Grace to You Resources
Grace to You - Resource

نأتي الآن إلى وقتِ دراسة كلمة الله. ونأتي مَرَّةً أخرى إلى الأصحاح السَّادس والعِشرين من إنجيل مَتَّى. وفي هذا الصَّباح، نَودُّ أن نَبتدئ بِتَفَحُّصِ الآياتِ مِن 47 إلى 56. إنجيل مَتَّى والأصحاح 26، ابتداءً مِن العدد 47. هذا المقطع تحديدًا يُنشِئ في قلبي كَمًّا هائلاً مِن المشاعر: فهناك في اعتقادي شعور هائل بالغضب مِن جهة، وشعورٌ بالحُبِّ مِن جهة أخرى. وهناك الشّعور بالرَّغبة في الانتقام مِن جهة، والشُّعور بالثِّقة التامَّة في خُطَّة الله مِن جهة أخرى لأنَّ هذا المقطعَ يَسرد لنا فِعْلَ الخيانة والقبض على يسوعَ المسيح. وهناك أشياء في ذلك تُثيرُ غضبي، وربَّما سُخطي المُقدَّس، لأنَّ ابن الله عُومِلَ بهذه الطَّريقة. فقُبلة يهوذا هي عمل مُقَزِّز وقَبيح وبغيض. فكلُّ شيءٍ فيها مَقيت، وغير عادل، وغير مُنصِف لابن الله المُبارَك. لِذا، هناك في داخلي مِقدار مُعيَّن مِن الاشمئزاز، ومقدار مُعيَّن مِن الغضب، ورغبة مُعيَّنة في الانتقام.

ولكن مِن جهة أخرى، فإنَّ المسيحَ هادئٌ تمامًا في أثناء تَكَشُّف خُطَّة الله الفدائيَّة حتَّى إنَّني أجد الرَّاحة في تعزيته وثقته. وإن وُجِدَت كلمة أخرى أكثر قُبْحًا وتَنفيرًا في اللُّغة مِن الكلمة "خَائِن"، مِن المؤكَّد أنَّها اسمُ العَلَم: "يهوذا". ونأتي الآن إلى ذلك النَّصِّ الَّذي نتقابل فيه وجهًا لوجه مع يهوذا الخائن. ورجُل الأوجاع ومُختبِر الحَزَن يواجه اختبارًا آخر يَتَّسِمُ بالعُمق والشِّدَّة والألم إذْ إنَّه يتعرَّض للخيانة مِن قبل واحدٍ مِن تلاميذه، ويَتمُّ القبض عليه ليُعدَم على صَليب. وهو مَقطعٌ سَرديّ. وفي أثناء قراءتنا لهذه القصَّة، نجد أنفسَنا مُنجذبين إلى حزن المشهد، وإلى دراما المشهد، وإلى المأساة فيه، وأيضًا إلى النُّصرة. وبينما كنتُ أتأمَّل في هذا المقطعِ في الأسبوعين الماضيين مُحاولاً العُثور على طريقة يمكننا مِن خلالها أن نَدرس هذا المقطع ونُدرك معناه العميق، يبدو أنَّ أفضل طريقة مُتاحة لنا هي أن نَتعرَّف وحسب إلى الأشخاص العديدين المشاركين في المشهد. فحين ننظر إلى كلٍّ منهم في أثناء تَكَشُّفِ الأحداث، نجد أنفسنا قادرين على فَهْمِ ما يحدث. لِذا نريد أن ننظر إلى هُجومِ الجَمْع، وقُبلة الخائن، وهزيمة التَّلاميذ، وانتصار المُخلِّص.

ونَبتدئ مِن العدد 47 بهجوم الجَمْع: "وَفِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ، إِذَا يَهُوذَا أَحَدُ الاثْنَيْ عَشَرَ قَدْ جَاءَ وَمَعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ مِنْ عِنْدِ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَشُيُوخِ الشَّعْبِ". ومَتَّى ومَرقُس ولوقا يقولون جميعًا الشَّيءَ نفسَه. فَهُم جميعًا يقولون إنَّه فيما كان يسوعُ يَتكلَّم، وَصَلَ الجَمْع. لِذا فإنَّنا نَرغب في طَرح السُّؤال: ما الَّذي كان يقوله؟ وما الَّذي كان يتحدَّث عنه؟ وكلُّ ما ينبغي لنا أن نفعله هو أن نُذكِّر أنفسنا بما حدث قبل الآن كي نَفهم ذلك بسهولة. واسمحوا لي أن أَذكُر لكم الخلفيَّة بإيجاز. ففي يوم الخميس، نَهَضَ رَبُّنا في الصَّباح مع التَّلاميذ، وأرسلهم لإعداد ما يلزم لعيد الفصح الَّذي سيحتفلون به مساء يوم الخميس. وقد تَمَّت جميع الاستعدادات. وفي يوم الخميس، بعد مغيب الشَّمس، نَراه مع تلاميذه في عِليَّة مُستعارَة في بيت تلميذٍ لا يُذكر اسمُه، يَحتفلون بعيد الفصح. وهناك، غَسَل يسوعُ أرجُل تلاميذه. وهناك عَلَّمهم الكثير والكثير مِن الأمور المُدوَّنة في إنجيل يوحنَّا والأصحاحات مِن 13 إلى 16. وهناك صَلَّى لأجلهم تلك الصَّلاة الكهنوتيَّة المُدوَّنة في إنجيل يوحنَّا والأصحاح 17. وهناكَ أَسَّسَ عشاءَهُ، أو مائدة الرَّبِّ، أو الشَّركة المُقدَّسة.

وفي نحو مُنتصف اللَّيل في ليلة الخميس تلك، غادر هو وتلاميذُه العِليَّة، واتَّجهوا إلى المدينة، وصَعِدوا جبل الزَّيتون. وبعد أن صعدوا قليلاً سَفْحَ جبل الزَّيتون توقَّفوا وأخبرهم أنَّهم سيواجهون تجربةً صعبة. وعندما تأتي هذه التَّجربة لن يتمكَّنوا من اجتيازها، بل سيُنكرونه ويَتخلَّون عنه. وقد أنكروا ذلكَ، ولكنَّ ذلك تَحقَّق. وما تزال اللَّيلة هي الخميس. وقد بلغوا الآن مكانًا مألوفًا هو "بُستان جَثْسَيماني". وَهُوَ بُستان يمتلكه أيضًا واحدٌ مِن سُكَّان أورُشليم. ولا شَكَّ في أنَّه كان واحدًا مِن أتباع يسوع. وقد كان بُستانًا تحت تَصرُّف يسوع ويمكنه أن يَستخدمه في أيِّ وقتٍ يريد. وكان قد ذهب إلى هناك كثيرًا مع تلاميذه [كما يُخبرنا يوحنَّا]. وَهُوَ يجد نفسه هناك مَرَّةً أخرى. وقد دَخل هو والأحدَ عَشر البُستان لأنَّ يهوذا بعد أن صُرِفَ [حَتَّى قبل تأسيس مائدة الرَّبِّ] انشغلَ في خيانته. وقد تَبقَّى أحد عشر تلميذًا الآن. وَهُوَ يدخل بَوَّابة بُستان جَثسيماني ويقول لثمانية مِن التَّلاميذ أن ينتظروا عند المَدخل. وقد بقوا هناك. وَهُوَ يأخذ ثلاثة معه [بُطرس ويعقوب ويوحنَّا] إلى مَوضعٍ أبعد داخل البُستان، وإلى مكانٍ أكثر عُزلةً. ثُمَّ إنَّه يتركهم ويذهب وحده ليُصلِّي. لذا فقد بقي ثمانية تلاميذ للمراقبة والصَّلاة عند البوَّابة. وكان هناك ثلاثة تلاميذ على مسافة أبعد قليلاً ينبغي أن يَسهروا ويُصلُّوا ويَحرصوا على أن يتمكَّن الربُّ مِن الاختلاء قليلاً.

فهو يَمضي ويُصَلِّي. وَهُوَ يُصلِّي ثلاث صلواتٍ عظيمة لأنَّ الشَّيطان هاجمه في ثلاث موجاتٍ هائلة مِن التَّجربة. فقد أراد الشَّيطان أن يُحَوِّل نظره عن الصَّليب. فقد أراد الشَّيطان أن يفعل كلَّ ما في وُسعه لمنعه مِن أن يموت الميتة الفدائيَّة لحَمَل الله الَّذي كان مُزمعًا أن يموت عن خطايا العالَم. وقد انتهى وقتُ الصَّلاة. ومِن المؤسف أنَّ التَّلاميذَ عوضًا عن أن يُصلُّوا، ناموا طَوال كلِّ ذلك الوقت إذْ كانوا يَشعرون بالتَّعب دون شَكٍّ بسبب ذلك الأسبوع الحافل، واليوم الحافل، والوجبة الدَّسمة، والمشي الطَّويل. فقد ناموا عِوضًا عن أن يُصَلُّوا. وبعد تلك الصَّلاة الثَّالثة، جاء الربُّ... أَلا لاحظتُم ما جاءَ في العدد 45؟ "ثُمَّ جَاءَ إِلَى تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ لَهُمْ: «أمَّا زلتم نائمين وتستريحون؟ هُوَذَا السَّاعَةُ قَدِ اقْتَرَبَتْ، وَابْنُ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي الْخُطَاةِ. قُومُوا نَنْطَلِقْ! هُوَذَا الَّذِي يُسَلِّمُني قَدِ اقْتَرَبَ!»". وفيما هو يقول ذلك، ويوقِظهم مِن نومهم، ويَأمرهم أن يقوموا لا ليهربوا، بل ليتقدَّموا باتِّجاه الخائن والجَمْع الَّذي كان بمقدوره الآن أن يراهم يَصعدون جبل الزَّيتون ويحملون مشاعل مشتعلة في اللَّيل. وفيما هُوَ يتحدَّث إليهم ويأمرهم أن يقوموا ويتقدَّموا إلى الأمام، نُتابع دراستنا مِن العدد 47: "وَفِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ...". فقد كان كلُّ شيء يحدث فجأةً وبسرعة شديدة.

"إِذَا" أو "ها هُوَ". فمَتَّى يقول: "انظروا! يَهُوذَا قَدْ جَاءَ". وَهُوَ يقول: "يَهُوذَا أَحَدُ الاثْنَيْ عَشَرَ". وهي عبارة مُدهشة جدًّا: "يَهُوذَا أَحَدُ الاثْنَيْ عَشَرَ". فهذه تسمية شائعة ليهوذا: "أَحَدُ الاثْنَيْ عَشَرَ". في البداية، عندما تنظرون إلى هذه العبارة، لا يبدو أنَّ هناك شيئًا خاصًّا جدًّا بشأنها، ولكنَّها تَتكرَّر كثيرًا جدًّا حتَّى إنَّكم تُدركون الفكرة بأنَّها عبارة خاصَّة. فنحن نقرأ في إنجيل مَرقس 14: 10: "ثُمَّ إِنَّ يَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيَّ، وَاحِدًا مِنَ الاثْنَيْ عَشَرَ". وفي العدد 20: "فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: «هُوَ وَاحِدٌ مِنَ الاثْنَيْ عَشَرَ، الَّذِي يَغْمِسُ مَعِي فِي الصَّحْفَةِ... »". وفي العدد 43 مِن إنجيل مَرقس والأصحاح 14: "وَلِلْوَقْتِ فِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ أَقْبَلَ يَهُوذَا، وَاحِدٌ مِنَ الاثْنَيْ عَشَرَ". ولوقا يقول ذلك في الأصحاح 22 والعدد 3: "يَهُوذَا...، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الاثْنَيْ عَشَرَ". وفي العدد 47: "يَهُوذَا، أَحَدُ الاثْنَيْ عَشَرَ". ويمكننا أن نشعر أنَّ هذه التَّسمية الخاصَّة ليهوذا تَحمل في ثَناياها قدرًا مُعيَّنًا مِن الاحتقار. والحقيقة هي أنَّ كُتَّاب الكتاب المقدَّس يتكلَّمون بطريقة مُهذَّبة نوعًا ما عن يهوذا. فقد كان بمقدورهم أن يقولوا عنه أمورًا أخرى. أليس كذلك؟ يهوذا الخائن "الحقير" أو "المُنحطّ" أو "السَّافل" أو "البغيض"؛ ولكنَّهم لا يفعلون ذلك. فَهُمْ يَضبطونَ مشاعرهم.

فَهُم يُراعون كلامهم أكثر بكثير مِن غيرهم مِن الكُتَّاب الآخرين الَّذينَ كَتبوا أسفارًا غير مُقدَّسة على مَرِّ التَّاريخ. فبعد هذه الفترة الزَّمنيَّة، كانت هناك كُتُب أخرى كُتبت تُعرَف باسم "الكُتُب المَنحولَة"؛ أي أنَّها كُتُب دينيَّة كُتبت حول الأفكار الكتابيَّة وعن الشخصيَّات الكتابيَّة دون أن يكون مُوحَى بها مِن الرُّوح القُدُس. ولكن عندما نقرأ تلك الكُتُب، نُدرك كيف كان النَّاس في ذلك الوقت يشعرون تُجاه يهوذا لأنَّ عددًا كبيرًا مِن تلك الكُتُب المَنحولة والرَّسائل تتحدَّث عن يهوذا باحتقارٍ وكراهية شديدة. فمثلاً، هناك قصَّة مَنحولة اسمها "قصَّة يوسف الرَّامِيّ" (The Story of Joseph of Arimathaea)، وهي تُعلِّم أنَّ يهوذا كان ابن أخِ قَيافا رئيس الكهنة، وأنَّ يهوذا كان قد أُرسل أصلاً كي يَتغلغل بين التَّلاميذ ويصير واحدًا مِن الأتباع ليكون جاسوسًا وحسب مِن أجل وضع خُطَّة مقصودة للقضاء على يسوع. وفي كِتابٍ مَنحولٍ آخر بعنوان "أعمال بيلاطُس" (The Acts of Pilate)، هناك تَعليم يقول إنَّ يهوذا ذهب إلى البيت حالاً بعد أن خان المسيح فوجد زوجته تَشوي دجاجة. وقد قال لزوجته إنَّه يَنوي أن يَقتل نفسه لأنَّه كان خائفًا جدًّا مِن أن يقوم يسوع مِن الأموات ويُلاحقَه.

وقد رَدَّت عليه زوجته آنذاك وقالت له (بحسب ما هو مُدوَّن في كتاب "أعمال بيلاطُس" القديمِ ذاك) إنَّ يسوع لن يقوم مِن الأموات كما أنَّ الدَّجاجة الَّتي كانت تُحَمَّر لن تقفز مِن النَّار وتُصدِر نَقيقًا. وفي تلك اللَّحظة فَعلت الدَّجاجة ذلك تمامًا. فخرج يهوذا حالاً وشَنَقَ نفسَه. وهناك مخطوطة قديمة أخرى مدهشة جدًّا بعنوان "القصص القبطيَّة للخدمة والآلام" (The Coptic Narratives of the Ministry and Passion). وهي تُعلِّم أنَّ زوجة يهوذا كانت جَشِعة للمال، وأنَّها خَطَّطَتْ كلَّ ذلك مِن أجل الحصول على المال، وأنَّه لم يكن سوى بَيْدَقٍ بيدِ زوجته الجشعة والمُتحايلة والمُسيطِرة. وإن كنتم تَعلمون أيَّ شيء عن تلك الثَّقافة، لا بُدَّ أنَّكم تَعلمون أنَّه إن كان الرَّجُلُ خَاتَمًا بِيَدِ زوجته المُهيمِنة فإنَّها أكبر فَضيحة مُمكنة.

وفي كِتابٍ كُتِبَ في القرن الثَّاني عشر للميلاد بعنوان "الهَالَة الأسطوريَّة" (The Legendary Aura)، نَقرأ أنَّ يهوذا طُرِحَ في البحر مِن قِبَل والِدَيه عندما كان صَبيًّا إذ تَركوه عائمًا بطريقةٍ ما. وقد نَجا مِن محاولتهم للتخلُّص منه. ومِن الواضح أنَّ قصد الكاتب هو أن يشير إلى أنَّه كان ابنًا مُبغَضًا حتَّى إنَّ والديه لم يَجِدا طريقةً أفضل للتخلُّص منه مِن طَرحِه في البحر. وبعد سنواتٍ، عاد إلى أرض فلسطين وانتهى المَطاف به خادمًا لبيلاطس البُنطيّ. وفي ذلك الوقت تحديدًا، التقى امرأةً جميلةً وتزوَّجها، ثُمَّ اكتشف بعد زواجه منها أنَّها أُمُّه. لِذا فإنَّ أساس كلِّ مشاكله هو عُقدة أوديب.

والآن، هذه مُجرَّد خُرافات. ولكنَّها تُعطيكم فكرةً حول كيف كان النَّاس في الكنيسة ينظرون إلى يهوذا. ففي كِتاب "كريمر" (Cramer) بعنوان "كاتينا" (Catena)، وهو كِتابٌ آخر، نقرأ أنَّه بعد أن خانَ يهوذا المسيح، أُصيب بمرضٍ [مرضٍ خطير]، وصار مُنتفخًا بسبب الالتهابات حتَّى إنَّه كان بمقدور عربة أن تَمُرَّ مِن بَوَّابة لا يستطيع يهوذا المُرور منها. وقد تَوَرَّم رأسُه جدًّا حتَّى إنَّ الأطبَّاء لم يتمكَّنوا مِن العثور على عينيه. وقد ابتدأ الدُّود والعَفن يَخرج مِن جسده. وكان النَّاس يتجنَّبون تمامًا الاقتراب مِن المكان الَّذي مات فيه بسبب الرَّائحة النَّتنة. وهناك كتاب قديم آخر يقول إنَّه قُتِل عندما سَحَقَتْهُ عربة بطريقة جَعلت جسده يَنفجر. والهدف مِن هذا كُلِّه هو أن تَعلموا أنَّه طَوال تاريخ الكنيسة، كانت هناك كراهية شديدة لهذا الرَّجُل الَّذي يُدعى "يهوذا". وهذه الكراهية تَظهر مِن خلال كتابة هذه المؤلَّفات الخُرافيَّة عن موته.

ولكن عندما تنظرون إلى كُتَّاب الكتاب المقدَّس، لا يوجد شيء مِن هذا القَبيل. فكلُّ ما يقولونه عن هذا الرَّجُل هو أنَّه كان واحدًا مِن الاثني عشر. وعوضًا عن أن تَعكس تلك الجُملة ازدراءً ونُفورًا مَحْضًا، أدَّت إلى نوعٍ مِن الغموض الشَّديد. أليس كذلك؟ فكأنَّهم يقولون: "مِن المستحيل أن نُصدِّق ذلك! ولكنَّ هذا الرَّجُل الَّذي خان يسوع كان واحدًا مِن الاثني عشر!" بعبارة أخرى، لقد كان يعرفه معرفة حميمة أكثر مِن أيِّ بشرْ آخرين يعيشون على وجه الأرض؛ ولكنَّه فعل ذلك. وكأنَّهم يقولون: "إنَّه أمر يَصعُب علينا تَخَيُّلَه! فقد كان واحدًا مِن الاثني عشر". لذا، عوضًا عن كتابة أوصافٍ تُعبِّر عن النُّفور أو الاشمئزاز، هناك جُمَل تُعبِّر عن الدَّهشة والصَّدمة: "أَحَدُ الاثني عشر".

كان الوقتُ هو الجمعة صباحًا عندما جاء يهوذا بعد مُنتصف اللَّيل. وكان قد جَمَعَ كلَّ هؤلاء الأشخاص معًا لِتَبلُغَ الأحداثُ الذُّروة. وكان قد ترك قبل ساعاتٍ طويلة التَّلاميذ. فنحن نقرأ في إنجيل يوحنَّا 13: 30 أنَّه خَرَجَ وكان الوقتُ ليلاً. فقد خرجَ حَتَّى قبل إعداد مائدة الرَّبِّ. وحال خُروجه، نَعلم مِن خلال الكتاب المقدَّس أنَّه خرجَ وأَبْرَمَ اتِّفاقه مع قادة اليهود. وكان قد اتَّفق سَلَفًا معهم مُقابل مبلغٍ مِن المال قائلاً: "كم ستُعطونَني إن سَلَّمتكم يسوع؟" فقد أَبْرَمَ الصَّفقة. وقد خَرج وجَمع هؤلاء الأشخاص وحَشَدَهم معًا، وقال: "هذه هي اللَّحظة المُناسبة! يجب عليكم أن تَتصرَّفوا بسرعة. هذه هي اللَّيلة المناسبة. إنَّها ليلة هادئة. إنَّه الوقت المناسب واللَّحظة المناسبة. استغلُّوا اللَّيلة. استغلُّوا حقيقة أنَّ يسوع بعيدٌ عن الجموع. فقد خرج إلى مكانٍ خاصٍّ مع تلاميذه. وهو وحده معهم. إنَّه أفضل وقت". وقد كان مدفوعًا أيضًا بالطَّمَع. فقد كان نَهِمًا إلى المال حتَّى إنَّه كان يَركض في سبيل الحصول عليه. وكان قد سقط في فَخِّ الشَّيطان. لِذا فإنَّه لم يكن مُسيطرًا على ما يفعل [كما يقول الكتاب المقدَّس] لأنَّ "الشَّيطان كان قد دَخل يهوذا".

فقد كان يتصرَّف بدافع الجشع الشَّديد. وكان يَتصرَّف بإيعازٍ مِن الشَّيطان السَّاكن فيه. وقد جَمع القادة والجُنود فجاءوا جميعًا الآن للقبض على المسيح. وها قد وصلوا إلى البُستان. وهو يريد مالَهُ. فهو يُريدُ الثَّمَن الَّذي طَلَبَهُ، ويريد تَعويضَهُ لأنَّه كان يعتقد أنَّه أَهدر سنواتٍ في الفقر واتِّباع المسيَّا الَّذي لن يأتي بالملكوت ولن يَرفعه إلى المجد الَّذي كان يَصبو إليه. وصَدِّقوني أنَّها كانت ساعات قليلة مسعورة منذ أن غادر تلك العِليَّة مساء يوم الخميس ذاك. فقد رَكض إلى قادة اليهود. فقد كان ينبغي له أن يَلتقيهم. ثُمَّ كان ينبغي لهم أن يحصلوا على إذْنٍ مِن الرُّومان. وأعتقد أنَّهم اجتمعوا على الأرجح ببيلاطُس نفسِه. فقد كان بيلاطس في أورُشليم في هذا الوقت (كما نَعلم مِن خلال الأحداث) بالرَّغم مِن أنَّ قصره الرئيسيَّ كان في قيصريَّة حيث كان يُدير تلك المنطقة المحدَّدة الواقعة تحت حُكم إمبراطور روما "قيصر". ولكنَّ بيلاطس كان حذرًا. فنحن نقرأ في الأصحاح السَّابع والعشرين مِن إنجيل مَتَّى والأعداد 62-65: "وَفِي الْغَدِ الَّذِي بَعْدَ الاسْتِعْدَادِ اجْتَمَعَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيُّونَ إِلَى بِيلاَطُسَ قَائِلِينَ: «يَا سَيِّدُ، قَدْ تَذَكَّرْنَا أَنَّ ذلِكَ الْمُضِلَّ قَالَ وَهُوَ حَيٌّ: إِنِّي بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَقُومُ". وَهُم لا يَصِفونَ يسوعَ إلاَّ بالمُضِلّ. وهذا يُشيرُ في نظري إلى أنَّهم تَحدَّثوا سابقًا مع بيلاطس عن هُويَّة هذا الشَّخص.

لِذا، كان لا بُدَّ ليهوذا أن يَجمعَ قادة اليهود، وأن يحصلوا على إذْنٍ مِن بيلاطس. لِذا، لا بُدَّ أنَّه تَمكَّن بطريقةٍ ما مِن جَعل الجميع يُقنعون بيلاطس، وأنَّهم فَعلوا ذلك طَوعًا (أي قادة اليهود) إذ إنَّهم ادَّعوا أنَّ يسوعَ هذا ثائرٌ مُحتَمَل، ومُتمرِّدٌ مُحتَمل، وإرهابيٌّ، ومُشكلة حقيقيَّة لروما، وأنَّه سيقود ثورةً مَا ضِدَّ روما. وَهُم لم يكونوا مُستعدِّين لحدوث ثورة أخرى مِن هذه الثَّورات لأنَّهم كانوا قد انتهوا للتَّوِّ مِن إخماد واحدة. ففي إنجيل مَرقُس والأصحاح 15، هل تَذكرون الآية الَّتي تقول: "وَكَانَ الْمُسَمَّى بَارَابَاسَ مُوثَقًا مَعَ رُفَقَائِهِ فِي الْفِتْنَةِ، الَّذِينَ فِي الْفِتْنَةِ فَعَلُوا قَتْلاً"؟ فقد كان باراباس قائد ثورة إرهابيَّة ضِدَّ الرُّومان. وكانوا قد أَخمَدوا للتَّو تلك الثَّورة ووضعوا باراباس في السِّجن. وكانوا يَنظرون إلى يسوع كما لو كان ثائرًا آخر مِثل باراباس. وكان الرُّومان مُستعدِّين لقبول ما يقوله قادة اليهود بأنَّ يسوع سيقود ثورةً ضِدَّ روما، وبأنَّه مِن الأفضل لهم أن يوقفوها قبل أن تَندلع.

لِذا، مِن هذا المُنطلَق، انضمَّ الجنود الرُّومان إلى قادة اليهود تحت قيادة يهوذا، وتقدَّموا نحو البُستان للقبض على يسوع. وربَّما كانوا قد داهَموا العِليَّة أوَّلاً ليروا إن كان يسوع ما زال هناك مع تلاميذه. وعندما وجدوا أنَّه ليس هناك، عَلِمَ يهوذا أين يمكن أن يكون قد ذهب. وهذا جَعل الأمر سهلاً جدًّا لأنَّ بُستان جَثسيماني كان خارج المدينة. وكان الوقت ظلامًا. وكان بمقدورهم أن يذهبوا إلى هناك دون إعاقة. والحقيقة هي أنَّ الجنود الرُّومان كانوا موجودين في كلِّ مكان. فقد كان الرُّومان قد استدعوا مزيدًا مِن القوَّات في عيد الفصح. لِذا، لم تكن رؤية فرقة مِن الجنود الرُّومان يسيرون في المدينة أمرًا يدعو إلى الرِّيبة. ولم تكن رؤية مجموعة من قادة اليهود ورؤساء المَجمع يسيرون معًا أمرًا يدعو إلى الرِّيبة لأنَّ الوقت كان موسم عيدٍ مُقدَّس. وإن كانوا قد التقوا معًا خارج باب المدينة، لن يَعلم النَّاسُ ما يجري. لذا، يبدو أنَّها اللَّحظة المُواتية. فقد كانت كذلك في فكر يهوذا، وكانت كذلك في فكر الشَّيطان، وكانت كذلك في فكر القادة الدينيِّين، وكانت كذلك في فكر الرُّومان. وصَدِّقوني أنَّها كانت كذلك في خُطَّة الله لأنَّ ما كانوا يفعلونه إنَّما كان يحدث "بِمَشُورَةِ اللهِ الْمَحْتُومَةِ وَعِلْمِهِ السَّابِق" (كما جاء في سِفْر أعمالِ الرُّسُل والأصحاح الثَّاني).

لِذا فقد جاء يهوذا الَّذي تَمَلَّكَهُ الشَّيطان؛ ولكنَّ ذلك كان يحدث بمشورة الله. وقد "جَاءَ وَمَعَهُ [ألا لاحظتُم ذلك؟] جَمْعٌ كَثيرٌ" – جَمْعٌ... "جَمْعٌ كَثِيرٌ". والآن، نُريد أن نَعلم مَن هو هذا الجَمْع. لذا فإنَّنا نُتابع القِراءة: "مِنْ عِنْدِ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَشُيُوخِ الشَّعْب". وكان رؤساء الكهنة، كما تَعلمون، الأشخاص الَّذينَ يقودون الأنشطة الدينيَّة في إسرائيل. وكان شُيوخُ الشَّعبِ هُم مُمَثِّلو الشَّعب وحُكَّامُهم. وهُم يَتألَّفون مِن السِّنهدريم (أي المَجمَع الحاكِم في إسرائيل)، والكهنة (أو بالأحرى: رؤساء الكهنة). وكان هؤلاء يُشكِّلون فَريقًا مِن الصَدُّوقيِّين والفَرِّيسيِّين. فقد كانوا جميعًا هناك. ومِن المهمِّ أن نتذكَّر ما يلي: أنَّ قادة اليهود ورؤساء اليهود هُمُ الَّذينَ دَبَّروا كلَّ ذلك. فهذا أمر لا يمكن إنكاره. وهذا لا يعني أنَّ كلَّ أفراد الأُمَّة اليهوديَّة أرادوا أن يكونوا جُزءًا مِن تلك المؤامرة. وهذا لا يعني أنَّهم فَعلوا شيئًا أكثر مِن السَّير وراء قادتهم. وَهُوَ لا يعني أنَّهم فعلوا ذلك عن سابقِ تصميمٍ ورغبة، بل أنَّهم صاروا ضَحيَّةً لقادتهم. ولكنَّ ذلك حدث بتخطيطٍ مِن قادة اليهود بدون أدنى شَكٍّ. والحقيقة هي أنَّنا نقرأ في إنجيل يوحنَّا 18: 3 أنَّه كانت توجد فرقة (أو كتيبة) بالإضافة إلى رُؤَسَاءِ الكَهَنَةِ والفَرِّيسِيِّين.

لِذا فقد كان الصَدُّوقيِّون هناك لأنَّهم كانوا رؤساء الكهنة. وكان الفَريسيُّون بالمُجمَل يُشَكِّلون الكهنة العاديِّين. وكان هناك أعضاء السِّنهدريم أيضًا. فكلُّ هؤلاء كانوا هناك. وكان عدد هؤلاء يَصِل إلى بِضعِ مِئات. وكان رئيسُ الكهنة هناك لأنَّنا نَلتقي بعد قليل خادمَ رئيس الكهنة. وقد كان شخصًا مُهمًّا جدًّا جدًّا، وكان مُعاون رئيس الكهنة الَّذي هو أعلى شخصٍ ذو مَنصبٍ دينيٍّ في البلد. والآن، في إنجيل يوحنَّا 18: 3، نقرأ أنَّه كانت هناك "كَتيبة". فالكلمة "كَتيبة" مُستخدمة في التَّرجمة المُعتمَدة. والكلمة اليونانيَّة هي "سبايرا" (speira). والكلمة "سبايرا" هي كلمة مُدهشة. وهي تعني بصورة رئيسيَّة: "كَتيبة مِن الجنود". والكلمة "سبايرا" تعني عُشْر فَيْلَقٍ في الجيش الرُّومانيّ... عُشْرَ فَيْلَق. وكان الفَيْلَق يَضُمُّ سِتَّة آلاف جُنديّ. لِذا، كان عُشْرُ ذلك الرَّقْم هو 600 جُنديّ. فقد كان الفَيلَقُ الكامِل يَضُمُّ سِتَّة آلاف جُنديّ. وكانتِ الكتيبة تَضُمُّ 600 جُنديّ. أضيفوا إلى ذلك ِبِضع مئاتٍ مِن الكهنة، ورُبَّما سبعين شخصًا مِن السِّنهدريم فيكون العددُ الإجماليُّ هو نحو ألف شخص يَصعدون سَفح جبل الزَّيتون. وإن أضفتم الضُّبَّاطَ والخُدَّام، تَحصلون على جَمْعٍ ضخم.

وكان كلُّ هؤلاء الجنود الرُّومان قادمين لأنَّهم كانوا يَظُنُّون أنَّ هذا الرَّجُل كان مُنشقًّا، أو مُتمرِّدًا، أو إرهابيًّا، أو ثائرًا مِثل باراباس. وكانت كتيبة الرُّومان تَخضع لقيادة قائدٍ أعلى مِن رُتبة العَقيد لدينا. وكانوا يَتمركزون في قلعة أنطونيا. وما زال بإمكانكم أن تمشوا على أرضيَّة قلعة أنطونيا إن ذهبتم إلى إسرائيل. فهي ما تزال قائمة إلى الشَّمال مِن أرض الهيكل. وكان جميع القادة هناك. فقد كان رؤساء الهيكل (كما جاء في إنجيل لوقا 22: 52)، وَقُوَّادُ جُنْدِ الهَيْكَلِ [أي شُرطة الهيكل]، وهي مجموعة أخرى، وَالشُّيُوخ. فقد كانوا جميعًا هناك. ويقول يوحنَّا إنَّهم جاءوا بمشاعل ومصابيح كي يَشُقُّوا طريقهم في الظَّلام. ولكن عدا عن ذلك، كان القمر بَدْرًا إذ إنَّ الشَّهرَ يبتدئ بظهور الهِلال، وكان عيد الفصح في مُنتصف الشَّهر. لذا، كان القمر بدرًا. والبَدرُ في ذلك الجزء مِن العالَم ساطِع جدًّا. وبالرَّغم من ذلك، جاءوا بمشاعل ومصابيح رُبَّما لأنَّهم افترضوا أنَّهم سيُضطرُّون إلى مُطاردة أو مُلاحقة يسوع والبحث عنه في الكهوف والمغاور. لذا فقد جاؤوا للقبض على ذلك المُتآمِر، واصطحابه عَنوةً إن اقتضى الأمر ذلك إذ إنَّهم جَلبوا معهم ألفَ رَجُل.

والآن، ارجعوا إلى العدد 47. فنحن نقرأ أنَّهم جاءوا أيضًا بسيوفٍ وَعِصِيٍّ... بسيوفٍ وعِصِيٍّ. والكلمة سيف هي "ماكايرا" (machaira) ومعناها: سيف قصير أو خَنجر. وَهُوَ السَّيف الَّذي كان يَحمله الجُنديُّ الرومانيّ. والحقيقة هي أنَّه عندما يتحدَّث بولس عن سلاح المؤمن في الأصحاح السَّادس مِن رسالة أفسُس فإنَّه يَستخدم الكلمة "ماكايرا". فقد كانوا يَحملون ذلك السَّيف الصَّغير القصير، أو ذلك الخَنجر، بالإضافة إلى السُّيوف الكبيرة العَريضة في أنواع مُعيَّنة مِن المعارك. فقد كانوا يَحملون عادةً سيفًا كبيرًا عندما يذهبون إلى قِتالٍ مُسَلَّح مع عَدوٍّ آخر. وكانوا يَحملون ذلك الخَنجر الصَّغير القصير في مُناسبة كهذه لاعتقال شخصٍ يعتقدون أنَّه ثائر. ثُمَّ أرجو أن تُلاحظوا مِن فَضلكم أنَّ النَّصَّ يقول إنَّهم كانوا يَحملون عِصِيًّا ("زولون" – “xolon”) وهي تَعني حَرفيًّا: "هَرَاوى"؛ وهي عِصِيٌّ غَليظة كتلك الَّتي يستخدمها رجال الشُّرطة. فقد كانت الهِراوة السِّلاح المألوفَ الَّذي يَستخدمه شُرطة الهيكل. لِذا فقد كان اليهودُ مُسَلَّحين، وكان الرُّومان مُسلَّحين أيضًا.

وهو مَشهد صادِم! فهو مَشهدٌ صادم تمامًا. فعوضًا عن التَّرحيب بابن الله، وعوضًا عن قبول المَسيَّا الَّذي طال انتظارُه، وعوضًا عن السُّجود عند قَدميِّ ذاك الَّذي ينبغي أن يُعبد بصفته مَسيحَ اللهِ، أرسلوا مجموعة مِن المُسلَّحين، أو مجموعة مِن الجنود ليضربوه ويُخضِعوه، ويَطعنوه إن اقتضى الأمرُ ذلك، وليَقتلوه. وعندما نظرتُ إلى ذلك المَشهد وتأمَّلتُ فيه، وفَكَّرتُ فيه في عقلي، رأيتُ فيه مَثلاً حَيًّا على شَرِّ العالَم. فَشَرُّ العالَم لم يَظهر قَطّ بجلاءٍ أكبر مِمَّا حدث مِن خلال مُعاملة العالَم ليسوع المسيح... قَطّ. فإن لم تكونوا تؤمنون بأنَّ العالَم شِرِّير، اسألوا أنفسكم كيف يُعقَل أن يَتِمَّ رَفْضُ أطهرِ وأنقى وأروعِ وألطفِ شخصٍ مَشى يومًا على الأرض! فإن لم يكن هذا العالَمُ شرِّيرًا، أخبروني إذًا لماذا رَفضَ الإنسانَ الكامِل. فلا يوجد مَثل إيضاحيّ على شَرِّ العالَم أعظم مِن هذا! فاليهود والأُممُ على حَدٍّ سَواء رفضوا المسيح. فَكِّروا في شَرِّهم. فأوَّلاً، يَظهرُ شَرُّهم مِن خلال حقيقة أنَّهم ظالِمون. فَهُم ظالِمون. فالعالَمُ ظالم. فهل كانوا يَملِكون الحقَّ في أخذ يسوع المسيح وقتله؟ ما الجريمة الَّتي اقترفَها؟ فحتَّى إنَّ بيلاطُس قال في وقتٍ لاحق: "إِنِّي لاَ أَجِدُ [ماذا؟] لاَ أَجِدُ عِلَّةً فِي هذَا الإِنْسَان. أنا أغسِلُ يَديَّ مِن هذا الأمر". وقد كان بيلاطس رجُلاً مُتعلِّمًا في القضاء والقانون. فالمسيح لم يفعل شيئًا خاطئًا. ولم تكن هناك جريمة. ولكنَّهم كانوا ظالِمين جدًّا.

فقد كانوا مُجْحِفينَ جدًّا. وكانوا مِن أبٍ قاتِلٍ [كما جاء في إنجيل يوحنَّا 8: 44] هو إبليس. فأعمالُهم ضِدَّ يسوعَ المسيح لا صِلَةَ لها بالحقّ، ولا صِلة لها بالمساواة، ولا صِلة لها بالعدالة، ولا بالبِرّ أو الصَّلاحِ أو الإنصاف. فلم يكن بمقدورهم أن يُميِّزوا الشَّخص المُمتلئ حقًّا وصوابًا وخيرًا. وهذه هي الصِّفة الَّتي يَتَّصِف بها العالَم الرَّافض للمسيح في كلِّ جيل. فرفضُهم ليسوع المسيح ظالِم. واسمعوني: حيثُ إنَّه بمقدور العالَم أن يَرفض ابنَ الله الخالي مِن الخطيَّة، والطَّاهر، والرَّائع، فإنَّ هذا يُخبرنا أنَّهم أشرار لأنَّ البِرَّ والخير لا بُدَّ أن يَقبل البِرَّ والخير. أليس كذلك؟ والأمرُ لا يَقتصر فقط على أنَّ العالَم ظالِم، بل إنَّ العالَمَ غَبِيّ. فالعالَمُ غَبِيّ. فما العِلَّة الَّتي كانت يُمسكُها الجنود في روما ضِدَّ يسوع المسيح؟ ما الشَّيء الَّذي كانوا يُمسكونه ضِدَّه؟ لا شيء... لا شيء البتَّة. وما العِلَّة الَّتي كان يُمسكها الكهنة الَّذينَ كانوا يَتصرَّفون بإيعازٍ مِن رئيس الكهنة ورؤساء الكهنة الَّذينَ كانوا يخافون مِن المسيح، ما الَّذي كانوا يُمسكونه على يسوع؟ لا شيء. هل تَذكرون ما جاء في إنجيل يوحنَّا بأنَّ كثيرينَ مِن الكهنة آمنوا به؟ فما الَّذي كانوا يُمسكونه عليه؟ لا شيء البتَّة. ولم يكن الجنود الرُّومان يُمسكون شيئًا عليه. فهو لم يفعل أيَّ شيء يُسيء إليهم.

وماذا كان الكهنة يُمسكون عليه؟ لا شيء. وهل كان ينبغي أن يكونوا الأشخاص الَّذينَ يَعتنون ببني إسرائيل؟ أجل. وهل ساعدهم يسوع؟ أجل. وهل شَفى أمراض شعبهم؟ أجل. وهل رَدَّ شعبهم إلى الحياة الروحيَّة؟ أجل. وهل عَلَّم شعبهم الحقَّ الإلهيَّ؟ أجل. فماذا كانوا يُمسكون عليه؟ لا شيء. ولكنَّهم كانوا أغبياء... أغبياء تمامًا. فقد انجرفوا وحسب وراء الغَوغاء. فيكفي أن يوجد قائدٌ مهووسٌ ومَجنون واحد أو قائدان يَزعمان أنَّ هناك مؤامرة ضِدَّ الحكومة لتحريض كلِّ الشَّعب. وقد كان هؤلاء أغبياء مثل الأشخاص الَّذينَ تبعوا هتلر أو أيَّ شخصٍ آخر قادهم إلى عملٍ شرِّير أو أعمالٍ شرِّيرة. إنَّه الانجرافُ الأعمى وراء الغَوغاء. فقد انجرفوا وراء مشاعرهم. وقد أبغضوا شخصًا لا يَعرفونه. وقد احتقروا شخصًا لا يفهمونه. فقد كانوا مُرتزقة لدى رئيس الكهنة. وقد قَبِلوا الرَّشوة مِن أجل القَبول، ومِن أجل الحفاظ على سُمعتهم، ومِن أجل الحفاظ على السَّلام الَّذي ظَنُّوا أنَّه لن يوجد إلاَّ إن فعلوا ذلك.

وأنا أرى العالَم هكذا اليوم. اسمعوني: هناك أشخاص في أُمَّتِنا يرفضون يسوع المسيح بطريقة غَبيَّة تمامًا كما فعل هؤلاء. فهناك أشخاصٌ يقولون لي: "لا يمكنني أن أُوْمِنَ بيسوع المسيح. فقد نشأتُ يهوديًّا". إن كان هذا هو السَّبب الوحيد لديك، فإنَّ ذلك غباءٌ لا يَقِلُّ عن غباء هؤلاء الأشخاص. ويجدر بك أن تفحص مَزاعِم المسيح بنفسك. فينبغي لك أن تَعلم مَن يكون هذا الَّذي تَرفُضه. وهناك أشخاص يقولون: "لا يمكنني أن أَقبل يسوع المسيح. فأنا لا أُصَدِّق أيًّا مِن هذا الكلام". ورَدِّي المُعتاد على هؤلاء هو: "لا بُدَّ أنَّك درستَ عميقًا حياة المسيح كي تَصِل إلى هذه النَّتيجة الحاسمة". فأنا أندهش دائمًا حين أسمع النَّاس يقولون: "لستُ واثقًا مِن أنَّ الكتاب المقدَّس صحيح". وعندما تسألهم ببساطة إن كانوا قد قرأوا الكتاب المقدَّس، يُقرُّون بأنَّهم لم يقرأوه. وهذه غباوة! فأنت تَسيرُ وحسب وراء الغَوغاء. فإن كان أغلبيَّة النَّاس مِن حولك يَرفضون المسيح هل تفعل ذلك أيضًا؟ وهل أنت غَبيٌّ مِثل الجنود الرُّومان الَّذينَ جاءوا حَامِلين خَناجرهم؟ وهل أنت غَبيٌّ مِثل الكهنة الَّذينَ اصطَفُّوا وراء رئيس الكهنة ليفعلوا أشياء لا يفهمونها؟ لا تكن غَبيًّا. ولا تَقبل رَشوةً لشراء قَبولك. ولا تَسمح بأن تكون ضحيَّةً لمَرارة شخصٍ آخر أو عاطفته أو رفضه للمسيح. لا ترفض ابنَ الله المُبارَك لأنَّ شخصًا آخر يفعل ذلك وحسب، أو لأنَّ شخصًا آخر قال لك إنَّه ينبغي لك أن تفعل ذلك. فالعالمُ الشرِّير غَبيّ ولا يُعْمِلُ عَقلَهُ.

ثالثًا، عندما أنظر إلى شَرِّ الأشخاص الَّذين جاؤوا للقبض على يسوع، لا بُدَّ أن أقول إنَّهم كانوا جُبناء. فَهُم جُبناء. ألفُ رَجُل يأتون للقبض على جَليليٍّ واحدٍ! ألف؟ بسيوفٍ وعِصِيٍّ ومشاعل في ظَلام اللَّيل! اسمعوني: إنَّ عَذابَ الضَّمير يَجعل أيَّ شخصٍ جبانًا. فعذابُ الضَّمير يَجعل دائمًا أيَّ شخصٍ جبانًا. فالأشرارُ يَخافون دائمًا مِن الحصول على ما يَستحقُّونه... دائمًا. فَهُم لا يريدون البتَّة أن يَسمعوا الحقَّ. لِذا فإنَّهم يَسُدُّونَ آذانهم، ويتجنَّبون المواجهة الصَّادقة. فأين نقرأ أنَّ أيًّا من هؤلاءِ الأشخاص جاء وتحدَّث إلى يسوع ليرى إن كان مُتمرِّدًا، أو ليرى ما إذا كان ما يُقال عنه صحيحًا أَم لا؛ أي: هل هو المسيَّا حقًّا، ابنُ الله؟ ولكنَّ الجُبناء يأتون في مجموعات كبيرة. فَهُم يخافون المواجهة. وَهُم يأتون في اللَّيل. وَهُمْ لا يأتون إلاَّ عندما يَشعرون أنَّ كَفَّتَهُم هي الرَّاجِحَة. فَهُم يَتكالَبونَ ضِدَّك. هل لاحظتم يومًا ذلك؟ فإن عَزلتَ شخصًا غير مؤمن عن مجموعته الَّتي تدعمه مِن غير المؤمنين، أو عن الزُّمرة الغَبيَّة الَّتي ينتمي إليها، سيصير ضعيفًا حالاً. فهو يجد الحماية في المجموعة، ويجد الأمان. وإن جَمَعَ مِن حوله عددًا كافيًا مِن الأشخاص الَّذينَ يعيشون كما يعيش هو، سيشعر بالرَّاحة في شَرِّه. فهو لا يجرؤ على مُواجهة الحقِّ وجهًا لوجه، بل يختبئ بِجُبْنٍ بين الغَوغاء.

وهكذا هي الحال مع العالم الشرِّير. فَهُم لا يأتون إلى المسيح فَردًا فَردًا لأنَّهم لا يريدون المواجهة، بل تَكالَبوا عليه. وهناك فكرة أخرى أيضًا وهي أنَّ العالَم الشرِّير مُجَدِّف. فالعالَم الشرِّير مُجَدِّف. وهذا يُضايقني جدًّا. فالعالَم لا يُوَقِّر البتَّة الأشياءَ المُقدَّسة... لا يُوَقِّرُها البتَّة. فالعالم مُجَدِّف جدًّا. ففي كلِّ مَرَّة أسمع فيها الكلمة "يسوع" تَخرُج مِن فَمِ شخصٍ يَقصد بها الشَّتْمَ، أشعر بالرِّعدة بسبب تجديف العالَم. وفي كلِّ مَرَّة يَسخرون فيها مِن الله، أو يَسخرون فيها مِن المسيح، أو في كلِّ مَرَّة تَتعرَّضُ فيها كلمة الله أو طريق الله أو مشيئة الله للازدراء، وفي كلِّ مَرَّة يُرفَض فيها المسيح، إنَّه نفس التَّجديف الَّذي نَراه يحدث هنا في هذا البُستان حيث يَتكالَبُ رُعاع العالَم ضِدَّ يسوعَ المسيح ويُجدِّفون على أقدس شيءٍ في الكون... على الله نفسه الظَّاهر في الجسد. ويا له مِن عُقوقٍ وَقِح! ويا له مِن تَدنيسٍ هائل اقتَرفوه هنا بأن وضعوا أيديهم المُلطَّخة بالدِّماء والخاطئة على الربِّ القدُّوس. وهو يقول في العدد 45: "وَابْنُ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي الْخُطَاة". يا لهُ مِن تَجديف! ويا له مِن انحطاط! ويا لهُ مِن عُقوق! والأمر ليس مُختلفًا اليوم. فهذا العالَم المُجَدِّف والعَاق، وغير المُقدَّس يَهزأ بالمسيح، ويَضع يديه عليه، ويُعامله بازدراءٍ وقلَّة احترام.

وكما تَرون، فإنَّ العالَم ظالِم. وهو غَبيٌّ. وهو جَبانٌ. وهو مُجَدِّفٌ. فكلُّ عناصر الشرِّ الَّتي تَرونها هنا في هذا البُستان، يا أصدقائي، لم تَخْتَفِ مِن الوجود مُنذ ذلك الحين. هل تفهمون ذلك؟ فهي لم تَخْتَفي مِن الوجود مُنذ ذلك الحين. فالعالَم ما يزال على حالِه. فَهُم ما زالوا يأتون إلى البُستان، وما زالوا يأتون للقبض على المسيح بنفس شَرِّهم الظَّالِم والغَبيّ والجَبان والمُجَدِّف. وَهُم ما زالوا يُعاملونه بالطَّريقة نفسها حتَّى الآن. إذًا، هناك هُجوم الجَمْع. ثُمَّ هناك قُبلة الخائِن. هل يمكننا أن ننظر قليلاً إلى ذلك في العدد 48؟ قُبلة الخائِن: "وَالَّذِي أَسْلَمَهُ أَعْطَاهُمْ عَلاَمَةً قَائِلاً: «الَّذِي أُقَبِّلُهُ هُوَ هُوَ. أَمْسِكُوهُ»". فيبدو أنَّهم كانوا بحاجة إلى إشارة. وما أعنيه هو أنَّ الظَّلامَ كان دامسًا. واسمعوني: لا توجد هَالَة تُحيط بيسوع. فلم يكن يوجد فيه شيء يُميِّزه خارجيًّا عن بقيَّة البشر. لِذا، كانت الحاجة تدعو إلى إشارة لتَجنُّب الخطأ. فَهُم لم يريدوا أن يقبضوا على الشَّخص غير المطلوب. وقد فَكَّروا في أنَّ التَّلاميذ قد يحاولون أن يُسَلِّموا الشَّخص غير المطلوب. وَهُم لم يرغبوا في وقوعِ أيِّ خطأ. لِذا فقد اقترحَ يهوذا إشارةً. وهذا أمرٌ يَصعُب تَخيُّله! فيا له مِن عقلٍ مُنحرِف! فمِن بين كلِّ الأشياء الَّتي كان بمقدوره أن يَفعلها، اختار قُبلةً بسبب تفكيره المُنحرف والشِّرِّير والحقير.

فقد كانتِ القُبلة علامة على الوَفاء. وكان التِّلميذ يُقَبِّل مُعلِّمَه الحبيب علامةً على الاحترام والمحبَّة. ولم يَكُن بمقدور التِّلميذ [بالمُناسبة] أن يُقَبِّلَ مُعلِّمَه إلاَّ إذا قَبَّلَهُ المُعلِّمُ أوَّلاً. فقد كان مِن الوقاحة الشَّديدة أن تقتربَ مِن مُعلِّمك وتُقَبِّلَه ما لم يُبادِر هو إلى القيام بذلك. ولكنَّ القُبلة كانت علامة على العاطفة والحَميميَّة. وكان الأشخاص الأقلُّ شأنًا يُقبِّلون ظَهر اليد. أمَّا إن كان الشَّخص أرفع قليلاً مِن خادِم، كان يُسمَح له أن يُقَبِّل راحةَ اليد (أو باطِن اليَد) في تلك الأيَّام. وكان العَبيد يُقَبِّلون الأقدام. وكان الأشخاص الَّذينَ يأتون ويَطلبون العَفو مِن مَلِكٍ غاضبٍ يُقبِّلون أيضًا قَدميه ويَستعطفونه كي يَعفو عنهم. وكان النَّاس يُعبِّرون عن توقيرهم الشَّديد لشخصٍ مَا مِن خلال تَقبيل أهداب ثَوبه. أمَّا المُعانقة والقُبلة على الخَدّ فكانت علامة على العاطفة الحميمة، والمحبَّة الشَّديدة، والعلاقة الوثيقة، والمحبَّة غير الأنانيَّة، والاحترام. لِذا فقد صارت قُبلة يهوذا أقبح عَمَلٍ على الإطلاق. فقد كان بمقدوره أن يُقبِّل يَدَ يسوع. وكان بمقدوره أن يُقَبِّل ثوبه. ولكنَّه اختار أن يَمضي إلى النِّهاية وأن يَتظاهر بمحبَّته للمسيح – لا فقط كي يُقَدِّم إشارةً، بل لأنَّه فَكَّرَ في حَماقته في أن يَخدع المسيح والتَّلاميذ.

لِذا فإنَّه يقول: "الَّذِي أُقَبِّلُهُ...". "الَّذي أُقَبِّلُه" ("فيليسو" – “phileso”)، وهي مُشتقَّة مِن الكلمة "فيليئو" (phileo) ومعناها: "يُظهر عاطفةً". إنَّها براءة زائفة. وهي محاولة فاشلة لإخفاء شخصيَّته الحقيقيَّة وخيانته. وما أعنيه هو أنَّه أمرٌ سَيِّء جدًّا أن تَخون صديقًا. ومِن الأسوأ جدًّا أن تَبيع ابنَ الله. أمَّا أن تَتوهَّم بأنَّك تستطيع أن تَخدعه فهو أمر يَفوق الوصف. لِذا فإنَّ يهوذا يَمضي في هذه القُبلة. وهو يُطَبِّق الفكرة المذكورة في سِفْر الأمثال 27: 6 والتي تقول: "وَغَاشَّةٌ هِيَ قُبْلاَتُ الْعَدُوِّ". بعبارة أخرى، إنَّه جُزءٌ مِن غِشِّ العَدُوِّ أن يُبالغ في القيام بذلك. فقد كانت كراهية الكهنة كافية. ويَكفي صُراخ الحشود القَبيح الَّذي سيُسمَع بعد ساعات قليلة، وجُبْن بيلاطُس، ووحشيَّة الجنود! وقد احتَمَلَ يسوعُ كلَّ هذه الأشياء بروح الوداعة. ولكن لا يمكنني أن أتخيَّل ما شَعر به في قلبه حين وقف هناك وتَلَقَّى قُبلةً مِن يهوذا. ومِن الصَّعب علينا أن نتخيَّل أنَّ إنسانًا يستطيع أن يُقابل خيانةً كهذه بمحبَّة إلهيَّة. ولكنَّنا نقرأ في العدد 49: "فَلِلْوَقْتِ تَقَدَّمَ إِلَى يَسُوعَ وَقَالَ: «السَّلاَمُ يَا سَيِّدِي!» وَقَبَّلَهُ". وهذا يُذَكِّرُنا بشيءٍ آخر في اعتقادي إذ يُمكننا القول إنَّ هناك شيئًا مُشابهًا له في سِفْر حزقيال إذ يقول حزقيال إنَّ هناك أشخاصًا يُنَجِّسونَ اللهَ عِنْدَ الشَّعبِ لأَجْلِ حَفْنَةِ شَعِيرٍ وَلأَجْلِ فُتَاتٍ مِنَ الْخُبْز. وَهُوَ يُذكِّرني بعاموس الَّذي أشار إلى أنَّ هناك أشخاصًا يبيعون البَارَّ بالفِضَّة، والبَائِسَ لأَجْلِ نَعْلَيْن. ونَرى هُنا أنَّ يسوع بيعَ مِن قِبَل يهوذا، وأنَّه تَعرَّض للخيانة بقُبلة. وأودُّ أن أُضيف أنَّ ذَنْبَ يهوذا لا يَقِلُّ شَناعةً بسبب حقيقة أنَّ يسوع تَمَّم الفداء. فهذا لا يَغفِرُ له ذنبه على الإطلاق. فمعَ أنَّ ذلك يَتغلَّب على شَرِّه، فإنَّه لا يُزيله.

لِذا، مِن خلال أكثر علامةٍ تُشير إلى العاطفة الشخصيَّة، هناك علامة خيانة. ويهوذا يقول في العدد 48: "عندما أفعلُ ذلك اقبضوا عليه. أَمسكوهُ ولا تَسمحوا له أن يَفلت". وهذه هي مشكلته الحقيقيَّة هنا. أمسكوه وأحكِموا قَبضتكم عليه. لذا في الحال، ما إن رأى يهوذا يسوعَ حتَّى قال له: "مرحبًا يا مُعَلِّم". وهذه الكلماتُ المُخادعة هي أبشعُ كلماتٍ نَطَق بها فَمُه. وقد قَبَّله. والكلمة المُستخدمة هنا هي ليست "فيليسو" (phileso)، بل "كاتافيليسو" (kataphileso). فهي كلمة أقوى. فقد عانقهُ بحرارة شديدة وقَبَّله بحرارة شديدة. فهي كلمة تُستخدَم... [هل تُصدِّقون ذلك؟]... كلمة تُستخدم للإشارة إلى رَجُلٍ يُقَبِّل عَروسَه. وهي كلمة استُخدمت للإشارة إلى القُبلاتِ الحارَّة الَّتي قَبَّلت بها المرأةُ قَدَميِّ المُخلِّص. وفي وسطِ ذلك كُلِّه، تقرأ في إنجيل لوقا 22: 48 أنَّ يسوعَ قال ليهوذا: "أَبِقُبْلَةٍ تُسَلِّمُ ابْنَ الإِنْسَان؟" ويقولُ مَرقُس في إنجيل مَرقس 14: 45 إنَّ يهوذا تَقدَّمَ وقال: "يَا سَيِّدِي، يَا سَيِّدِي"، وأنَّه استمرَّ في تقبيله. فحتَّى إنَّ كلمات يسوع "أَبِقُبْلَةٍ تُسَلِّمُ ابْنَ الإِنْسَان؟" لم تقدر أن توقفَ هذا الرَّجُل الفاسد.

وهذا تَجديفٌ على عملٍ مُقدَّس لأنَّنا نقرأ في المزمور الثَّاني: "قَبِّلُوا الابْنَ". هل تذكرونَ ذلك؟ قَبِّلُوا الابْنَ. فهذا تَجديفٌ على القُبلة المُقدَّسة الَّتي يريدها الابن. فهو يتظاهر بالحُزن. وَهُوَ يَتقدَّم الجَمْع. وقد كان يأمُل في أَلاَّ يَعلم يسوعُ أنَّه مع الجَمْع، بل أن يعتقد يسوعُ أنَّه جاء لتحذيره. وكان يأمُل في أن يَعتقد التَّلاميذ أنَّه جاء لتحذيره. لذا فقد كان بعيدًا قليلاً عن الجَمْع في هذه اللَّحظة، ويتظاهر بالحزن والمحبَّة. وقد احتمل يسوعُ ذلك. وفي العدد 50، نأتي إلى الخاتمة في هذا الصَّباح: "فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «يَا صَاحِبُ...»" أو "يا زَميل" أو "يا رَفيق". ثُمَّ نقرأُ هاتين الكلمتين المدهشتين... يجب أن تُصغوا بعناية: "لِمَاذَا جِئْتَ؟" فهذا هو ما يقوله النَّصُّ اليونانيُّ حَرفيًّا. وَهُوَ نَصٌّ تَصعُب ترجمتُه. وقد تجدون ترجمات مُختلفة. واسمحوا لي أن أخبركم ما أعتقد أنَّ النَّصَّ يقوله. فهو لا يَستخدم الكلمة "صَديق". فهي ليست الكلمة "صَديق". فهي ليست الكلمة "فيلوس" (philos)، بل هي الكلمة "إيتارييه" (hetairos) ومعناها: "زَميل".

فهو لم يَدْعُ يهوذا صديقًا في هذا الوقت. فالكلمة "صَديق" كانت تُطلَقُ على نوعٍ آخر مِن الأشخاص. وقد استخدمَها في إنجيل يوحنَّا والأصحاح 15 عندما قال لتلاميذه: "قَدْ سَمَّيْتُكُمْ أَحِبَّاءَ". ولكنَّ يهوذا كان قد تَرَكَهُ. فهو ليس صديقًا. فهو زميل. وَهُوَ ما يزال يَتظاهر بالرِّفقة مع يسوع، ولكنَّه ليس صديقًا. "يا صَاحِب" أو: "يا رَفيق" أو "يا زَميل"، ثُمَّ هذه الكلمات: "لِمَاذَا جِئْتَ؟" وأفضلُ تفسيرٍ لهاتين الكلمتين هو: "افعل ما جئتَ لتفعله. افعله. فكلُّ شيءٍ جاهز". ولكن كيفَ يُعقَل أن يقول ذلك؟ سوف أقول لكم كيف. لقد صَرَفَ للتَّوِّ وقتًا في الصَّلاة. أليس كذلك؟ وكان كلُّ شيءٍ قد حُسِمَ في قلبه. فقد كان ماضِيًا إلى الصَّليب. وقد احتملَ تلك القُبلات. فقد احتملَ تلك القُبلات... قُبلات الخيانة، وقال ببساطة: "افعل ما جئتَ إلى هُنا لتفعله". وقد كانت هذه الجُملة هي عبارة الوداع مِن يسوع إلى ابن الهلاك. فقد حُسِمَ الأمر. ويمكنني أن أقول إنَّ يهوذا (الموجود في جَهنَّم في هذه اللَّحظة) كان يَسمع صَدى تلك الكلمات يَتردَّ في أذنيه، وسوف يبقى يَتردَّد إلى الأبد في ذلك العقل المحكوم عليه بالبقاء في جَهنَّم: "أَبِقُبْلَةٍ تُسَلِّمُ ابْنَ الإِنْسَانِ؟ افعل ما جئتَ لتفعله". فأنا أعتقد أنَّه سيَسمع تلك الكلمات الأخيرة الَّتي قالها المسيحُ له طَوال الأبديَّة".

والآن، لقد قلتُ لكم إنَّني أرى في هذا التَّصرُّف شَرَّ العالم. وهل يمكنني أن أقول لكم إنَّني أرى أيضًا هنا شقاوةَ تلميذٍ زائف؟ شقاوةَ تلميذٍ زائف؟ لقد كان يهوذا تلميذًا زائفًا. فلا يمكنني أن أتخيَّلَ شيئًا شِرِّيرًا أكثر مِن ذلك. فقد قَدَّم لنا هنا نَموذجًا على التَّلمذة الزائفة. والآن اسمعوني: ما هي علامات التِّلميذ الزائف في هذه الحالة؟ أوَّلاً: الجشع. فقد كان مُحبًّا للمال، وكان يعيش لأجل الزَّمان الحاضر، وكان يريد المجد، ويريد النَّجاحَ، ويريد الأرض، ويريد الأشياء، وكان يَهتمُّ بالأشياء أكثر مِن اهتمامه بالله. وكان يرغب في إرضاء نفسه أكثر مِن إرضاء المسيح. ومِن سِمات التِّلاميذ الزَّائفين هي أنَّهم يَتظاهرون بالانتماء إلى يسوع كي يحصلوا على ما يريدون. وعندما لا يُعطيهم يسوعُ ما يُفكِّرون فيه، ويُطالبهم بأمور تختلف عن تلك الَّتي فَكَّروا فيها، فإنَّهم يتركونه. وقد يحاولون أن يحصلوا على أكبر غنيمة مُمكنة قبل أن يتركوه. وَهُم يُشبهون الزَّرع الَّذي ينمو قليلاً، ولكن عندما تُشرق الشَّمس ويكتشفون أنَّ هناك ثمنًا ينبغي أن يَدفعوه فإنَّهم يذبلون ويموتون. فَهُم يتبعون المسيحَ وقتًا قصيرًا، ولكنَّهم يَتخلُّون عنه في نهاية المطاف بسبب رغباتهم الأنانيَّة، أو بسبب المال، أو بسبب المكانة أو السُّلطة. فَهُم يُحبُّون الظُّلمة، ويُحبُّون العالَم، ويُحبُّون الأشياءَ الَّتي في العالم، ويُبدون الاستعداد لبيع المُخلِّص كما باع عيسو بكوريَّتَه مِن أجل طَبقٍ مِن الطَّعام. فالتَّلاميذ الزائفون يَتَّصِفون بالجشع الأنانيّ.

ثانيًا، إنَّهم يَتَّصِفون بالخِداع. فَهُم يَتنكَّرون بدهاءٍ شديد في محاولة لخداع الآخرين. وَهُم يتظاهرون بأنَّهم يُحبُّون الربَّ بالطَّريقة الَّتي تظاهر بها يهوذا لأنَّ أحدًا مِن التَّلاميذ لم يَشُكَّ فيه يومًا. وعندما قال يسوع: "إِنَّ وَاحِدًا مِنْكُمْ سَيُسَلِّمُنِي". فابتدأ كُلُّ واحدٍ منهم يقول: "هل هو أنا؟ هل هو أنا؟ هل هو أنا؟" فالتَّلاميذُ الزَّائفون مخادعون؛ بل مُخادعون جدًّا حتَّى إنَّ رَبَّنا قال إنَّنا لا نستطيع حقًّا أن نُميِّز مَن منهم صادق ومَن مِنهم مُخادع. فالحنطة والزَّوان يَنموان معًا. وأخيرًا، التِّلميذُ الزَّائف مُراءٍ. فهو يُقَبِّل كي يَقتُل. وَهُوَ يُظهر المَحبَّة مِن الخارج ولكنَّه يُبغِض مِن الداخل. فيا لِرياءِ التَّلمذة الزَّائفة! والحالُ لم تتغيَّر. فيهوذا ليس الوحش الوحيد. فهناك أشخاصٌ كثيرون يُشبهون يهوذا في كلِّ عصر. وهناك أشخاصٌ كثيرون يُشبهون يهوذا في هذه الكنيسة إذ إنَّهم يأتون إلى هنا ويتظاهرون بحُبِّهم للمسيح، ويتظاهرون بعبادتهم للمسيح؛ ولكنَّهم مُخادعون، ومُراؤون، وَهُم يفعلون ذلك بسبب ما يَجنونه: إمَّا مِن أجل إراحة ضميرهم، أو الشُّعور بالرَّاحة، أو مِن أجل السُّمعة الَّتي قد يحصلون عليها، أو الشُّعور بقدرٍ مِن الرِّضا عن الذَّات، أو ربَّما لأنَّ ذلك جَيِّد لأعمالهم التِّجاريَّة، أو لأيِّ سببٍ آخر. وَهُم مُخادعون ومُراؤون ويَفعلون ذلك لأجل مصلحتهم الشخصيَّة. وإن ظَهرتِ الحقيقة فإنَّهم يُقَبِّلون كي يَقتلوا. وَهُم مُستعدُّون لبيع يسوعَ المسيح إن اكتشفوا أنَّ هناك منفعة أكبر في أيِّ مكانٍ آخر.

لذا فإنَّنا نَرى، كما هي الحال في هذا النَّصِّ، واقعَ وحقيقةَ أنَّ كلَّ واحدٍ مِنَّا سيجد نفسه في البُستان هناك. فنحن نقف إمَّا في صَفِّ الأشرار والظَّالمين والأغبياء والجُبناء، وإمَّا أنَّنا نَقِف مع تلميذٍ زائفٍ، وإمَّا أنَّنا نَقِف [كما سنرى في يوم الرَّبِّ المُقبِل] مع التَّلاميذ المُنهزمين، وإمَّا [كما نرجو] مع المُخلِّص المُنتصِر. دعونا نَحني رؤوسنا كي نُصلِّي: فيما تَحنون رؤوسَكم قليلاً، يا لهُ مِن امتيازٍ عظيمٍ لنا أن نَفتح كلمة الله ونَدخل إلى هذا المشهد مع الربِّ يسوع. وما أرجوه هو أن تُدركوا هذا الامتياز. ولكنَّ هذه رسالة تنطوي على المواجهة. ونحنُ أمام حقيقة أنَّ ما يحدث هنا هو ليس مُجرَّد تاريخ، بل هو حقيقة لأنَّ الأشخاص الظَّالمين والأغبياء والجُبناء والأشرار ما زالوا معنا، وما زالوا يَرفضون المسيح، وما زال التَّلاميذ الزائفون موجودين في كلِّ مكان. لذا فإنَّ هذا المشهد يُرغمنا على التَّفكير في المكان الَّذي نقف فيه. فهل نقف مع الجَمْع؟ هل نُقَبِّل كما فعل يهوذا؟ هل نقف مع التَّلاميذ؟ أم مع المُخلِّص المُنتصر؟ فالتَّلاميذُ هَربوا وكانوا ضُعفاء. أين تقف؟ هذا هو السؤال المهمّ. فإن لم تكن تَعرف الربَّ يسوعَ المسيح مُخلِّصًا لك، وإن لم تكن تَسجد عند قدميه المُباركتَيْن وتعبده، فإنَّنا ندعوك إلى القيام بذلك في هذا اليوم.

This sermon series includes the following messages:

Please contact the publisher to obtain copies of this resource.

Publisher Information
Unleashing God’s Truth, One Verse at a Time
Since 1969

Welcome!

Enter your email address and we will send you instructions on how to reset your password.

Back to Log In

Unleashing God’s Truth, One Verse at a Time
Since 1969
Minimize
View Wishlist

Cart

Cart is empty.

Subject to Import Tax

Please be aware that these items are sent out from our office in the UK. Since the UK is now no longer a member of the EU, you may be charged an import tax on this item by the customs authorities in your country of residence, which is beyond our control.

Because we don’t want you to incur expenditure for which you are not prepared, could you please confirm whether you are willing to pay this charge, if necessary?

ECFA Accredited
Unleashing God’s Truth, One Verse at a Time
Since 1969
Back to Cart

Checkout as:

Not ? Log out

Log in to speed up the checkout process.

Unleashing God’s Truth, One Verse at a Time
Since 1969
Minimize