
اسمَحوا لي أن أدعوكم إلى أن تَفتحوا معي كِتابَكُم المقدَّسَ على الأصحاحِ العاشرِ مِن إنجيل مَتَّى في هذا الصَّباح كي نَدرُسَ كلمةَ الله. إنجيل مَتَّى والأصحاح العاشِر. في أثناء دراستِنا لهذا الإنجيلِ المُدهشِ والرَّائع الَّذي يَفتَتِحُ العهدَ الجديدَ، رأينا كيفَ دَرَّبَ يسوعُ تلاميذَهُ الاثني عشرَ لكي يُرسلَهُم بِصِفَتِهم مُمَثِّلينَ للمَلكوت. وإذ نَصِلُ إلى الأصحاحِ العاشرِ، نَراهُ مُستعدًّا لإرسالِهم في أوَّلِ رِحلةٍ تَبشيريَّةٍ لهم، ولتدريبِهم عَمليًّا في مَيدانِ الخدمة. ويَحوي هذا الأصحاحُ التَّعليماتِ الَّتي أعطاها لهم عندما أرسلَهُم. وهي تَعليمات مُهمَّة جدًّا لأيٍّ شخصٍ مِنَّا مُرسَل لتمثيلِ يسوعَ المسيح.
ولكن قبلَ أن نَنظُرَ تحديدًا إلى التَّعليمات، ابتدأنا في التحدُّثِ عن أسماءِ الاثني عشر. وقد توقَّفنا وخَصَّصنا وقتًا للتعرُّفِ إليهم قدرَ الإمكانِ مِن خلالِ كلمةِ الله. وسوفَ نَتحدَّثُ في هذا الصَّباح عن الاسمِ الأخيرِ في اللاَّئحة بِحَسَب ما جاءَ في العددِ الرَّابع؛ أي عن يَهوذا الإسخريوطيّ. فقد دَرسنا الأحدَ عشرَ الآخرين. وفي هذا الصَّباح، سوف نُكمِلُ سِلسلتَنا عن تلاميذِ السَّيِّد مِن خلال التَّحدُّثِ عن هذا الرَّجُل: يَهوذا الإسخريوطيّ.
واسمَحوا لي أن أقرأَ مِن بدايةِ العددِ الأوَّل إلى نِهايةِ الجُزءِ الأوَّل مِن العددِ الخامِس: "ثُمَّ دَعَا تَلاَمِيذَهُ الاثْنَيْ عَشَرَ وَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا عَلَى أَرْوَاحٍ نَجِسَةٍ حَتَّى يُخْرِجُوهَا، وَيَشْفُوا كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضُعْفٍ. وَأَمَّا أَسْمَاءُ الاثْنَيْ عَشَرَ رَسُولاً فَهِيَ هذِهِ: اَلأَوَّلُ سِمْعَانُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ بُطْرُسُ، وَأَنْدَرَاوُسُ أَخُوهُ. يَعْقُوبُ بْنُ زَبْدِي، وَيُوحَنَّا أَخُوهُ. فِيلُبُّسُ، وَبَرْثُولَمَاوُسُ. تُومَا، وَمَتَّى الْعَشَّارُ. يَعْقُوبُ بْنُ حَلْفَى، وَلَبَّاوُسُ الْمُلَقَّبُ تَدَّاوُسَ. سِمْعَانُ الْقَانَوِيُّ، وَيَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيُّ الَّذِي أَسْلَمَهُ. هؤُلاَءِ الاثْنَا عَشَرَ أَرْسَلَهُمْ يَسُوعُ".
والآن، لقد التقينا حتَّى الآن أحدَ عشرَ تلميذًا. وقد حاولنا أن نَتعلَّمَ كلَّ ما يُمكننا أن نَتعلَّمَهُ عنهم. وقد وَجدنا مَعلوماتٍ كثيرةً عن بعضٍ منهم، ووجدنا معلوماتٍ قليلةً عن بعضٍ منهم، ولم نجد أيَّ معلوماتٍ عن بعضٍ منهم. ولكنَّنا حاولنا أن نَنظر إلى شخصيَّاتِهم، وطِباعِهم، وكيفَ كانَ لَهُم دورٌ في حُدوثِ الأشياءِ وفي خُطَّةِ رَبِّنا، ولماذا تَمَّ اختيارُهم لهذه المَهمَّة المُدهشة جدًّا. والشَّيءُ الرَّئيسيُّ الَّذي استنتَجناهُ بصورةٍ عامَّة هو أنَّهم كانوا غيرَ مُؤهَّلين. فقد كانوا مُجرَّدَ رِجالٍ عَادِيِّينَ على غِرارِنا نحن. فَهُم رِجالٌ كانَ لا بُدَّ أن يُغَيِّرَهُم اللهُ لكي يَجعلَهُم ما أرادَ لهم أن يكونوا. وقد رأينا كيفَ أنَّ رَبَّنا تَغلَّبَ على ضَعفاتِهم وأعطاهُمُ القُدرةَ على الوعظِ والتَّعليمِ والشِّفاءِ وَطَرْدِ الشَّياطينِ بصفتِهم المُمثِّلينَ الرَّسميِّينَ للملكوت.
وأودُّ أن أُضيفَ أنَّهم نَجحوا. فقد نَجحوا نَجاحًا باهِرًا. فقد كانَ هؤلاءِ الرِّجالُ الأحدَ عشر الأوائلُ حَقًّا المِفتاحَ لِكُلِّ بقيَّةِ التَّاريخِ البشريِّ. فلو أنَّهم أَخفقوا لما كانَ هناكَ جِيلٌ آخر مِن المؤمنين، ولما كُنَّا نحنُ هُنا اليوم. فنحنُ شَهادةٌ حَيَّة على نَجاحِ الأحدَ عشر. فقد نَجحوا. وبقوَّةِ رُوحِ اللهِ حَقَّقوا الهَدف. فقد نَفَّذوا ما طَلبَهُ منهم المسيح: فقد بَنَوْا كنيستَهُ. إنَّهُم مَجموعةٌ رائعة.
ولكنَّ واحدًا منهم يَختلفُ تمامًا عنِ البقيَّة. فهو مُختلفٌ تمامًا عنهم. وهو بمُفردِه. وهو وَحيدٌ. واسمُهُ هو: يَهوذا الإسخريوطيُّ. وهو شخصٌ مُريعٌ وغيرُ مُناسبٍ البتَّة. فهو كارثةٌ هائلة. وهو أسوأُ وأَشَرُّ رَجُلٍ يَتحدَّثُ عنهُ الكتابُ المقدَّسُ. وهو مَوضوعُنا في هذا الصَّباح. وهو يُذكَرُ أخيرًا [كما تُلاحظونَ] في العددِ الرَّابع. وهو يُذكَر دائمًا أخيرًا مع مُلاحظةٍ عن خِيانتِه لأنَّ هذه هي وَصمَةُ العارِ الَّتي التصقَت بهِ إلى الأبد. فقصَّةُ يَهوذا الحالِكَة السَّواد لَطخَة على صَفحةِ التَّاريخ البشريِّ. ومع أنَّنا نَعرفُ الكثيرَ عنه، فإنَّه مُحاطٌ بالكثيرِ مِن الغُموضِ والظَّلامِ اللَّذانِ رُبَّما لن نَعرفَ شيئًا عنهما. وقد صارَ اسمُهُ مُرادفًا للخيانة. وقد صارَ اسمُهُ مُحتقرًا جدًّا حتَّى إنَّه لا يُستخدَمُ في المُجتمعِ البشريِّ مع أنَّ اسمَهُ مُفعَمٌ بالمحبَّة.
هناكَ أربعونَ آية في العهدِ الجديد تُشيرُ إلى خِيانةِ رَبِّنا. وفي كُلٍّ منها، هناكَ إشارة ضِمنيَّة إلى الخطيئة المُريعة الَّتي اقترفَها هذا الرَّجُل: يهوذا. والحقيقةُ هي أنَّنا نَرى في وَصْفِ "دَانتي" (Dante) لِجَهنَّم أنَّ يَهوذا يَقبَعُ في القِسمِ الأدنى مِن جَهنَّم؛ وهو القِسمُ المَحجوز للشَّيطانِ نفسِهِ. ولا يُسمَح ليهوذا أن يَنتقل إلى المستويات الأخرى لبقيَّةِ الأشخاصِ المُدانين. فهو يَقبَعُ في مكانٍ عَميقٍ جدًّا مِن الهاوية. وبعدَ الإشارةِ إلى موتِه في الأصحاحِ الأوَّل مِن سِفْرِ أعمالِ الرُّسُل، يَختفي ذِكرُه مِن الأسفار المُقدَّسة ولا يُذكَر ثانيةً.
وأعتقدُ أنَّ هذا الرَّجُل يستطيعُ أن يُعلِّمَنا دروسًا عميقةً ومُهمَّةً جدًّا. لِذا، لِنَرى ما يقولُهُ الكتابُ المقدَّسُ عنه. أوَّلاً: لِنَنظُر إلى اسمِهِ... اسمِهِ: يَهوذا. وهو اسمٌ شائع. فَقد كانَ "لَبَّاوُس [أو: تَدَّاوُس] في العدد 3 يُعرَف أيضًا بِيَهوذا. وهو اسمٌ مُطابِقٌ لأرضِ يهوذا؛ أي أرضِ شَعبِ الله. وهناكَ مَن يقولُ إنَّ جَذرَ الكلمة يَعني: "يَهْوَه يَقود". وهُناكَ مَن يَرى أنَّ جَذرَ الكلمة يُشيرُ إلى شخصٍ جَديرٍ بالثَّناء. ولكن يا لها مِن مُفارَقة في كِلتا الحالتَيْن. فإن كانت تعني: "يَهْوَه يَقود"، لم يَكُن هناكَ شخصٌ قادَهُ الشَّيطانُ أكثر مِن يهوذا. وإن كانت تعني "الشَّخصَ الجَديرَ بالثَّناء"، لا يوجد شخصٌ عاشَ يومًا ولا يَستحقُّ أيَّ ثَناءٍ أكثر مِن يهوذا. لِذا فإنَّه رَجُلٌ مُبْهَمٌ مِن جِهةِ اسمِه. ونَقرأُ هنا أنَّ اسمَهُ ليسَ فقط يَهوذا، بل يَهوذا الإسخريوطِيّ. وما مَعنى ذلك؟ لقد جاءت تلك التَّسمية في الأصل مِن لَفظتَيْن: "إش" (ish) ومَعناها: "رَجُل"، و "كيريوث" (kerioth) ومَعناها: "بلدة". فقد كانَ رَجُلاً مِن بلدةِ قَريوت. وهذه [ببساطة] تَسمية جُغرافيَّة. ولكن لماذا يُعَرَّف يهوذا بحسبِ بَلدتِه في حين أنَّ التَّلاميذَ الأحدَ عشرَ الآخرينَ لا يُعَرَّفونَ بنفسِ الطَّريقة؟ هذا مُهمٌّ لأنَّه الوحيدُ الَّذي لم يكن مِن الجَليل. فهو اليهوديُّ الوحيدُ الَّذي جاءَ مِنَ الجزءِ الجنوبيِّ. وهو الوحيدُ الَّذي جاءَ مِن مَنطقة يَهوذا. فجميعُ التَّلاميذ الآخرين جاءوا مِن الجليل. ورُبَّما كانَ هذا يُشيرُ إلى أنَّه منذُ البداية، لم يكن يهوذا يَنتمي حَقًّا إلى هؤلاءِ التَّلاميذ. كذلك، كانَ يَهودُ الجنوبِ يَشعرونَ أنَّهم مُتفوِّقونَ جدًّا على اليَهودِ الرِّيفيِّينَ في الشَّمال. وكانوا يَنظرونَ إليهم نَظرةَ استِعلاء. لِذا، رُبَّما كانَ هناكَ قَدرٌ مِن الكِبرياءِ الَّذي ازدادَ أكثر فأكثر بمرورِ الوقت.
على بُعدِ ثلاثةٍ وعشرينَ ميلاً إلى الجَنوبِ مِن أورُشليم، وعلى بُعدِ سبعة أميال مِن الخَليل، كانت هناك مَجموعة مِن القُرى الصَّغيرة. وقد بُنِيَت بالقُرب مِن مَزارع كان النَّاسُ يَزرعونَ فيها المحاصيل. وقد اتَّحدَت تلك القُرى الصَّغيرة معًا وصارت بَلدةً صغيرةً واحدة. وقد صارت تلك البَلدة الصَّغيرة تُعرفُ باسم "قَريوت". وهي مَذكورة في سِفْر يشوع 15: 25. وقد كانت تلك البلدة الصَّغيرة هي الَّتي أَنجبَت هذا الرَّجُل. فعلى بُعْدِ سبعة أميال مِنَ الخليل، وُلِدَ طِفلٌ صغيرٌ سيصيرُ ذاتَ يومٍ أكثرَ إنسانٍ مَكروها عاشَ في التَّاريخ.
بعدَ أن تَحدَّثنا عنِ اسمِه، لِنَنتقلُ [ثانيًا] إلى التَّحَدُّثِ عن دَعوته... دَعوتِه. وأودُّ أن أقولَ إنَّ دَعوةَ يَهوذا ليست مُدوَّنة في الكتابِ المقدَّس. فنحنُ نَلتقيهِ أوَّلَ مَرَّةً هُنا في هذه اللاَّئحة، ولا نَدري كيفَ انضمَّ إلى المجموعة. بعبارة أخرى، نحنُ نَعلمُ أنَّ الرَّبَّ دَعاهُ إلى الانضمامِ إليها، ولكنَّنا لا نَعلمُ أيَّ شيءٍ عن الظُّروف. ونحنُ نَعلمُ أنَّه أرادَ الانضمام، ولكنَّنا لا نَعلم كيف تَبِعَ يسوع. ومِن الواضحِ أنَّه انجذبَ إلى يسوع. فهذا أمرٌ واضحٌ. وقد تَبِعَهُ. وقد بقيَ معه. وقد ظَلَّ معه فترةً أطول مِن كثيرٍ مِن التَّلاميذ الزَّائفينَ الَّذينَ تَركوه قبلَ وقتٍ طويل. والحقيقة هي أنَّنا نَقرأُ في إنجيل يوحنَّا والأصحاحِ السَّادس... ولَعلَّكُم تَذكرونَ أنَّني قلتُ لكم في الأسبوعِ الماضي أنَّه كان هناك تلاميذ كثيرونَ تَبِعوا يسوعَ، ولكن عندما طَالبَهُم بالتَّكريسِ الكامل نَقرأُ: "مِنْ هذَا الْوَقْتِ رَجَعَ كَثِيرُونَ مِنْ تَلاَمِيذِهِ إِلَى الْوَرَاءِ، وَلَمْ يَعُودُوا يَمْشُونَ مَعَهُ". ولكنَّنا نقرأُ أنَّ التَّلاميذَ الاثني عشرَ بَقَوْا معه. لذا، حتَّى عندما طَلَبَ يسوعُ تَكريسًا كاملاً، وحتَّى عندما قالَ: "يجب عليكم أن تأكلوا جسدي وأن تَشربوا دمي"، وحتَّى عندما طَالبَهُم بتخصيصِ أنفسهم له تمامًا وتَرَكَهُ كثيرونَ، فإنَّ يهوذا بَقِيَ مَعَهُ. فقد بقي. لِذا، مِن المؤكَّدِ أنَّه كانَ مُنجذبًا إلى يسوع.
ولا أعتقد أنَّه كانَ مُنجذبًا إليهِ رُوحيًّا، بل أعتقد أنَّه كانَ مُنجذبًا على المُستوى الأنانيّ. فلا أعتقد أنَّ يسوعَ وَحدَهُ هو الَّذي جَذَبَهُ، بل أعتقد أنَّ ما كانَ بمقدورِ يسوعَ أن يَفعلَهُ هو الَّذي جَذَبَهُ. فقد رأى قُدرةَ يسوع، وآمَنَ بأنَّ هذا الرَّجُلَ يستطيعُ أن يُؤسِّسَ المَلَكوت. فهو لم يكن مُهتمًّا بالملكوتِ لأجلِ المَلكوتِ أو لأجلِ المسيح، بل كانَ مُهتمًّا بالملكوتِ لأجلِ ما يُمكنهُ أن يَجنيهِ إن كانَ في الدَّائرة الدَّاخليَّة. لِذا فقد كانَ دافِعُهُ أنانيًّا جدًّا. ومع ذلك فقد تَبِعَهُ؛ ولكن ليسَ بِكُلِّ قلبِه. لِذا، مِن جانِبِهِ، لقدِ اختارَ أن يَتبعَ يسوع. ولكِن مِن جانبٍ آخر [وهو جانبُ المسيح]، لقد تَمَّ اختيارُهُ لكي يَتبعَ المسيح. ونَجِدُ هنا نفسَ المُفارقة المُختصَّة بالاختيارِ البشريِّ والسِّيادةِ البشريَّة الَّتي تَجِدونَها في الخلاص. فنحنُ نأتي إلى المسيح، ونحنُ نَختارُ أن نُؤمِنَ بالمسيح. ومع ذلك، لقد تَمَّ اختيارُنا قبلَ تأسيسِ العالَمِ مِن قِبَلِهِ. وهذه مُفارَقة. وهذه مُعضِلَة لاهوتيَّة تَجِدُ الحَلَّ فقط في فِكرِ الله. لِذا فقدِ اختارَ المَسيحُ يَهوذا. وقد اختارَ يَهوذا المَسيح.
وهناكَ شيءٌ واحدٌ مُؤكَّد وهو أنَّ يسوعَ كانَ يَعلمُ أنَّ يهوذا سيَخونُه. وهذا هو سببُ اختيارِهِ لَهُ. فقد كانَ يسوعُ يَعرفُ الخُطَّة. أتَرَون؟ وقد تقول: "كيفَ كانَ يَعلمُ الخُطَّة؟" الحقيقةُ هي أنَّه كانَ يَعرفُ الخُطَّة لسببٍ واحدٍ وهو أنَّ عِلْمَهُ كانَ مُطلَقًا. فقد كانَ يَعرِفُ كلَّ شيء. فمنذُ البداية، في إنجيل يوحنَّا 6: 70، نَقرأُ أنَّ كثيرينَ تَركوهُ وأنَّ الاثني عشرَ بَقَوْا معَهُ. وفي ذلكَ الوقتِ المُبكر قالَ يسوع: "وَاحِدٌ مِنْكُمْ [ماذا؟] شَيْطَانٌ". لِذا، لقد كانَ يَعلمُ ذلكَ منذُ البداية. وقد كانَ يَعلمُ ذلك بسببِ ما قالَهُ العهدُ القديم. فقد تَنبَّأَ العهدُ القديم أنَّ واحدًا مِن خاصَّتِه سيَخونُه.
فمثلاً، نقرأُ في المَزمور 41 والعدد 9 ما يَلي (وهي آيةٌ ذات دَلالة مَسيحانيَّة). فقد جاءَ في المَزمور 41: 9: "أَيْضًا رَجُلُ سَلاَمَتِي، الَّذِي وَثِقْتُ بِهِ، آكِلُ خُبْزِي، رَفَعَ عَلَيَّ عَقِبَهُ!". فقد رأى المُرَنِّمُ شيئًا سيحدُثُ في المستقبل وهو أنَّ المَسيَّا سيتعرَّض للخيانة مِن قِبَل صَديقٍ لَهُ. ونَجِدُ في المَزمور 55 أيضًا إشارةً مَسيحانيَّةً في العدد 12 وما يَليه. فنحنُ نَقرأ ابتداءً مِنَ العدد 12: "لأَنَّهُ لَيْسَ عَدُوٌّ يُعَيِّرُنِي فَأَحْتَمِلَ. لَيْسَ مُبْغِضِي تَعَظَّمَ عَلَيَّ فَأَخْتَبِئَ مِنْهُ. بَلْ أَنْتَ إِنْسَانٌ عَدِيلِي، إِلْفِي وَصَدِيقِي، الَّذِي مَعَهُ كَانَتْ تَحْلُو لَنَا الْعِشْرَةُ. إِلَى بَيْتِ اللهِ كُنَّا نَذْهَبُ فِي الْجُمْهُور". ثُمَّ انظروا إلى العدد 21؛ بل إلى نهايةِ العدد 20: "نَقَضَ عَهْدَهُ. أَنْعَمُ مِنَ الزُّبْدَةِ فَمُهُ، وَقَلْبُهُ قِتَالٌ. أَلْيَنُ مِنَ الزَّيْتِ كَلِمَاتُهُ، وَهِيَ سُيُوفٌ مَسْلُولَةٌ". إنَّها آياتٌ تُشيرُ إلى الغَدرِ، والرِّياءِ، والخِيانة في نُبوءةٍ أخرى عَمَّا سيَحدُثُ للمسيَّا.
وإذا نَظرتم إلى نُبوءةِ زَكريَّا والأصحاحِ الحادي عشر، فإنَّه يَتحدَّث عن الحدثِ نفسِه ولكن بمزيدٍ مِن التَّفصيل. فنحنُ نَقرأ في سِفْر زَكريَّا 11: 12: "فَقُلْتُ لَهُمْ: «إِنْ حَسُنَ فِي أَعْيُنِكُمْ فَأَعْطُونِي أُجْرَتِي وَإِلاَّ فَامْتَنِعُوا». فَوَزَنُوا أُجْرَتِي ثَلاَثِينَ مِنَ الْفِضَّةِ. فَقَالَ لِي الرَّبُّ [والآن، انتبهوا جَيِّدًا]: «أَلْقِهَا إِلَى الْفَخَّارِيِّ، الثَّمَنَ الْكَرِيمَ الَّذِي ثَمَّنُونِي بِهِ». فَأَخَذْتُ الثَّلاَثِينَ مِنَ الْفِضَّةِ وَأَلْقَيْتُهَا إِلَى الْفَخَّارِيِّ فِي بَيْتِ الرَّبِّ". إنَّها مُفاوضاتٌ. فقد بِيْعَ شخصٌ مَا بثلاثينَ مِن الفِضَّة. وقد أُلقيت القِطعُ الفِضيَّةُ الثَّلاثون إلى الفَخَّاريِّ في بيتِ الرَّبِّ. ويا لها مِن نُبوءةٍ دَقيقةٍ جدًّا وغريبة لأنَّهُ ما الَّذي يَفعلُهُ الفَخَّاريُّ في بيتِ الرَّبِّ؟ سوفَ نَرى!
لقد تَعرَّضَ للخيانةِ مِن صَديقِهِ مُقابلَ ثلاثينَ مِن الفضَّة. والعهدُ الجديدُ يُدَوِّنُ تَحقيقَ نُبوءاتِ العهدِ القديم. لِذا، عندما اختارَ يسوعُ يهوذا، كانَ يَعلمُ أنَّهُ الخائِن. وكانَ يَعرِفُ النُّبوءاتِ الَّتي تَتحدَّثُ عن تَعَرَّضُهِ للخِيانة. لِذا فقد كانَ يَعرِفُ الخُطَّةً كُلَّها. وقد اختارَهُ بسببِ تلك الخُطَّة.
والآن، انظروا معي إلى إنجيل يوحنَّا 17: 12 ولنُتابِع تَأمُّلَنا في هذه النُّقطة. إنجيل يوحنَّا 17: 12. فقد كانَ يسوعُ يُصَلِّي إلى الآب. وَهُوَ يُصَلِّي لأجل تلاميذِه. فهو يُصلِّي لأجلِ الاثني عشر. وَهُوَ يقول: "حِينَ كُنْتُ مَعَهُمْ فِي الْعَالَمِ كُنْتُ أَحْفَظُهُمْ فِي اسْمِكَ. الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي حَفِظْتُهُمْ، وَلَمْ يَهْلِكْ مِنْهُمْ أَحَدٌ...". فهو يقول: "يا أبتاه، لقد حَفِظتُهُم ولم يَهلِك مِنهم أحد "...إِلاَّ ابْنُ الْهَلاَكِ [أوِ ابنُ الضَّلالِ]...". فقد تَرجَمَها لوثر: "الابنُ الضَّالُّ" بِمَعنى أنَّهُ الشَّخصُ الَّذي كانَ مِن طَبيعَتِه أن يكونَ هَالِكًا، أوِ الَّذي كانَ دائمًا هالِكًا، أوِ الَّذي كانَ دائمًا مُدانًا، والَّذي لم يُغَيِّر يَومًا ضَلالَهُ. فهو ليسَ شخصًا فَقَدَ خَلاصَهُ، بل هو شخصٌ طَبيعَتُهُ الهَلاك. ويسوعُ لم يَفقِد أحدًا مِنهُم إلاَّ ابنُ الهَلاكِ "...لِيَتِمَّ الْكِتَابُ". بعبارة أخرى فإنَّ يسوعَ يقولُ للآب: "إنَّ يَهوذا هَالِكٌ لأنَّ هذا يُتَمِّمُ الكتابَ المقدَّسَ". لِذا فإنَّني أقولُ إنَّ يسوعَ اختارَهُ لأنَّه كانَ يَعرِفُ الكتابَ المقدَّسَ. فقدِ اختارَهُ لكي يُتَمِّمَ ما جاءَ في الكِتابِ المُقدَّس. فقد كانت تلك هي الخُطَّة. لقد كانت تلك هي الخُطَّة. والحقيقة هي أنَّه كما قلتُ في البداية، فإنَّ يسوعَ قالَ: "واحدٌ مِنكُم شَيطان". وهو لم يَذكُر مَن هو؛ ولكنَّهُ كانَ يَعرفُ الخُطَّة.
والآن، اسمعوني: تَجدونَ هنا مُفارقةً. وقد تقول: "إن كانت هذه هي الخُطَّة، هل يهوذا مَسؤول؟" أجل! وقد تقول: "ولكن كيفَ يُعَيِّنُ اللهُ كلَّ ذلك مُسَبَّقًا، ويَضعُ الخُطَّةَ، ويَضَعُ كلَّ النُّبوَّات، ويُنَفِّذ ذلك، ويُقحِمُ يَهوذا في الأمر، ثُمَّ يُحَمِّل يهوذا المسؤوليَّة؟" هذا هو تمامًا ما فَعَلَهُ اللهُ. أمَّا كيفَ يستطيعُ أن يَفعلَ ذلك فهو أمرٌ لا أفهمُه لأنَّ فِكرَ اللهِ غير المَحدود يَفوقُ بكثير فِكري المحدود. ولكنِّي أفهمُ بوضوحٍ ما يقولُهُ الكتابُ المقدَّسُ. ولكي تَجِدوا حَلاًّ لهذه المُعضلة، استمعوا إلى ما جاءَ في إنجيل لوقا 22: 21 و22 إذْ نَقرأُ ما يَلي، ويسوعُ هو الَّذي قالَ هذهِ الكلماتِ في العَشاءِ الأخير: "وَلكِنْ هُوَذَا يَدُ الَّذِي يُسَلِّمُنِي هِيَ مَعِي عَلَى الْمَائِدَة". فهو هُنا. إنَّهُ حاضرٌ هنا. ثُمَّ نقرأُ في إنجيل لوقا 22: 22: "وَابْنُ الإِنْسَانِ مَاضٍ..." [استمعوا إلى هذه الكلمات]: "كَمَا هُوَ مَحْتُومٌ". بعبارة أخرى، سوفَ أتعرَّضُ للخِيانة. وسوفَ يَتِمُّ القَبضُ عَليَّ. وسوفَ أموتُ كما هو مَحْتوم. فالخيانةُ ووجودُ خائِنٍ هُنا أمرانِ مَحتومان. ولكن استمعوا إلى ما يقولُهُ بعدَ ذلك: "وَلكِنْ وَيْلٌ لِذلِكَ الإِنْسَانِ الَّذِي يُسَلِّمُهُ!" أتَرَون؟ فَمِن جِهَة، إنَّهُ أمرٌ مُعَيَّن سابقًا. ومِن جهة أخرى فإنَّ يهوذا يَتحمَّلُ المسؤوليَّة. وكذلكَ هي الحالُ في الخلاص. فإن نِلتَ الخلاصَ فإنَّ السَّببَ في ذلك هو أنَّ اللهَ اختارَكَ قبلَ تأسيس العالَم. وإن هَلكتَ، أنتَ المسؤول. وإن لم تَفهموا هَذا التَّناقُضَ الظَّاهريَّ لا تَنزعجوا. فلا يوجد شخص عاشَ يومًا يَفهمُ ذلك أيضًا.
انظروا إلى سِفْر أعمال الرُّسُل والأصحاح الثَّاني كي نَرى مَثلاً إيضاحيًّا آخرَ في العدد 22. ولا حاجةَ إلى إيجادِ حُلولٍ لهذهِ المُعضِلاتِ، بل اقبَلوها وَحَسْب كما هي. عندما دَانَ بُطرسُ سُكَّانَ أورُشليم على قَتْلِ المسيَّا، استمعوا إلى ما قالَهُ. ففي سِفْر أعمال الرُّسُل والأصحاحِ الثَّاني، يَقولُ بُطرس مُشيرًا إلى يسوعَ النَّاصريَّ في العدد 22، ثُمَّ يقولُ في العدد 23: "هذَا [أي: يَسوعُ] أَخَذْتُمُوهُ مُسَلَّمًا [أي مُسَلَّمًا للمَوت] بِمَشُورَةِ اللهِ الْمَحْتُومَةِ وَعِلْمِهِ السَّابِق". بعبارة أخرى فإنَّه يقول: لقد أَسْلَمَهُ اللهُ للموت. وقد قَرَّرَ اللهُ ذلكَ مُسَبَّقًا. فَكُلُّ عِلْمِ اللهِ السَّابِقِ وتَخطيطِ اللهِ هُما مَن جَعَلَ ذلك يَحدُث. وبالرَّغمِ مِن ذلكَ فإنَّه يقول: "وَبِأَيْدِي أَثَمَةٍ صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوهُ". لِذا، كما تَرَون، يُمكنُ للقُدرةِ الإلهيَّةِ والسُّلطانِ الإلهيِّ أن يَسمحَا لرجُلٍ مِثل يهوذا أن يَتمنَّى أن يَتبعَ المَسيح، وأن يَختارَ أن يَتبعَ المَسيح، وأن يكونَ بالرَّغمِ مِن ذلكَ مُنفِّذًا للخُطَّةِ الإلهيَّة مع أنَّه فعلَ ذلكَ باختيارِه. وهذه هي قُدرةُ الله.
والآن، في الظَّاهرِ، لم يَكُن هناكَ في الظَّاهرِ ما يُشيرُ إلى وُجودِ عَيْبٍ في شخصيَّة يهوذا. أنا واثقٌ مِن ذلك. بل رُبَّما كانَ يَملِكُ صِفاتٍ وقُدراتٍ جَيِّدة. فقد بَقيَ ثلاثُ سنواتٍ مع التَّلاميذ. وقد قالَ يسوعُ في العِليَّة [في إنجيل يوحنَّا والأصحاح 13]: "إِنَّ وَاحِدًا مِنْكُمْ سَيُسَلِّمُنِي". وقد رَدَّ جميعُ الرُّسُل. هل تَذكرونَ ما قالوه؟ هل قالوا: "هل هو يهوذا؟" لا! بل إنَّ كُلاًّ مِنهم قال: "هل هو أنا؟" لماذا؟ لأنَّه لم يكن لديهم أيُّ سَببٍ للشَّكِّ في يهوذا أكثر مِن شَكِّهم في أنفسهم. فقد كانوا يَعرفونَ أنفسهم مَعرفةً أفضل ويَتوقَّعونَ الأفضلَ مِن يهوذا. فقد كانَ مُرائيًا بارعًا. فقد كانَ بارعًا جدًّا في إخفاءِ رِيائِه حتَّى إنَّهم اختاروهُ أمينًا للصُّندوقِ الماليِّ الخاصِّ بالمجموعة. أجل! فقد سَلَّموهُ المال. فقد كانوا يَثِقونَ به إلى هذا الحَدّ.
وقد تقول: "ألم يَعلموا ذلك؟ لا بُدَّ أنَّه كان شخصًا ذا خَلفيَّة سَيِّئة وخاطئة. وطَالَما أنَّه رَجُلٌ مُنحطٌّ وشرِّيرٌ وخَسيسٌ، وطالما أنَّه قد يَفعل أمرًا كهذا بالمسيح، لا بُدَّ أنَّه كانَ لديهِ سِجِلٌّ مُلَطَّخٌ وحافلٌ بالأمورِ المُريعة! أجل، ولكنَّ خَلفيَّتَهُ لم تَكُن أسوأُ مِن أيٍّ مِن التَّلاميذِ الآخرين. فمن الصَّعبِ أن تكونَ أسوأ مِن مَتَّى الَّذي كانَ استغلاليًّا، ولِصًّا، ومُرتَشِيًا. ومِن الصَّعبِ أن تكونَ أسوأ بكثير مِن سِمعان الغَيور الَّذي كانَ قاتِلاً مأجورًا. لِذا، كما تَعلمونَ، لقد كانوا مَجموعةً مِن الأشخاصِ المُريعينَ إن نَظرتُم إليهم بهذا المِنظار. ولا بُدَّ أنَّ يهوذا كانَ بارعًا جدًّا في التَّمثيلِ والتَّظاهُرِ وإخفاءِ حقيقتِه. ومِن المُدهش في نظري أنَّه لم يَنطِق بكلمة واحدة إلى أن تَذمَّرَ بخصوصِ هَدْرِ المال في بيت عَنْيا. فهو لم يَقُل كلمةً واحدةً في كلِّ الإنجيل، ولم يَفتَح فَمَهُ طَوالَ تلك السَّنواتِ مَرَّةً واحدة. وأنا واثقٌ مِن أنَّه كانَ يَنتَبِهُ جدًّا إلى ما يَخرُجُ مِن فَمِه لكي يُكمِلَ التَّمثيليَّة. وقد كانَ يَملِكُ نفسَ القُدُراتِ الَّتي يَملِكُها أيٌّ مِن التَّلاميذ الآخرين. فقد كان يُمكن أن يكونَ يوحنَّا، أو بُطرس، أو أيَّ تلميذٍ آخر. وما أعنيه هو أنَّ المسيحَ كانَ يستطيعُ أن يُغيِّرَهُ لو أنَّ قَلبَهُ كانَ مُستعدًّا. فقد كانَ يَملِكُ نفسَ المادَّةِ الخام. فهو لم يكن أسوأ حالاً مِن أيِّ تلميذٍ آخر. ولكنَّ الشَّمسَ نَفسَها الَّتي تُذيبُ الشَّمعَ تُقَسِّي الطِّين. ومعَ أنَّ التَّلاميذَ الآخَرينَ ذابوا وتَشَكَّلوا، فإنَّهُ تَقَسَّى. ومِنَ المُرَجَّحِ أنَّه كانَ شابًّا، ويهوديًّا تَقيًّا، ويَهوديًّا غَيورًا، ويهوديًّا بُطوليًّا لم يُعجبهُ أن يَحكُمَ الرُّومانُ البَلَد. وقد رأى فُرصةً في اتِّباعِ هذا الرَّجُل. فقد آمنَ بأنَّ هذا الرَّجُل هو المَسيَّا، وأنَّه سيؤسِّس مَملكةً، وأنَّ المَملكةَ ستكونُ أرضيَّةً، وأنَّهُ سَيَدْحَر رُوما، ويَطرُد الطُّغاة، ويُؤسِّس مَملكةَ إسرائيل، وأنَّ أيَّامَ الرَّخاءِ والمَجدِ ستأتي ثانيةً. ففي نَظرِه، كانَ كُلُّ المَلكوتِ أرضيًّا، ومَلموسًا، وماديًّا، ويُمكنكَ أن تُمسِكُهُ بيديك. وقد رأى فُرصةً في تحقيقِ مَكاسِبَ سَهلة. فهو لم يَنجذب حَقًّا إلى شخصِ المسيح، ولم يؤمن به ويُحبُّه حَقًّا، بل رأى يسوعَ وسيلةً وَحَسْب لتحقيقِ غَايَةٍ، ولإحرازِ مَكاسبَ شخصيَّة.
وكما تَعلمونَ، لقد صَبَرَ قليلاً لأنَّه في البداية لم يَنضمّ إلى المجموعة لأجلِ المال لأنَّهم كانوا فُقراء. ولكنَّه حَسِبَ أنَّه إن بقي معهم وقتًا كافيًا إلى ما بعد الثَّورة، سوفَ يَجني مَكاسبَ كثيرة. فقد كانَ مُستعدًّا للقيامِ بهذا الاستثمارِ بِضعَ سنواتٍ على أملِ أن يَحصُلَ على عائِدٍ كبيرٍ في النِّهاية.
إذًا، لقد اختارَهُ يسوعُ لأنَّ الخُطَّةَ كانت تَقتضي ذلك. ولكنَّهُ اختارَ يسوعَ بمشيئتِه الشَّخصيَّة لأنَّه حَسِبَ أنَّه سيتمكَّنُ مِن تحقيقِ مَكاسبَ شخصيَّة كبيرة. لِذا، يُمكننا أن نُلَخِّصَ ما سَبق بقولِ ما يَلي عن دَعوته: لقد اختارَ يسوعُ يهوذا بسببِ الخُطَّة، ولكنَّهُ وَفَّرَ ليهوذا كلَّ فُرصة مُمكنة لعدمِ تَحقيقِها. فقد قالَ يسوعُ مَثَلَ وكيلِ الظُّلْمِ، وتحدَّثَ عن الإنسانِ الَّذي يُهدِرُ الفُرَصَ المُتاحَةَ لَهُ. فقد قالَ ذلكَ أمامَ يهوذا. وقد ذَكَرَ أيضًا مَثَلَ لِباسِ العُرسِ أمامَ يهوذا. وقد قَدَّمَ دُروسًا عنِ المالِ والجشع ليهوذا. وقد قَدَّمَ دُروسًا عنِ الكبرياءِ ليهوذا. وقد قالَ أمورًا كثيرةً لهُ. وقد قالَ: "واحدٌ منكم شَيطان" لكي يُحَذِّرَ يهوذا. ولكنَّ يهوذا لم يَستمع يومًا، ولم يُطَبِّق أيَّ شيء؛ بل استمرَّ في خِداعِه.
وقد كانت علاقةُ يهوذا بالتَّلاميذ غريبة نَوعًا ما. فقد كانَ في المجموعةِ الرَّابعة. لقد كانَ في المجموعةِ الأخيرة. وهذا يُشيرُ إلى أنَّه لم يكن مِن التَّلاميذِ الحميمينَ حَقًّا في علاقتهم بيسوع. ويمكنني أن أتخيَّلَ أنَّه لم يكن يَتمتَّعُ بعلاقةٍ حميمةٍ مع أفرادِ المجموعةِ الرَّابعةِ أيضًا. فهو لم يَكُن مُنخرطًا كما ينبغي لأنَّه لم يكن جَليليًّا. لِذا فقد كانت علاقتُهُ ببقيَّةِ التَّلاميذ سَطحيَّة. وأعتقد أنَّه لم يَكن يَرتبط بهم بعلاقةٍ ذاتِ مَغزى. وقد أَوكَلوا إليهِ مسؤوليَّة الصُّندوق لأنَّكَ لا ينبغي أن تكونَ رُوحيًّا لكي تَحمِلَ كِيْسَ نُقود. وربَّما كانَ شَغوفًا بالأمورِ الماليَّة ويُحبُّ عَقْدَ الصَّفْقاتِ، ولديهِ اهتمامٌ حَقيقيٌّ بالمال، وأنَّ هذا حَقًّا هو ما كانَ يَسعى إليه. وقد اختاروهُ بسبب مَعرفته الواسعة بالأمور الماليَّة.
ولكنَّ يسوعَ كانَ يَعرفُ كلَّ شيءٍ لم يَكُنِ التَّلاميذُ يَعرفونَهُ. فقد كانَ يسوعُ يَعرفُهُ تمامًا على حقيقتِه. ولكنَّ يسوعَ أحبَّهُ، وحاولَ أن يُغيِّرَهُ. فنحنُ نَقرأُ في إنجيل يوحنَّا والأصحاح 13، أي في العشاءِ الأخير، أنَّ يسوعَ قال: "إِنَّ وَاحِدًا مِنْكُمْ سَيُسَلِّمُنِي!" فقالوا جميعًا: "هل هو أنا؟ هل هو أنا؟" فقال: "الَّذِي أَغْمِسُ أَنَا اللُّقْمَةَ وَأُعْطِيهِ هو الَّذي سيَخونُني". وقد كانتِ اللُّقمةُ قطعةَ خُبزٍ تَغمِسُها في صَحْنٍ يَحوي طَعامًا يُشبِهُ المُرَبَّى يُصنَعُ مِن الفاكهةِ والجَوز. فأنتَ تأخُذُ قِطعةَ خُبز وتَغمِسُها في ذلك الصَّحْن. وكانَ مِن عادةِ النَّاسِ في الشَّرق أن يُكرِموا الضَّيفَ مِن خلالِ تَقديمِ الطَّعامِ له. وكانَ الضَّيفُ المُكَرَّم هو الَّذي يَتِمُّ تقديمُ اللُّقمة له. فقد كانَ المُضيفُ يَغمَسُ اللُّقمةَ ويُقدِّمُها للضَّيفِ المُكَرَّم. وقد قالَ يسوعُ: "إنَّ الشَّخصَ الَّذي أُعطيه اللُّقمة هو الَّذي سيَخونُني". وقد غَمَسَ اللُّقمةَ وأعطاها ليهوذا. وفي تلك اللَّحظةِ، كانَ يُكرِمُهُ، ويَحترمُهُ، ويُظهِرُ مَحبَّتَهُ لَهُ، ويَرفَعُ مِن شأنِه. فقد كانَ ذلك العملُ [في رأيي] عَملاً نابعًا مِن القلب. وكانَ عَملاً نابعًا مِن مَحبَّة. ففَضلاً عن تَدريبِهِ ليهوذا، وتَعليمِهِ لَهُ، وتَحذيرِهِ لَهُ، فإنَّهُ أَكرَمَهُ حَقًّا. فقد فَعلَ كُلَّ ما يَلزَم مع ذلك الرَّجُل؛ ولكنَّه لم يَسْتَجِب.
وهذا يَقودُنا إلى النُّقطةِ الثَّالثة وهي: تَحَرُّكُه نحو الخِيانة... تَحَرُّكُه. وإنجيل يوحنَّا هو المَوضِعُ الَّذي ينبغي أن نَذهب إليه لرؤيةِ ذلك التَّحرُّك. فيُمكننا هُنا أن نَرى ما الَّذي يَحدث. فقد مَرَّت ثلاثُ سنوات. وكانَ يهوذا يَرجو أن يقومَ يسوعُ في أيَّة لحظة بتأسيسِ المَملكة. وما أعنيه هو أنَّه كانَ مُتيقِّنًا مِن تأسيسِها. فقد رأى مُعجزةً، ثُمَّ مُعجزةً أخرى، ومُعجزةً أخرى، ورأى أنَّ النَّاسَ يَنالونَ الشِّفاء، وأنَّ العُميَ يُبصرون، وأنَّ الصُّمَّ يَسمعون، وأنَّ العُرْجَ يَمْشون، وأنَّ البُكْمَ يَتكلَّمون، وأنَّ الجِياعَ يُشبَعون. وقد دُهِشَ جدًّا مِن كلِّ هذه الأشياء. وقد كانَ يَعلمُ أنَّ يسوعَ يَملِكُ القُدرةَ على تأسيسِ المَلكوت. وهو يَترقَّبُ في أيَّةِ لحظةٍ أن يَحدُثَ ذلك. وكانَ جَشَعُهُ الشَّديدُ يَدفعُهُ إلى البقاءِ مع بقيَّةِ التَّلاميذ، وإلى المُكوثِ معهم، وإلى التَّشَبُّثِ هناكَ بإصرارٍ بانتظارِ تأسيسِ ذلك المَلكوت.
والآن، أودُّ أن أقول لكم إنَّه لم يَكُن يُبالي قَطّ بالتَّلاميذِ الآخرين. فقد كانوا جميعًا يُؤمنونَ بأنَّ المَسيَّا سيأتي. وكانوا جميعًا يُؤمنونَ بأنَّ المَسيَّا سيُؤسِّس مَملكةً أرضيَّة. وقد كانوا جميعًا يُؤمنونَ بأنَّ المَسيَّا سيَدحَر رُوما ويؤسِّس المَملكة، وبأنَّهم سيَدخلونَ مَجْدَ المَملكة. وكانوا جميعًا يُؤمنونَ بأنَّهم قدِ التقوا الأسدَ الخارِج مِن سِبْط يهوذا. ولكنَّ الرَّبَّ ابتدأ يقولُ لهم إنَّه قبلَ أن يَصيرَ الأسدَ الخارجَ مِن سِبْط يهوذا، يجب عليه أن يكونَ الخَروفَ المَذبوحَ مِن قبلِ تأسيسِ العالَم. وقد تَحدَّثَ عن موتِه، وتحدَّثَ عن بَذْلِ حياتِه، وتحدَّثَ عَن ارتفاعِه. وعندما كانَ يتحدَّثُ عن ذلك، يُمكنكم أن تَسمعوا يهوذا يقول: "ما هذا الكَلام؟" وأعتقد أنَّ الشَّيءَ الَّذي حَطَّمَ يهوذا تَمامًا هو ما حدثَ بعدَ الدُّخولِ الانتصارِيِّ. فعندما دَخَلَ يسوعُ المدينةَ، صاحَ النَّاسُ: "أُوصَنَّا لابْنِ دَاوُدَ"، وراحوا يَفرشونَ سُعُوفَ النَّخيلِ عندَ قَدميه، ويُرَنِّمونَ. وكانَ الجَميعُ يُقِرُّونَ بأنَّهُ المَسيَّا. وقد دَخَلَ يسوعُ المَدينةَ. ولا بُدَّ أنَّ يهوذا كانَ يَسيرُ وَراءَهُ ويقول: "لَقدَ آنَ الأوان. سوفَ يُؤسِّسُ المَملكةَ اليوم". ويا لهُ مِن حَدَثٍ عَظيم! ولكنَّ يسوعَ يَنزِلُ عن ظَهرِ الجَحْشِ ويُقدِّم عِظَةً. وكانَتْ عِظَتُهُ كالتَّالي: "إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا". لا بُدَّ أن أموت. وأعتقد أنَّ هذا الكلامَ حَطَّمَ يَهوذا تَمامًا. فقد كانت تلك هي القَشَّةُ الَّتي قَصَمَت ظَهرَ يهوذا. فقد أدركَ أنَّ ما فَكَّرَ فيهِ لن يَحدث. وأعتقد أنَّ الأمرَ باتَ واضحًا في النِّهاية بالنِّسبةِ إليه.
وكما تَرَون، لقد ابتدأَ التَّلاميذُ الآخرونَ مِن حيث ابتدأَ هو. ولكنَّ الرَّبَّ رَفَعَهُم إلى مُستوىً رُوحيّ. ولكنَّ يهوذا لم يَبلُغ يومًا ذلك المُستوى. فقد رَفَعَهُم الرَّبُّ إلى مُستوىً رُوحيٍّ وجَعلهُم يَرَونَ مَلكوتًا رُوحيًّا ويَرَونَ الأشياءَ مِن وُجهةِ النَّظرِ الإلهيَّة. ولكنَّ يهوذا لم يَترك يومًا المستوى المَاديَّ والأرضيَّ. فقد كانَ مَاديًّا جدًّا. لقد كانَ التَّلاميذُ الآخرونَ دُنيويِّينَ... أجل... وجَشِعينَ، وأنانيِّينَ؛ ولكنَّ ذلكَ كُلَّهُ تَلاشى بسببِ مَحبَّةِ المسيح. وقد ابتدأوا يُحبُّونَهُ. وبسببِ محبَّتِهم لهُ رَفَعَهُم إلى مستوىً آخر. ولكنَّ ذلك لم يحدث يومًا في حياةِ يهوذا. فالجشعُ، والأنانيَّةُ، والماديَّةُ، والدُّنيويَّةُ فاقَت المحبَّة. لِذا فقد ارتفعَ التَّلاميذُ الآخرونَ في حين أنَّه بقي في مَكانِه. وقد شُفِيَ التَّلاميذُ الآخرونَ مِن فَسادِهم ولكنَّهُ صارَ أكثر فَسادًا وأكثر جَشعًا. فقد كانَ يوجدُ في صَميمِ شخصيَّتِه فَسادٌ شديدٌ ومُريعٌ دُونَ أن يُبْدي أيَّ استعدادٍ للتَّخلِّي عنه. لِذا، كما أنَّ "فاوست" (Faust) في مَسرحيَّةِ الأديبِ الألمانيِّ "غُوتِه" (Goeth) باعَ رُوحَهُ لميفيستوفيليس (Mephistopheles) الَّذي يُمَثِّلُ الشَّيطانَ، فإنَّ يهوذا باعَ رُوحَهُ لجَهنَّمَ نَفسِها.
فلنَتَتبَّع ما جَرى في إنجيل يوحنَّا والأصحاح الثَّاني عشر. ونحنُ نَقترِب مِن الأحداث الأخيرة؛ أي مِنَ الصَّليب. وقد كانَ يهوذا مُشَوَّشًا جدًّا وكُليًّا. فكُلُّ آمالِهِ بحدوثِ أيِّ شيءٍ جَيِّد قد تَلاشَت تَمامًا وضاعَت منه. ولم يَبْقَ شيءٌ جَيِّد. وقد عَجِزَ عنِ الاستمرارِ في رِيائِه، وعَجِزَ عن إخفاءِ شَرِّه ونَفسِهِ الشرِّيرةِ والفاسدةِ والبائسة السَّاكنة فيه. لِذا فقد حَدثَ شيءٌ في بَيْت عَنْيا فَضَحَهُ. ولا أعتقد أنَّ التَّلاميذَ لاحظوا ذلك حَقًّا لأنَّهم لم يكونوا يَشُكُّوا البَتَّة فيه ولم يَفهموا حَقًّا ما قَصَدَهُ. فقد أَخذت مَريَمُ [في العدد الثَّالث] "مَنًا مِنْ طِيبِ نَارِدِينٍ خَالِصٍ كَثِيرِ الثَّمَنِ، وَدَهَنَتْ قَدَمَيْ يَسُوعَ، وَمَسَحَتْ قَدَمَيْهِ بِشَعْرِهَا، فَامْتَلأَ الْبَيْتُ مِنْ رَائِحَةِ الطِّيب". فقد كانت تَسْكُبُهُ وَحَسْب بدافعِ المحبَّة، وبدافعِ عاطفتها الجَيَّاشة. فقد قَدَّمَت هذا الطِّيْبَ الكَثيرَ الثَّمن ليسوع. وهو شيءٌ تَستخدِمُهُ مَرَّةً واحدةً فقط ويَنتهي. لِذا، إن كانت قد أَهدَرَتْهُ، فقد أَهدَرَتْهُ. "فَقَالَ وَاحِدٌ مِنْ تَلاَمِيذِهِ..." [وهذه هي المَرَّةُ الأولى الَّتي يَفتَحُ فيها هذا الرَّجُلُ فَمَهُ في الكِتابِ المُقدَّس]، "...وَهُوَ يَهُوذَا سِمْعَانُ الإِسْخَرْيُوطِيُّ، الْمُزْمِعُ أَنْ يُسَلِّمَهُ". ولا أدري مَن هو سِمعان. يا لَهُ مِن رَجُلٍ مِسكين! "لِمَاذَا لَمْ يُبَعْ هذَا الطِّيبُ بِثَلاَثَمِئَةِ دِينَارٍ وَيُعْطَ لِلْفُقَرَاءِ؟" فقد كانَ يُبغِضُ يسوعَ جدًّا في هذا الوقتِ حتَّى إنَّه لم يَحتمِل أيَّ تَكريمٍ لَهُ. فقد استولتِ الكَراهِيَةُ عليه. فانجذابُهُ إلى يسوعَ في البداية، ومحبَّتُهُ لَهُ، وإعجابُهُ به قد تَحوَّلَ إلى كَراهِيَة. فلأنَّ يسوعَ لم يَفعل ما تَوَقَّعَهُ مِنهُ، صارَ مُحبَطًا أكثرَ فأكثر إلى أن اختلطَت هذه المحبَّةُ بالكَراهِيَة ثُمَّ لم يَبْقَ في النِّهاية سِوى الكَراهِيَة: "كيفَ تُهدِرينَ قارورةَ الطِّيبِ هذه على هذا الرَّجُل الَّذي أَهدرتُ ثلاثَ سَنواتٍ مِن عُمري في اتِّباعِه!"
وبالمُناسبة، رُبَّما لم تَكُن قارورةُ الطِّيبِ تُساوي ثلاثمئة دينار، بل رُبَّما كانت تلك مُبالغة مِنْهُ بسببِ الجَشعِ الَّذي يَملأُ قَلبَهُ لكي يُثبِتَ وُجهَةَ نَظرِه. وإن كانَ هذا هو حَقًّا ثَمَنُها فإنَّهُ أُجرةُ ثلاثمئةِ يومِ عَمَل؛ أي أُجرةُ سنة كاملة تقريبًا مِن العمل ثَمَنًا لقارورةِ الطِّيْبِ تلك. "قَالَ هذَا لَيْسَ لأَنَّهُ كَانَ يُبَالِي بِالْفُقَرَاءِ، بَلْ لأَنَّهُ كَانَ سَارِقًا". وهو لم يَصِر سَارقًا هنا، بل كانَ دائمًا سَارِقًا. فقد كانَ يَسرِقُ مِن الصُّندوقِ طَوالَ الوقت؛ أي طَوالَ السَّنواتِ الثَّلاث. "...بَلْ لأَنَّهُ كَانَ سَارِقًا، وَكَانَ الصُّنْدُوقُ عِنْدَهُ..." ثُمَّ لاحِظوا ما يَلي إذْ إنَّ النَّصَّ اليُونانيَّ يقول: "...وَكَانَ يَخْتَلِسُ مَا يُلْقَى فِيه". هل يُمكنكم أن تَتخيَّلوا شخصًا كهذا؟ فقد كانت هذه المجموعةُ مُؤلَّفة مِن عددٍ مِن الأشخاصِ الفُقراءِ الَّذينَ يَفعلونَ الخيرَ. وكانَ يَسرِقُ مَوارِدَهُم طَوالَ الوقت. فهو لم يَكُن يُحبُّهم البتَّة، ولا يَشعُرُ مَعَهُم. والحقيقةُ هي أنَّه لم يكن يَعرفُ أيًّا مِنهم. فقد جاءَ مِن الجَنوبِ، وتَظاهَرَ بأنَّهُ مِنهُم بإتقانٍ شَديد. وَهُم لم يكونوا يَعرفونَ أيَّ شيءٍ عنه. ولكنَّهُ كانَ طَوالَ الوقتِ يَختَلِسُ مِن الصُّندوق. فقد كانَ مَاديًّا، وكانَ يَعيشُ لأجلِ شيءٍ واحدٍ فقط: الحُصولُ على ما يُمكِنُهُ الحُصولُ عليه بأيَّة طريقة مُمكنة. ولكِن إن لم يَكُن سيحصل على المَلكوتِ كُلِّه فإنَّه سيحصل على بِضعة دُولارات. فقد كانَ هذا هو الدَّافعُ الرَّئيسيُّ لدى يهوذا. وقد حاولَ أُناسٌ أن يَنسبوا إليهِ دَافِعًا نَقيًّا. ولكن لا يُمكنكم أن تَنسبوا إلى يهوذا أيَّ دافعٍ نَقيٍّ في أيِّ وقتٍ مِن الأوقاتِ ولا بأيِّ حالٍ مِن الأحوالِ لِسَببَيْن: أولاً، لقد قالَ يسوعُ: "واحدٌ منكم شَيطانٌ"؛ ثانيًا: قبلَ أن يَخونَ يَسوع، قالَ يسوعُ إنَّ الشَّيطانَ قد دَخَلَهُ. فلم يكن هناكَ أيُّ صَلاحٍ فيه، بل كانَ شخصًا شِرِّيرًا.
وبعدَ تلك الحادثة، غادَرَ يهوذا في تلك اللَّيلةِ بيت عَنْيا وأجرى أوَّلَ لِقاءٍ مُميتٍ مع رُؤساء الكَهَنة. وقد ابتدأَ يُساوِمهُم [كما جاءَ في سِفْر زَكريَّا والأصحاحِ الحادي عَشر] على ثلاثينَ مِن الفِضَّة. لِذا فقد تَمَّ دَهْنُ الرَّبِّ بدافعِ المَحبَّة، وتَعرَّضَ للخيانةِ بدافعِ الكَراهِيَة في نفسِ اللَّيلة. وأودُّ أن أُضيفَ أنَّ يسوعَ ما يَزالُ يُعامَلُ بالطَّريقةِ نفسِها مِن قِبَلِ كُلِّ إنسان. فأنتَ إمَّا أنْ تُكْرِمْهُ، وإمَّا أنْ تَخونَهُ. فلا توجد مَنطقة وُسطى. فأنتَ إمَّا أن تكونَ مِثلَ مَريم، وإمَّا أن تكونَ مِثلَ يهوذا. فإمَّا أن تَسكُبَ مَحبَّتَكَ لَهُ، وإمَّا أن تَبيعَهُ بأيِّ ثَمَنٍ تَراهُ مُناسبًا.
انظُروا إلى إنجيل يوحنَّا والأصحاح الثَّالث عشر. فبعدَ أن ابتدأَ يَهوذا في تَنفيذِ خِيانَتِه، التقى رَبُّنا في العِليَّةِ تَلاميذَهُ. فقد جاؤوا مِن بَيْت عَنْيا إلى هذا المكان. وقد اتَّفَقَ يهوذا على خِيانَةِ يسوعَ وعادَ لينضمَّ إلى المجموعةِ ويُمارِس رِياءَهُ أكثرَ فأكثر. وقد عادَ وتَمَّ استقبالُهُ أحسنَ استقبالٍ في الشَّركةِ مَرَّةً أخرى. وقد غَسَلَ يسوعُ رِجْلَيْه [إن كانَ بمقدورِكُم أن تَتخيَّلوا ذلكَ] في الجُزءِ الأوَّل مِن هذا الأصحاح. ثُمَّ إنَّ يسوعَ قالَ في العددِ العاشر: "وَأَنْتُمْ طَاهِرُونَ وَلكِنْ لَيْسَ كُلُّكُمْ". وقدِ ابتدأَ يُشيرُ إلى يَهوذا. "وَلكِنْ لَيْسَ كُلُّكُمْ. لأَنَّهُ عَرَفَ مُسَلِّمَهُ، لِذلِكَ قَالَ: «لَسْتُمْ كُلُّكُمْ طَاهِرِين»". وهو يقول في العدد 18: "لَسْتُ أَقُولُ عَنْ جَمِيعِكُمْ. أَنَا أَعْلَمُ الَّذِينَ اخْتَرْتُهُمْ". أنا أَعلمُ الأحدَ عَشَرَ المُخَلَّصين. "لكِنْ لِيَتِمَّ الْكِتَابُ". وهو يَقتبِسُ ما جاءَ في المَزمور 41: 9: "اَلَّذِي يَأكُلُ مَعِي الْخُبْزَ رَفَعَ عَلَيَّ عَقِبَهُ. أَقُولُ لَكُمُ الآنَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ [في العدد 19]، حَتَّى مَتَى كَانَ تُؤْمِنُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ". فقد أرادَ منهم أن يَعلموا أنَّه كانَ يَعلَمُ ذلكَ حَتَّى عندما يَحدثُ يقولون: "عَجَبًا! لا أحدَ سِوى الله يَستطيعُ أن يَعرف ذلكَ قبلَ حُدوثِه!" وَهُم لم يَفهموا عَمَّن يَتحدَّث. لِذا، عندما قالَ: "إِنَّ وَاحِدًا مِنْكُمْ سَيُسَلِّمُنِي!" قالَ كُلٌّ منهم: "هل هو أنا؟ هل هو أنا؟ هل هو أنا؟ هو هل أنا؟" فلم يَكُن مِن الواضحِ مَنِ الشَّخصُ المَقصود. وطالَما أنَّ يسوعَ عَلِمَ مَن هو، لا بُدَّ أنَّهُ خارقٌ للطَّبيعة. وأنا أُدهَشُ دائمًا مِنَ العدد 21: "لَمَّا قَالَ يَسُوعُ هذَا اضْطَرَبَ بِالرُّوح". فقد اضطربَ بالرُّوح. فقد كانَ حَزينًا وقَلِقًا ومُتضايقًا بسببِ عدمِ الامتِنان، ورَفضِ المحبَّة، وكُرْهِهِ للرِّياء، وخُبْثِ العَدوِّ، وبَشاعةِ الخطيَّة، وأهوالِ جَهَنَّمَ الَّتي كانَ يَعلمُ أنَّها تَنتَظِرُ يهوذا، وتَرَقُّبِ حَمْلِ الخطيَّة على الصليب. فهل تَعلمونَ أنَّهُ كانَ مُزمِعًا أن يموتَ على ذلك الصَّليبِ عن خطايا كلِّ العالَمِ بالإضافةِ إلى احتمالِ هذه الخيانةِ؟ وقد كانَ ذلكَ الحِمْلُ هَائِلاً جدًّا حتَّى إنَّه مَزَّقَهُ مِن الدَّاخِل.
"وَشَهِدَ وَقَالَ: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ وَاحِدًا مِنْكُمْ سَيُسَلِّمُنِي!»". وقد عَجِزَ التَّلاميذُ عن تصديقِ ذلك. "فَكَانَ التَّلاَمِيذُ يَنْظُرُونَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ وَهُمْ مُحْتَارُونَ فِي مَنْ قَالَ عَنْهُ". فلم يكن لديهم أيُّ سَببٍ يَدعوهُم إلى الشَّكِّ في شخصٍ مُعَيَّن. "وَكَانَ مُتَّكِئًا فِي حِضْنِ يَسُوعَ وَاحِدٌ مِنْ تَلاَمِيذِهِ، كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ. فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ سِمْعَانُ بُطْرُسُ أَنْ يَسْأَلَ مَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ الَّذِي قَالَ عَنْهُ". فقد قالَ بُطرس ليوحنَّا: "اسألهُ... اسألهُ مَن هو الشَّخصُ الَّذي يَتحدَّثُ عنهُ!" وأعتقد أنَّ بُطرسَ طَلَبَ مِن يوحنَّا أن يَسأل عن ذلك لأنَّ بُطرسَ ويهوذا كانا مُتشابِهَيْنِ مِن عِدَّةِ أَوجُه. فقد تَصرَّفا برِياءٍ. وكانَ بُطرسُ يَعلمُ أنَّهُ خاطئٌ جدًّا. وأعتقد أنَّه كانَ يُريدُ أن يَتحقَّقَ وَحَسْب إن كانَ هو المَقصود لأنَّهُ أَخفقَ مَرَّاتٍ كثيرة. "أَجَابَ يَسُوعُ: «هُوَ ذَاكَ الَّذِي أَغْمِسُ أَنَا اللُّقْمَةَ وَأُعْطِيهِ!»". وأعتقد أنَّه أخبرَ يوحنَّا. ولكنِّي لا أظُنُّ أنَّ التَّلاميذَ الآخرينَ سَمِعوا ذلك لأنَّه لو سَمِعَ الآخرونَ ذلك لهَجموا على يهوذا. ولكنَّ يوحنَّا قَبِلَ ذلكَ بهدوءٍ على أنَّه خُطَّةُ اللهِ لأنَّ يسوعَ قالَ: "أَقُولُ لَكُمُ الآنَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ، حَتَّى مَتَى كَانَ تُؤْمِنُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ". لِذا فقد قَبِلَ يوحنَّا الخُطَّة. وقد أعطى يَسوعُ اللُّقمةَ ليهوذا.
ثُمَّ نقرأُ في العدد 27 هذهِ الكلماتِ المُرعبة: "فَبَعْدَ اللُّقْمَةِ دَخَلَهُ الشَّيْطَانُ. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «مَا أَنْتَ تَعْمَلُهُ فَاعْمَلْهُ بِأَكْثَرِ سُرْعَةٍ». وَأَمَّا هذَا فَلَمْ يَفْهَمْ أَحَدٌ مِنَ الْمُتَّكِئِينَ لِمَاذَا كَلَّمَهُ بِه". فلم يَعلم أحدٌ لماذا أَرسَلَهُ. ورُبَّما ظَنُّوا أنَّه أرسلَهُ لإحضارِ مَزيدٍ مِن الطَّعام. فقد قالَ لهُ: "اذهب". وقد انتهى الأمرُ الآن. فقد أُغلِقَ الباب. فقد دَخَلَ الشَّيطانُ يهوذا. ولا يُمكنني أن أتخيَّلَ أيَّ شيءٍ أكثرَ هَوْلاً مِن ذلك. فهناكَ فَرقٌ كبيرٌ بين أن تَكونَ مَخدوعًا مِنَ الشَّيطان وأن يَسكُنَ الشَّيطانُ فيك. وما أعنيه هو: ما الأهدافُ الَّتي يَسعى الشَّيطانُ إلى تَحقيقِها بنفسه مِن خلالِ دُخولِهِ إلى شخصٍ ما؟ لا بُدَّ أنَّها أهدافٌ كبيرة. أليس كذلك؟
وقبلَ أن تُصدَموا كثيرًا، قد يَهُمُّكم أن تَعلموا أنَّ الشَّيطان دَخلَ أيضًا في حَنانِيَّا وسَفِّيرة؛ وَهُما مَسيحيَّانِ في الكنيسةِ الباكرةِ في أورشليم مَاتا لأنَّهما لم يُعطيا المالَ للهِ بعدَ أن تَعَهَّدا بذلك وكَذَبا على الرُّوح القُدُس. ولا تَبدو هذه خَطيَّة جَسيمة على غِرارِ خِيانة يسوعَ المسيح. أليس كذلك؟ ولكنَّ الشَّيطانَ دَخلَ يهوذا فَانصرفَ يهوذا. وقد بقي يسوعُ معَ خَاصَّتِه. أمَّا يهوذا فذهبَ لإكمالِ خِيانَتِه.
ونقرأُ في إنجيل مَتَّى 26: 16 أنَّ يهوذا كانَ يَتحيَّنُ الفُرصةَ لِتَسليمِ يسوع. ونقرأُ في إنجيل مَرقُس 14: 11 أنَّ يهوذا "كَانَ يَطْلُبُ كَيْفَ يُسَلِّمُهُ فِي فُرْصَةٍ مُوافِقَةٍ". ونَقرأُ في إنجيل لوقا 22: 6 أنَّ يَهوذا "كَانَ يَطْلُبُ فُرْصَةً لِيُسَلِّمَهُ إِلَيْهِمْ خِلْوًا مِنْ جَمْعٍ". فقد كانَ خائفًا مِن الجَمْع. وقد أرادَ أن يَفعلَ ذلك بطريقةٍ خَبيثة، وأرادَ أن يَفعلَ ذلك بإتقان، وأرادَ أن يَفعلَ ذلك بأسهلِ طريقةٍ مُمكنة. وقد كانَ خائفًا مِن الجَمْعِ لأنَّه كانَ هناكَ عند الدُّخولِ الانتصاريِّ ورأى الجَمعَ. وقد كانَ خائفًا مِنهم. وقد أرادَ أن يفعلَ ذلك بطريقةٍ لا يَشُكُّ فيها يسوعُ أيضًا. وقد أرادَ أن يفعلَ ذلك بطريقةٍ مَخفيَّة. لِذا فقد التقى مَرَّةً أخرى رُؤساءَ الكَهنة وأجرى معهم مُفاوضات. وقد بِيْعَ يسوعُ مُقابلَ ثلاثينَ مِن الفِضَّة؛ وَهُوَ مَبلغٌ يَتراوحُ اليوم ما بين عَشْرة دولارات وعِشرينَ دولارًا. وهذا يُطلِعُني على ثلاثة أمور: أوَّلاً، أنَّ الأشخاصَ الجَشِعينَ يُمكن أن يَرضوا بأقلِّ سِعْر. ثانيًا، أنَّ رؤساءَ الكهنة هؤلاء كانوا يَحتقرونَ يهوذا جدًّا لأنَّهم لم يَرضوا أن يُعطوهُ أكثرَ مِن ذلك. ثالثًا، أنَّهم كانوا يُبغضونَ يسوعَ لأنَّهُم ظَنُّوا أنَّ هذه هي قيمَتُه. لِذا فقد تَفاوضَ معهم على أنَّهُ سيُسَلِّمُهم يَسوعَ في مكانٍ سِرِّيٍّ أو مكانٍ هادئ. ولأنَّ الظَّلامَ سيكونُ دامِسًا، كانَ لا بُدَّ أن يَتَّفقوا على عَلامة. لِذا فقد قالَ لهم إنَّ العلامةَ ستكونُ الشَّخصَ الَّذي أُقَبِّلُه؛ وإلاَّ لن يَعلموا مَن هو في الظَّلامِ الدَّامِس.
وهذا يَأتي بِنا إلى الأصحاحِ الثَّامِن عشر مِن إنجيل يوحنَّا. فهي المَرَّةُ الَّتي نَرى فيها يهوذا بعدَ ذلك بعدَ بِضعِ لَيالٍ. وقد كانَ يسوعُ في البُستان. ونَقرأُ في العددِ الثَّاني: "وَكَانَ يَهُوذَا مُسَلِّمُهُ يَعْرِفُ الْمَوْضِعَ، لأَنَّ يَسُوعَ اجْتَمَعَ هُنَاكَ كَثِيرًا مَعَ تَلاَمِيذِهِ". فيهوذا لم يُدَنِّس فقط الفِصْحَ بِمالٍ مَغموسٍ بالدَّمِ، بل إنَّهُ دَنَّسَ المكانَ السِّرِّيَّ والخاصَّ الَّذي كانَ رَبُّنا يَذهبُ ليُصَلِّي فيه. وقد دَنَّسَ الصَّداقة. فقد كانَ يَعرِفُ المَوضِعَ. "فَأَخَذَ يَهُوذَا الْجُنْدَ وَخُدَّامًا مِنْ عِنْدِ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ، وَجَاءَ إِلَى هُنَاكَ بِمَشَاعِلَ وَمَصَابِيحَ وَسِلاَحٍ. فَخَرَجَ يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ بِكُلِّ مَا يَأتِي عَلَيْهِ، وَقَالَ لَهُمْ: «مَنْ تَطْلُبُونَ؟»"
وكما تَرَونَ، كانَ يسوعُ يَعلمُ أنَّ يهوذا سيأتي، وأنَّهُ سيأتي إلى يسوع، وأنَّهُ سيُقَبِّلْهُ. وحينئذٍ سيَهجمُ الُجُنودُ على يسوع. وسوفَ يَتظاهر يَهوذا بالدَّهشة والتَّعجُّبِ كما لو أنَّه لا يَعلَمُ ما يَجري. فسوفَ يُقَبِّلُهُ يَهوذا لكي يَخدَعَهُ فلا يَعلَمُ أنَّ هناكَ مُؤامرة. ولكنَّ يسوعَ كانَ يَعلَمُ كلَّ ذلك. لِذا، هل تَعلمونَ ماذا فعلَ يسوع؟ لقد أزالَ الحاجةَ إلى القُبلة. فقد خَرجَ وقال: "مَن تَطلُبون؟" أَجَابُوهُ: "يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ". قَالَ لَهُمْ: "أَنَا هُوَ". وبهذا فقد أَزالَ الحاجةَ إلى القُبلة. ولكن لكي تَرَوْا السَّوادَ الحالِكَ الَّذي كانَ يَملأُ قلبَ يهوذا، نَقرأُ أنَّهُ قَبَّلَهُ. فالقلبُ الشَّيطانيُّ أرغَمَهُ على تَقبيلِهِ بتلكَ القُبلةِ الَّتي لا مُبَرِّرَ لها مع أنَّه لم يَكُن بحاجة إلى قُبلة للإشارةِ إليه. ولكنَّها كانت قُبلةً لتَزييفِ بَراءَتِه، وعَملاً يَنُمُّ عن رِياءٍ لا مَثيلَ لَهُ.
وبالمُناسبة، نَقرأُ في إنجيل مَتَّى والأصحاحِ السَّادسِ والعِشرين [بِحَسَبِ النَّصِّ اليونانيَّ] أنَّهُ قَبَّلَهُ مِرارًا. ولا بُدَّ أن تكونَ شخصًا شِرِّيرًا جدًّا لكي تَفعلَ ذلك. ولا يُمكنُني أن أتخيَّلَ قلبَ رَبِّنا! لا يُمكنني أن أتخيَّلَ ذلك. وما أعنيه هو أنَّه يمكنني أن أَفهمَ كيفَ احتَمَلَ كَراهِيَةَ الكَهَنة، وفَظاظَةَ الجَمْعِ. ويُمكنني أن أفهَمَ كيفَ احتَمَلَ جُبْنَ بيلاطُس، ووَحشيَّةَ الجُنود. ويُمكنني أن أَفهمَ كيفَ احتملَ إنكارَ بُطرس لَهُ. ولكن كيفَ يُمكِنُكَ أن تَحتَمِلَ شيئًا كهذا؟ ثُمَّ هل تَعلمونَ ماذا كانَ رَدُّ يسوع؟ نَقرأُ في إنجيل مَتَّى والأصحاح 26 أنَّ يهوذا استمرَّ في تَقبيلِهِ فقالَ لَهُ يَسوعُ: "يَا صَاحِبُ، لِمَاذَا جِئْتَ؟" - "أَبِقُبْلَةٍ تُسَلِّمُ ابْنَ الإِنْسَانِ؟" فقد قالَ لَهُ: "يا صَاحِبُ!" فيسوعُ مُحِبٌّ دائمًا، وغَفورٌ دائمًا. لِذا، فقد تَعرَّضَ للخيانةِ مِن شخصٍ عَاشَ جَشِعًا. وقد عَلِمَ يَهوذا أنَّ اللُّعبةَ أوشَكَتْ على الانتهاء. لِذا، إنِ استطاعَ أن يَحصُلَ على عَشْرة دولارات فإنَّ ذلكَ أفضل مِن لا شَيء.
واسمَحوا لي أن أَطرحَ عليكم سُؤالاً. هل كانَ ما فَعَلَهُ يهوذا فَريدًا مِن نَوعِه؟ هل كانَ العَمَلَ الوَحيدَ الفَريدَ مِن نَوعِه؟ لا! لأنَّكم تقرأونَ في العهدِ القديم (في سِفْر حِزْقيال تَحديدًا) كيفَ أنَّ اللهَ وَبَّخَ النَّبيَّاتِ الكاذباتِ لأنَّهُنَّ نَجَّسْنَ اللهَ عِنْدَ الشَّعبِ لأَجْلِ حَفْنَةِ شَعِيرٍ، وَلأَجْلِ فُتَاتٍ مِنَ الْخُبْز. وإن قَرأتُم سِفْرَ عَاموس، ستَقرأونَ أيضًا عن أولئكَ الَّذينَ باعوا البِرَّ لأجلِ المال. وأودُّ أن أقولَ لكم اليومَ إنَّ هُناكَ أشخاصًا كانوا [وما زالوا وسيَظَلُّونَ دائمًا] مُستعدِّينَ لبيعِ المسيحِ بأيِّ ثَمَنٍ يُمكنهم الحُصولُ عليه. استَمِعوا إلى الكلماتِ التَّالية:
"قد لا يَبيعُهُ النَّاسُ مُقابِلَ فِضَّة، وقد لا يَبيعونَهُ مُقابِلَ ذَهب،
ولكن هناكَ عَشَراتُ الآلافِ مِمَّن يَبيعونَ رَبَّ الحياة.
فَهُم يَبيعونَهُ لأجلِ صَداقةٍ معَ شخصٍ غير مُؤمِن، ويَبيعونَهُ لأجلِ هَدَفٍ أنانيٍّ،
ويَبيعونَهُ لأجل شيءٍ تافِهٍ جدًّا، ويَبيعونَهُ لأجلِ اسمٍ باطلٍ،
ويَبيعونَهُ في سُوْقِ العِلْمِ، ويَبيعونَهُ لأجلِ نُفوذ،
ويَبيعونَهُ لأجلِ ثَروةٍ، ويَبيعونَهُ في ساعةِ نَشوة،
ويَبيعونَهُ لأجلِ صَفْقةٍ مُريعةٍ لا تَراها سِوى عينُ الله.
وهُناكَ دائمًا سؤالٌ يَتردَّدُ في نَفسي: كيفَ سَتبيعُهُ أنتَ؟
قد بِيْع! يا لَها مِن لَحظةٍ مُريعةٍ أَماتَتْ صَوتَ ضَميرِه!
قد بِيْع! وقد دَوَّنَ مَلاكٌ بَاكٍ الخِيارَ المُميت.
قد بِيْع! ولكنَّ الثَّمَنَ المَقبوضَ سيَصيرُ جَمْرَةً مُشتعلةً،
تَحرِقُ تلكَ النَّفسَ في لحظةِ تَبكيتٍ لاحقة!"
لقد باعَ يهوذا يسوعَ بسببِ جَشَعِه. وما يَزالُ النَّاسُ يَفعلونَ ذلك لأجلِ رِبْحِهم القَبيح، ولأجلِ نَمطِ حياتِهم، ولأجلِ كلِّ شيءٍ آخر. لماذا فَعلَ ذلك؟ لماذا؟ مِن المؤكَّدِ أنَّه كانَ يوجدُ لديهِ خُبْثٌ. ومِن المؤكَّدِ أنَّه كانَ يوجد لديهِ طُموحٌ دُنيويٌّ، ورغبةٌ في الانتقامِ، وكَراهيةٍ للخَير، ورَفضٌ لكُلِّ ما هو طَاهر، وكِبرياءٌ، وعدمُ امتنانٍ، وغَضب. ولكن فوقَ الكُلِّ، كانَ هناكَ جَشَعٌ وَحَسْب: ماديَّة ودُنيويَّة شَديدة. وأؤكِّدُ لكم أنَّه لا يوجد شخصٌ أكثر شَبَهًا بالشَّيطانِ مِن رَسولٍ زائف. وأعتقد أنَّ هذا هو سَبَبُ كَراهيَّتي الشَّديدة للمُعلِّمينَ الزَّائفين.
هل يُمكنُني أن أُحدِّثَكُم قليلاً عن موتِ يهوذا؟ يقولُ يَعقوب إنَّ "الشَّهْوَةَ إِذَا حَبِلَتْ تَلِدُ خَطِيَّةً" [في رسالةِ يعقوب والأصحاحِ الأوَّل]، وَإنَّ "الْخَطِيَّةَ إِذَا كَمَلَتْ تُنْتِجُ [ماذا؟] مَوْتًا". ونَقرأُ في سِفْر الأمثال 10: 7: "وَاسْمُ الأَشْرَارِ يَنْخَرُ". يا لِبؤسِ يَهوذا! فقد باعَ المسيح، وباعَ رُفقاءَهُ الرُّسُل، وباعَ نَفسَهُ، واشترى جَهنَّم. وقد كانَ الثَّمنُ باهظًا جدًّا. وهل تَعلمونَ ماذا فَعَل؟ لقد كانَ يَعلمُ ذلك لأنَّ قَلبَهُ كانَ مُمتلئًا بالألمِ والحُزنِ حتَّى إنَّنا نَقرأُ في إنجيل مَتَّى 27: 3 ما يَلي: "حِينَئِذٍ لَمَّا رَأَى يَهُوذَا الَّذِي أَسْلَمَهُ أَنَّهُ قَدْ دِينَ...". وكيفَ دِيْنَ؟ مِن خلالِ ضَميرِهِ. فلا بُدَّ أنَّ التَّبكيتَ كانَ شديدًا جدًّا حتَّى إنَّهُ نَدِمَ. وقد يَبدو هذا جَيِّدًا، ولكنَّ النَّصَّ اليونانيَّ لا يَستخدِمُ هذه الكلمة بِمعنى التَّوبة الحقيقيَّة، بل بِمَعنى الرَّغبةِ في تَغييرِ مَشاعِرِه. فقد شَعَرَ بمشاعر سَيِّئة ونَدِمَ على ذلك.
ولكنَّ الإنسانَ الرُّوحيَّ يَتعامَل مع ضَميرِهِ بطريقةٍ رُوحيَّة. فهو يَلتجئُ إلى اللهِ طَلبًا للغُفران. أمَّا الإنسانَ المادِّيُّ والجَشِعُ والدُّنيويُّ فإنَّه يَتعامَلُ مع مَشاكِلِهِ على المُستوى الأرضيِّ. لِذا، عِوَضًا عن أن يَلتجئَ يَهوذا إلى اللهِ بطريقةٍ رُوحيَّة، رَجَعَ إلى رُؤساءِ الكهنة؛ أي على المُستوى الجسديِّ، وأعادَ المالَ إليهم ظَنًّا مِنْهُ بأنَّ عَمَلَهُ الماديَّ هذا المُتَمَثِّلَ في إعادَةِ المالِ يُمكِنُ أن يُخَفِّفَ وَطأةَ التَّبكيتِ الرُّوحيِّ. ولكنَّهُ لم يُخَفِّف مِنها. فقَلبُهُ الَّذي لم يَحصُل على الغُفرانِ صَرَخَ مُطالِبًا إيَّاهُ بالانتقامِ مِن نفسِه. لِذا فقد انتقمَ مِن نَفسِهِ بنفسِه. فالكِتابُ المُقدَّسُ يقولُ إنَّهُ "مَضَى وَخَنَقَ نَفْسَهُ" بعدَ أن "طَرَحَ الْفِضَّةَ فِي الْهَيْكَل". ونَقرأُ في سِفْرِ أعمالِ الرُّسُل والأصحاحِ الأوَّلِ أنَّهُ حينَ مَاتَ "انْسَكَبَتْ أَحْشَاؤُهُ كُلُّهَا". وهُناكَ أشخاصٌ يَرَوْنَ في هذا تَناقُض. ولكِن لا يوجد تَناقُضٌ هُنا. فقد أَخفقَ في شَنْقِ نَفسِهِ كما أَخفقَ في القيامِ بكُلِّ شيءٍ آخر. فإمَّا أنَّ العُقدةَ لم تَكُن قَويَّةً كما يَنبغي، وإمَّا أنَّ الغُصنَ انكسرَ بعدَ أن شَنَقَ نَفسَهُ فسَقَطَ مِن فوقِ جُرْفٍ على حَجَر وانسَكَبَت أحشاؤُه. وبالمُناسبة، ما الَّذي فَعلوهُ بالمالِ الَّذي طَرَحَهُ في بيتِ الرَّبِّ؟ لقد قالوا: "لاَ يَحِلُّ أَنْ نُلْقِيَهَا فِي الْخِزَانَة". إذًا، لقد صاروا فجأةً يُفكِّرونَ بطريقةٍ قانونيَّة! "لاَ يَحِلُّ أَنْ نُلْقِيَهَا فِي الْخِزَانَةِ لأَنَّهَا ثَمَنُ دَمٍ. فَتَشَاوَرُوا وَاشْتَرَوْا بِهَا حَقْلَ الْفَخَّارِيِّ مَقْبَرَةً لِلْغُرَبَاء". وهذا هو تَمامًا ما قالَهُ العهدُ القديمُ. فقد قالَ إنَّ الثَّلاثينَ قِطعة مِن الفضَّة ستُعطى إلى الفَخَّارِيِّ في بيتِ الرَّبِّ. وقد تَمَّتِ الخُطَّة.
وهل تَعلمونَ ما الَّذي نَتعلَّمُهُ مِن كلِّ ما قرأناه؟ أنَّ اللهَ يَسودُ على غَباوةِ وشَرِّ البَشَر لتَحقيقِ كَلمتِه. اسمعوني: هناكَ أشخاصٌ يقولونَ إنَّ النَّاسَ في العهدِ الجديدِ كانوا يَعرفونَ العهدَ القديم. لِذا فقد حاولوا أن يُتَمِّموه لكي يَجعلوا المَسيحَ يَظهرُ بصورةٍ حَسَنة. حقًّا؟ إذًا لماذا سَعى الفَرِّيسيُّونَ أيضًا إلى تَتميمِ ذلكَ مع أنَّهم كانوا يُبغضونَهُ؟ ولكنَّ هذا يُرينا وَحَسْب مَن هو المُهيمِن. وإن كانَ يهوذا قد ظَنَّ أنَّهُ يَستطيعُ مِن خلالِ الانتحارِ أن يُنهي البُؤسَ النَّاجِمَ عن تَبكيتِ ضَميرِهِ فإنَّهُ اقتَرفَ غَلطةً شَنيعَةً لأنَّ ضَميرَهُ ما زالَ يُعذِّبُهُ الآنَ وسيَبقى يُعذِّبُهُ إلى أبدِ الآبِدينَ في جَهنَّم.
وأخيرًا، لقد تَحدَّثنا عن العديدِ مِن النِّقاطِ المُهمَّة مِثلَ اسمِهِ، ودَعوَتِهِ، وتَحَرُّكِهِ، وخيانَتِهِ، ومَوتِهِ. وفي الخِتام، أودُّ أن تُصغوا بعنايةٍ شديدة إلى عَدَدٍ مِنَ العِبَرِ المُهِمَّةِ الَّتي يُمكِنُنا أن نَتعلَّمَها مِن حياةِ يهوذا. وسوفَ أَذكُرُها في عُجالة. اسمعوا: أولاً، يَهوذا هو أكبرُ نَموذجٍ في العالَم على هَدْرِ الفُرَص. فلا يوجد إنسانٌ عاشَ يَومًا حياةً بائسةً أكثرَ مِن ذلك الرَّجُل. فقد أُعطِيَ اثني عشرَ رَجُلاً في التَّاريخِ البشريِّ امتيازَ أن يَعيشوا ثلاثَ سنواتٍ في حَضرةِ اللهِ الحيِّ المُتجسِّد؛ ولكنَّهُ أَهدَرَ الفُرصة. أمَّا التَّلاميذُ الأحدَ عشرَ الآخرونَ فاستفادوا مِنها. وهذا أمرٌ مُذهل! وهناكَ أشخاصٌ يَجلسونَ في حَضرةِ المؤمنينَ. لِذا فإنَّهم يَجلسونَ في حَضرةِ المسيح. فهناكَ آباءٌ في العائلاتِ، وأُمَّهاتٌ في العائلاتِ، وأُناسٌ في الكنيسةِ يأتونَ ويَذهبونَ ويَعيشونَ حَياتَهُم. وهُناكَ مِن حَولِهم أُناسٌ كثيرونَ يَسكُنُ المَسيحُ الحَيُّ فيهم؛ ولكنَّ الآخرينَ يُهدِرونَ تلكَ الفُرصةَ ويَموتونَ مِن دونِ المَسيح. ولكنَّ يهوذا هو الأسوأ. والأشخاصُ الَّذينَ يَستمرُّونَ في هَدْرِ الفُرصة يَمشونَ في خُطى يَهوذا. فقد كانَ مَوجودًا في أفضلِ بِيئةٍ في العالَمِ ولكنَّهُ دِيْنَ إلى الأبد. فقد اكتَفى بالرِّفقةِ السَّطحيَّةِ فقط، ولا شَيءَ سِوى ذلك.
ثانيًا، يَهوذا هو أكبرُ نَموذجٍ في العالَم على هَدْرِ الامتيازات. فهو أكبرُ نَموذجٍ على هَدْرِ الامتيازات. فقد أرادَ المالَ، وأرادَ الغِنى، وأرادَ المُمتلكات. وقد كانَ بمقدورِهِ أن يَمتَلِكَ العالَمَ إلى الأبد؛ ولكنَّهُ باعَ ذلكَ مُقابِلَ عَشْرِ دولارات أو عِشرينَ دولارًا. فاللهُ يُوفِّرُ لكَ ولكُلِّ نَفسٍ كُلَّ غِنَى الأبديَّة. فما نَوعُ الصَّفْقةِ الغَبيَّةِ الَّتي تَجعَلُكَ تَرفُضُ ذلك؟ أوِ الَّتي تَجعَلُكَ تَقبَلُ شَيئًا زَهيدًا سيَحترِقُ عنَ احتراقِ هذه الأرض؟
ثالثًا، يَهوذا هو أكبرُ نَموذجٍ في العالَمِ على أنَّ مَحبَّةَ المالِ أَصْلٌ لِكُلِّ الشُّرور. فقد أحبَّ المالَ حُبًّا شديدًا دَفَعَهُ حَقًّا إلى بيعِ اللهِ الحيِّ. وهذا هو ما قد يَفعَلُهُ الجَشَعُ بالإنسان. وهو مَثَلٌ حَيٌّ على القُوَّةِ المُدمِّرَةِ والمُهلِكَةِ للجَشَع.
رابعًا [وهي نُقطةٌ جَوهريَّةٌ جدًّا]. فأنا أعتقدُ أنَّ يَهوذا هو أكبرُ عِبْرَةٍ في التَّاريخ على طُوْلِ أناةِ الرَّبِّ ومَحبَّتِه. فاللهُ وَحدُهُ الَّذي عَرَفَ ذلك الرَّجُلَ واحتَمَلَ وُجودَهُ كُلَّ ذلك الوقت. وهذا يُرينا طُوْلَ أناةِ الله. كما أنَّه حاولَ أن يُغَيِّرَهُ بمحبَّتِهِ وقدَّمَ لهُ اللُّقمَةَ، بل حَتَّى إنَّهُ قالَ لهُ بعدَ القُبلة: "يا صَاحِب". فيا لِطولِ أناةِ الله!
وأخيرًا، أعتقد أنَّ يَهوذا قامَ بِدَوْرٍ في تَحضيرِ المسيحِ لِدَورِهِ بصفتِهِ رَئيسَ الكَهَنة. فقد قامَ بدورٍ. فالكِتابُ المُقدَّسُ يُخبرُنا أنَّ المسيحَ كُمِّلَ بالآلام، وأنَّهُ صارَ رَئيسَ كَهَنَةٍ مُتعاطِفٍ. فهناكَ أشخاصٌ كثيرونَ يَتعرَّضونَ للخِيانة، وهناكَ أشخاصٌ كثيرونَ يُجرَحونَ في بيتِ أحبَّائِهم. فالنَّاسُ يَجرحونَ النَّاسَ. وقد اختَبَرنا جميعًا الألمَ والعَذابَ بسببِ شَيءٍ كهذا. وعندما نَذهبُ إلى الرَّبِّ يسوعَ ونقولُ لَهُ: أتَدري أنَّ كَذا وكَذا حَدَثَ في حياتي. هل تَفهمني؟" فإنَّهُ يَفهَمُنا تمامًا. فَجُزءٌ مِن تَكميلِ عَمَلِهِ بصفتِهِ رئيسًا للكَهَنة كانَ يَتطلَّبُ منهُ أن يَحتملَ هذه الخِيانة مِن هذا الرَّجُل. وأيًّا كانتِ الدُّروسُ الَّتي ستَستفيدونَ مِنها في حياتِكم، صَلاتي هي أن يَعملَ الرُّوحُ القُدُسُ على تَتميمِ ذلك العَمل. فهذا الرَّجُلُ هو أكبرُ مُراءٍ في التَّاريخِ كُلِّه. وهو مَثَلٌ حَيٌّ على الأشخاصِ الَّذينَ يُمكنهم أن يَختبئوا في حَضرةِ المسيحِ بالرَّغمِ مِن أنَّ الشَّيطانَ يَسكُنُ فيهم. ورُبَّما كانتْ هَذهِ هي حالُ بعضِ الأشخاصِ الموجودينَ هُنا. فرُبَّما تَذهبُ إلى الكنيسةِ ولكنَّكَ مُراءٍ.
وقد قالَ يسوع: "لقد مَضى يَهوذا إلى المَكانِ الَّذي يُلائِمُه". فقد ذهبَ إلى المكانِ الَّذي يَنتمي إليه. ويُمكِنُ تَلخيصُ مأساةِ حياةِ هذا الرَّجُل في الكلماتِ الَّتي قالها رَبُّنا في إنجيلِ مَتَّى 26: 24: "كَانَ خَيْرًا لِذلِكَ الرَّجُلِ لَوْ لَمْ يُولَدْ!" وهذه هي حالُ الأشخاصِ الَّذينَ يَرفضونَ المسيح. وسوفَ أَختِمُ بما يَلي: كَتَبَ أحدُ الأشخاصِ الكلماتِ التَّالية الَّتي أعتقدُ أنَّها تُلَخِّصُ الأمرَ كُلَّهُ: "كما هي الحالُ دائمًا، فإنَّ الإنسانَ يُقَيِّم ثَمَنَهُ بنفسِه. فمُقابل ثلاثينَ مِن الفِضَّة، باعَ يَهوذا نَفسَهُ، لا المَسيح". دَعونا نَحني رُؤوسَنا كي نُصَلِّي:
فيما تَحْنونَ رُؤوسَكُم في هذه الثَّواني الأخيرة، إن لم تَكُن تَعرفُ المسيحَ فقد بِعْتَهُ لأجلِ شيءٍ يَمنَعُكَ مِنَ المَجيءِ إليه وتَظُنُّ أنَّهُ أكثر قيمة مِنه. وهذا هو ثَمَنُك. فربَّما بِعتَهُ لأجلِ الجَشَع، أوِ الرِّبحِ القَبيح، أو لأجلِ خَطيَّةٍ مَا، أو لأجلِ الكِبرياء، أو لأجلِ عِنادِك، أو لأجلِ حِكمةٍ زائفة، أو لأجلِ فَلسفةٍ بَشريَّة، أو لأجلِ علاقةٍ غير أخلاقيَّة. وأيًّا كانَ ذلك الشَّيء فإنَّهُ ثَمَنُكَ أنتَ. فقد بِعتَ نَفسَكَ لأجلِ ذلك الشَّيء. وما أرجوهُ هو ألاَّ يكونَ هُناكَ أشخاصٌ عَلى غِرارِ يَهوذا هُنا. وإن كانَ هُناكَ أشخاصٌ على غِرارِهِ فإنَّ يسوعَ يَمُدُّ يَدَهُ إليكم كما مَدَّ يَدَهُ لَهُ. وأرجو في هذا اليوم أن تَفتَحَ قَلبكَ وتَقبل المسيح. اطلُب غُفرانَهُ وأنتَ جالِسٌ في مَكانِك في هذه اللَّحظةِ الهادئة، وادعوهُ إلى أن يكونَ رَبَّكَ ومُخَلِّصَكَ، وادخُل للتَّمَتُّعِ بِبَرَكَةِ مَلكوتِهِ الأبديِّ. يا أبانا، لقد صَرفنا صَباحًا رائعًا في عِبادَتِكَ والتَّأمُّلِ في كلمتِك. اجمَعنا مَرَّةً أخرى في هذا المساء للتَّأمُّلِ في الإنجيل، وفي الرِّسالةِ الرَّائعةِ للرِّسالةِ إلى أهلِ رُومية. ساعِدنا على أن نُرَتِّبَ أولويَّاتِنا تَرتيبًا سَليمًا. يا رَبُّ، قد تَقودُنا إلى شخصٍ غير مُخَلَّص يُمكِنُنا أن نَقودَهُ إليكَ في هذا المساء. ساعِدنا يا رَبُّ على أن نُرتِّبَ أولويَّاتِنا تَرتيبًا صَحيحًا، وأن نُرَكِّزَ على الأمورِ الصَّحيحة. اجعَل هذا اليومَ يَومًا خاصًّا، ويومَ تَمجيدٍ لاسمِكَ إذ نَعيشُ لأجلِكَ ولأجلِ مَلكوتِك. نَشكُرُكَ يا رَبُّ على شَرِكَتِنا في هذا الصَّباح. باسمِ المسيح. آمين!

This article is also available and sold as a booklet.