
إن كانَ قد مَضى على وُجودِكُم في كنيسة النعمة (Grace Church) أيَّة مُدَّة، لا بُدَّ أنَّكم تَعلمونَ أنَّني أستمتع جدًّا بما أَقومُ به. ولكن رُبَّما لا تَعلمونَ أنَّني لا أَعتقدُ أنَّني استمتعتُ يومًا بأيِّ شيءٍ أكثرَ مِن أن أَحظَى بامتيازِ الوعظِ مِنَ الأصحاحِ الثَّامِن عَشَر مِن إنجيل مَتَّى والأصحاحَيْنِ السَّادسِ والسَّابعِ مِن رسالةِ رُومية في الوقتِ نفسِه. وهذا تَحَدٍّ في كُلِّ أسبوع في أثناءِ استعدادي ودِراسَتي وصَلاتي وتأمُّلي. ولكنَّ الحقائقَ الموجودة في هَذَيْنِ المَقطعَيْنِ تَحديدًا مِن الكتابِ المقدَّسِ تَأسُرُ القلبَ جدًّا حتَّى إنَّني أعترفُ لكم بأنَّ هذا الوقتَ كانَ وقتَ فَرَحٍ وبَركةٍ خاصَّيْنِ جدًّا جدًّا في حياتي الشخصيَّة. وأنا أشكُرُ اللهَ على كُلِّ مُغامرة جديدة وكُلِّ مُناسبة جديدة لِفَتْحِ الكلمَة.
وأنا أشكُرُهُ أيضًا لأنَّهُ في هذا الوقتِ تحديدًا مِن حياتي، أيًّا كانَ ما سيَحدُث في المستقبَل في حياتي، ما زلتُ أكتشفُ أشياء جديدة في كلمةِ اللهِ في أثناءِ قِراءتي للأصحاحاتِ مِن زوايا جديدة أو دراستِها بطَرائقَ جديدة. وكأنَّهُ بعد كُلِّ السِّنينِ الَّتي انقضَت، قد تَظُنُّ أنَّكَ سَتَصِلُ إلى نُقطةٍ تَستوعِبُ فيها كُلَّ شيءٍ وتَفهَمُ فيها كُلَّ شيءٍ؛ ولكنَّ هذا لن يَحدُثَ يَومًا لأنَّ الرَّبَّ يَكشِف غِنَى كلمتِه المَرَّة تِلو الأخرى. وهذا شيءٌ رائعٌ جدًّا بالنِّسبةِ إليَّ، وأرجو أن يكونَ كذلكَ بالنِّسبةِ إليكم أنتم أيضًا.
وهذا يَقودُنا إلى إنجيل مَتَّى والأصحاحِ الثَّامن عشر في هذا الصَّباح. وأودُّ أن أدعوكُم إلى أن تَفتحوا كِتابَكُم المقدَّس. ونحنُ نَتأمَّلُ في الجُزءِ الأخيرِ مِن هذا الأصحاح؛ وتحديدًا في الآيات 21-35. والعُنُوانُ الَّذي أَطلقناهُ على كُلِّ هذا الأصحاح هو "تَمَثُّلُ المؤمنينَ بالأولاد"... تَمَثُّلُ المؤمنينَ بالأولاد. وكما نَعلمُ، كانَ الرَّبُّ قد جَمَعَ تلاميذَهُ في بيتٍ في كَفْرناحوم، ودَعا إليهِ ولدًا صغيرًا واحتضنَهُ بينَ ذِراعيه، واستخدمَ ذلك الولدَ الصَّغيرَ لتعليمِ حَقٍّ رُوحيٍّ. فهو يقولُ إنَّنا نُشبِهُ [رُوحيًّا] الأولادَ الصِّغار. فقد كانَ التَّلاميذُ كذلكَ، ونحنُ كذلكَ أيضًا.
وكأولادٍ صِغار، هناك أمور مُعيَّنة ينبغي لنا أن نَفهمَها: أوَّلاً، أنَّنا نَدخُلُ الملكوتَ مِثلَ الأولادِ الصِّغار. ثُمَّ إنَّهُ يجب أن نَحصُلَ على الحِماية مِثلَ الأولادِ الصِّغار، ويجب أن نَحصُلَ على العِناية مِثلَ الأولادِ الصِّغار. ثُمَّ إنَّهُ وَفقًا لِنَصِّنا [أيْ وَفْقًا للآيات 20-35]، يجب أن يُغفَرَ لنا مِثلَ الأولادِ الصِّغار. فكما أنَّ الأولادَ يحتاجونَ إلى الغُفرانِ المُستمرّ، كذلك هي حالُنا نحنُ أيضًا. وكما أنَّهُ يَنبغي لكم في نِطاقِ العائلةِ أن تَغفِروا للأطفالِ سَقْطاتِهم بسببِ حَدَاثةِ سِنِّهِم وجَهلِهم، ينبغي لكم أن تَغفِروا بعضُكم لبعض بالطَّريقةِ ذاتِها في عائلةِ الله.
لِذا فإنَّنا نَتعلَّمُ عنِ الغُفران. فنحنُ نَتعلَّمُ عن أهميَّةِ الغُفرانِ بعضُنا لبعض، وعن أهميَّةِ عَدَمِ إضْمارِ نَقمةٍ أو حِقْدٍ، وعن أهميَّةِ تَحريرِ أنفُسِنا مِن عُبوديَّةِ تلكَ الأشياءِ لكي نَغفِرَ كما غُفِرَ لنا.
وقد تَحدَّثنا عن ذلك بشيءٍ مِنَ التَّفصيل في المرَّة السَّابقة. وآمُلُ أن يكونَ رُوحُ اللهِ قد تَرَكَ تأثيرًا مِن تلك العِظة في أذهانِكُم لكي تَربِطوها بسُرعة بما سنتحدَّثُ عنهُ اليوم. وقد ابتدأنا في الأسبوعِ الماضي بما أَسميناهُ بالاستفسارِ عنِ الغُفرانِ في العدد 21: "حِينَئِذٍ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ بُطْرُسُ وَقَالَ: «يَا رَبُّ، كَمْ مَرَّةً يُخْطِئُ إِلَيَّ أَخِي وَأَنَا أَغْفِرُ لَهُ؟ هَلْ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ؟»" وهل تَذكرونَ أنَّني قلتُ لكم إنَّ بُطرسَ كانَ يُفَكِّرُ في التَّقليدِ اليهوديِّ الَّذي كانَ يقولُ إنَّهُ يجب عليكَ أن تَغفِرَ ثلاثَ مَرَّاتٍ فقط؟ وأنَّهُ في المَرَّةِ الرَّابعةِ لا يُوجَدُ ما يُحَتِّمُ عليكَ أن تَغفِرَ ثانيةً؟
وإذْ شَعَرَ بُطرسُ بعظمةِ قلبِ الرَّبِّ، وسَخائِهِ ورَحمتِهِ ورِقَّتِهِ ومحبَّتِهِ ولُطفِهِ ونِعمتِهِ، أرادَ أن يقول: "حسنًا! هل نَفعلُ ما هو أكثر مِن ذلكَ يا رَبّ كأن نَغفِرَ سَبْعَ مَرَّات؟ هل نَغفِرُ بَعضُنا لبعض سَبعَ مَرَّات؟" وقد كانَ ذلك هو الاستفسارُ عنِ الغُفران. أمَّا نِطاقُ الغُفرانِ [وهي نُقطتُنا الثَّانية] فمَذكورٌ في العدد 22 مِن خلالِ جَوابِ الرَّبّ:
"قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لاَ أَقُولُ لَكَ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ، بَلْ إِلَى سَبْعِينَ مَرَّةً سَبْعَ مَرَّاتٍ»". فهذا هو النِّطاقُ الَّذي أشارَ إليهِ الرَّبّ. وكما رأينا في الأسبوعِ الماضي، لا يوجدُ نِطاقٌ لغُفرانِكُم. ولا توجد حُدودٌ لغُفرانِكُم، بل يجب عليكم أن تَستمرُّوا في مُمارسةِ الغُفران. وقد قالَ لُوقا: "وَإِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ فِي الْيَوْمِ، ... فَاغْفِرْ لَهُ".
لِذا، يجب علينا أن نَغفِرَ بعضُنا لبعض المَرَّة تِلوَ المَرَّة تِلو المَرَّة تِلو المَرَّة إلى ما لا نِهاية وبِلا حُدود. ويجب أن يَغفِرَ بعضُنا لبعض بدافعِ المحبَّة، واللُّطف، والرَّحمة، والنِّعمة الَّتي ينبغي أن نَتَّصِفَ بها لأنَّنا نَفهمُ كَم أنَّ اللهَ غَفَرَ لنا. أليسَ كذلك؟
وهذا هو مَعنى الآية أفسُس 4: 32 الَّتي تقول إنَّهُ يجب علينا أن نكونَ مُتسامِحينَ بعضُنا مع بعض كما سَامَحَنا اللهُ في المَسيح. فكما أنَّ اللهَ يُسامِحُنا دائمًا [أيًّا كانت خطايانا] بِمُقتَضى نِعمتِه، يجب علينا نحنُ أيضًا أن نُسامِحَ دائمًا بعضُنا بعضًا عندما نُسيءُ بعضُنا إلى بعض.
وقد رأينا أيضًا تأثيرَ الغُفران في المرَّة السَّابقة. وهذه هي النُّقطةُ الثَّالثةُ في مُخَطَّطِنا الصَّغير. وقد قُلنا إنَّهُ في ضَوْءِ ما جاءَ في إنجيل مَتَّى والأصحاحِ السَّادس، فإنَّ تأثيرَ الخطيَّة يَتمثَّلُ في أنَّهُ عندما تَغفِرُوا للآخرينَ، سيُغفَر لكم أيضًا. والآن، مِن المُهمِّ أن تَفهموا مَعنى ذلك. فكما تَعلمونَ، لقد عَلَّمَنا الرَّبُّ في تلك الصَّلاة أن نقولَ: "وَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أَيْضًا لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا". ثُمَّ إنَّهُ يقول: "إِنْ لَمْ تَغْفِرُوا لِلنَّاسِ زَّلاَتِهِمْ، لاَ أَغْفِر لَكُمْ". فعندما لا تَغفر للآخرين، فإنَّ الكتابَ المقدَّسَ يقولُ إنَّ اللهَ لن يَغفرَ لكَ مِن جِهَةِ العَلاقة. لِذا، سوفَ تَفصِلُ تلكَ الخطيَّةُ بينَكَ وبينَ الله.
وطالَما بَقِيَ ذلكَ الحاجِزُ مَوجودًا، سيحدثُ شيئان: أوَّلاً، لن تَختبرَ فَرَحَ الشَّركة مع الله؛ ثانيًا، سوفَ تَختبِرُ تأديبَ الله. لِذا، هناكَ تأثيرٌ في حياةِ المُؤمِنِ بسببِ موضوعِ الغُفرانِ هذا. إذًا، لقد أدَّى الاستفسارُ إلى الحديثِ عن نِطاقِ الغُفران. وقد رأينا تأثيرَ الغُفرانِ أيضًا.
والآن، لِننظُر إلى نَموذجِ الغُفران. وهذه هي النُّقطةُ الأخيرةُ؛ وهي تَشغَلُ الجُزءَ البَاقي مِنَ الأصحاح. وسوفَ نَحتاجُ إلى أُسبوعَيْن للتَّأمُّلِ في هذا النَّصِّ لأنَّهُ مَقطعٌ طويلٌ إلى حَدٍّ مَا. فهو مَثَلٌ. وأودُّ أن أقرأَهُ لكم في البداية. لِذا، تَابعوني ابتداءً مِن العدد 23. وأعتقد أنَّكم ستَفهمونَ المَعنى المقصودَ منهُ بسُرعة:
"لِذلِكَ يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ إِنْسَانًا مَلِكًا أَرَادَ أَنْ يُحَاسِبَ عَبِيدَهُ. فَلَمَّا ابْتَدَأَ فِي الْمُحَاسَبَةِ قُدِّمَ إِلَيْهِ وَاحِدٌ مَدْيُونٌ بِعَشْرَةِ آلاَفِ وَزْنَةٍ. وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يُوفِي أَمَرَ سَيِّدُهُ أَنْ يُبَاعَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ وَأَوْلاَدُهُ وَكُلُّ مَا لَهُ، وَيُوفَي الدَّيْنُ. فَخَرَّ الْعَبْدُ وَسَجَدَ لَهُ قَائِلاً: يَا سَيِّدُ، تَمَهَّلْ عَلَيَّ فَأُوفِيَكَ الْجَمِيعَ. فَتَحَنَّنَ سَيِّدُ ذلِكَ الْعَبْدِ وَأَطْلَقَهُ، وَتَرَكَ لَهُ الدَّيْنَ.
"وَلَمَّا خَرَجَ ذلِكَ الْعَبْدُ وَجَدَ وَاحِدًا مِنَ الْعَبِيدِ رُفَقَائِهِ، كَانَ مَدْيُونًا لَهُ بِمِئَةِ دِينَارٍ، فَأَمْسَكَهُ وَأَخَذَ بِعُنُقِهِ قَائِلاً: أَوْفِني مَا لِي عَلَيْكَ. فَخَرَّ الْعَبْدُ رَفِيقُهُ عَلَى قَدَمَيْهِ وَطَلَبَ إِلَيْهِ قَائِلاً: تَمَهَّلْ عَلَيَّ فَأُوفِيَكَ الْجَمِيعَ. فَلَمْ يُرِدْ بَلْ مَضَى وَأَلْقَاهُ فِي سِجْنٍ حَتَّى يُوفِيَ الدَّيْنَ.
"فَلَمَّا رَأَى الْعَبِيدُ رُفَقَاؤُهُ مَا كَانَ، حَزِنُوا جِدًّا. وَأَتَوْا وَقَصُّوا عَلَى سَيِّدِهِمْ كُلَّ مَا جَرَى. فَدَعَاهُ حِينَئِذٍ سَيِّدُهُ وَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْعَبْدُ الشِّرِّيرُ، كُلُّ ذلِكَ الدَّيْنِ تَرَكْتُهُ لَكَ لأَنَّكَ طَلَبْتَ إِلَيَّ. أَفَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّكَ أَنْتَ أَيْضًا تَرْحَمُ الْعَبْدَ رَفِيقَكَ كَمَا رَحِمْتُكَ أَنَا؟ وَغَضِبَ سَيِّدُهُ وَسَلَّمَهُ إِلَى الْمُعَذِّبِينَ حَتَّى يُوفِيَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ. فَهكَذَا أَبِي السَّمَاوِيُّ يَفْعَلُ بِكُمْ إِنْ لَمْ تَتْرُكُوا مِنْ قُلُوبِكُمْ كُلُّ وَاحِدٍ لأَخِيهِ زَّلاَتِهِ".
والآن، هذا مبدأٌ مُباشرٌ جدًّا، وواضحٌ جدًّا، وجَلِيٌّ جدًّا. وسوفَ نَراهُ يَتَكَشَّف لنا في يومِ الرَّبِّ هذا وفي العِظة القادمة الَّتي ستكونُ بعدَ أُسبوعَيْن مِنَ اليوم. فهناكَ قَسوة مُعيَّنة في هذا المَثَل. والحقيقة هي أنَّ هناكَ قَسوة في مَوقفِ المَلِكِ في العدد 34 وفي تَطبيقِهِ في العدد 35 حَتَّى إنَّ أُناسًا كثيرينَ دَرسوا المَثَلَ واستنتَجوا أنَّه لا يُعقَلُ أنَّهُ يَتحدَّثُ عنِ المؤمنين لأنَّه كيفَ يُمكن أن يَغضبَ الرَّبُّ مِنَ المؤمنينَ، وكيفَ يُعقَلُ أن يُسَلِّمَ مُؤمِنينَ إلى المُعَذِّبين؟ وكيفَ يَجعَلُهُم يَدفعون؟ فلا يُعَقل أن يَسري هذا المَثَل على المؤمنين [كما يَقولون].
واسمَحوا لي أن أقولَ لكم منذُ البدايةِ لِئَلاَّ تَظَلُّوا في حَيْرة: أعتقدُ أنَّهُ يَسري على المؤمنينَ. وعندما نَتأمَّلُ في هذا المَثَلِ آيةً آية، سأُشيرُ في كُلِّ نُقطة ذاتِ صِلة لماذا أعتقدُ أنَّ هذا المَثَلَ يُشيرُ إلى المؤمنين. فإن لم تَغفِروا للآخرينَ، لن يُغفَر لكم. وإن لم تَغفروا للآخرينَ ولم يُغفَر لكم، فإنَّكم تَضعونَ أنفسَكُم في مَوقِفٍ تَختبرونَ فيهِ شَيئَيْن: لن تَختبروا فَرَحَ الشَّرِكَةِ مع الرَّبِّ، وسوفَ تَختبرونَ تأديبَ الرَّبّ. وأنا لا أرى أيَّ مُشكلةً في ما يَحدُثُ في نهايةِ هذا المَثَل مِن جِهَةِ التَّأديبِ الَّذي يَقَعُ على المؤمنِ الَّذي يُخطئ. وسوفَ نَرى ذلكَ في أثناءِ تأمُّلِنا في النَّصّ.
ولكن لا مُبَرِّرَ لأن نُصدَمَ لأنَّ السَّيِّدَ قَاسٍ، وحازِمٌ وصَارِمٌ وشديدٌ في التَّعامُلِ مع خاصَّتِه لأنَّ هذا كُلَّهُ جُزءٌ مِن تأديبِهِ لَهُم لكي يَنصاعوا للمِعيارِ المُقَدَّسِ لمشيئتِه المُعلَنة. لِذا، لا يَنبغي لذلكَ أن يَصدِمَنا. فنحنُ نَعلمُ بوضوحٍ شديدٍ أيضًا مِن خلالِ الأصحاحِ الثَّاني عشر مِن الرِّسالة إلى العِبرانِيِّين أنَّ الرَّبَّ يُؤدِّبُ أولادَهُ. وهو يَجلِدُهُم. وحَتَّى إنَّ الكلمة المُستخدَمة هُنا تُعَبِّرُ عن فِكرةِ المَعَذِّبينَ في العدد 34.
ولكنَّ الفِكرةَ الرَّئيسيَّةَ [على الأقلِّ بالنِّسبةِ إلينا] هي أن نَرجِعَ إلى العدد 23 ونَنظُر إلى الكيفيَّةِ الَّتي يَبتدئُ فيها المَثَل. فهو يَبتدئُ بالكلمة "لِذلكَ"، وهي كلمة تَربِطُ هذا المَقطعَ بالمقطعِ السَّابق. والمقطعُ السَّابقُ يتحدَّثُ عن غُفرانِ المؤمنِ لأخيهِ المؤمِن. فهو عن أخي [في العدد 21] الَّذي يُخطئ إليَّ، ومَوقفي مِن أخي، وغُفراني لأخي.
فهو يَتحدَّثُ عن أُختي أو أخي الَّذي يُخطئُ في الشَّرِكَة ويَنبغي أن يُرَدَّ ويُغفَر لَهُ. والمَثَلُ مَبْنِيٌّ على ذلك المبدأ. لِذا، أعتقدُ أنَّ الكلمة "لِذلكَ" تَستَنِدُ إلى فَهْمِ حقيقةِ أنَّهُ بالرَّغمِ مِن أنَّ هذا المبدأَ هو مبدأٌ عَامٌّ بِكُلِّ تأكيدٍ ويُمكِنُ تَطبيقُهُ على نِطاقٍ واسِع، فإنَّهُ يُشيرُ بصورة رئيسيَّة إلى أولئكَ الَّذينَ هُم في عائلةِ اللهِ ويَنبغي أن يَفهموا أهميَّةَ الغُفران. فهو مَثَلٌ قَويٌّ جدًّا. وهو درامِيٌّ. وهو قَويٌّ. وهو مُؤثِّرٌ. والحَقُّ الَّذي يُعَلِّمُهُ لا يُقاوَم. وكُلُّ ما في الأمرِ هو ما إذا كُنَّا سنَختارُ أن نُطيعَ أو لا نُطيعَ تَطبيقَهُ.
والآن، بعدَ أن قُلنا ذلك، لِنَنظُر إلى المَثَل في العدد 23: "لِذلِكَ يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ إِنْسَانًا مَلِكًا أَرَادَ أَنْ يُحَاسِبَ عَبِيدَهُ". والآن، إنَّ الرَّبَّ يُحِبُّ أن يَتحدَّثَ عن مَلكوتِهِ مِن خلالِ أمثال. والأمثالُ قِصَصٌ مَحجوبةُ المَعنى، أو قِصَصٌ مِن الحياةِ العاديَّةِ اليوميَّةِ الَّتي تَنطوي على مَعنىً رُوحيٍّ.
والرَّبُّ يَفعل ذلك غالبًا. وغالبًا ما يقولُ إنَّ مَلكوتَ السَّماواتِ يُشبِهُ كَذا. وَ"مَلكوتُ السَّماواتِ"... وأنا لا أُريدُ أن أصرِفَ وقتًا طَويلاً في تَعريفِهِ... ولكنَّهُ ببساطة: نِطاقُ سِيادَةِ اللهِ على الأرضِ مِن خلالِ النِّعمةِ والخلاص. نِطاقُ سِيادَةِ اللهِ. ونحنُ في ذلك المَلكوت؛ أي نحنُ الَّذينَ نُحِبُّ المَسيحَ. فنحنُ تَحتَ سُلطانِه، وتحتَ سِيادَتِه. وقد انتقلنا مِن مَملكةِ الظُّلمةِ إلى مَلَكوتِ ابنِ مَحبَّتِه.
فهو يقول: "إنَّ مَلكوتي يُشبِهُ كَذا" أو: "إنَّ نِطاقَ مُلْكي على الأرضِ مِن خلالِ النِّعمةِ والخلاصِ هو كَذا"، أو: "هكذا هو مَلكوتي". ومَرَّةً أخرى، أعتقدُ أنَّ المقصودَ بالمَلكوتِ... مع أنَّنا كَثيرًا ما نَجِدُ في إنجيلِ مَتَّى أنَّ الملكوتَ يَضُمُّ لا فقط الأشخاصَ الَّذينَ يَنتمونَ إليهِ حَقًّا في المَلكوتِ، بل يَضُمُّ أيضًا الأشخاصَ الَّذينَ يَنتمونَ إليهِ سَطحيًّا... ولكنِّي أعتقدُ أنَّه في هذا السِّياقِ الَّذي يَتحدَّثُ فيهِ يسوعُ إلى التَّلاميذِ فإنَّه يَتحدَّثُ عنِ المَلكوتِ بأصدقِ مَعنى لَهُ. فيجب على الأشخاصِ الَّذينَ يَنتمونَ إلى مَلكوتي أن يَفهموا أنَّ مَلكوتي هكذا.
والشَّخصيَّةُ الرَّئيسيَّةُ هي مَلِكٌ مَا. ويُمكنكم أن تَكتُبوا في هَامِشِ كِتابِكُم المُقدَّسِ أنَّ المَلِكَ هُنا يَرمِزُ إلى الله. وهو أوَّلُ مَثَلٍ في العهدِ الجديدِ يُشَبَّهُ فيهِ اللهُ بِمَلِك. فاللهُ هو المَلِكُ في هذا المَثَل؛ كما هو واضح. وقد "أَرَادَ [هذا المَلِكُ] أَنْ يُحَاسِبَ عَبِيدَهُ". والكلمة "عَبيد" ("دولوي" – "doulois") تَعني عَبْدًا مُقْتَنى... عَبْدًا مُقْتَنى.
وهي كلمة تُشيرُ إلى عَبْدٍ مُلتَصِقٌ بِسَيِّدِه؛ ولكنَّها لا تَعني بالضَّرورة أنَّهُ كانَ مُكَبَّلاً بالسَّلاسِل. فقد كانَ هُناكَ عَبيدٌ يُكَبَّلونَ بالسَّلاسِل، وكانَ هُناكَ عَبيدٌ يَتمتَّعُونَ بحُريَّاتٍ مَحدودة جدًّا جدًّا. ولكنَّ العبيدَ الآخرينَ المُشار إليهم بالكلمة "دولوي" (doulois) كانوا يَتمتَّعونَ بحُريَّاتٍ ومَزايا كبيرة جدًّا. وبالرَّغمِ مِن ذلك، كانَ هؤلاءِ العبيد يَخضعونَ لِمَن هُم أعلى مِنهم سواءَ كانوا عَبيدًا، أو خُدَّامًا يَعملونَ في بيتِ السَّيِّدِ ويَتمتَّعونَ بُحريَّاتٍ أكثر مِن العبيدِ الآخرينَ، أو [كما هي الحالُ هُنا] مَرازِبَة؛ أي وُلاةً إقليميِّينَ يَخدِمونَ لدى المَلِكَ مِن خلالِ حُكْمِ مَناطِقَ مُعيَّنة في مَملكتِه أو وِلايات مُعيَّنة.
وكانت مَسؤوليَّتُهم هي أن يُمَثِّلوا المَلِكَ ويَحكُموا نِيابةً عنه. وكانَ هذا يَعني بصورة رئيسيَّة أن يَجمعوا الضَّرائبَ الَّتي كانت تُسَلَّمُ بعدئذٍ إلى المَلِك للِإنفاقِ على المَملكةِ كُلِّها ورَفْدِ الخَزنةِ المَلكيَّة. لِذا فإنَّ الكلمة "عَبْد" هنا لا تُشيرُ إلى المَعنى المُعتاد الَّذي يُطلَق عادةً على خَادِمِ البَيْت أو العَبْد المُقتَنى، بل تُشيرُ إلى وَالٍ إقليميٌّ أُعطِيَ مَنطقةَ نُفوذٍ وسُلطانًا [إن جازَ القولُ] بأمرٍ مِنَ المَلِكِ شَخصيًّا لكي يَجمَعَ الضَّرائبَ مِن ذلك الجُزءِ المُحَدَّدِ مِنَ المَملكة ويُسَلِّم للمَلِكِ ما هو لَهُ قَانونيًّا.
والآن، أَودُّ أن أقولَ لكم إنَّ هذا الكلامَ يَصِحُّ على النَّاسِ عامَّةً؟ فعندما خَلَقَ اللهُ الإنسانَ ووضعَهُ على الأرض، أعطاهُ سُلطانًا على الأرض. فقد جَعلَ الإنسانَ وكيلاً على كلِّ ما يَملِك. وأنا أعني الإنسانَ عامَّةً سواء كانَ شخصًا يَعرفُ المسيحَ أو لا يَعرفهُ. فقد أُوْكِلَتْ إلى البشرِ مَهمَّةُ حِفْظِ الكَنزِ الَّذي أعطاهُ لهم اللهُ. فحياتُهم ونَفَسُهُم هي هِبَة مِن الله. وهو الَّذي يَملِكُها.
وكُلُّ ما هو بينَ أيديهم هو مِلْكٌ لله. وكُلُّ المالِ الَّذي لديهم هو لله. إنَّهُ مِلْكٌ للهِ الَّذي يُعطيهم القدرة على الحُصولِ على الثَّروة. وكُلُّ المواهبِ الَّتي لديهم هي في الحقيقة مَواهب أعطاها لهم اللهُ. وكُلُّ القُدرةِ والقوَّةِ الَّتي لديهم إنَّما أُوْدِعَتْ فيهم وأُعطيت لهم مِن اللهِ نفسِه. لِذا فإنَّ كُلَّ إنسانٍ يعيشُ في العالم [حَتَّى قبلَ أن يَعرِفَ اللهَ] قد أُعْطِيَ وَكالةً مِنَ اللهِ الَّذي خَلَقَهُ على الصُّورةِ الَّتي هُوَ عليها، وفي المكانِ الَّذي هوَ فيه، وبالمسؤوليَّةِ الَّتي أُوكِلَت لَهُ، وبالمالِ الَّذي وُضِعَ في عُهدَتِه. لِذا، أنا أرى أنَّنا هُنا أمامَ مَلِكٍ يَملِكُ على جَميعِ هؤلاءِ النَّاسِ الَّذينَ أُعطوا أشياء مُعيَّنة هي في الحقيقة مِلْكٌ للمَلِك وسيُحاسَبونَ على الكيفيَّةِ الَّتي يَستخدمونَ فيها تلك الأشياء.
لِذا فإنَّنا نَقرأُ في العدد 23 أنَّهُ أرادَ أن يُحاسِبَهُم. والآن، أنا لا أرى هذا حِسابًا نِهائيًّا، بل أرى أنَّهُ رُبَّما كانَ حِسابًا سَنويًّا، أو حِسابًا يَقومُ بهِ كُلَّ فَترة مُعيَّنة عندما يُريدُ المَلِكُ أن يُجري جَرْدًا رُبَّما كُلَّ سنة، أو سنةً بعدَ سنة، أو كُلَّ نِصف سنة إذ يجب على وُلاةِ تلكَ الأقاليمِ أن يُحضِروا إليهِ كُلَّ الضَّرائبِ الَّتي جَمعوها. وكانَ ينبغي لهم أن يُبَيِّنوا لَهُ مِن أينَ جَمعوا تلك الضَّرائب. وكانَ يَنبغي لهم أن يُقَدِّموا للملكِ ومَملكتِه أو للخَزنةِ المَلكيَّةِ النِّسبةَ المِئويَّةَ الصَّحيحةَ وأن يَحتفظوا لأنفسهم بالنِّسبةِ المِئويَّةِ الَّتي خُصِّصَتْ لهم قانونيًّا.
لِذا فقد كانت تلك مُحاسَبة دَوريَّة. وما نَراهُ في هذا المَقطعِ هو أنَّ اللهَ يَدعو النَّاسَ إلى مُحاسبةٍ دَورِيَّة. فَلا مُبَرِّرَ لأن يكونَ هذا هو حِسابُ العرشِ العَظيم أوِ الدَّينونةِ الأخيرة، بل هو حِسابٌ يَجري عندَ وقتٍ مُحاسبةِ الضَّميرِ عندما يُدعَى النَّاسُ إلى الوقوفِ قُدَّامَ اللهِ ويُسألوا عَمَّا يَفعلونَهُ في حياتِهم. وهذا هو جَوهرُ تَفسيرِ الأعدادِ الأولى مِن هذا المَثَل.
فاللهُ يَدعو البشرَ لكي يُحاسِبَهُم على حَياتِهم. وبالنِّسبةِ إلى فئةٍ مِن النَّاس، قد يَحدُثُ ذلكَ اليوم في أثناءِ هذه الخِدمة. وقد تكونُ هذه هي المَرَّة الأولى أو المَرَّة المِئة. ولكن بينَ الحينِ والآخر طَوالَ الحياةِ الَّتي يُؤتَمَنُ فيها النَّاسُ على الأشياءِ الَّتي يَملِكُها اللهُ، سوفَ يُدْعَوْنَ ويُطلَبُ مِنهم أن يُقَدِّموا حِسابًا عن حياتِهم. وسوفَ تكونُ هناكُ حِساباتٌ عديدة قبلَ تلك الدَّينونة الأخيرة أمامَ عرشِ الدَّينونةِ العَظيم.
وفي الأصحاحِ الأوَّل مِن رسالة رُومية، نَقرأُ أنَّ اللهَ أَعطى البشرَ القُدرةَ على أن يَعرِفوه، وأنَّ اللهَ أعطى الإنسانَ في البيئةِ المُحيطةِ به المعلوماتِ الكافية الَّتي تُتيحُ لهُ أن يَسيرَ في دَرْبِ مَعرفةِ الله، وأنَّ اللهَ أعطى الإنسانَ القدرةَ العَقليَّةَ لكي يَفهمَ ويُفَكِّرَ ويَرى الحقَّ، وأنَّ اللهَ قَدَّمَ لهُ الكلمةَ المُعلنةَ... الرُّوحَ القُدُس. بعبارة أخرى، لقد أعطى كَنزًا للبشرِ ينبغي أن يُدركوا أنَّهُ مِنه، وينبغي لهم أن يَتبعوا ذلكَ الإدراكَ إلى أن يَفهموا تمامًا مَن هو وماذا يُريد. واللهُ يَدعو البشرَ دَوريًّا لمُحاسبتهم.
ويُمكنكم أن تَجدوا نفسَ هذهِ الفكرة في الأصحاحِ السَّادس عشر مِن إنجيل يوحنَّا إذ نَقرأُ أنَّ الرُّوحَ القُدُسَ جاءَ لِيُبَكِّتَ العالَمَ على خَطيَّة وبِرّ ودينونة. فهي الخدمةُ الَّتي يَقومُ بها الرُّوحُ القُدُسُ دَوريًّا وَفقًا لِسيادَةِ اللهِ الَّذي يَدعو البشرَ لمُحاسبتهم مِن خلالِ تَبكيتِهم. ولا بُدَّ أنَّكَ اختبرتَ ذلكَ إن كنتَ مُؤمِنًا؛ أي إن كنتَ قد جِئتَ إلى يسوعَ المسيح. فقد دُعيتَ إلى المُحاسَبة. فرُبَّما قَدَّمَ أحدُ الوُعَّاظِ عِظَةً، أو رُبَّما واجَهَكَ أحدُ الأشخاصِ ببشاعةِ الخطيَّة، أو رُبَّما أراكَ أحدُهم ناموسَ اللهِ وبَيَّنَ لكَ مَدى تَقصيرِكَ فيه، أو رُبَّما بَيَّنَ لكَ أحدُهم أنَّكَ خَالفتَ ناموسَ اللهِ فنَظرتَ إلى قَلبِكَ ورأيتَ مِن خلالِ عملِ الرُّوحِ وكلمةِ اللهِ أنَّ ما قالَهُ لكَ صَحيح، ورأيتَ نَفسكَ على حَقيقتِكَ إذ إنَّكَ إنسانٌ خاطئٌ فقَبلتَ نِعمةَ الخلاص.
ورُبَّما حَدَثَ ذلكَ التَّبكيتُ في حياةٍ أُناسٍ مِنكُم مِن خلالِ مَرَضٍ جَسديٍّ، أو مِن خلالِ مَوتِ شخصٍ تُحبُّونَهُ كثيرًا، أو مِن خلالِ فُقدانِ الوَظيفة، أو مِن خلالِ مِحنةٍ قاسية. ولكنَّ اللهَ يَدعو البشرَ إلى مِثلِ هذه المُحاسَبةِ الَّتي تَعمَلُ فيها ظُروفٌ قاسية أو حَقٌّ مُباشِر أو شُعورٌ بالذَّنبِ أو يَقَظةُ أو صَحوةُ ضَميرٍ على إيقاظِ أشخاصٍ كانوا نِيامًا قبلَ الآن ولكنَّهم استيقظوا فجأةً وأدركوا بَشاعةَ خَطيئتِهم. وأحيانًا، قد يَسمَحُ اللهُ بظروفٍ قاسيةٍ مِن أجلِ إيقاظِ البَشَر بتلك الطَّريقة.
وفي أثناء دراستِنا للأصحاحِ السَّابعِ مِن رسالة رُومية في هذا المساء، سوفَ نَرى أنَّ هذا هو تَمامًا ما حَدثَ للرَّسولِ بولس. فقد كانَ يَمضي في حياتِهِ ويبدو أنَّ كُلَّ شيءٍ على ما يُرام. وفجأةً، أَخَذهُ اللهُ إلى الطَّريقِ المُؤدِّي إلى دِمَشق، وطَرَحَهُ أرضًا، وأَعماهُ، ودَعاهُ إلى المُحاسَبة. وأعتقدُ أنَّهُ في تلك النُّقطةِ الفاصِلَةِ في حياتِهِ صارَ الأصحاحُ السَّابعُ مِن رسالةِ رُومية حَقيقةً بالنِّسبةِ إليه. وقد نَظرَ إلى أعماقِ حياتِهِ ورأى البَشاعةَ المُطلَقَةَ لِخَطيَّتِه.
فقد كانَ مُتَعجرِفًا ويَظُنُّ أنَّهُ يستطيعُ أن يَحفظَ النَّاموسَ بقدُرتِه. ولا شَكَّ في أنَّهُ كانَ يَشعُرُ بنوعٍ مُعيَّنٍ مِن التَّبكيت. ولا شَكَّ في أنَّهُ كانَ يَريدُ أن يكونَ بارًّا في عَيني نفسِه وأن يُرضي اللهَ؛ ولكنَّهُ لم يَفهم البَشاعةَ الفَظيعةَ للخطيَّة إلى أن تَمَرَّغَ في التُّرابِ، وأُصيبَ بالعَمى، وواجَهَ حَقيقةَ أنَّ خَطيَّتَهُ لم تَكُن تَقتَصِرُ فقط على ما تَفعلُهُ وما لا تَفعلُهُ خارجيًّا، بل أنَّ الخطيَّةَ شيءٌ مَوجودٌ في طَبيعةِ النَّفسِ ذاتِها.
وعندما رأى بَشاعةَ الخطيَّة، فَعَلَ الصَّواب. ولكنَّ أُناسًا كثيرينَ لم يَفعلوا ذلك. فالشَّابُّ الغَنِيُّ تَواجَهَ معَ يسوعَ المسيح. وقد ظَنَّ هو أيضًا أنَّ الخطيَّة تَقتصِرُ فقط على ما تَفعلُهُ أو لا تَفعلُهُ خارجيًّا. وعندما سُئِلَ عَمَّا إذا كانَ يَحفظُ كُلَّ النَّاموسِ قال: "هذِهِ كُلُّهَا حَفِظْتُهَا مُنْذُ حَدَاثَتِي". وقد واجَهَهُ الرَّبُّ بالحقِّ كما لو كانَ سَهْمًا اخترَقَ قَلبَهُ إذ قالَ لهُ ما مَعناه: "الأمرُ لا يَقتصِرُ على ما تَفعلُهُ أو لا تَفعلُهُ خارجيًّا، بل إنَّ الخطيَّة مَوجودةٌ فيك. وما أراهُ فيكَ هو الجَشَع. وما أريدُ أن أقولَهُ لكَ هو اذهب وَبِع كُلَّ أملاكِكَ، وَخُذِ المالَ وأعطِهِ كُلَّهُ للفُقراء". وقد مَضى الشَّابُّ حَزِينًا.
ومعَ أنَّهُ شَعَرَ بالتَّبكيت، فإنَّهُ رَفضَ التَّبكيت. فقد تَمَّت مُحاسبتُهُ في ذلك اليوم، ولكنَّهُ رَفضَ المُحاسبة. فقد قيلَ لهُ إنَّهُ جَشِعٌ في قلبِه، وإنَّ مُشكلةَ الخطيَّةِ لم تَكُن شيئًا خارجيًّا، بل كانت شيئًا عميقًا في الدَّاخل. وفي لَحظةِ مُحاسبتِه، أَدارَ ظَهرَهُ وغادَرَ المَكان. أمَّا بولسُ، مِن جهةٍ أخرى، فاستُدعِيَ للمُحاسبة، ورأى ما يقولُهُ النَّاموسُ عنِ الجَشَع، ورأى ما يَقولُهُ النَّاموسُ عنِ الشَّهوة، ورأى ما يَقولُهُ النَّاموسُ عنِ الرَّغباتِ الشرِّيرة؛ ولكنْ عِوَضًا عن أن يُديرَ ظَهرَهُ ويُغادِر المكان، قَبِلَ المُخلِّصَ الَّذي لا يَستطيعُ أحدٌ غَيرُهُ أن يُخلِّصَهُ مِن خطيَّتِه. وقد نالَ الفِداء.
ولكنَّ كُلَّ النَّاسِ يَخضعونَ لنفسِ المُحاسبة. وقد يَحدُثُ ذلكَ المَرَّة تِلو المَرَّة. وقد يَرفُضونَها المَرَّة تِلو المَرَّة. وبالنِّسبةِ إلينا نحنُ الَّذينَ عَرَفنا المسيحَ في وقتٍ مِن الأوقات، لقد قَبِلنا تلكَ المُحاسبة ودَخلنا بسببِ ذلكَ إلى الحياةِ الأبديَّة. لِذا فإنَّنا نَقرأُ هنا عن أنَّ اللهَ يَدعو النَّاسَ إلى المُحاسبةِ لتَبكيتِهم على خطيَّة.
ولمُساعدتكُم وَحَسْب على مَعرفةِ بَشاعةِ الخطيَّة، انظروا إلى العدد 24: "فَلَمَّا ابْتَدَأَ فِي الْمُحَاسَبَةِ قُدِّمَ إِلَيْهِ وَاحِدٌ مَدْيُونٌ بِعَشْرَةِ آلاَفِ وَزْنَةٍ". إنَّهُ وقتُ التَّبكيت. وقد قُدِّمَ إليهِ واحِدٌ لأنَّ هؤلاءِ لا يأتونَ طَوعًا، بل يأتونَ وَهُم يَركُلونَ ويَصرُخون. فَهُم لا يَأتونَ طَوعًا. وهو لم يَكُن ليأتي لو لم يَتِمَّ استِدعاؤه. فما الَّذي سيَدفعُهُ إلى فَضْحِ نَفسِهِ بأنَّهُ مُختَلِس؟ فهو لن يَأتِ طَوعًا، بل تَمَّ استدعاؤه. وقد كانَ يَدينُ بعشرةِ آلافِ وَزنة. والأمرُ يَزدادُ غَرابَةً عندما تَقرأونَ عن هذا الأمر. فإن قَرأتُم الخَلفيَّةَ وما إلى ذلكَ ستجدونَ أنَّ النَّاسَ يحاولونَ أن يُخَمِّنوا مِقدارَ هذا المَبلغ لأنَّه مَا بينَ أُمَّةٍ وأخرى، وما بينَ فَترةٍ وأخرى، وما بينَ نُقطةٍ في التَّاريخِ وأُخرى، قد تَتغيَّرُ القيمةُ كثيرًا. وكُلُّ ما يُمكننا قَولُهُ هو إنَّ المَبلغَ كانَ كبيرًا جدًّا... كبيرًا جدًّا. وقد تُساعِدُنا المُقارنةُ بينَ الأرقامِ في إدراكِ ذلك.
كانَ العَبْدُ أوِ الوالي في هذا المَثل يَدينُ بعشرةِ آلافِ وَزنة. وإن أَجرينا هذه المُقارنة المُدهشة، قد يَهُمُّكم أن تَعلموا أنَّهُ في نفسِ الفترة، أي في زَمنِ يَسوعَ، كانَ إجمالي الضَّرائبِ الَّتي جَمَعتها الحُكومةُ الرُّومانيَّةُ مِن أَدوم ويَهوذا والسَّامرة... كانَ إجمالي الضَّريبة هو سِتُّمئة وَزنة. وكانَ إجمالي الضَّرائبِ الَّتي جُمِعَت مِن الجَليل هي ثلاثُمئة وَزنة. لِذا، إن كانَ هذا الرَّجُلُ قد جَمَعَ أوِ اختلسَ وَبَدَّدَ عشرة آلاف وَزنة، فإنَّهُ رَقْمٌ فَلَكِيٌّ إن نَظرنا فقط إلى حقيقةِ أنَّهُ عشرة آلاف.
وقد تَرغبونَ في مَعرفةِ أنَّهُ عندما بُنِيَت خَيمةُ الاجتماع، قالَ الرَّبُّ لهم: "أُريدُ مِنكُم أن تُغَشُّوا كُلَّ هذه الأشياءِ بالذَّهب". فكما تَعلمونَ، كانَ يَنبغي أن يُغَشَّى تابوتُ العَهدِ والكثيرُ مِن الأشياءِ الأخرى بالذَّهب. وإن عُدتُم بتفكيركم إلى ذلك الوقت وتَخيَّلتُم كُلَّ ذلك الذَّهب النَّقيّ الَّذي كانَ يُغَشِّي كُلَّ تلكَ الأشياءَ الموجودة في خيمةِ الاجتماع، وكانَ لديكُم فُضولٌ بخصوصِ ذلك، نَقرأُ في سِفْر الخروج 38: 24 أنَّهُ كان هناكَ تسعٌ وعِشرونَ وَزنة ذَهَب.
ثُمَّ إنَّهُ عندما تَمَّ بِناءُ الهَيكَل، تَمَّ استخدامُ ثلاثة آلاف وَزنة. وكانَ المَكانُ كُلُّهُ مُغَشَّى بالذَّهب. وكان يوجد هناكَ فقط ثلاثةُ آلاف وَزنة. لِذا فإنَّ عَشرةَ آلافِ وَزنة هو رَقْمٌ فَلَكِيٌّ. وقد قَدَّرَ أُناسٌ ذلكَ الرَّقْم بمبلغٍ يُعادِلُ ما بينَ سِتَّة عشر مِليونَ دولار ومِليارَيّ دُولار، أو أيَّ مَبلغٍ بينَهُما. ورُبَّما تَرغبونَ في رُؤيةِ مُقارنةٍ أخرى: فعندما جاءت مَلِكَة سَبَا لزيارةِ سُليمان ذاتَ مَرَّة، أرادت أن تُقَدِّمَ لهُ هَديَّةً تُلائِمُ ثَراءَهُ الَّذي لا يَتخيَّلُهُ عَقل. لِذا فقد قَدَّمَتْ لَهُ مِئةً وعِشرينَ وَزنةَ ذَهَب (وَفقًا لسِفْرِ المُلوكِ الأوَّل 10: 10). وقد غَرَّمَ مَلِك أَشور حَزَقِيَّا ثلاثينَ وَزنةً مِنَ الذَّهب؛ وهي غَرامةٌ كَبيرة جدًّا.
والآن، ما الَّذي يُشيرُ إليهِ ذلك المَبلغ؟ هل تُريدونَ ما الَّذي يُشيرُ إليهِ ذلك المَبلَغ؟ الخطيَّة. فالخطيَّة هي الدَّيْن. والعشرةُ آلافٍ هي المَبلغ. ولكِن اسمحوا لي أن أَصحَبَكُم في رِحلة ذِهنيَّة قَصيرة. ففي سِفْر دانيال 7: 10 نَقرأُ مَا يَلي عنِ رُؤيا ابنِ الإنسانِ المَجيدِ في مَجيئهِ الثَّاني إذ تَقرأون: "نَهْرُ نَارٍ جَرَى [دانيال 7: 10] وَخَرَجَ مِنْ قُدَّامِهِ" أي مِن قُدَّامِ عَرشِ اللهِ. ثُمَّ نَقرأُ: "أُلُوفُ أُلُوفٍ تَخْدِمُهُ، وَرَبَوَاتُ رَبَوَاتٍ وُقُوفٌ قُدَّامَهُ". وما الَّذي يُشيرُ إليهِ ذلك؟ المَلائكة. رَبَوَاتُ رَبَوَاتٍ. والآن، افتَحوا على سِفْر الرُّؤيا 5: 21... عُذرًا، 5: 11. فلا وُجودَ للعَدد 21.
"وَنَظَرْتُ وَسَمِعْتُ صَوْتَ مَلاَئِكَةٍ كَثِيرِينَ حَوْلَ الْعَرْشِ وَالْحَيَوَانَاتِ وَالشُّيُوخِ". وَكَمْ كانَ عَدَدُهم؟ "وَكَانَ عَدَدُهُمْ [كَمْ؟] رَبَوَاتِ رَبَوَاتٍ وَأُلُوفَ أُلُوفٍ". فأنتُم تَقرأونَ عن ذلك في العهد القديم، وتَقرأونَ عن ذلك في العهد الجديد. وبالمُناسبة، ستَجدونَ استخداماتٍ كهذهِ للأُلوفِ والرَّبواتِ في سِفْر نَشيدِ الأنشاد 5، وفي سِفْر حِزْقيال 45، وأعتقد أيضًا في سِفْر حِزْقيال 48. وتَجدونَ ذلكَ مَرَّتين في الرِّسالة الأولى إلى أهل كورنثوس أيضًا.
واسمَحوا لي أن أقولَ لكم شَيئًا: إنَّ أكبرَ رَقْمٍ... إنَّ أكبرَ رَقْمٍ في اللُّغةِ اليونانيَّة هو ذلك الرَّقْم: "رَبَوات" [أي: عَشْرَة آلاف]. وهي تَرجمة للكلمة "موريون" (murion). لِذا، عندما كانوا يَستخدمونَ الكلمة "موريون"، لم يَستخدموها دائمًا كلفظةٍ اصطِلاحيَّة. لِذا، عندما تَقرأونَ عنِ الملائكةِ بأنَّهم كانوا "رَبْواتِ رَبَواتٍ، لا يَنبغي لكم أن تَضرِبوا الرَّقْمَ عَشْرة آلاف بالرَّقْم عشرة آلاف لتَعرفوا عددَ الملائكةِ تَمامًا؛ بل إنَّ ذلكَ يَعني ببساطة أنَّهُ يُوجدُ أُلوفُ أُلوفٍ مِنهُم.
وهو أكبرُ رَقْمٍ كانَ يُمكِنُ استخدامُه. وكانَ المَعنى المقصودُ هو أنَّهُ كانَ يَدينُ للمَلِكِ بِمَبلَغٍ ضخمٍ جدًّا. فهي لَفظة تُشيرُ وحَسب إلى رَقْمٍ يَصعُبُ تَخَيُّلُه. وأنا أراها بذلكَ المَعنى وليست كلفظة اصطِلاحيَّة تَعني تمامًا عشرة آلاف وَزنة. فالمَعنى المقصودُ هنا هو أنَّهُ كانَ يَدينُ بمبلغٍ ضخمٍ جدًّا، أو بمبلغٍ هائل، أو بمبلغٍ لا يُحصى، أو بِدينٍ لا يُمكِنُ الوَفاءُ به، أو بمبلغٍ يَفوقُ قُدرةَ أيِّ إنسانٍ على رَدِّه، أو بمبلغٍ يَفوقُ قُدرةَ أيِّ إنسانٍ حَتَّى على عَدِّه.
والآن، فَكِّروا معي في ما يلي لأنَّ هذا الحَقَّ عَميقٌ جدًّا. فهذه هي خَطايانا، يا أحبَّائي. فهذا هو ما يَتحدَّثُ عنه. فقد تَمَّ استدعاؤنا أمامَ اللهِ في لحظةِ تَبكيتٍ، وتَمَّت مُواجهتُنا بحقيقةِ أنَّ خطايانا لا تُحصَى، ولا تُعَدّ، ويَتَعَذَّرُ حِسابُها. فمِنَ المُتَعَذَّرِ عَدُّها لكثرتِها. فَعددُ خَطايانا يَفوقُ استيعابَنا.
والآن، إليكم ما يَحدُث. إليكم ما يُريدُ اللهُ أن يَحدُث عندما تأتي ويَتِمُّ تَبكيتُكَ مِن خلالِ قُوَّةِ الرُّوحِ بواسطةِ كلمةِ الله. فعندما يأتي شخصٌ في وقتِ المُحاسبةِ والتَّبكيتِ أمامَ الله فإنَّهُ يَتِمُّ استدعاؤه لكي يَرى بَشاعةَ الخطيَّة. وهذا يُعيدُنا إلى رُومية 7 مَرَّةً أخرى. فبولس يقول: "عندما رأيتُ نَفسِي على حَقيقتِها، وعندما رأيتُ ناموسَ اللهِ ونَظرتُ إلى خَطيَّتي [كما يقولُ في الأصحاح 7 والعدد 13]، رأيتُ أنَّ الخطيَّةَ خاطئة جدًّا، أو رأيتُ البَشاعةَ المُريعَةَ للخطيَّة.
وهذا عُنصرٌ مُهمٌّ جدًّا في جَلْبِ الشَّخصِ إلى الخلاصِ الحقيقيّ. فيجب أن يَتِمَّ اقتيادُ كُلِّ شخصٍ مِنَّا إلى نُقطةٍ نَرى فيها هَوْلَ خطايانا الَّتي يَتعذَّرُ إحصاؤها. ولا عَجَبَ أنَّهُ عندما تَمَّت مُواجهةُ أيُّوب بذلك قال: "أَلومُ نَفسي". ولا عَجَبَ أنَّهُ عندما تَمَّت مُواجهةُ عَزرا بذلكَ قال: "اللّهُمَّ، إِنِّي أَخْجَلُ وَأَخْزَى مِنْ أَنْ أَرْفَعَ يَا إِلهِي وَجْهِي نَحْوَكَ..." [وقد كانَ يَنظُرُ آنذاكَ إلى أسفل]، "...لأَنَّ ذُنُوبَنَا قَدْ كَثُرَتْ فَوْقَ رُؤُوسِنَا، وَآثَامَنَا تَعَاظَمَتْ إِلَى السَّمَاء".
وَهُوَ نَفسُ الموقفِ الَّذي نَجِدُهُ في قلبِ داود الَّذي مع أنَّهُ كانَ رَجُلاً بحسبِ قَلبِ اللهِ، فإنَّهُ صَلَّى والدُّموعُ تَنهَمِرُ على وَجهِهِ فقال: "مِنْ أَجْلِ اسْمِكَ يَا رَبُّ اغْفِرْ إِثْمِي". وكَما تَرَوْنَ، فإنَّ خطايانا دَيْنٌ. وهي دَيْنٌ يَتَعَذَّرُ إحصاؤه. فهو كبيرٌ جدًّا حتَّى إنَّهُ لا يُمكِنُنا أن نُحْصيه؛ فكم بالحَرِيِّ أن نُوفيه!
والآن انظروا إلى العدد 25 كي تَرَوْا ما حَدث. لِذا فقد تَمَّ استدعاءُ ذلك الرَّجُل للمُحاسبة: "وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يُوفِي...". وهذا أسوأُ مَوقِفٍ على الإطلاق: "...أَمَرَ سَيِّدُهُ أَنْ يُبَاعَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ وَأَوْلاَدُهُ وَكُلُّ مَا لَهُ، وَيُوفَي الدَّيْنُ". وهذا يُشيرُ وَحَسْب إلى العِقاب يا أصدقائي. فهذا دَيْنٌ حَقيقيٌّ وليسَ دَينًا بالمَعنى المَجازيِّ.
فالمَثَلُ يُشيرُ إلى أنَّ الرَّجُلَ كانَ يَختَلِسُ المالَ مِن المَلِك. وحتَّى إنَّهُ لم يَكُن يَملِكُ أيَّ جُزءٍ مِنه ليدفعَهُ. ولم تَكُن هناكَ طريقة لاستردادِه. وكانَ العِقابُ صَارِمًا جدًّا... صَارِمًا جدًّا. بِيعوا الرَّجُلَ عَبدًا، وبيعوا زَوجَتَهُ أَمَةً، وبيعوا كُلَّ أولادِهِ عَبيدًا، واحصُلوا على أيِّ مَبلغٍ مُمكِن. وبيعوا بَيتَهُ وَكُلُّ شيءٍ يَملِكُه، واحصُلوا على أيِّ مَبلغٍ يُمكنكم الحصولُ عليه. وسوفَ نأخُذُ ذلك المَبلغ ونَخصُمُهُ مِنَ الدَّيْن الَّذي لن يَتمكَّنَ مِن الوفاءِ به كُلّهُ؛ ولكنَّنا سنَحصُلُ على أكبرِ مَبلغٍ مُمكن مِنه. وبالمُناسبة، لا نَسمَع هُنا أيَّ احتِجاجٍ مِنَ الرَّجُل لأنَّ الحُكمَ عَادِلٌ. فهو لا يَعترِض، ولا يَحْتَجُّ، ولا يَتوسَّلُ لأجلِ تَحقيقِ العَدالة. فهذه هي العَدالة، بل إنَّها أكثرُ مِن العدالة لأنَّ الدَّينَ غيرُ قَابلٍ للسَّداد.
والآن، لقد كانت هذه الصُّورة غَريبةً نَوعًا مَا وغير مألوفة عندَ بَني إسرائيل. فنحنُ لا نَجِدُ شَيئًا مِن هذا القَبيلِ في إسرائيل. فهناكَ حالات قليلة في العهدِ القديم نَقرأُ فيها عن أوضاعٍ خاصَّةٍ كانَ يُمكِنُ أن يُباعَ فيها شَخصٌ لِيَخدِمَ شخصًا آخرَ مِن أجلِ الوَفاءِ بِدَينِه؛ ولكنَّها كانت طَريقةً شَائعةً في العالَمِ الوَثنيِّ. فقد كانَتِ الشُّعوبُ الموجودةُ في إسرائيل وحولها [ولكنَّهُا ليست جُزءًا مِن إسرائيل] تَعرِفُ تمامًا هذا الإجراء. وكانَ اليهودُ يَعرفونَ ذلكَ أيضًا لأنَّهم كانوا يَرَوْنَ الوثنيِّينَ يَفعلونَ ذلك.
فإن لم تَكُن قادرًا على الوفاءِ بالدَّين، تَصيرُ في الحالِ عَبدًا. ويجب عليكَ أن تَدفعَ الدَّيْنَ مِن خلالِ العَملِ عندِ الدَّائِن. وقد تَصيرُ زَوجَتُكَ أَمَةً، ويَصيرُ جميعُ أولادِكَ عَبيدًا، ويُباعُ كُلُّ ما تَملِكُهُ ويُدفعُ ثَمَنُهُ للشَّخصِ الَّذي تَدينُ لهُ بالمال. فلم يَكُن هذا الإجراءُ غريبًا تمامًا، ولكنَّهُ كانَ خادِمًا لوقتٍ مُحَدَّد. وحيثُ إنَّ الدَّائِنَ خَسِرَ مَالَهُ، كانَ يَحِقُّ لهُ أن يُطالِبَ باستعادةِ كُلِّ ما يُمكنهُ استعادته. وأعتقد أنَّه لو كانت توجد لدينا قوانين اليوم فإنَّها ستُؤثِّر في العديدِ مِنَ الأشياءِ الَّتي تَحدُث في مُجتمعِنا حيثُ إنَّ النَّاسَ سيُفَكِّرونَ مَرَّتينِ قبلَ إعلانِ إفلاسِهم إن عَلِموا أنَّهم سيُضطرُّونَ إلى الذَّهابِ والعَملِ عندَ الشَّخصِ الَّذي يَدينونَ لَهُ بالمال. وقد يكونُ هذا الحُلُّ جيِّدًا ويَمنَعُنا مِن التَّمادي كثيرًا في دُيونِنا.
والآن، يجب عليكم أن تَتذكَّروا أنَّ الدَّينَ كانَ أكبر بكثير مِن أن يُوفَى بِهِ بأيِّ حال. وإن سألتَ نَفسَكَ عن مَعنى ذلك، اسمحوا لي أن أُخبركم عنِ المَعنى المقصودَ هُنا في اعتقادي. فأنا أعتقدُ أنَّ هذه صُورة عن جَهنَّم. أجل. فأنا أعتقدُ أنَّ العدد 25 يَتحدَّث عن جَهنَّم مِن جهةِ العواقبِ الرُّوحيَّة. فأينَ يَذهبُ النَّاسُ عِقابًا لَهُم على خَطاياهم؟ وأينَ يَذهبُ النَّاسُ عِقابًا لهم على الدَّينِ الَّذي يَدينونَ بهِ لله؟ إنَّ هذا النَّصَّ يُشيرُ إلى جَهنَّم. فهو يَتحدَّثُ عن جَهنَّمَ الأبديَّة.
والآن اسمعوني بعناية شديدة لأنَّكم سَتتعلَّمونَ شيئًا عن جَهنَّم. صَحيحٌ أنَّ النَّاسَ يَذهبونَ إلى جَهنَّمَ لكي يَدفعوا دَيْنَ خطاياهم، ولكن هناكَ حقيقة ينبغي أن تَعرفوها وهي أنَّ البَقاءَ طَوالَ الأبديَّة في جَهنَّم لن يُكَفِّرَ عن كُلِّ خطاياهم. فَهُم يَذهبونَ إلى هناكَ وَحَسْب لكي يَدفعوا ما يُمكنهم أن يَدفعوه مِن خلالِ قَضاءِ الأبديَّة هناك؛ ولكنَّهم لن يَتمكَّنوا مِن سَدادِ كُلِّ الدَّيْن.
وما يَقولُهُ المَثَلُ هو أنَّ الدَّينَ غيرُ قابلٍ للسَّداد. فهو كبيرٌ جدًّا بحيث يَستحيلُ سَدادُهُ. فلا يُمكِنُكَ أن تَستردَّ ما فُقِد. فالمَجدُ الَّذي سُلِبَ مِنَ اللهِ لا يُمكن أن يُرَدَّ إلى الله. ولا توجد طريقة يَستطيعُ مِن خلالِها النَّاسُ في جَهنَّم أن يُوفوا الدَّينَ؛ ولكنَّهم سيَقضونَ الأبديَّةَ هناكَ ويَدفعونَ كُلَّ ما يُمكنهم دَفعُه بأيِّ حال. والحقيقةُ المُحزِنَةُ هي أنَّ الأشخاصَ الَّذينَ صَرفوا الأبديَّةَ في جَهنَّمَ لن يَصيروا يَومًا بحالٍ أفضل [مِن جِهَةِ دُيونِهم] مِن اليومِ الَّذي ابتدأوا فيه. لِذا، لن يَتمكَّنوا يَومًا مِن الذَّهابِ إلى السَّماءِ في نِهايةِ أيَّة مُدَّة بِصَرفِ النَّظرِ عنِ الوقتِ الَّذي مَكثوا فيهِ هُناكَ منذُ أنِ ابتدأَت دَينونتُهم.
فالدَّينُ لا يُمكِنُ أنْ يُوْفَى، ولكنَّهم سيَستمرُّونَ في تَسديدِه. وكُلُّ ما يَدفعونهُ سَيُخصَمُ مِن ذلك الدَّين. والكلمة المُستخدَمة هنا هي كلمة صارمة جدًّا. وعندما يُرسَلُ النَّاسُ إلى جَهنَّم، فإنَّهُ عِقابٌ عادِلٌ لَهُم لأنَّ اللهَ إلهٌ عادِلٌ يَقولُ إنَّ الخطيَّةَ هي دَيْنٌ لا يُمكِنُ الوَفاءُ بهِ. لِذا، سوفَ أستَوفي مِن البشرِ جميعًا كُلَّ ما يُمكنني أن أستوفيهِ بالرَّغمِ مِن أنَّني لن أتمكَّنَ يومًا مِن استردادِ كُلِّ الدَّيْن.
فالإفلاسُ التَّامُّ لكُلِّ بَني آدمَ يَجعلُ مِن المُستحيلِ أن يَدفعَ مَا يَدينُ بهِ لله. وعدمُ قُدرتِهِ على أن يَصيرَ في حَالٍ أفضل مِن خلالِ العِقابِ الَّذي يَنالُهُ في جَهنَّم يَعني أنَّهُ لن يَتمكَّنَ طَوالَ الأبديَّةِ مِنَ الوَفاءِ بالدَّيْن، وأنَّه لن يَصيرَ يومًا أَفضلَ حالاً لدُخولِ السَّماءِ مِمَّا كانَ عليهِ عندما أُرسِلَ في البداية إلى جَهنَّمَ. وهذه صُورة مُريعة!
والمَلِكُ ليسَ طاغيةً، بل هو مَلِكٌ عادِل. والحقيقةُ هي أنَّهُ كانَ رَحيمًا لأنَّهُ لم يَسْتَدْعِ هذا الرَّجُلَ للمُحاسبةِ قبلَ وقتٍ طويل. فهل تَعلمونَ أنَّ الحياةَ في ذاتِها هي عَمَلٌ رَحيم؟ فقد كانَ بمقدورِ اللهِ أن يُرسِلَكَ إلى جَهنَّم حالَ وِلادَتِك. أليسَ كذلك؟ ولكنَّ اللهَ رَحيمٌ. ورُبَّما كانَ قد دَعاكَ وبَكَّتَ قَلبكَ المَرَّةَ تِلو المَرَّة تِلو المَرَّة؛ ولكنَّكَ تَرفُضُ دَعوتَهُ دائمًا. وأخيرًا، عندما يُرسِلُكَ إلى جَهنَّمَ لكي تَدفعَ أُجرةَ خطاياكَ الَّتي تَرغبُ في الاستمرارِ في القيامِ بها، فإنَّهُ سيكونُ إلهًا عادلاً.
انظروا إلى العدد 26: "فَخَرَّ الْعَبْدُ...". فحالَما سَمِعَ هذا عَلِمَ أنَّها النِّهاية "خَرَّ وَسَجَدَ لَهُ قَائِلاً: يَا سَيِّدُ، تَمَهَّلْ عَلَيَّ فَأُوفِيَكَ الْجَمِيعَ". وهذه صَلاة مُدهشة حَقًّا. فأولاً، لقد اتَّخذَ الوَضعيَّةَ الصَّحيحة. فقد جَثَا على رُكبَتَيْه. فهذا شيءٌ مُدَمِّر. فقد انكسر. فأنا أعتقدُ أنَّ ذلك الرَّجُلَ قد تَحَطَّم. أعتقدُ أنَّهُ تَحَطَّمَ تَمامًا. وما أعنيه هو أنَّه كانَ قد وَصَلَ إلى النِّهاية. فقد عَرَفَ ما يَنتظرُهُ. فقد كانَ عاجِزًا عنِ الوفاءِ بالدَّين. وقد كانَ على وَشْكِ فُقدانِ حُرِّيَّتِه. وكانَ سيبقى في العُبوديَّة لأنَّهُ سيَعملُ طَوالَ حياتِهِ دُونَ أن يَتمكَّنَ مِنَ الوفاءِ بالدَّين. وهذا يُشبِهُ جَهَنَّم إذْ إنَّك تَبقى إلى الأبد في جَهنَّم دونَ أن تَتَمَكَّنَ مِنَ الوفاءِ بِديونِك. لِذا فإنَّكَ لن تَخرُجَ مِنها.
فحالَما تَصيرُ خادِمًا عندَ ذلك الرَّجُلِ للوفاءِ بدينِك، ستبقى عَبدًا إلى نِهايةِ حياتِك. وقد كانَ بمقدورِهِ أن يَرى ذلك. ولم تَكُن هناكَ طَريقة للنَّجاة. لِذا فإنَّه لم يَطلُب العَدالة لأنَّهُ حَصَلَ على العدالة. وهو لا يُنكِرُ خَطيَّتَهُ، بل يَعترفُ بها. فقد خَرَّ مَسحوقًا ومَكسورًا ومُنطَرِحًا وذَليلاً. وقد كانَ في الوضعيَّةِ الصَّحيحة الَّتي يُريدُ اللهُ مِن البشرِ أن يَتَّخذوها عندما يُبَكِّتُهم على خطيَّة. أليسَ كذلك؟
فقد كانَ مَصعوقًا بسببِ خَطاياه، ومُحَطَّمًا بسببِ الدَّينِ الَّذي لن يَتمكَّنَ طَوالَ حَياتِهِ مِنَ الوفاءِ به، ويواجِهُ حياةً كاملةً مِن العَجزِ مِن دونِ أيِّ أَمَلٍ في النَّجاة. وقد كانَ يَعلمُ أنَّهُ حالما يَصيرُ عَبدًا لدى المَلِك، لن يَكونَ حُرًّا لِكَسْبِ المالِ والوفاءِ بالدَّين. ولا نَقرأُ فقط أنَّهُ خَرَّ، بل نَقرأُ أيضًا أنَّهُ سَجَدَ. وهي كَلِمَة تَعني حَرفيًّا: "يُقَبِّل". وهي مُشتقَّة مِن تَقبيلِ يَدِ أو رُكبةِ أو قَدَمِ المَلِكِ الَّذي يَلتَمِسُ مِنهُ الرَّحمَة.
لِذا فقد راحَ يَلتَمِسُ الرَّحمة. فهو يَعترفُ بخطيَّتِه. وهو مَكسورٌ، ومُتواضِعٌ. وهو في المَوضِعِ الَّذي يُريدُ اللهُ أن يكونَ فيهِ كُلُّ إنسان: مُنطرحًا على وَجهِهِ في التُّرابِ مِثلَ ذلكَ العَشَّارَ الَّذي قَرَعَ على صَدرِهِ وقال: "اللَّهُمَّ ارْحمني أنا الخَاطِئ. فأنا أرى دَينًا لا يُمكنني الوفاءُ بهِ. وأنا أرى جَبَلاً مِن الخطيَّةِ لا يُمكنني أن أُزيلَهُ. وأنا أشعُرُ بأبديَّةِ جَهنَّمَ وبأبديَّةِ العَجزِ التَّامّ".
لِذا فإنَّهُ رَجُلٌ مَكسور. وكما هي حالُ أُناسٍ كثيرينَ مَكسورين فإنَّهُ لا يَفهمُ حَقًّا كلَّ شيء. لِذا فإنَّهُ يقول: "تَمَهَّلْ عَلَيَّ". وقد راحَ يَتوسَّلُ لأجلِ الشَّفَقة، ولأجلِ إمهالِ السَّيِّد؛ أي فقط أن يَتمهَّلَ عليهِ السَّيِّدُ ويُعطيه فُرصةً كي يُحْسِنَ التَّصرُّف. أَتَرَوْن؟ فهو يقول: "فَأُوفِيَكَ الْجَمِيعَ. سوفَ أتصرَّفُ بطريقةٍ أفضل".
وقد يَقولُ المَلِكُ: "أجل، ولكنَّكَ لن تَتمكَّنَ مِنَ الوفاءِ بالدَّين". فقد كانَ يَعلمُ ذلك. هذا مُؤكَّد، ولكنَّها كانت لَحظةً عاطفيَّةً جدًّا. وكانَ لا بُدَّ أن يُفكِّرَ في طريقةٍ للقيامِ بذلك. وهو يُشبِهُ في ذلك الأشخاصَ الَّذينَ يَشعرونَ بالتَّبكيت. فأوَّلُ رَدِّ فِعلٍ يَشعرونَ به عندما يَشعرونَ بِثِقْلِ الخطيَّة، أو عندما تَتِمُّ مُواجهتُهم بَبشاعةِ الخطيَّة هو: "سوفَ أُصَحِّحُ حَياتي. سوفَ أَجعلُ حياتي أفضل. سوفَ أتخلَّصُ مِن هذا الشُّعورِ بالذَّنب. أعتقد أنِّي أستطيعُ أن أكونَ شخصًا أفضل. أريدُ أن أبتدئَ صَفحةً جديدةً. أريدُ أن أتَّخِذَ قَراراتٍ جَديدة. أريدُ أن أُقَوِّمَ سُلوكي وأن أُصلِحَ نَفسي". لِذا فقد اعترفَ بخطيَّتِه. وقد رأى بُؤسَ حالتِه. وهو لا يَدري كيفَ سيَفي بذلك الدَّيْن؛ ولكنَّهُ يقولُ وَحَسْب: أعطِني فُرصةً وسوفَ أفعلُ كُلَّ ما في وُسعي". وهو يُشبِهُ أشخاصًا كثيرينَ يُحاولونَ عندما يَشعرونَ بالتَّبكيتِ أن يصيروا مُتديِّنين.
وهذا ليسَ أمرًا مُستغرَبًا. فَهُم يريدونَ أن يَصيروا أُناسًا أفضل. فَحالما يَأتونَ إلى المسيحِ ويَقبلونَ عَطيَّتَهُ فإنَّهم يُريدونَ عادةً أن يَصيروا أشخاصًا أفضل. هل تَفهمون؟ فهذا كُلُّهُ جُزءٌ مِن تلك العمليَّةِ نفسِها. فهو التَّبكيتُ الَّذي يَسبِقُ الخلاص. ولكنَّهُ أَظهَرَ مَوقِفًا سَليمًا. فقد تَواضَعَ، وانكسرَ، وصَرخَ طالبًا الرَّحمة، ورأى فَداحةَ خَطيَّتَهُ، وعَلِمَ أنَّ المَلِكَ هو المَلِك وأنَّهُ صاحِبُ السُّلطان. وهو يَقولُ وَحَسْب: "تَمَهَّل عَليَّ. تَمَهَّل عَليَّ قليلاً وسأفعلُ كُلَّ ما في وُسعي للوفاءِ بالدَّيْن. أريدُ أن أُصَحِّحَ الموقف". فهو يقول: "أريدُ أن أتغيَّر. أنا آسِفٌ بشأنِ مَا فَعلت". فقد كانَ مَوقِفُهُ القَلبيُّ سَليمًا. وكانت كُلُّ عَناصِرِ التَّوبةِ مُتوفِّرة. ولكنَهُ لم يَكُن يَفهمُ بعد نِعمةَ الغُفران. لِذا فقد أَرسَلَهُ السَّيِّدُ إلى حيثُ يُريدُه أن يكون.
وقد كَتَبَ "مارتن لوثر" (Martin Luther) عن هذا المقطعِ الحَقائقَ الجَليلةَ التَّالية: "قبلَ أن يَستدعيهِ المَلِكُ لمُحاسبته، كانَ عَديمَ الضَّمير، ولا يَشعُرُ بالدَّيْن، وكانَ مُستعدًّا للاستمرارِ في حياتِهِ السَّابقةِ ومُراكمةِ الدُّيونِ عليهِ دونَ أن يُبالي البتَّة بذلك. ولكن بعدَ أنِ استَدعاهُ المَلِك، ابتدأَ يَشعُر بالدَّيْن. وهذه هي حالُنا. فالجُزءُ الأكبرُ مُنا لا يُبالي بالخطيَّة، بل يُبالي بالعيشِ بأمان دونَ الخوفِ مِن غضبِ الله. وهؤلاءِ النَّاسُ لا يَحصلونَ على غُفرانِ الخطيَّة لأنَّهم لا يُدركونَ أنَّ لديهم خطايا. صَحيحٌ أنَّهم يَقولونَ بأفواهِهم إنَّهم أخطأوا، ولكن لو كانوا جَادِّينَ بشأنِها لَقَالوا ما هو أكثر مِن ذلك. وقد كانَ هذا الخادِمُ أيضًا يقولُ قبلَ أن يَستدعيهِ المَلِك: ’أنا أَدينُ بِكذا لسَيِّدي‘ وتحديدًا: عشرة آلاف وَزنة، ولكنَّهُ يَمضي ضاحِكًا.
"أمَّا الآنَ بعدَ أن تَمَّ استدعاؤُهُ وأَمَرَ سَيِّدُهُ أن يُباعَ هُوَ وزوجتُه وأولادُه وكُلُّ أملاكِه، فإنَّه يَشعُرُ بذلك. لِذا، نحنُ أيضًا نَشعُرُ بخطورةِ الموقفِ عندما تُعلَن خطايانا في القلب، وعندما تُوضَع سِجلاَّتُ الدَّيْنِ أمامَنا فنتوقَّفُ حينئذٍ عنِ الضَّحِك ونقول: ’أنا أكثرُ إنسانٍ بائسٍ. لا يوجدُ مَن هو أَتعَسُ مِنِّي على الأرض‘. وهذه المعرفة تَجعلُ الإنسانَ يَتواضَع، وتَجعلُهُ يَندَم لكي يأتي إلى مَغفرةِ الخطايا" [نهايةُ الاقتباس].
والآن، كما هي حالُ الرَّجُلِ الَّذي تَبَكَّتَ على خطيَّة فإنَّه يَرى خطيَّتَهُ ويَبكي طَالبًا الرَّحمة، ولكنَّهُ لا يُدرك تمامًا أنَّه لا يَستطيعُ أن يَعملَ ما يَعتقد أنَّهُ ينبغي أن يُعمَل. لِذا فإنَّهُ في موقفٍ لا يُحسَدُ عليه. فقوَّةُ التَّبكيتِ الكامِنَةِ في نَاموسِ اللهِ سَحَقَتْهُ وحَطَّمَتْه. وهو يَتَوسَّلُ مِن أجلِ إمهالِه. وأريدُ منكم أن تُلاحظوا أنَّ المَلِكَ لم يُعَلِّق عن استِحالَةِ ما قالَهُ في العدد 26. فهو لا يقول: "يا لكَ مِن رَجُلٍ سَخيف! أنتَ لن تَتمكَّنَ مِن سَدادِ الدَّيْن! يا لكَ مِن أحمق!" فهو لا يَقولُ ذلك. فهذا واضحٌ. إذًا، ماذا يقول؟ أنا أُحِبُّ ذلك لأنِّي تَعرَّضتُ لنفسِ الموقف. وكذلك أنتُم.
نَقرأ في العدد 27: "فَتَحَنَّنَ سَيِّدُ ذلِكَ الْعَبْدِ وَأَطْلَقَهُ، وَتَرَكَ لَهُ الدَّيْنَ". يا لَهُ من أمرٍ رائع! ويا للنِّعمة في تلك الآية! اكتُبوا ذلكَ في مَكانٍ مَا في كِتابِكُم المُقدَّس: "النِّعمة". يا للنِّعمة في تلك الآية! ولكنِّي أعرِفُ أشخاصًا يَدينُ لَهُم آخرونَ بألفيِّ دُولار؛ وَهُم يَستشيطونَ غَضَبًا بسببِ ذلك. ولكنَّ المَلِكَ سامَحَهُ بذلكَ الدَّين الَّذي لا يُحصَى في لحظة بسببِ تَحَنُّنِهِ عليه. وقد أَطلَقَهُ. وما مَعنى ذلك؟ لقد أَعفاهُ مِن الدَّيْن. فقد حَرَّرَهُ مِنَ الدَّيْن. ولماذا فَعلَ ذلك؟ لقد تَحَرَّكَت ماذا؟ عَواطِفُهُ. ومِن أينَ تَنبُعُ العاطفة؟ مِنَ المحبَّة. فقد أَحَبَّ ذلكَ المَلِكُ ذلكَ العَبد كما يُحِبُّ اللهُ كُلَّ البَشر.
وعندما رآهُ في مَوقِفٍ لا يُمكِنُ إصلاحُه، لم تَتغيَّر مَحبَّتُهُ لَهُ. فمع أنَّ ذلكَ العَبْدَ كانَ يَدينُ لَهُ بذلك المَال، ومع أنَّ ذلكَ العَبدَ أخطأَ إليهِ، ومع أنَّ مَملكتَهُ قد نُهِبَت، ومع أنَّهُ تَعرَّضَ شخصيًّا لإساءةٍ أكبر مِن أيَّة إساءة يُمكنكم أن تَتخيَّلوها، فإنَّهُ غَفَرَ لَهُ. فيا لِعَظَمَةِ غُفرانِ الله!
أَلاَ لاحظتُم أنَّ هُناكَ لَمسةً رائعةً في نهايةِ العدد 27: "وَتَرَكَ لَهُ الدَّيْنَ". فالنَّصُّ اليونانيُّ يقولُ إنَّهُ تَرَكَ لهُ القَرْض. القَرْض؟ ما مَعنى "القَرْض"؟ لقد كانَ المَلِكُ رَقيقَ القلبِ جِدًّا حتَّى إنَّهُ حَسِبَ ذلكَ المَبلغَ قَرْضًا وليسَ اختلاسًا. وقد أَلغى الدَّيْنَ، وحَرَّرَهُ مِنَ التزامِه. وقد تقول: "وما الَّذي فَعَلَهُ ذلك الرَّجُل لكي يَستحقَّ ذلك؟" لم يَفعل شَيئًا. ولكن هل تَعلمونَ كيفَ تَحصُلونَ على غُفرانِ الله؟ هل تَعلمونَ كيفَ تَحصُلونَ على غُفرانِ الله؟ أنتُم تأتونَ إلى اللهِ بقلبٍ مَكسورٍ على خَطاياكُم عَالِمينَ أنَّكم لا تَستطيعونَ أن تُسَدِّدوا الدَّيْنَ، وتَتوسَّلونَ مِن أجلِ الرَّحمةِ والإمهالِ في وَضعٍ لا تُحسَدونَ عليه، وتُواجِهونَ العَذابَ الأبديَّ وتقولون: "يا رَبّ، أرجوك!" وفي وَسْطِ ذلكَ الانكسارِ، يأتي اللهُ بغُفرانِهِ ونِعمَتِهِ ومحبَتِه ولُطفِه ويَغفِر لكم الدَّيْن.
ومع أنَّ كُلَّ ما يُمكن أن يُقالَ عنِ الخلاصِ لا يُقال هُنا، فإنَّ هناكَ شيئًا رائعًا ذُكِرَ هنا ورُبَّما لم يُذكَر في مَواضِعَ كثيرة في الكتاب المقدَّس عن ذلك. لِذا فإنَّهُ مَثَلٌ رائعٌ جدًّا جدًّا. فأنا أعتقدُ أنَّهُ في اللَّحظةِ الَّتي أَدركَ فيها الخاطِئُ خَطيئتَهُ، وفي اللَّحظةِ الَّتي التَجأَ فيها إلى الشَّخصِ الوحيدِ الَّذي يُمكِنُه أن يُعالِجَ تلكَ الخطيَّة، وفي اللَّحظةِ الَّتي اعترفَ فيها بتلك الخطيَّة، وتابَ عن تلك الخطيَّة، واعترفَ فيها بتلك الخطيَّة، وسَجَدَ فيها أمامَ اللهِ لأنَّهُ الوحيدُ الَّذي يَستطيعُ أن يَغفرَ تلكَ الخطيَّة؛ في اللَّحظةِ الَّتي فعلَ فيها ذلك، وفي اللَّحظةِ الَّتي تَمَنَّى فيها في قلبِه أن تُوجَدَ طريقة لِلوفاءِ بِدَيْنِ تلكَ الخطيَّة، في تلك اللَّحظة، سَارَعَ اللهُ إلى الغُفرانِ المُتاحِ في يسوعَ المسيحِ الَّذي دَفَعَ الدَّيْنَ بنفسِهِ في الأصل.
وبذلك المَعنى، تَحَمَّلَ اللهُ الخسارةَ مِن حسابهِ الشَّخصيِّ. لِذا فإنَّ اللهَ يُشبِهُ يُوسُفَ، أو بالأحرى: إنَّ يُوسُفَ يُشبِهُ الله. فقد دَعا إخوتَهُ وَجَعَلَهُم يَشعرونَ بالذَّنْب. هل تَذكرونَ القصَّة؟ إلى أن تَحَطَّموا بسببِ شُعورِهم بالذَّنب. ثُمَّ إنَّهُ كَشَفَ هُويَّتَهُ لهم وأَسبَغَ عليهِم نِعمةً. وهكذا هي الحالُ فيما يَختصُّ بالخَلاص. فاللهُ يأتي أوَّلاً كَنارٍ، ويَجعلُنا نُدرك أوَّلاً هَوْلَ الخَطيَّة. فهو يَستدعي النَّاسَ أوَّلاً للمُحاسبة حيثُ يُواجِهُهم بِبَشاعةِ الخطيَّة.
سوفَ يَغفِرُ اللهُ، ولكنَّهُ سيَجعلُ أيضًا الخاطئَ يَعلمُ الأشياءَ الَّتي غَفَرَها لَهُ ومِقدارَ غُفرانِه. لِذا فقد قالَ إشعياءُ إنَّهُ لا بُدَّ أن يَدعونا اللهُ أولاً: "هَلُمَّ نَتَحَاجَجْ... إِنْ كَانَتْ خَطَايَاكُمْ كَالْقِرْمِز". فقبلَ أن نَتحدَّثَ عن كيفيَّةِ جَعلِها كالصُّوف، لِنتحدَّث أوَّلاً عن بَشاعَتِها. لِنَتَحَاجَج معًا بخصوصِ خَطاياكُم.
فَمِن هُنا يَبتدئُ الإنجيل. فيجب على الخاطِئ أن يَعرِف أنَّ هناك جَبَلاً مِن الخطيَّة لن يَتمكَّنَ ذلكَ الخاطِئُ يومًا مِن إزاحَتِه إلاَّ إن طُرِحَ في بَحرِ رَحمةِ اللهِ العَميق. فيجب أوَّلاً أن يُحكَمَ عَلينا بالمَوتِ في أنفسِنا قبلَ أن تَصيرَ كَلِمَةُ الحياةِ ذاتَ مَعنى بالنِّسبةِ إلينا. ولكن يا لها مِن لحظةٍ مُعَزِّيَةٍ تلكَ الَّتي نأتي فيها بقلبٍ يُريدُ الرَّحمة، وبقلبٍ يَطلُبُ الرَّحمة. فاللهُ يَغفِر. هل تَرى نَفسكَ هُناك؟ ويجب أن يَملأنا خَلاصٌ كهذا بالفَرح. فقد نَجَوْنا مِن جَهنَّمَ الأبديَّة. وقد غُفِرَ لنا دَيْنٌ لا يُمكننا يومًا أن نُسَدِّدَهُ.
ولكي نَختِمَ حَديثَنا، انظروا إلى إنجيل لوقا والأصحاح 15. وأريدُ أن أُوَضِّحَ هذا المبدأَ مِن خلالِ قِصَّةٍ مَعروفة. إنجيل لوقا والأصحاح 15. وأريدُ أن أَبتدئَ القِصَّةَ مِن مُنتصفِها. إنَّها قِصَّةُ الابنِ الضَّالّ. فقد كانَ يَتَمَنَّى أن يَموتَ أبوهُ [بصراحة]. فقد تَمَنَّى أن يموتَ أبوهُ لأنَّهُ أرادَ أن يَحصُلَ على المِيراث. ولكن حيثُ إنَّ أباهُ لن يَستَجِب لأُمنيتِه ويَموت، قالَ لَهُ: "أعطِني نَصيبي مِنَ المِيراث. لا يُمكنني أن أنتظرَ إلى أن تَموت. أريدُ نصيبي الآن". لِذا فقد أخذَهُ. وقد تَرَكَ بيتَ أبيهِ وعاشَ حَياةً مُسرِفَةً ومُستَهتِرَةً، وبَذَّرَ كُلَّ مَالَهُ، وانتَهى بِهِ المَطافُ يَرعى الخَنازير؛ وهي مِهنَة حَقيرة بالنِّسبة لشابٍّ يَهوديٍّ مِن عائلة مُحترَمة.
ونَقرأُ في العدد 17: "فَرَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ" – فقد عَادَ إلى رُشْدِهِ وَقَالَ: "كَمْ مِنْ أَجِيرٍ لأَبِي يَفْضُلُ عَنْهُ الْخُبْزُ وَأَنَا أَهْلِكُ جُوعًا!" فقد قال: "إنَّ خُدَّامَ أبي المأجورينَ يَعيشونَ أفضلَ مِنِّي". وهل تَعلمونَ ماذا كانَ الأجيرُ؟ لم يَكُنِ الأجيرُ عَبْدًا يَخدِمُ في البيت، ولم يَكُن عَبْدًا يَخدِمُ العائلةَ، بل كانَ عَامِلاً يَعمَلُ بأُجرةٍ يَوميَّة. فقد كانَ يَأتي في الصَّباح، ويَعمَل، ويَقبض أُجرتَهُ ويَمضي في نِهايةِ اليوم. وكانَ الأجيرُ مِن أَدنى طَبقاتِ المُجتمع. فهو لم يَكُن جُزءًا مِن حياةِ العائلة، بل مُجَرَّدُ عامِلٍ بالأُجرة. وقد قالَ: هؤلاءِ العُمَّالُ أفضلَ مِنِّي".
"أَقُومُ وَأَذْهَبُ" [كما جاءَ في العدد 18] " أَقومُ وَأَذهبُ إِلَى أَبِي وَأَقُولُ لَهُ: يَا أَبِي، أَخْطَأْتُ إِلَى السَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ". والآن، نَجِدُ هُنا صَلاةَ شخصٍ تَائِبٍ ونَادِم. فها هُوَ يُدركُ ذلك. فهو مَكسور. وهو مُحَطَّم. فقد جاءَ يومُ الحِساب. وقد أَدركَ يَومَ حِسابِهِ وهو يَرعى الخَنازير فأدركَ حَالَتَهُ هُناك.
لقد قامَ رُوحُ اللهِ بعملِه. فبينَما كانَ يَرعى الخَنازير، نَظَرَ إلى حياتِه ورأى بُؤسَ حياتِه، ورأى الدَّيْنَ الَّذي لا يُمكِنُ سَدادُهُ للأب، وعَلِمَ أنَّهُ لا يوجد سَبيلٌ إلى دَفعِه، وعَلِمَ أنَّهُ أخذَ كُلَّ مِيراثَهُ ومَضَى بِهِ بَعيدًا، وأنَّهُ استهانَ بمحبَّةِ أبيه أيضًا لأنَّهُ تَمَنَّى أن يَموت. ولم يَكُن لديهِ أيُّ شَيءٍ يَسُدُّ بهِ الدَّيْن. فقد كانَ عاجِزًا تمامًا عنِ الوَفاءِ للأبِ بِما يَدينُ بِهِ لَهُ أو بالدَّيْنِ المُسْتَحِقِّ عَليه.
لِذا فقد عادَ وقال: "اسمعني! سوفَ أُقَدِّمُ نَفسي كأجيرٍ. وسأحاولُ حتَّى آخِرَ يومٍ في حياتي أن أُوفي بِدَيْني. وأنا لن أَطلُبَ أيَّ شيء. وَحَتَّى إنَّني لا أُريدُ أن أُعامَلَ كفَردٍ في العائلة". وقد كانَ يَقولُ بصورة أساسيَّة ما يَقولُهُ هذا الرَّجُل في المَثَلِ المَذكور في إنجيل مَتَّى والأصحاح 18: "سوفَ أعودُ وأفعلُ كُلَّ ما في وُسعي لِلوفاءِ بالدَّيْن".
وكما تَرَوْنَ، هذا هو مَوقِفُ الخاطئ. فهو مُنسَحِقٌ بسببِ خَطيَّتِه. وهو مُحَطَّمٌ بسببِ خَطيَّتِه. وهو مَكسورٌ بسببِها. وهو يَعلمُ أنَّهُ مَديونٌ للهِ بِدَيْنٍ لا يُمكِنُهُ أن يَرُدَّهُ إليه. وهو يقول: "سوفَ أفعلُ وَحَسْب كُلَّ ما في وُسعي لِسَدادِه". ورُبَّما كانَ يَظُنُّ أنَّ أباهُ سيَسمَحُ لهُ بأن يَكونَ أجيرًا عِندَهُ. ثُمَّ نَقرأُ في العدد 19: "[سوفَ أقولُ لَهُ: ’وَلَسْتُ مُسْتَحِقًّا بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ابْنًا. اِجْعَلْنِي كَأَحَدِ أَجْرَاكَ‘".
ونَقرأُ في العدد 20: "فَقَامَ وَجَاءَ إِلَى أَبِيهِ. وَإِذْ كَانَ لَمْ يَزَلْ بَعِيدًا رَآهُ أَبُوهُ..." إذ كانَ يُراقِبُ الطَّريق. ورُبَّما كانَ هُناكَ أُناسٌ كثيرونَ على الطَّريق. ورُبَّما كانَ هُناكَ أُناسٌ يَعملونَ في الحُقول. ورُبَّما كانَت هُناكَ قَرية أيضًا، وأنَّ الأبَ كانَ يُراقِب الطَّريق. ولكِن ما الَّذي كانَ يُراقِبُهُ أبوه؟ لقد كانَ يَنتَظِرُهُ منذُ وقتٍ طَويل. فقد كانَ بانتِظارِهِ كُلَّ يوم. فقد كانَ يُراقِبُ ذلكَ الطَّريقَ كُلَّ يَوم لأنَّهُ كانَ دائمًا يَنتظرُ عَودةَ ذلكَ الابن.
وهو يَنظُرُ ويَراهُ مِن بَعيد. ثُمَّ إنَّهُ يَفعلُ شيئًا غَريبًا وغيرَ مَعقولٍ البَتَّة: "فَتَحَنَّنَ". وقد تقول: "كيفَ يَتَحَنَّنُ على ابنٍ بائسٍ كانَ يَتَمَنَّى أن يَموت؟" مَن هوَ الأبُ في هذا المَثل؟ إنَّهُ الله. ومَن هوَ الابنُ البائسُ؟ الخاطِئ.
ثُمَّ إنَّ الأبَ فَعَلَ ما يَلي: "وَرَكَضَ". وهل تَعلمونَ ما الكلمة اليونانيَّة المُستخدَمة هُنا؟ إنَّها ليست مُجرَّد كلمة تَعني "رَكَضَ"، بل "رَكَضَ بأقصى سُرعةٍ مُمكِنَة". وكما تَعلمون، هُناكَ وَقارٌ للرَّجُلِ المُسِنِّ النَّبيل. فيجب عليهِ أن يَمشي ببُطءٍ ورَزانة. وفي الشَّرق، هناكَ اهتمامٌ كبيرٌ بالوَقار. هل حاولتَ يَومًا أن تَركُضَ بأقصى سُرعةٍ مُمكنة وأنتَ تَرتدي ثَوبًا طَويلاً يَجُرُّ على الأرض؟ لن تَتمكَّنَ مِنَ القيامِ بذلك.
وهل تَعلمونَ ماذا فَعلَ الأبُ؟ قالَ أحدُ الكُتَّابِ... فقد قرأتُ كِتابًا في هذا الأسبوعِ قالَ فيهِ الكاتِبُ إنَّهُ مِن المؤكَّدِ أنَّ الأبَ رَفَعَ ثَوبَهُ كُلَّهُ بِيديهِ، وكَشَفَ عَن مَلابِسِهِ الدَّاخليَّةِ؛ وهو أمرٌ كانَ يُعيبُ الرَّجُلَ كُلَّ العَيب. وها هُوَ يَركُضُ في الطَّريقِ على مَرأى مِن جَميعِ النَّاسِ الَّذينَ رَاحُوا يَقولون: "ما بَالُ هذا الرَّجُل المَجنون يَركُضُ في الطَّريقِ هكذا؟ إنَّهُ يُخزي نَفسَهُ. وهو يُعيبُ نَفسَهُ وهو يَركُضُ لاستقبالِ ابنِهِ الشِّرِّيرِ ذاك".
هل تَرَوْنَ اللهَ هُناك؟ هل تَرَونَ اللهَ الَّذي يَنظرُ إلى الطَّريق ويَرى خاطِئًا قادِمًا فيَتَّضِعُ ويَقبَلُ ذلكَ الخاطِئ؟ هل تَرَوْنَ اللهَ يأتي إلى العالَمِ في هيئةِ يسوعَ المسيح [كَما حَدَثَ] ويُلَمْلِمُ أطرافَ ثَوبِ جِلالِهِ المَلَكِيِّ، ويَكشِفُ عن ثَوبِهِ الدَّاخليِّ [كما فَعَلَ يسوعُ المسيحُ في اتِّضاعِهِ] وَهُوَ يَركُضُ لاستقبالِ الخاطِئِ في الطَّريق؟ وما الَّذي حَدثَ حينَ تَلاقَيا؟ لقد "وَقَعَ عَلَى عُنُقِهِ وَقَبَّلَهُ..." مِرارًا وتَكرارًا كَما يُشيرُ النَّصُّ. فقد قَبَّلَهُ مِرارًا وتَكرارًا. فهو لم يَقُل: "اسمَع! إن أردتَ عَملاً، قد أتمكَّنُ مِن تَوفيرِ عَمَلٍ لَك".
لا، بل قَبَّلَهُ وعانَقَهُ بِحَنانٍ. وماذا فعلَ الابنُ؟ لقد قال: "يَا أَبِي، أَخْطَأْتُ إِلَى السَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ، وَلَسْتُ مُسْتَحِقًّا بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ابْنًا". وقد قالَ الأبُ: "تَوَقَّف عن هذا الكَلام! قَدِّمُوا الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ... وَاجْعَلُوا خَاتَمًا فِي يَدِهِ لأَنَّ ابْنِي هذَا قد عاد". هذا هو غُفرانُ اللهِ. أَتَرَوْن؟
فالخاطِئُ يُفَكِّرُ قائلاً: "لَيتَكَ تَسمَحُ لي أن أحاولَ أن أُوفي بِدَيني"؛ ولكنَّ اللهَ يُعانِقُهُ ويَجعَلُهُ ابنًا. هذا هو الإنجيل. وهذا هو ما فَعَلَهُ اللهُ لأجلِنا. والآن، اسمَعوني: إن كانَ اللهُ قد غَفَرَ لك، ماذا يَقولُ المَثَل؟ هل تَغفرونَ بعضُكم لبعض؟ وإن لم تَفعلوا ذلك فإنَّ هذا هو أَقبَحُ شَرٍّ لأنَّكَ حَصلتَ على غُفرانٍ كثيرٍ جدًّا وغَفرتَ قَليلاً جدًّا.
فاللهُ يُزيلُ بَشاعةَ خطايانا. وحتَّى مع أنَّهُ يَبدو وكأنَّهُ يَتكلَّمُ بغضبٍ ويَنطِقُ بالدَّينونة، فإنَّهُ إنَّما يَفعلُ ذلك حَتَّى يُبَكِّتَنا لكي يُظهِرَ لنا المَحبَّةَ والحَنانَ والنِّعمة. "هذا يُشبِهُ ما يَحدُثُ في الطَّبيعة..." [كما يَقولُ "آرنو" – "Arno"] "... إذْ يَلمَعُ البَرْقُ في الظَّلامِ الدَّامِسِ ويُدَوِّي الرَّعْدُ مُمَزِّقًا السَّماواتِ قبلَ هُطولِ المَطَرِ بِغزارةٍ على الأرضِ العَطشَى. أو هُوَ يُشبِهُ ما حَدَثَ في تلك اللَّيلةِ في القَديم عندما كانت عَيْنَا المُخَلِّصِ تُراقِبانِ القاربَ الوَاهِنَ يَتَخَبَّطُ وَحيدًا في صِراعٍ لأجلِ الحياةِ في وَسْطِ أمواجِ بحرِ الجَليل، ثُمَّ جاءَ يَسوعُ في تلكَ العاصِفةِ الَّتي تُزَعزِعُ النَّفسَ تَحتَ عَباءَةِ الظَّلامِ الدَّامِسِ ومَشى على الأمواجِ العَاتِيَةِ فَمَلأَ القلبَ المُضطرِبَ بطُمأنينةٍ مُقدَّسة بعدَ أن سَمِعوا صَوتَهُ يقول: ’ أنا هُوَ. لا تَخافُوا!"
وهذا يُذكِّرُني بالمَثَلِ الرَّائعِ المَذكور في إنجيل لوقا والأصحاحِ السَّابع عن تلكَ المرأةِ إذ إنَّهُ يقولُ عنها: "قَدْ غُفِرَتْ خَطَايَاهَا الْكَثِيرَةُ لأَنَّهَا [ماذا؟] أَحَبَّتْ كَثِيرًا". وما دُمْنا قد حَصلنا على غُفرانٍ كَثيرٍ جدًّا كهذا، كم يَنبغي لنا أن نَغفِر؟ هذا هو النِّصفُ الثَّاني مِنَ المَثَل. وسوفَ نَتحدَّثُ عن ذلك في المَرَّةِ القادِمَة.

This article is also available and sold as a booklet.