقومُ على الأمورِ الخارجيَّة فقط. ولكِنَّ يسوعَ قالَ لهم: "آسِفٌ أيُّها النَّاس. أنتُم لستُم مُؤهَّلينَ أنْ تُعايِنُوا الله. وأنتم لم تكونوا يومًا في ملكوتي لأنِّي أبحثُ عنِ الأنقياءِ القلبِ. وأنا أتحدَّثُ عنِ الدَّاخل". وكما تَعلمونَ، فإنَّ هؤلاءِ الأشخاصَ كانوا بِلا عُذْرٍ. وهذا هو ما جاءَ في المزمور 51: 6. ومِنَ المؤكَّدِ أنَّهم كانوا يَعرفونَ المزامير. فالمزمور 51: 6 يقول: "هَا قَدْ سُرِرْتَ بِالْحَقِّ فِي الْبَاطِنِ". والمُرَنِّمُ عَلَّمَ الحَقَّ نفسَهُ في المزمور 24. فهو الواقعُ نفسُهُ في المزمور 24 إذْ نَقرأُ في الأعدادِ الخمسةِ الأولى: "لِلرَّبِّ الأَرْضُ وَمِلْؤُهَا. الْمَسْكُونَةُ، وَكُلُّ السَّاكِنِينَ فِيهَا. لأَنَّهُ عَلَى الْبِحَارِ أَسَّسَهَا، وَعَلَى الأَنْهَارِ ثَبَّتَهَا". فهي كُلُّها للهِ. وَهُوَ يَرى مَلكوتَ اللهِ بأَشْمَلِ صُورةٍ مُمكِنَةٍ. ثُمَّ إنَّهُ يقول: "مَنْ يَصْعَدُ إِلَى جَبَلِ الرَّبِّ؟" مَنْ سَيَدْخُلُ الملكوت؟ مَنْ سَيَدْخُلُه؟ "وَمَنْ يَقُومُ فِي مَوْضِعِ قُدْسِهِ؟" مَنْ سَيُعايِنُ اللهَ؟ والجوابُ يأتي في العددِ الرَّابع: "اَلطَّاهِرُ الْيَدَيْنِ، وَ [مَنْ؟] النَّقِيُّ الْقَلْبِ، الَّذِي لَمْ يَحْمِلْ نَفْسَهُ إِلَى الْبَاطِلِ، وَلاَ حَلَفَ كَذِبًا. يَحْمِلُ بَرَكَةً مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ، وَبِرًّا مِنْ إِلهِ خَلاَصِهِ".
مَنْ يَدْخُلُ المَلكوت؟ وَمَنْ يَخْلُص؟ ومَنْ هُوَ بَارٌّ؟ ومَنْ سَيُعايِنُ اللهَ؟ لقد لَخَّصَ يسوعُ المَزمورَ 24 في هذه التَّطويبة. فالطَّاهِرو الأيدي والأنقياءُ القُلوبِ هُمُ الذينَ يَخْلُصون. ولو أنَّهُم تَذَكَّروا كلماتِ النبيِّ الحَبيبِ الَّذي كانوا يَمْتَدِحونَهُ بصورة رائعة (أيِ النبيِّ إشعياء) لَعَرَفوا ذلك. فنحنُ نَقرأُ في سِفْر إشعياء 59: 1: "هَا إِنَّ يَدَ الرَّبِّ لَمْ تَقْصُرْ عَنْ أَنْ تُخَلِّص". فإنْ لم تَكُن مُخَلَّصًا ولم تَخْلَص، فإنَّ ذلكَ ليسَ لأنَّ يَدَ اللهِ لا تَستطيعُ أنْ تَصِلَ إليكَ، ولا لأنَّ ذِراعَهُ قَصيرَة جِدًّا أوْ لأنَّكَ بَعيدٌ جِدًّا عَنْ مَداه. لا. "بَلْ آثَامُكُمْ صَارَتْ فَاصِلَةً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِلهِكُمْ، وَخَطَايَاكُمْ سَتَرَتْ وَجْهَهُ عَنْكُمْ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ. لأَنَّ أَيْدِيَكُمْ قَدْ تَنَجَّسَتْ بِالدَّمِ، وَأَصَابِعَكُمْ بِالإِثْمِ. شِفَاهُكُمْ تَكَلَّمَتْ بِالْكَذِبِ، وَلِسَانُكُمْ يَلْهَجُ بِالشَّرِّ. لَيْسَ مَنْ يَدْعُو بِالْعَدْلِ، وَلَيْسَ مَنْ يُحَاكِمُ بِالْحَقِّ. يَتَّكِلُونَ عَلَى الْبَاطِلِ، وَيَتَكَلَّمُونَ بِالْكَذِبِ. قَدْ حَبِلُوا بِتَعَبٍ، وَوَلَدُوا إِثْمًا. فَقَسُوا بَيْضَ أَفْعَى، وَنَسَجُوا خُيُوطَ الْعَنْكَبُوتِ"، وَهَلُمَّ جَرَّا.
ثُمَّ نَقرأُ في العدد 12: "لأَنَّ مَعَاصِيَنَا كَثُرَتْ أَمَامَكَ، وَخَطَايَانَا تَشْهَدُ عَلَيْنَا" [يَقولُ النَّبِيُّ] "لأَنَّ مَعَاصِيَنَا مَعَنَا، وَآثَامَنَا نَعْرِفُهَا". وفي العدد 16: "فَرَأَى أَنَّهُ لَيْسَ إِنْسَانٌ، وَتَحَيَّرَ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ شَفِيعٌ. فَخَلَّصَتْ ذِرَاعُهُ لِنَفْسِهِ، وَبِرُّهُ هُوَ عَضَدَهُ. فَلَبِسَ الْبِرَّ كَدِرْعٍ، وَخُوذَةَ الْخَلاَصِ عَلَى رَأسِهِ. وَلَبِسَ ثِيَابَ الانْتِقَامِ كَلِبَاسٍ، وَاكْتَسَى بِالْغَيْرَةِ كَرِدَاءٍ". وهذه صُورة عنِ المسيح. فالمَسيحُ يَنظُرُ حَوْلَهُ ويَرى النَّاسَ هالِكينَ في الخَطِيَّة. وكما هيَ حالُ اليهودِ في زَمَنِ يسوع، فإنَّهُم يَصرُخونَ قائلين: "هَلْ يوجُد رَجُلٌ؟ هل يوجد شَفيعٌ؟ ثُمَّ إنَّ المسيحَ يأتي وَهُوَ يَرْتَدي ثِيابَ الخلاصِ ويَتحرَّك. ونقرأ في العدد 20: "وَيَأتِي الْفَادِي إِلَى صِهْيَوْن". أَتَرَوْن؟
فلو أنَّهم عَرَفوا إشعياء 59 لَعَرَفوا الإجابة عن سُؤالهم. ولو أنَّهم عَرَفوا حِزْقيال 36 لَعَرَفوا أنَّ المَسِيَّا سيأتي ويُطَهِّر شَعْبَهُ مِنَ الدَّاخِل. فالأمرُ يَختصُّ دائمًا بانقياءِ القلبِ، يا أحبَّائي. دائمًا.
وهُناكَ فقط ثلاثة طُرُق للتَّعامُل مَعَ الدِّين. فهناكَ التَّدَيُّن العَقْليّ الَّذي يَتَّكِل على قوانينِ الإيمان والأنظمة. وهُناكَ التَّدَيُّنُ العَمليُّ الَّذي يَتَّكِلُ على الأعمال الصَّالحة. ولكِنَّ اللهَ يقول: "ما أُريدُهُ هُوَ الدِّيانة القلبيَّة" الَّتي تَتَّكِل على الطَّهارة الَّتي يُعطيها اللهُ. فنحنُ نقرأ في سِفْر صموئيل الأوَّل 16: 7: "لأَنَّ الإِنْسَانَ يَنْظُرُ إِلَى الْعَيْنَيْنِ، وَأَمَّا الرَّبُّ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ [أين؟] إِلَى الْقَلْبِ". لِذا، فقد فَوَّتَ كثيرونَ ذلك. واسمحوا لي أقولَ أنْ ذلك كَما يلي، يا أحبَّائي: لن تتمكَّنَ يومًا مِنْ مُعايَنَةِ اللهِ، ولن تتمكَّنَ يومًا مِنْ دُخولِ ملكوتِ اللهِ، ولن تتمكَّنَ يومًا مِنَ الوُجودِ في حَضْرَةِ اللهِ، ولن تتمكَّنَ يومًا مِنَ الحُصولِ على غُفرانِهِ، ولن تتمكَّنَ يومًا مِن مَعرفةِ الفادي الَّذي يأتي مِنْ صِهْيَوْن، ولن تتمكَّنَ يومًا مِن مَعرفةِ مَعنى أنْ تأتي وتَشربَ مِنْ يَنْبوعِ الخَلاصِ، بل إنَّكَ ستموتُ إنسانًا بائسًا بسببِ خطاياكَ – إلَّا إنْ كانَ قَلبُكَ طاهِرًا. إلَّا إنْ كانَ قَلبُكَ طاهرًا.
ولكِن كما تَعلمون، فإنَّ الشَّيءَ العَجيبَ في ذلك هوَ أنَّ هذا هو تمامًا ما جاءَ يَسوعُ لِيَفْعَلَهُ: لِيُطَهِّرَ قَلبَك. فحينَ ماتَ على الصَّليب، كَما تَعلمونَ، حَمَلَ الخَطِيَّةَ الَّتي حُسِبَتْ عليكَ، وَدَفَعَ أُجْرَةَ تلكَ الخطيَّة. والكتابُ المقدَّسُ يقولُ إنَّ اللهَ حَسِبَ بِرَّهُ لَكَ. وهذه مُقايَضَة رائعة. فهو يأخُذُ خطاياكَ ويُعطيكَ بِرَّهُ. لِذا، حينَ تُؤمِنُ بيسوعَ المسيحِ، ويَنظرُ اللهُ إليكَ، فإنَّهُ يَراكَ طاهِرًا. ولا توجد حالة أُخرى يَراكَ فيها بتلكَ الطَّريقة.
وقد عَبَّرَ "كيتسبي باجيت" (Catesby Paget) عنِ الفِكرةِ نفسِها بهذه الكلمات: "أنا عَزيزٌ، بل عَزيزٌ جِدًّا على قلبِ اللهِ، ولا توجد مَعَزَّة أكثرَ مِن تلك لأنَّني مَحبوبٌ في شخصِ ابْنِهِ بذاتِ المَحَبَّةِ الَّتي يُحِبُّ ابْنَهُ بِها. وأنا قَريبٌ، بل قَريبٌ جِدًّا مِنَ اللهِ. ولا يوجد قُرْبٌ أكثر مِن ذلك لأنَّني قَريبٌ في شَخصِ ابْنِهِ بِذاتِ مَقدارِ قُرْبِ ابْنِهِ مِنه". وهذا كُلُّهُ لأنَّ المسيحَ حَلَّ مَكانَك، وحَمَلَ خطاياكَ في جَسَدِهِ على الخَشَبَة، ولأنَّ بِرَّهُ حُسِبَ لَنا. لِذا بالإيمان يَجعَلُنا اللهُ طاهِرين. فهذه هي رِسالَتُه. وهذا هُوَ سِياقُها.
والآنْ، لِنَنظُر تحديدًا إلى سُؤالٍ آخر. وبالمُناسبة، مِنُ المُرَجَّحِ أنَّنا لن نتمكَّنَ مِنَ الإجابة على كُلِّ هذه الأسئلة في هذا المساء. لِذا فإنّنا لَنْ نُجيبَ عن آخِر سُؤالَيْن. ولكِنَّهُما ثَانَوِيَّيْن بأيِّ حالٍ مِنَ الأحوال. السُّؤالُ الثَّاني: ما مَعنى أنْ تكونَ نَقِيَّ القلبِ. ما مَعنى ذلكَ حَقًّا؟ وهذا هوَ السُّؤالُ المُهِمُّ. ما مَعنى أنْ تكونَ نَقِيَّ القلبِ؟ أوَّلاً، اسمحوا لي أنْ أُذَكِّرَكُم بأنَّ الكلمة "قلب" هي "كَارْدِيَا" (kardia) الَّتي اشْتُقَّتْ منها الكلمة "كاردياك" (cardiac) وكُلُّ تلكَ الكلمات الأخرى؛ وهي كلمة يونانيَّة مَعناها: "قَلْب". ولكِنَّ القلبَ، كما نُلاحِظُ، هُوَ الدَّاخِل. فالقلبُ في الكتاب المقدَّس يُرَى دائمًا بوصفِهِ الجُزءَ الداخليَّ للإنسان، ومَرْكِزَ شَخصيَّتِه، وإنسانَهُ الباطِن. وبصورة رئيسيَّة (وأريدُ مِنكم أنْ تُلاحِظوا الآتي)، بصورة رئيسيَّة، إنَّهُ يُشيرُ إلى عمليَّة التَّفكير. فالقلبُ لا يُشيرُ تَحديدًا إلى العَواطِف.
وقد عَلَّمناكُم مِن قَبْل أنَّهُ عندما يريد الكتابُ المقدَّسُ أن يتحدَّثَ عنِ العواطِف فإنَّهُ يتحدَّثُ عنْ أحشاء رَأْفَات. فالمشاعرُ في المَعِدَة، في الجزءِ الأوسطِ، تُستخدمُ بطريقة مُختلفة جدًّا...بطريقة مُختلفة جدًّا. والحقيقة هي أنَّ الكتابَ المقدَّسَ يَتحدَّثُ أحيانًا عنِ الكَبِد كَمَرْكِزِ المشاعر (إنْ كانَ بمقدورِكُم أنْ تتخيَّلوا ذلك). والسَّببُ في أنَّهم يَستخدمونَ هذه المُصطلحات هو أنَّ اليهوديَّ يُعَبِّرُ عن مشاعِرِهِ وَاصِفًا ما يَشعُرُ بهِ في مَعِدَتِه. فعندما كانَ يُحِبُّ حَقًّا، كانَ يَشعُرُ بذلك في مَعِدَتِه. وعندما كانَ يَكْرَه حَقًّا، كانَ يَشعُرُ بذلك في مَعِدَتِه. وعندما كانَ يَشعُر بعاطفةٍ ما، كانَ يَشعُر بها في مَعِدَتِه. وما يزالُ هذا صحيحًا اليوم. فعواطِفُنا تُؤثِّرُ في أعضائِنا الدَّاخليَّة. ولكِنَّ الذِّهنَ والقلبَ يًرتبطان معًا في الحقيقة: "لأَنَّهُ كَمَا شَعَرَ فِي..." [ماذا؟] "نَفْسِهِ (أو: قَلْبِهِ)". لِذا فقد صارَتِ الكلمة "قَلْب" مُساوية لعمليَّة التَّفكيرِ غالبًا. ولكِنْ لاحِظوا الآتي: أحيانًا تُستخدَمُ الكلمة "قلب" للإشارة إلى الإرادة والعاطفة النَّابِعَتَيْنِ مِنَ الفِكْر...النَّابِعَتَيْنِ مِنَ الفِكر.
فمثلاً، إنْ كانَ ذِهني يَفعلُ شيئًا ما، وكانَ فِكري مُنْهَمِكًا حقًّا في ذلكَ الشَّيء، فإنَّهُ سيؤثِّرُ في إرادَتي الَّتي ستؤثِّرُ بدَوْرِها في عاطفتي. فالذِّهْنُ يُوَلِّدُ ... أوْ يُنْشِئُ الإرادة الَّتي تُحَرِّكُ بِدَوْرِها العاطفة. فالإرادَة تُشْبِهُ العَجَلة. فالذِّهنُ يُديرُ هذه العَجَلة. وما إنْ تَدورُ العَجَلة فإنَّها تُحَرِّكُ العواطِف. لِذا فإنَّ ما يَتحدَّثُ عنهُ رَبُّنا هُنا حينَ يَقولُ "أَنْقِيَاء الْقَلْب" هُوَ الدَّاخِل. وَهُوَ يُفَكِّرُ، قَبْلَ أيِّ شيءٍ آخَر، في الذِّهن الَّذي يَتحكَّمُ في الإرادة الَّتي تتحكَّمُ في رُدودِ الفِعْلِ العاطفيَّة.
وقد كانت هذه صَدمة للفَرِّيسيِّينَ والنَّاموسيِّينَ الذينَ كانوا يقولونَ للجميع إنَّ كُلَّ ما يحتاجونَ إلى القيامِ بهِ يَتَلَخَّصُ في الاهتمامِ بالأمورِ الخارجيَّة، وإنَّ الأمورَ الخارجيَّةَ هي المُهِمَّة فقط، وإنَّهُم إذا اهتمُّوا بالأمورِ الخارجيَّة والظَّاهريَّة، ومارَسوا الأنشطة الدينيَّة الخارجيَّة، فإنَّهم سيكونونَ على ما يُرام؛ ولكِنَّ ذلكَ لم يَكُن الحَلّ. ونَرى في إنجيل مَرقُس والأصحاح السَّابع مَثَلاً واضِحًا على ذلك (إنْ أردتُم أن تَعرفوا المزيد). فالقلبُ يُشيرُ إلى الدَّاخل. وَهُوَ المكانُ الَّذي يَحدُثُ فيهِ كُلُّ شيءٍ في داخِلِك بحسبِ التَّفكيرِ العِبريِّ.
فمثلاً، مِنَ الآياتِ الجَيِّدة لتوضيحِ ذلكَ لكم هي أمثال 4: 23. فهي تُلَخِّصُ هذا الأمرَ لنا. اسمعوني: سوفَ أَقْتَبِسُ الآية؛ وهي قصيرة جدًّا: "احْفَظْ قَلْبَكَ، لأَنَّ مِنْهُ مَخَارِجَ الْحَيَاةِ". بعبارة أخرى، أيًّا كانَ القلبُ، فإنَّهُ مَصْدَرُ كُلِّ شيءٍ في الحياة. فالأمورُ المُختصَّة بالتَّفكيرِ والمشاعرِ والأفعالِ تَنْبُعُ جميعُها مِنْ هذا القلب. والأصحاحُ السَّادسُ مِن رسالة أفسُس يتحدَّثُ عنْ عَمَلِ مَشيئةِ اللهِ مِنَ القلبِ...عنْ عَمَلِ مشيئةِ اللهِ مِنَ القلب. فهو المَكانُ الَّذي يَنْبُعُ مِنهُ كُلُّ شيء. ونَقرأ في سِفْر إرْميا 17: 9: "اَلْقَلْبُ أَخْدَعُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ نَجِيسٌ، مَنْ يَعْرِفُهُ؟" وفي سِفْر التَّكوين 6: 5، حينَ يَنْظُرُ اللهُ إلى حَضارةِ ما قبلَ الطُّوفان فإنَّهُ يَقول عَنِ الإنسانِ إنَّ: "كُلَّ تَصَوُّرِ أَفْكَارِ قَلْبِهِ إِنَّمَا هُوَ [ماذا] شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ". فالقلبُ هوَ التَّفكير، وَهُوَ المكانُ الَّذي يَنْبُعُ مِنْهُ السُّلوك. ومِنْهُ مَخارِجُ الحَياةِ.
ونقرأُ في إنجيل مَتَّى 15: 19 (على ما أَظُنّ): "لأَنْ مِنَ الْقَلْب تَخْرُجُ أَفْكَارٌ شِرِّيرَةٌ: قَتْلٌ، زِنىً، فِسْقٌ، سِرْقَةٌ، شَهَادَةُ زُورٍ، تَجْدِيفٌ. هذِهِ هِيَ الَّتِــي تُنَجِّسُ الإِنْسَانَ. وَأَمَّا الأَكْلُ بِأَيْدٍ غَيْرِ مَغْسُولَةٍ فليسَ أمرًا خَطيرًا البَتَّة". وقد قالَ للفَرِّيسيِّينَ مُباشَرَةً: "أنتُم تُرَكِّزونَ كثيرًا على الغَسْلاتِ الطَّقسيَّةِ في حين أنَّ اللهَ يُرَكِّزُ بالحَرِيِّ على القلب". وَهو يقول في العدد 18: "وَأَمَّا مَا يَخْرُجُ مِنَ الْفَمِ فَمِنَ الْقَلْب يَصْدُرُ، وَذَاكَ يُنَجِّسُ الإِنْسَانَ". ونقرأ في رسالة يعقوب 4: 8: "اِقْتَرِبُوا إِلَى اللهِ فَيَقْتَرِبَ إِلَيْكُمْ. نَقُّوا أَيْدِيَكُمْ أَيُّهَا الْخُطَاةُ" [أيْ: مِنَ الخارِج]، "وَطَهِّرُوا قُلُوبَكُمْ" [أيْ: مِنَ الدَّاخل]. وهناكَ آياتٌ كثيرةٌ أخرى، ولكنَّنا لن نَصْرِفَ وقتًا في التَّأمُّلِ فيها. ولكِنَّ اللهَ يَهتمُّ بحالةِ القلبِ. فهذا هو أساسُ المُشكلة. أتَذكرونَ داوُد الحَبيب؟ المزمور 51؟ ماذا قال؟ "اخْلُقْ فِيَّ" [ماذا؟] قَلْبًا نَقِيًّا يَا اَللهُ". "قَلْبًا نَقِيًّا اخْلُقْ فِيَّ". فهو مَصْدَرُ شَخصيَّتِهِ...مَصْدَرُ شَخصيَّتِهِ. ونقرأ في المزمور 73: 1: "إِنَّمَا صَالِحٌ اللهُ لإِسْرَائِيلَ". ولكِنْ لِمَنْ تَحديدًا في إسرائيل؟ "لأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ". أتَرَوْن؟ فاللهُ يَهتمُّ دائمًا بالدَّاخل.
واسمحوا لي، يا أحبَّائي، أنْ أقولَ لكم شيئًا: أنا لا أُبالي إنْ كنتم تذهبونَ إلى الكنيسةِ كُلَّ يومٍ في الأسبوع. وأنا لا أُبالي إنْ كنتم تَحملونَ الكتابَ المقدَّسَ دائمًا وتَحفظونَ الآياتِ. فإنْ لم يكن قَلبُكَ نَقِيًّا، فإنَّكَ لم تَستوفي مِعْيارَ اللهِ. فلا يَهُمُّ كم أنتَ مُتَدَيِّن...خارجيًّا. واسمحوا لي أنْ أُوَضِّحَ لكم ذلك مِن خلالِ داوُد وشاوُل. فعندما دَعا اللهُ شاوُل، كانَ شاوُل في حالة مُزْرِيَة. صَحيحٌ أنَّهُ كانَ طَويلًا، وقَوِيًّا، ووسيمًا، ولكنَّهُ لم يكن يَمتلك صِفاتٍ أخرى. لذا فإنَّنا نقرأُ في سِفْر صموئيل الأوَّل 10: 9 أنَّ اللهَ أعطى شاوُل قلبًا آخر. أليسَ هذا رائعًا؟ لأنَّ اللهَ كانَ ينبغي أنْ يُغَيِّرَهُ مِنَ الدَّاخل. لِذا فإنَّنا نَقرأُ في سِفْر صموئيل الأوَّل 10: 9: "أَنَّ اللهَ أَعْطَاهُ قَلْبًا آخَرَ". ولكِنْ أتَعلمونَ ماذا ابتدأَ يَعمل؟ لقد ابتدأَ يَعصي اللهَ. وقد تَطاوَلَ وَقامَ بِعَمَلٍ لا يَجوزُ لأحدٍ أنْ يَقومَ بهِ سوى الكاهِن. وحينئذٍ جاءَ إليهِ صموئيل وقالَ لَهُ: "شاوُل، إنَّ الرَّبَّ يَقولُ إنَّكَ انتهيت. فأنتَ لم تَعُدْ مَلِكًا. لماذا؟ لأنَّ اللهَ يَبْحَثُ عنْ رَجُلٍ حَسَبَ قَلْبِهِ". أَتَرَوْن؟
لماذا؟ لماذا يَهتمُّ اللهُ بذلك؟ الجوابُ جاءَ في 1صموئيل 16: 7: "لأَنَّ الإِنْسَانَ يَنْظُرُ إِلَى الْعَيْنَيْنِ، وَأَمَّا الرَّبُّ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى الْقَلْب". وَمَنْ كانَ الإنسانُ الَّذي حَسَبَ قلبِ اللهِ؟ لقد كانَ داوُد. وقدِ اختارَ اللهُ داوُدَ لأنَّ قلبَهُ كانَ مُستقيمًا. وقد قالَ داودُ الآتي في المزمور 9: 1: "أَحْمَدُ الرَّبَّ بِكُلِّ قَلْبِي". وقد قالَ داوُد في المزمور 19: 14: "لِتَكُنْ أَقْوَالُ فَمِي وَفِكْرُ قَلْبِي مَرْضِيَّةً أَمَامَكَ يَا رَبُّ، صَخْرَتِي وَوَلِيِّي". وفي المزمور 26: 2، صَرَخَ داوُد قائلاً: "جَرِّبْنِي يَا رَبُّ وَامْتَحِنِّي. صَفِّ كُلْيَتَيَّ وَقَلْبِي". وفي المزمور 27: 8: "قُلْتَ: اطْلُبُوا وَجْهِي" (يَقولُ داوُد). "لَكَ قَالَ قَلْبِي: وَجْهَكَ يَا رَبُّ أَطْلُبُ". وكما تَرَوْن، فقد كانَ رَجُلاً يَسْلُكُ بحسبِ قلبِهِ...مِنَ الدَّاخِل.
ونقرأُ في المزمور 28: 7 (وأنا أقرأُ فقط الجُزءَ الأوَّلَ مِنَ المزامير) إذْ يَقول: "الرَّبُّ عِزِّي وَتُرْسِي. عَلَيْهِ اتَّكَلَ قَلْبِي". فقد كانَ هذا الرَّجُلُ حَسَبَ قَلْبِ اللهِ. لقد كانَ داوُد، في كيانِهِ الدَّاخليِّ، يَطْلُبُ اللهَ. وهل تَعلمونَ ما هي خُلاصَةُ ذلكَ كُلِّه؟ إنَّني أُحِبُّ ما جاءَ في المزمور 57: 7. لا تَنْسَوْا ذلكَ البَتَّة. فقد صَرَخَ داوُدُ قائلاً: "ثَابِتٌ قَلْبِي يَا اَللهُ، ثَابِتٌ قَلْبِي". أليسَ هذا رائعًا؟ إنَّني مُتَشَبِّثٌ بِكَ في قلبي. وهذه هي العبادة الَّتي يُريدُها اللهُ. فنحنُ هُنا أمامَ رَجُلٍ عَايَنَ اللهَ. صحيحٌ أنَّهُ أَخْفَقَ خَارِجيًّا، ولكِنَّ قَلبَهُ كانَ مُثَبَّتًا على اللهِ. وهؤلاءِ النَّاس رُبَّما لم يُخْفِقوا خارجيًّا، ولكِنَّهم كانوا يُرَكِّزونَ على الطُّقوس. أمَّا قُلوبهم فلم تكن مُثَبَّتة على الله. حَسَنًا. نأتي إلى المُصطلحِ الثَّاني في العِبارة "أنقياءُ القلبِ"، وهي: "أنقياء". وما مَعنى ذلك؟
"كاثاروس" (Katharos). كاثاروس. ولا يمكنكم أنْ تتحدَّثوا كثيرًا عنِ الطَّهارةِ في عالَمِنا إنْ أردتُمْ أنْ يَرْضَوْا عنكم. فالنَّاسُ يقولونَ إنَّ الطَّهارة هي شيءٌ سَخيفٌ، ومُبْتَذَلٌ، ومُبْهَمٌ، وغامضٌ، وغيرُ جَذَّابٍ يُمارِسُهُ الأشخاصُ غُريبو الأطْوارِ الَّذينَ يَرتَدونَ أثْوابًا طويلةً ويعيشونَ في أَدْيِرَة. ولكِنْ ما مَعنى أنْ تكونَ طاهرًا؟ إنَّ الكلمة "كاثاروس" هي اسْمٌ مُشتقٌّ مِنَ الفِعل "كاثاريتزو" ومَعناهُ: يُطَهِّر مِنَ الإثْمِ والخطيَّة. فهو يَعني: يُطَهِّر مِنَ الإثم. وما أعنيهِ هو أنَّ هذا المَعنى البسيطَ الَّذي تَحتاجونَ إلى مَعرفتِه. وبالمَعنى الأخلاقيِّ، إنَّها كلمة تَعني: يَتَحَرَّر مِنَ الخطيَّة. وهي مُشابهة للكلمة اللَّاتينيَّة "كاستوس" (castus). والكلمة "كاستوس" هي جذر الكلمة الإنجليزيَّة "شيست" (chaste) ومَعناها: "عَفيف". وهذا هوَ الرَّابِطُ هُنا.
وبالمناسبة، فإنَّ مَنْ يَعملونَ في مَجالِ الطِّبِّ مِنْكُم يَعرفونَ مَعنى الكلمة "مُطَهِّر". فالمُطَهِّرُ هو مادَّة تُستخدَمُ في الطِّبِّ لتطهيرِ الجُروحِ أوْ لتنظيفِ منطقةٍ وتَطهيرِها. وعندما يَذهبُ شخصٌ إلى طَبيبٍ نَفسانيٍّ أوْ مُشيرٍ وَ "يُنَفِّسونَ" عَمَّا في داخِلِهم، فإنَّ هذا استخدام آخر للكلمة إذْ إنَّهُمْ يُنَقُّونَ نُفوسَهم. والكلمة تَعني ببساطة: يَتَطَهَّر. ولكِنَّ المُدهشَ في الأمر هو أنَّ هناكَ ظِلَّيْنِ مِنْ ظِلالِ المَعاني. وأودُّ أنْ أذكُرهُما لكم بسرعة. فهناكَ ظِلالُ مَعاني. فهناكَ مَنْ يَقولُ إنَّ الفِكرة هُنا هي عدم اختلاطِ الشَّيءِ بغيرِهِ. فالكلمة "نَقِيّ" تَعني "صِرْف" أو "خَالِص" أو "غير مُختلَط" أو "مَنْخُول أو مُنَقَّى مِنَ القُشور" (إنْ كانت تُستخدَمُ لوصفِ القمح أو للحديثِ عَنْ فَصْلِ القُشورِ عنِ الحُبوب). بعبارة أخرى، فإنَّ النَّقاوة تَعني أنَّكَ لَمْ تُضِفْ أيَّ عُنصرٍ غريب. فهو صِرْفٌ، وخالِصٌ، وغيرُ مُختلَط. وما يَعْنيهِ رَبُّنا حقًّا هُنا هوَ الآتي: "أنا أريدُ قلبًا نَقِيًّا في تَكريسِهِ، ونَقِيًّا في دَوافِعِهِ. فأنا أُريدُ دَوَافِعَ نَقِيَّة نابعة مِنْ قلبٍ نَقِيٍّ".
لِذا، قد يكونُ المَعنى المقصودُ هُوَ "النَّزاهة الرُّوحيَّة". وهي تَعني: المَواقِف. وهي تَعني النَّزاهَة وتَكريس القلب بالمُفارَقة معَ انقسامِ القلبِ والرَّأيِ المُتَقَلِّب. ولَعَلَّكُم تَذكرونَ ما جاءَ في سِفْر إرْميا 32: 39 إذْ نَقرأُ: "وَأُعْطِيهِمْ قَلْبًا وَاحِدًا وَطَرِيقًا وَاحِدًا لِيَخَافُونِي كُلَّ الأَيَّامِ". بعبارة أخرى، فإنَّ اللهَ يقول: "سوفَ أُعطيهم قلبًا واحدًا ولن يكونوا مُنْقَسِمينَ بعدَ الآن". وهذا يُشيرُ إلى التَّكريسِ الوحيد، وإلى القَصْدِ الوحيد. بعبارة أخرى، الدَّافِع...الدَّافِع...الدَّافِع النَّقِيّ. وأعتقد أنَّ هذا الأمرَ مُهِمٌّ جدًّا. وأعتقد أنَّ رَبَّنا يُرَكِّزُ حقًّا على ذلكَ كما سنَرى لاحقًا في العِظَة على الجبل حينَ يَصِلُ إلى الأصحاحِ السَّادسِ والأعداد 19-23. فهو يقول: "حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكَ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضًا. سِرَاجُ الْجَسَدِ هُوَ الْعَيْنُ، فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّرًا، وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ مُظْلِمًا". بعبارة أخرى، إنَّهُ يَرى هنا نَظرتَكَ الحقيقيَّةَ إلى الأشياء. فالطَّريقةُ الَّتي تَنظُرُ بها إلى الأشياءِ تُؤثِّرُ في حياتِكَ بأسرِها. فإنْ كانَ دافِعُكَ نَقِيًّا، ستكونُ حياتُكَ نَقِيَّة. وإنْ كانَ دافِعُكَ فاسِدًا، ستكونُ حياتُكَ فاسِدة.
لِذا، يجب أنْ يكونَ القلبُ واحِدًا، وأنْ يكونَ التَّكريسُ واحِدًا، وأنْ يكونَ الدَّافعُ واحدًا. وَهُوَ يُلَخِّصُ الأمرَ في العدد 24: "لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْدِمَ" [مَاذا؟] سَيِّدَيْنِ. فَهُوَ يُرَكِّزُ على التَّكريس. وقد تَحَدَّثَ يَعقوبُ عنها أيضًا. أليسَ كذلك؟ فهو يَتحدَّثُ عنها مَرَّتينِ في الأصحاحِ الرَّابعِ مِنْ رسالةِ يعقوب إذْ نقرأُ في العدد 4: "أَيُّهَا الزُّنَاةُ وَالزَّوَانِي، أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّ مَحَبَّةَ الْعَالَمِ عَدَاوَةٌ ِللهِ؟ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مُحِبًّا لِلْعَالَمِ، فَقَدْ صَارَ عَدُوًّا لله". فلا يمكنكَ أنْ تَحْصُلَ على الاثنين. لِذا فإنَّهُ يقولُ في العدد 8: "نَقُّوا أَيْدِيَكُمْ أَيُّهَا الْخُطَاةُ، وَطَهِّرُوا قُلُوبَكُمْ يَا ذَوِي الرَّأْيَيْنِ". لِذا، هناكَ هذا الشُّعورُ يا أحبَّائي، بأنَّ اللهَ يُريدُ دافعًا نَقِيًّا. وهل تُريدونَ أنْ تَعلَموا شيئًا؟ أعتقد أنَّهُ إذا كنتُم مُؤمِنين، مِنَ الطَّبيعيِّ بالنِّسبة إليكم أنْ تملِكوا هذا النَّوعَ مِنَ الدَّافِع. وهذا يُذَكِّرُني بما قالَهُ الرَّسولُ بولُس في رسالة رُومية والأصحاحِ السَّابع. وما الَّذي يُريدُ أنْ يَفعَلَه؟ هل أرادَ أنْ يَفعلَ ما هُوَ صَواب؟ إنَّهُ يقول: "لَسْتُ أَفْعَلُ الصَّالِحَ الَّذِي أُرِيدُهُ، بَلِ الشَّرَّ الَّذِي لَسْتُ أُرِيدُهُ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ. وَيْحِي أَنَا الإِنْسَانُ الشَّقِيُّ! مَنْ يُنْقِذُنِي مِنْ جَسَدِ هذَا الْمَوْتِ؟" وَهُوَ يقول: "إنَّ الوصيَّةَ صالحةٌ. وأنا أَتوقُ إلى تَطْبيقِ ناموسِ اللهِ. وأنا أُحِبُّ ناموسَ اللهِ. وأنا أرغبُ في ناموسِ اللهِ. ولكِنَّ الخطيَّةَ الَّتي فِيَّ تُفْسِدُني". بعبارة أخرى، فإنَّهُ يَقول: "إنَّ دَوافِعي نَقِيَّة، ولكنِّي ما زِلْتُ عاجِزًا عنِ التَّغَلُّبِ على طبيعَتي الخاطئة".
لِذا فإنَّ اللهَ يَهتمُّ بهذهِ الدَّوافِعِ النَّقيَّة. وأعتقدُ أنَّكَ إذا كنتَ مؤمنًا حقيقيًّا فإنَّ ذلكَ الدَّافِعَ إلى الطَّهارة موجودٌ حقًّا لديك. وإنْ لم تكن تَمْلِكُ ذلكَ الدَّافِعِ في قلبِك، فإنَّني أَشُكُّ في أنَّكَ تَعْرِفُ اللهَ. لأنَّ الأشخاصَ الوحيدينَ الَّذينَ يُعايِنونَ اللهَ حَقًّا، والأشخاصَ الوحيدينَ الذينَ يَعرفونَ اللهَ حَقًّا هُمُ الأنقياءُ القُلوبِ مِنْ جِهَةِ الدَّافِعِ تُجاهَ الله. فعندما أخطأَ داوُد، كانَ ذلكَ بسببِ أنَّهُ أَفْسَدَ دَوافِعَهُ. فقد سَمَحَ لدوافِعِهِ أنْ تَتَشَوَّش. ولكنَّهُ كانَ يَعودُ دائمًا إلى الشَّيءِ نفسِهِ. فعندما صَرَخَ قائلاً: "ثَابِتٌ قَلْبِي يَا اَللهُ، ثَابِتٌ قَلْبِي"، أتَعلمونَ أينَ كان؟ لقد كانَ يَختبئُ في مَغارةِ عَدُلاَّم. وهل تَعلمونَ لماذا كانَ يَختبئ في مَغارة عَدُلاَّم؟ لأنَّهُ تَصَرَّفَ كالمَجنون عندما كانَ في "جَتّ". فقد كانَ في جَتّ، وكانَ في مِنطقةِ الفِلسطينيِّينَ فَفَكَّرَ قائلاً: "إنَّ هؤلاءِ الجَتِّيِّينَ والفِلسطينيِّينَ سيَقتلوني لا مَحالَة. أنا خائفٌ جدًّا". وقد فَقَدَ ثِقَتَهُ باللهِ. لذا فقد تَظاهَرَ بالجُنونِ وراحَ يُسِيلُ رِيقَهُ عَلَى لِحْيَتِهِ، وَيُخَرْبِشُ عَلَى مَصَارِيعِ البَابِ كما لو كانَ مَجنونًا. فقد تَظاهَرَ بأنَّهُ مجنون. وقد قالوا: "نحنُ لسنا بحاجة إلى مَزيدٍ مِنَ المَجانين. أَخْرِجُوهُ مِنْ هُنا".
ثُمَّ إنَّهُ ذهَبَ إلى مَغارةِ عَدُلاَّم. ثُمَّ إنَّهُ قالَ في نفسه: "لقد حاولتَ، يا داوُد، أنْ تَحمي نفسَكَ فأخفيتَ هُوِيَّتَكَ الحقيقيَّةَ عِوَضًا عَنْ تَمجيدِ اللهِ. ولأنَّكَ لَعِبْتَ دَوْرَ المَجنون، فقد كُتِبَتْ هذهِ القِصَّةُ في الكتاب المقدَّس لكي يَعلمَ النَّاسُ في جميعِ أرجاءِ العالمِ أنَّكَ أَحْمَق. فقد أَهَنْتَ اللهَ وأَخفقتَ في تَمجيدِ اللهِ". ثُمَّ أنَّهُ يَتَوَقَّفُ ويَقول: "مِنَ الآن فصاعِدًا، يا رَبّ، ثَابِتٌ قَلْبِي يَا اَللهُ، ثَابِتٌ قَلْبِي". فلن أكونَ شخصًا ذَا رَأيَيْن. وماذا عنكَ؟ هل لديكَ تلك الرَّغبة في قلبِك؟ وهل لديك دوافع نَقِيَّة؟
قالَ أحَدُ الأشخاصِ لِـ "جون بَنْيان" العَظيم (John Bunyan) الَّذي كَتَبَ رائعَتَهُ "سياحَة المَسيحيّ" (Pilgrim's Progress) و "الحَرب المُقدَّسة" (The Holy War)، والعديد مِنَ الكُتُب الأخرى، قالَ لَهُ أحدُ الأشخاصِ إنَّهُ واعِظٌ عَظيمٌ وإنَّ عِظَتَهُ كانَتْ تُحْفَةً في ذلكَ اليوم. فَرَدَّ عليهِ بِحُزْن قائلاً: "شُكرًا لك. ولكِنَّ الشَّيطانَ أخبرني بذلكَ فيما كنتُ أُغادِرُ المِنْبَرَ وأَنْزِلُ الدَّرَج". إنَّهُ الدَّافِعُ النَّقِيُّ. ولكن اسمَحوا لي أنْ أُضيفَ شيئًا إلى ذلك، يا أحبَّائي. فهذا لا يَكفي. فالدَّافعُ النَّقِيُّ لا يَكفي. والكلمة "كاثاروس" (katharos) تُشيرُ إلى شيءٍ آخَر غيرَ الدَّافِع. فلا تتوقَّفوا هُنا. اسمعوني: هناكَ أشخاصٌ كثيرونَ لديهم دوافع نَقِيَّة ولكنَّهم لا يأتونَ إلى الله. هل تَعلمونَ ذلك؟ فهناكَ أشخاصٌ يَمشونَ على المسامير. فقد زُرْتُ مدينةَ "مِكسيكو" ورأيتُ النَّاسَ في مَزار "غوادالوبي" (the Shrine of Guadalupe) يَزحَفونَ على رُكَبِهِم مسافةَ مئة وخمسينَ مِترًا، أو مِئتي مِتْر أو ثلاثمئة مِتر إلى أنْ تَنْزِفَ رُكَبُهُم. وكانَ ينبغي للسيِّداتِ أنْ يَرتدينَ ملابسَ طويلة تُغَطِّي الرُّكْبَتَيْن. وكانَتِ الدِّماءُ تُغَطِّي مَلابِسهنَّ. وقد راقبتُهُم يَفعلونَ ذلكَ وَهُمْ يَحملونَ الأطفالَ على ظُهورِهم. إنَّهُم مُخْلِصونَ جِدًّا. وقد كانوا يحاولونَ حقًّا أنْ يُخَلِّصوا أنفُسَهُم. ولكنَّهُم كانوا مُخْطِئينَ تمامًا. ولا شَكَّ أنَّ عَبَدَةَ البَعْلِ كانوا مُخْلِصينَ إلى حَدٍّ ما في زَمَنِ إيليَّا حينَ جاءوا إلى هناكَ بالسَّكاكين وراحوا يُجَرِّحونَ أنْفُسَهُم. وأنا أقولُ إنَّ هذا إخلاص. فإذا كنتَ تُجَرِّحُ نَفسَكَ فإنَّكَ مُقْتَنِعٌ بما تَفْعَل.
ولكِنَّ مَعنى الكلمة "كاثاروس" يَتَخَطَّى ذلك. فهي لا تُشيرُ وحسب إلى الدَّافِعِ النَّقِيِّ، بل هي تُشيرُ إلى عَمَلٍ مُقَدَّسٍ أيضًا. فيجب أنْ يكونَ هذَانِ الأمْرانِ مَوْجودَيْن. فالنَّقاوةُ لا تأتي إلَّا مِنْ دافِع نَقِيّ. وقد قالَ "توماس واطسون" (Thomas Watson): "إنَّ الأخلاقَ لا تَختلِف عنِ الرَّذيلة في قُدرتِها على إغرْاقِ الإنسان". وقد قال: "فالسَّفينةُ قد تَغرق سواءٌ كانت مُحَمَّلَةً بالذَّهَبِ أوِ الرَّوْث". فقد تَظُنُّ أنَّ دَوافِعَكَ نَقِيَّةٌ وتقول: "أنا شخصٌ مُتَدَيِّنٌ جدًّا وأريدُ أنْ أُرضي الله". ولكِنْ إن لم تَكُن أفعالُكَ بَحَسَب كَلمته، ولم تَكْشِف عن نقاوة حقيقيَّة، فإنَّها عديمةُ القيمة. لِذا، صَحيحٌ أنَّنا نَتحدَّثُ عنِ الدَّافِع، ولكِنَّنا نَتحدَّثُ عَمَّا هوَ أكثر مِنَ الدَّافِع.
والآنْ، اسمحوا لي أنْ أَخْتِمَ بِفِكرة صغيرة أخيرة أو فِكْرَتَيْن. فهناكَ خمسةُ أنواعٍ مِنَ الطَّهارة. والآن، اسمعوني لأنَّ ذلكَ سيُساعِدُكم في فَهْمِ هذا تَمامًا. هناكَ خمسة أنواع مِنَ الطَّهارة. هل أنتُم مُستعدِّونَ لِسَماعِ هذا؟ خمسة أنواع. أوَّلاً، هناكَ ما أُسَمِّيهِ "الطَّهارة الأصليَّة". وقد تقول: "وما هي الطَّهارةُ الأصليَّة؟" أنَّها الطَّهارةُ الَّتي يَتَّصِفُ بها اللهُ فقط. وهي صِفَةٌ جوهريَّةٌ للهِ كَما أنَّ النُّورَ صِفَة جوهرَّية للشَّمس، وكما أنَّ البَلَلَ صِفَة جوهريَّة للماء. فهي طهارَتُهُ الأصليَّة.
ثانيًا، هناكَ طَهارَةٌ يُسَمِّيها الكتابُ المقدَّسُ؛ والحقيقةُ هي أنَّ الكِتابَ المُقدَّسَ لا يُسَمِّيها بهذا الاسمِ، ولكنَّهُ يُقَدِّمُها بوصفِها طَهارةً يُمكننا أنْ نُسَمِّيها: "الطَّهارَة المَخلوقَة". وهي خَلْقُ كائنٍ طاهِرٍ قبلَ السُّقوط. فاللهُ خَلَقَ الملائكةَ أطْهارًا، وخَلَقَ الإنسانَ طاهِرًا، ثُمَّ سَقَطَ كِلاهُما. ولكنَّها طَهارَة مَخلوقَة. لِذا، هناكَ الطَّهارة الأصليَّة الَّتي يَتَّصِفُ بها اللهُ فقط. وهناكَ الطَّهارة المَخلوقة الَّتي يَمْنَحُها بِوَصْفِهِ إلهًا طَاهِرًا لِكائِنٍ يَخْلُقْهُ.
ثالثًا، "الطَّهارة النِّهائيَّة". والطَّهارةُ النِّهائيَّةُ هي جُزْءٌ مِنَ التَّمجيد. بعبارة أخرى، في النِّهاية، سوفَ يَصيرُ جميعُ قِدِّيسي اللهِ أطهارًا. أليسَ كذلك؟ فذاتَ يومٍ، سوفَ تُغْسَل جَميعُ خَطايانا. وسوفَ نُطَهَّرُ...نُطَهَّرُ تمامًا...ونَسكُنُ معَ اللهِ في سَمائِهِ الأبديَّة إلى أبدِ الآبدين. وحينئذٍ، سنَختبرُ الطَّهارة النِّهائيَّة. ونحنُ نَقرأ في رسالة يوحنَّا الأولى 3: 2 كيفَ سيكونُ الأمرُ آنذاك: "وَلكِنْ نَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَنَرَاهُ كَمَا هُوَ".
رابعًا، "طَهارة المَقام"...طَهارَة المَقام. وهذه حقيقة رائعة! فطهارةُ المَقامِ هي الطَّهارة الَّتي أُعْطِيَتْ لنا الآن مِنْ خلالِ احتسابِ بِرِّ المسيحِ لنا. فعندما تُؤمِنُ بيسوعَ المسيحِ، فإنَّ اللهَ يُعطيكَ طَهارَةً خَاصَّةً بِمَقامِك. بعبارة أخرى، فإنَّ مَقامَكَ في المسيح يُحْسَبُ لَكَ طَهارَة. فعندما يَنظُرُ اللهُ إلى "جون ماك آرثر" (سَواء صَدَّقْتُم ذلكَ أَمْ لم تُصَدِّقوه) فإنَّهُ يقول: "جون ماك آرثر. حسنًا. أنتَ طاهرٌ تمامًا في المسيح. فَقَدْ حُسِبَ بِرُّ المسيحِ لَكَ لأنَّكَ تُؤمِنُ بيسوعَ المسيح". ونَقرأُ في رُومية 3 أنَّ بِرَّ المَسيحِ حُسِبَ لَنا. ونقرأُ في رومية 5 أنَّنا تَبَرَّرْنا بسبب ما فَعَلَهُ المسيح. ونقرأُ في غلاطية 2: 16 الشَّيءَ نَفسَهُ. ونَقرأُ في رسالة كورِنثوس الثَّانية 5: 21 الشَّيءَ نَفسَهُ. ونَقرأُ في أفسُس 5 أنَّهُ ينبغي للأزواجِ أنْ يُحِبُّوا زَوجاتِهِم كما يُحِبُّ المسيحُ الكنيسَةَ وكما طَهَّرَ الكَنيسَةَ وَغَسَّلَها. وفي رسالة كورِنثوس الثانية والأصحاح 11، يقولُ الرَّسولُ بولُس إنَّ الكنيسة تُشْبِهُ عَذراءَ عَفيفَة. وهذِهِ هي طَهارَةُ المَقام.
خامسًا...خامسًا، لقد رأينا الطَّهارةَ الأصليَّة، والطَّهارةَ المَخلوقة، والطَّهارة النِّهائيَّة، وطَهارة المَقام. وأخيرًا: "الطَّهارة العَمَلِيَّة". والآنْ، هذا هوَ الجُزءُ الصَّعب، يا أحبَّائي. فاللهُ وَحْدُهُ يَتَّصِفُ بالطَّهارة الأصليَّة. واللهُ وَحْدُهُ يَستطيعُ أنْ يُعطي الطَّهارةَ المَخلوقة. وذاتَ يومٍ، سيُعطي اللهُ كُلَّ قِدِّيسٍ طَهارةً نِهائيَّةً. والآن، كُلُّ مُؤمِنٍ لَدَيْهِ طَهارَة بسبب مَقامِهِ. ولكِنَّنا نُواجِهُ مَشاكِل عَويصة فيما يَختصُّ بالطَّهارة العمليَّة. أليسَ كذلك؟ فنحنُ نُحاولُ أنْ نُطَبِّقَ ما نحنُ عليهِ مِنْ جِهَةِ المَقام. لِذا فإنَّ الرَّسولَ بُولسَ يَصْرُخُ في رسالة كورِنثوس الثانية 7: 1 قائلاً تلكَ الجُملة العظيمة الَّتي تَصِحُّ على جميعِ المؤمنين وينبغي لنا أنْ نَسْمَعَها. استمعوا إلى ما يقول: "فَإِذْ لَنَا هذِهِ الْمَوَاعِيدُ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ لِنُطَهِّرْ ذَوَاتِنَا مِنْ كُلِّ دَنَسِ الْجَسَدِ وَالرُّوحِ، مُكَمِّلِينَ الْقَدَاسَةَ فِي خَوْفِ اللهِ". وَهُوَ لا يَتَحَدَّثُ عنِ الطَّهارةِ الأصليَّة، ولا المَخلوقة، ولا النِّهائيَّة، ولا طَهارةِ المَقام. فهذهِ الأنواعُ تَختصُّ باللهِ. ولكِنَّ الطَّهارةَ الَّتي يَلْتَمسُها هي الطَهارةُ العَمليَّةُ الحَياتيَّة. وهي ستكونُ في أفضلِ الأحوالِ ذَهَبًا مَخلوطًا ببعضِ الحديد. وهي ستكونُ في أفضلِ الأحوالِ ثوبًا أبيضَ يَحوي بعضَ الخُيوطِ السَّوداء. ولكِنَّ اللهَ يُريدُ مِنَّا أنْ نكونَ طاهِرينَ قدرَ الإمكانِ عَمَلِيًّا أمامَهُ.
اسمَعوني، يا أحبَّائي: إنَّ هؤلاءِ النَّاسَ الطَّاهرينَ مِنْ جِهَةِ المَقامِ في يسوعَ المسيحِ هُمُ الذينَ سيُعاينونَ اللهَ ويَدخُلونَ مَلكوتَهُ. وهؤلاءِ الأشخاص سيُظْهِرونَ ذلكَ مِنْ خلالِ حياتِهِم الطَّاهرة، ومِن خلالِ دوافِعِهِم الطَّاهرة، ومَعيشَتِهم الطَّاهرة. فإنْ لم يَكُنْ ذلكَ صَحيحًا في حياتِك، فأنتَ لستَ مُؤمِنًا، أوْ أنتَ مَسيحيٌّ تَعيشُ في العِصْيان. نحنُ نَسْقُط. مِنَ المُؤكَّدِ أنَّنا نَسْقُط. ولكِنَّ الكتابَ المقدَّسَ يعلمنا كيفَ نَتعاملُ معَ الفَشَل. فلا بُدَّ أنْ نُمْتَحَنَ لكي نَتَطَهَّر. ولا بُدَّ أنْ نُمْتَحَنَ لكي تَصيرَ أفكارُنا طاهرة، ولكي نَتَفَوَّهَ بالكلماتِ الطَّاهرة، ولكي نَفعلَ أعمالاً طاهرة. ولا بُدَّ أنْ نُمْتَحَنَ في أنْ تكونَ لدينا دوافع غير صحيحة تُؤدِّي إلى كلماتٍ وأفعالٍ غير صحيحة. ولكِنَّ الكتابَ المقدَّسَ يُخبرُنا كيفَ نَتعامَل مَعَ التَّجربة. اقرأوا أفسُس 6 والبَسوا سِلاحَ اللهِ الكامِل. وقد تقول: "ولكِنْ ماذا لو أَخْفَقْتُ؟ وماذا لو فَشَلْتُ؟" إنَّ الكتابَ المقدَّسَ يُخبرُكَ كيفَ تُعالِج ذلك: "إِنِ اعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا فَهُوَ أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ". فهو يُخبرُكَ كيفَ تُعالِج التَّجربة والفشل. ففي كُلِّ مَرَّة، تَصَدَّى لذلكَ بأنْ تَتوبَ وتَعترِف بذلك. واللهُ سيُطَهِّرُكَ لِتُكْمِل دَرْبَكَ بِطهارَةٍ أعظَم.
ويا لهُ مِن أمرٍ رائعٍ أنْ نَعلمَ أنَّ اللهَ يُطَهِّرُنا. وهناكَ سؤالٌ أخيرٌ ينبغي أنْ تَعرِفوه، وَهُوَ الآتي: كيفَ يمكن أنْ يَصيرَ قلبي طاهرًا؟ كيفَ يمكن أنْ يَصيرَ قلبي طاهرًا؟ هناكَ أُناسٌ يَقولون: "لكي تَصيرَ طاهرًا حقًّا، يَنبغي لَكَ أنْ تَذهبَ إلى دَيْرٍ في أعلى جَبَلٍ وأنْ تَبتعدَ عن كُلِّ شيء حَتَّى لا تَرى شَرًّا، ولا تَسمع شَرًّا، ولا تتكلَّم شَرًّا". وهذا يُسَمَّى "تَنَسُّكًا". وهناكَ أُناسٌ يَقولون: "لا! فالطَّهارةُ الحقيقيَّة هي عَمَلٌ ثَانٍ للنِّعمة. فبعدَ أنْ خَلَصْتَ قبلَ وقتٍ طويل، فإنَّكَ تَنتقل إلى عَمَلِ النِّعمة الثَّاني". وبالمناسبة، هناكَ أُناسٌ كثيرونُ يُعَلِّمونَ ذلك قائلينَ: "وأنتَ تَحصُل على ما يُسَمَّى بالاستِئْصَال. فاللهُ يقومُ بعملٍ إلهيٍّ يَسْتأصِلُ مِن خلالِهِ طبيعَتَكَ الخاطئةَ فلا تَعودُ تُخْطِئ ثانيةً طَوالَ حياتِك". وقدِ التقيتُ يومًا رَجُلاً قالَ إنَّهُ حَصَلَ على ذلك. فقد حَصَلَ على الاستئصال، أيْ على العَمَلِ الثَّاني للنِّعمة. وَهُوَ لم يُخْطئ قَطّ. وقد سألتُهُ إنْ كانَ قد ارتكبَ أيَّة غَلطة يومًا فقال: "أجل، ولكِنَّ ذلكَ مُختلِف".
ولكنِّي لا أعتقدُ أنَّ التَّنَسُّكَ يَستأصِلُ ذلك. ولا أعتقدُ أنَّ السَّعيَ إلى الكمالِ يَستأصِلُ ذلكَ أيضًا. إذًا، كيفَ أُطَهِّرُ قلبي؟ سوفَ أُقَدِّمُ لكم ثلاثَ نقاطٍ أرجو أنْ تُدَوِّنوها. أوَّلاً، اعلَم أنَّكَ لا تستطيعُ أنْ تَفعلَ ذلكَ بنفسك. فإنْ أردتَ قلبًا طاهرًا، اعلم أنَّكَ لا تستطيعُ أنْ تَفعلَ ذلكَ بنفسك. فهذا مُستحيل. مُستحيلٌ تمامًا. فنحنُ نقرأُ في سِفْر الأمثال 20: 9: "مَنْ يَقُولُ: «إِنِّي زَكَّيْتُ قَلْبِي، تَطَهَّرْتُ مِنْ خَطِيَّتِي»؟" مَنْ يَستطيعُ أنْ يَقولَ ذلك؟ إنَّ الجوابَ هُوَ: لا أحد. فلا يمكنكَ أنْ تَفعلَ ذلك. "هَلْ يُغَيِّرُ...النَّمِرُ [ماذا؟] رُقَطَهُ؟" "هَلْ يُغَيِّرُ الْكُوشِيُّ جِلْدَهُ؟" وَمَنْ يَستطيعُ أنْ يقولَ: "أنا طاهِر؟" لا أحد.
ثانيًا، نَقرأُ في أعمال الرُّسُل 15: 9 إنَّنا نستطيعُ أنْ نُطَهِّرَ قُلوبَنا بالإيمان. فلا يمكنكَ أنْ تَفعل ذلكَ بالأعمال. لا يمكنكَ أنْ تَفعل ذلكَ بالأعمال، ولكِن يمكنك أنْ تَفعلَ ذلكَ بالإيمان...بأنْ تُؤمِن. فنحنُ نقرأ في سِفْر أعمال الرسل 15: 9: "إِذْ طَهَّرَ بِالإِيمَانِ قُلُوبَهُمْ". بالإيمانِ بماذا؟ بالإيمانِ بماذا؟ نقرأ في 1يوحنَّا 1: 7؛ وهذه هي نُقطةُ الذُّروة في هذه الفِكرة إذْ نَقرأ: "إِنْ سَلَكْنَا فِي النُّورِ كَمَا هُوَ فِي النُّورِ، فَلَنَا شَرِكَةٌ بَعْضِنَا مَعَ بَعْضٍ، وَدَمُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِهِ يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ". هل تَفهمونَ ذلك؟ فلا يمكنكم أنْ تفعلوا ذلكَ بأعمالكم. ولكِن يمكن القيام بذلك بالإيمان. بالإيمان بماذا؟ بِدَمِ يسوعَ المسيح الَّذي يُطَهِّرُنا مِنَ الخطيَّة. فهل تريدُ أنْ تكونَ نَقِيَّ القلبِ؟ اقبَل ذبيحةَ المسيحِ على الصَّليب. اقبل ما فَعَلَهُ أصلاً.
ونقرأ في زكريَّا 13: 1: "فِي ذلِكَ الْيَوْمِ يَكُونُ يَنْبُوعٌ مَفْتُوحًا...لِلْخَطِيَّةِ وَلِلْنَجَاسَةِ". وقد تقول: "جون، لقد فَعلتُ ذلك. فقد سَلَّمْتُ قلبي ليسوعَ المسيح. وأنا أعلمُ أنِّي طاهِرٌ مِنْ جِهَةِ المَقام، وأعلمُ أنِّي سأكونُ طاهِرًا في النِّهاية؛ ولكنِّي أواجِهُ وقتًا عصيبًا في الطَّهارةِ العمليَّة. لِذا، كيفَ يمكنني أنْ أكونَ طاهرًا عَمليًّا؟" أتَعلمونَ كيف؟ تَمَسَّكوا بهذا، يا أحبَّائي...بهذا الكتاب. فهُنا تَجِدونَ كلماتِ يسوع. ونقرأ في إنجيل يوحنَّا 15: 3: "أَنْـتُمُ الآنَ أَنْقِيَاءُ لِسَبَبِ [ماذا؟] الْكَلاَمِ الَّذِي كَلَّمْتُكُمْ بِهِ". "أَنْـتُمُ الآنَ أَنْقِيَاءُ لِسَبَبِ الْكَلاَمِ الَّذِي كَلَّمْتُكُمْ بِهِ". والشَّيءُ الثَّاني هو أنَّهُ إذا كنتَ مُؤمنًا، واظِبْ على الكلمة والصَّلاة. صَلِّ واستمع إلى صلاةِ أيُّوب الَّذي قال: "مَنْ يُخْرِجُ الطَّاهِرَ مِنَ النَّجِسِ؟" وهناكَ إجابة واحدة فقط يَتَرَدَّدُ صَداها مِنَ الأزل: اللهُ يَسْتَطيع. لذا، إذا كنتَ تسأل: "كيفَ أستطيعُ أنْ أكونَ طاهِرًا؟" اعْلَم أنَّكَ لا تستطيعُ أنْ تَفعلَ ذلكَ بالأعمال. ولكِنْ يمكنكَ أنْ تَعرفَ الطَّهارةَ بالإيمان. الإيمان بماذا؟ بِدَمِ يسوعَ المسيحِ المَسفوك لأجلِك. وإنْ فَعلتَ ذلك، وكنتُ مُؤمِنًا، ولكِنَّكَ ما تَزالُ تُصارِعُ بسببِ وجودِ نَجاسَةٍ في حياتِك، انظر إلى الكَلمِة وإلى الصَّلاة.
وهناكَ سؤالٌ آخر لا يَسَعُني إلَّا أنْ أَذْكُرَهُ: ما هو الوعدُ المُرتبطُ بهذه الطَّهارة؟ فماذا سيحدثُ إنْ كُنَّا أنقياء؟ إنَّ الجوابَ رائعٌ جِدًّا إذْ نَقرأُ في نهايةِ العَدد: "لأَنَّهُمْ [ماذا؟] يُعَايِنُونَ الله". وتَرِدُ هذه العبارة بصيغة المُستقبَل المُستمرّ في اللُّغة اليونانيَّة...بصيغة المُستقبل المُستمرّ. لذلك، سأقرأُ لكم الآية كما ينبغي أنْ تكون: "لأنَّهم سيُعاينونَ بأنفسهم اللهَ باستمرار". فهي تَرِدُ بهذه الصِّيغة: "لأنَّهم سيُعاينونَ بأنفُسِهم اللهَ باستمرار". فهل تَعلمُ ما يَحدثُ حينَ يَتَنَقَّى قَلبُكَ عندَ الخَلاص؟ أنتَ تَحْيا في حَضرةِ الله. وأنتَ لا تَرى اللهَ بعينيكَ الطَّبيعيَّتين، بل تَراهُ بعينيكَ الرُّوحِيَّتَيْن. وأنتَ تَستوعِبُهُ. وأنتَ تُدركُ أنَّهُ موجود. وأنتَ تُعايِنُهُ. وكما هي حالُ مُوْسَى الَّذي صَرَخَ: "يا رَبُّ، أَرِنِي مَجْدَكَ"، فإنَّ الشَّخصَ الَّذي تَنَقَّى قلبُهُ بيسوعَ المسيحِ يُعايِنُ المَرَّةَ تلو الأخرى مَجْدَ الله. والآن اسمعوني: هل تَعلمونَ أنَّ مُعايَنَةَ اللهِ كانت أعظمَ شيءٍ يمكن أنْ يَحْلُمَ بهِ أيُّ شخصٍ في العهدِ القديم؟ فموسى قال: "أَرِني مَجْدَك". ويا لها مِن فِكرة! وقد قالَ فِيْلُبُّسُ في ذلكَ اليوم ليسوع: "يَا سَيِّدُ، أَرِنَا الآبَ وَكَفَانَا". ويا أحبَّائي، عندما تَتَنَقَّوْنَ في قُلوبِكم مِن خلال يسوعَ المسيح، سَتُعاينونَ اللهَ. فهو سيَصيرُ حَيًّا بالنِّسبة إليكم وتُعايِنونَهُ باستمرار. وكُلَّما حَقَّقْتُم نُضْجًا أكبر، وصِرتُم أكثرَ نَقاوةً، زادت رَوْعةُ رُؤيَتِكَ لَهُ.
وكُلَّما زادت نقاوةُ قلبِك، زادت قُدرتُكَ على رؤيةِ اللهِ بوضوحٍ أكبر. ويا لها مِن حقيقة رائعة! فقد قالَ أيُّوب في الأصحاح 42: "بِسَمْعِ الأُذُنِ قَدْ سَمِعْتُ عَنْكَ، وَالآنَ رَأَتْكَ عَيْنِي". وهل تَرَوْنَ أينَ رَآه؟ لقد رآهُ في مِحْنَتِه. وقد رآهُ المُرَنِّمُ في الخَليقة. وقد رآهُ آخرونَ في الظُّروف. وقد رآهُ آخرونَ في قُلوبِ أُناسٍ آخرين. ولكنَّهُ حَيٌّ في كلمته. وأنتَ لن تَرى ذلكَ إلَّا إذا تَنَقَّيْتَ في قلبِك. فنقاوةُ القلبِ تُطَهِّرُ عَيْنَيِّ الرُّوحِ فيصيرُ اللهُ مَنْظورًا. ويا لها مِن فكرة عظيمة! فهل تريدُ أنْ تَرى اللهَ؟ وهل تريدُ أنْ يحيا اللهُ في عالَمِك...الآن وإلى الأبد؟ إذًا، طَهِّر قَلْبَك. وهذا يَحْمِلُ مَعْنى أبديًّا لأنَّكَ ستَرى اللهَ ذاتَ يومٍ بعينينِ حقيقيَّتين. فنحنُ نقرأُ في إنجيل يوحنَّا 3: 2: "وَلكِنْ نَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَنَرَاهُ كَمَا هُوَ في هيئة يسوعَ المسيح". ويا لَهُ مِنْ يومٍ رائعٍ إذْ سنَرى المسيحَ وجهًا لوجه. وقد كَتَبَ "فريديريك بولارد" (F. F. Bullard): "حينَ أرى بالبِرِّ وَجْهَكَ المَجيدَ في النِّهاية، وعندما تَتلاشى جميعُ اللَّيالي الحالِكاتِ وأستيقظُ لأجدُ نفسي مَعَكَ، لأنظرَ الأمجادَ الَّتي لا تَزول، فإنَّني سأشعرُ حينئذٍ، حينئذٍ فقط، بالاكتفاء". دَعونا نُصَلِّي:
يا أبانا، لقد تَبارَكَتْ قُلوبُنا في هذا المساءِ أيضًا إذْ تَشارَكْنا في دراسةِ كلمَتِك. ثَبِّتها فينا في أعمقِ أجزاءِ قُلوبِنا واجعلها تُثْمِرُ أعمالاً إراديَّةً مَرْضِيَّةً أمامَك. اجعلنا أنقياء، يا رَبّ، لأجْلِ المسيح.
إذا كنتَ موجودًا هنا في هذا المساء ولم تَقبَل المسيحَ بعد، فأنتَ تَعلمُ أنَّ قلبَكَ ليسَ طاهرًا. وأنتَ تَعلمُ أنَّ خطاياكَ تَفْصِلُكَ عنِ اللهِ. ولكِنَّ شيئًا في أعماقِكَ يقول: "أريدُ أنْ أعرِفَ الله. وأريدُ أنْ أختبرَ نقاوةَ القلبِ لكي أتحَرَّرَ وأرى اللهَ الحَيَّ. وأريدُ التَّوبةَ والغُفرانَ اللَّذَيْنِ يُحَرِّرِانني مِنْ قَيْدِ الشُّعورِ بالذَّنب. وأريدُ أنْ أعرِفَ مَعنى أنْ أكونَ طاهِرًا. وأريدُ أنْ أعرفَ مَعنى أنْ تُغْفَر خطاياي. وأريدُ أن أعرفَ مَعنى أنْ أَتَحَرَّرَ مِنْ عِبْءِ كُلِّ الألمِ وكُلِّ الكَرْبِ وكُلِّ الإحباطِ الَّذي تَسَبَّبَتْ بِهِ خطيئتي وشُعوري بالذَّنب". فإنْ كان هذا هو الآن شوقُ قلبِك، لِمَ لا تَقول وَحَسْب: "يا رَبّ يسوع، أنا أُوْمِنُ أنَّ دَمَكَ سُفِكَ مِنْ أجلي وأنَّهُ قادِرٌ أنْ يُطَهِّرَ خطيئتي. وأنا أُوْمِنُ أنَّكَ قُمْتَ مِنَ الأمواتِ لأجلي. وأنا أُسَلِّمُكَ حياتي لتكونَ رَبِّي ومُخَلِّصي". هل يمكنكَ أنْ تُصَلِّي هذه الصَّلاة. أرجو ذلك. فأنا أرجو أنْ تُسَلِّمَ حياتَكَ للمسيح، وأنْ تَعرفَ النَّقاوة الَّتي لا يستطيعُ أحدٌ سِواه أنْ يُعْطيها. وإذا كنتَ مُؤمِنًا وتَعلمُ أنَّ هناكَ أمورًا في حياتِكَ ليست نَقِيَّة، هل تَعلمُ ما الَّذي يَحْدُثُ حينَ لا تكونُ طاهِرًا؟ فجأةً، لن تَتمكَّنَ مِنْ رُؤيةِ اللهِ. فسوفَ يبدو بعيدًا عنك. وسوفَ يَبدو ضَبابيًّا وغيرَ واضِح. وسوفَ يَختفي الفرحُ ولا تَعودُ تَرى الله. وسوفَ تَشعُرُ بالفراغِ بعدَ أنْ كنتَ تَشعُرُ بالامتلاء. وسوفَ يَحُلُّ الحُزْنُ مَحَلَّ الفرح. وسوفَ يَحُلُّ الشُّعورُ بالفَراغِ مَحَلَّ الشُّعورِ بالرِّضا وتَصيرُ في حالٍ بائسة. لِذا، طَهِّر قلبَكَ في هذا المساء مِن خلالِ الاعترافِ والتَّوبة.
يا رَبّ يَسوع، تَلامَسْ مَعَنا حيث نحن. ونحنُ نَشكُرُكَ على القيام بذلك العمل فينا لِتَطهيرِنا؛ لا لأجْلِ مَجْدِكَ أنتَ وَحَسْب، بل نحنُ نَشكركُ، يا إلَهَنا المُنْعِم، لأنَّنا نستطيعُ أنْ نَستمرَّ في مُعاينةِ اللهِ بأنفُسِنا. ويا لَها مِنْ مُكافأةٍ بَديعةٍ ورائعةٍ للطَّهارة! باسْمِ المسيح. آمين!

This article is also available and sold as a booklet.