
إنَّه امتيازٌ مُبارَكٌ لنا في كلِّ يوم أحد أن نَلتقي معًا ونَفتح كلمة الله. فهذه هي كلمته الشخصيَّة لنا. فهو يتكلَّم، ونحن نُصغي بقلوبٍ مُتلهِّفة. والنَّصُّ في هذا الصَّباح هو إنجيل مَتَّى والأصحاح السَّادس والعِشرين. وسوف نتأمَّل في الأعداد 57-68. ويا لهُ مِن فَرحٍ وامتيازٍ طَوال هذه السِّنين الطَّويلة أن نقوم معًا بهذه الدِّراسة المُمتعة عن المسيح بحسب إنجيل مَتَّى. ونحن نأتي إلى ذُروته، وإلى خاتمته. وإن كان هناك وقتٌ ينبغي أن نُصغي فيه بعناية فإنَّه الآن إذ نَتَتَبَّع آثار خطواتِ رَبِّنا إلى الصَّليب، وإلى القيامة، وإلى صعوده، ومأموريَّته لتلاميذه بخصوص الخدمة الَّتي تَركها وراءَه. فهذه حقائق عظيمة ورائعة يُقدِّمها لنا الربُّ نفسُه. والآن، في المرَّة السَّابقة، ابتدأنا في النَّظر إلى هذه الآيات. وسوف نُنهي هذه النَّظرة في هذا الصَّباح مِن خلال تَفَحُّص المحاكمة غير القانونيَّة وغير العادلة ليسوع. ولعلَّكم تَذكرون أنَّ ذلك اليوم كان الجُمعة صباحًا، بعد مُنتصف اللَّيل بقليل. فقد احتفل يسوعُ بعيد الفِصح مع تلاميذه مساء يوم الخميس، وأسَّس مائدةَ الرَّبِّ، وعَلَّمهم مجموعة مِن الحقائق العميقة المُدَوَّنة في إنجيل يوحنَّا والأصحاحات 13-16، وصَلَّى إلى الآب لأجلهم في إنجيل يوحنَّا والأصحاح 17.
ثُمَّ إنَّه غادرَ العِليَّة وبرفقته تلاميذُه الأحد عشر لأنَّ يهوذا كان قد صُرِفَ لكي يُكمِل عمل الخيانة الَّذي ابتدأه. وقد صَعِدَ يسوعُ والأحد عشر جبلَ الزَّيتون ووصلوا إلى مكانٍ مألوفٍ لهم يُدعى "بُستان جَثْسَيماني". وقد وصلوا البُستان في نحو مُنتصف اللَّيل. وقد صَلَّى يسوعُ صلواتٍ طويلة إلى الآب، وتحديدًا ثلاث صلوات، تَصارَعَ فيها مع المُجَرِّب. وقد خَرجَ مِن تلك الصَّلوات قويًّا ومستعدًّا للصَّليب. وكان الشَّيطان قد جَرَّبَهُ آخر تَجربة. وقد خرج مُنتصرًا كما هي الحال دائمًا. وهو يُثَبِّت فِكره تمامًا على الصَّليب. ولم يَمضِ وقتٌ بعد أن أَنهى صلاته حتَّى جاءَ إلى البُستانِ نحو ألفُ شخصٍ مِن الجنود الرُّومان، وحُرَّاس الهيكل، وقادة اليهود، وأعضاء السِّنهدريم، بما في ذلك رئيس الكهنة. فقد جاءوا جميعًا للقبض على يسوع. ولم تكن توجد جريمة، ولم تكن هناك تُهمة، ولم يكن هناك تَجريم. فهو لم يفعل أيَّ شيء؛ ولكنَّهم كانوا يريدونه ميتًا، وكانوا يريدون أن يُبعدوه عن طريقهم.
فهو يُشكِّل تهديدًا لديانتهم. وهو يُشكِّل تهديدًا لمناصبهم القياديَّة. وهو يُشكِّل تهديدًا لأنَّه يأسر قلوب وأذهان الشَّعب ويَجعلهم يَتبعونه. وهو صانعُ مُعجزاتٍ ولا يمكنهم أن يُنافسوه في ذلك المستوى. وقد كانوا خائفين. كذلك فقد كانوا مُحَرَّضينَ مِن الشَّيطان على القيام بهذا العمل. لذا فإنَّ كلَّ تاريخ الفداء الَّذي وضعه اللهُ يَبلُغ ذُروته في صَليب المسيح وقيامته. والآن نحن نَعلم، في المقام الأوَّل، أنَّ هذه ساعة شيطانيَّة. فقد قال يسوع لهؤلاء القادة: "هذِهِ سَاعَتُكُمْ وَسُلْطَانُ الظُّلْمَة". بعبارة أخرى، فقد قال: "هذه هي لحظة الجحيم كي يفعل فِعلَتَهُ". فعندما غادرَ يهوذا العِليَّة، قبل أن يُؤسِّس يسوعُ مائدةَ الرَّبِّ، يُخبرنا يوحنَّا أنَّ الشَّيطانَ دَخَلَ يهوذا، وأنَّ يهوذا خَرَجَ، وأنَّ الوقت كان ليلاً. فهي ساعة الجحيم. والشَّيطانُ يُحَرِّض يهوذا. ولا شَكَّ في أنَّ الشَّيطان وأعوانه الشَّياطين كانوا يُحَرِّضونَ أيضًا رئيسَ الكهنة، والسِّنهدريم، وكلَّ الأشخاص الَّذينَ كانوا مُتورِّطين في إعدام يسوعَ المسيح.
إنَّه مجهودٌ مَصدرُهُ الجَحيم. وأريد منكم أن تَعلموا في هذه النُّقطة أنَّ هذا الأمر جديد على الشَّيطان لأنَّه في أغلب الأوقات الَّتي سبقت هذه الحادثة، كان الشَّيطان يحاول أن يَمنع المسيحَ مِن المِضيِّ إلى الصَّليب. فمِن المؤكَّد أنَّه في الموجة الأولى الكبيرة مِن التَّجربة المُدوَّنة في إنجيل مَتَّى والأصحاح الرَّابع وإنجيل لوقا والأصحاح الرَّابع، بعد أن اعتَمَدَ يسوعُ مباشرةً وتَعرَّضَ للتَّجربة، مِن المؤكَّد أنَّ الشَّيطان كان يحاول هناك أن يُبعدَه عن الصَّليب. وحتَّى في البُستان حين كان رَبُّنا يَتعرَّق بشدَّة حتَّى صَارَ عَرَقُهُ كَقَطَرَاتِ دَمٍ، وحين كان يتألَّم بشدَّة في وسط تلك التَّجربة، كان الشَّيطان ما يزال يحاول أن يَفعل كلَّ ما في وسعه لإبعاده عن الصَّليب لأنَّ الشَّيطان كان يَعلم أنَّ الصَّليب سيوفِّر الذَّبيحة الكاملة لتخليص كلِّ المَفديِّين في جميع العصور. لِذا، يبدو أنَّ مؤامرة الشَّيطان كانت تَهدف إلى إبقائه بعيدًا عن الصَّليب. ولكن مِن الواضح في هذا الوقت أنَّه سَلَّمَ بحقيقة أنَّ يسوعَ سيذهب إلى الصَّليب، وأنَّها خُطَّة الله المَحتومة. لذا فقد صار هدف الشَّيطان حينئذٍ هي أن يجعل الصَّليب أقسى بكثير، وأن يجعل الموت بَشِعًا حتَّى لا يتمكَّن المسيحُ مِن القيام ثانيةً. لذا، في حين أنَّنا نرى الشَّيطان في البداية يحاول أن يُبعد المسيح عن الصَّليب، فإنَّنا نرى الآن الشيطانَ نفسه يَحشد كلَّ قُوى الجحيم والأرض معًا مِن جهة القوى الشرِّيرة كي يَقتله على الصَّليب بطريقة مُروِّعة ونهائيَّة فلا تكون هناك قيامة.
وهذا يُظهِر لنا، بالمناسبة، عَجْزَ الشَّيطان إذ أنَّه لا يستطيع القيام بما يشاء، وعدمَ ثَباتِ الشَّيطان إذ إنَّه يُغيِّر خُطَّته كثيرًا. فهو لا يَثبت على حال واحدة لأنَّ الشَّرَّ المُروِّع لا يبقى على حالٍ واحدة في نهاية المطاف. لذا، مِن الصَّعب علينا أحيانًا أن نَفهم سبب قيامه بما يقوم به. ولكن يبدو الآن أنَّه يُحَرِّض أُناسًا على الخيانة، ويحَرِّض أُناسًا على قتل المسيح في محاولةً لإبقائه ميتًا، ولإبقائه مجروحًا جُرحًا مُميتًا حَتَّى يَعجز عن القيامة ثانيةً. وحتَّى عندما قامَ ثانيةً، وكَسَر شوكةَ موتِ الشَّيطان، لَعلَّكم تَذكرون أنَّ الشَّيطان نَشَرَ أكاذيب بأنَّه لم يَقُم في محاولةٍ لمنع انتشار رسالة القيامة بعد أن أَخفقَ في مَنعِ القيامة ذاتِها. لِذا، هناك في الكواليس ذاك الَّذي قال يسوعُ عنه إنَّه قَتَّالٌ للنَّاس مِن البَدء. وفي الأصحاح الثَّامن مِن إنجيل يوحنَّا، بَيَّنَ يسوعُ لأولئك القادة مَنِ الَّذي يُريده ميتًا: "أنتم تسعون إلى قتلي لأنَّكم مِن أبٍ هو إبليس. وهو كَذَّابٌ وقاتِلٌ مِن البَدء". لذا، كان الشَّيطانُ وراء كلِّ ما يجري. لذا، هذه لحظة شيطانيَّة عندما كان يسوعُ في طريقه إلى الصَّليب.
ولكن اسمحوا لي أن أقول [ثانيًا] إنَّه مِن المهمِّ أن تفهموا أنَّها كانت أيضًا لحظة مُقدَّسة. فاللهُ أيضًا كان يَعمل. وقد كان اللهُ يَقصد هنا أن يَجعلَ غضبَ الشَّيطان، وكراهيَّةَ الشَّيطان، وشَرَّ الشَّيطان يُتَمِّم قَصدَهُ الفِدائيَّ المُقدَّس كي نقول ما جاء في سِفْر التَّكوين والأصحاح 50: "أَنْتُمْ قَصَدْتُمْ لِي شَرًّا، أَمَّا اللهُ فَقَصَدَ بِهِ خَيْرًا". ويجب علينا أن نَتذكَّر دائمًا أنَّه مَهما بلغت مكائدُ الشَّيطان فإنَّه لا يستطيعُ أن يَعمل إلاَّ في حدود مشيئة الله وقَصدِه. لِذا، مع أنَّنا نقول إنَّها لحظة الشَّيطان، يجب علينا أن نتذكَّر ما قالَه بطرس في يوم الخمسين بأنَّ يسوع المسيح صُلِبَ "بِمَشُورَةِ اللهِ الْمَحْتُومَةِ وَعِلْمِهِ السَّابِق". لذا فإنَّها خُطَّة رُسِمَت في الأصل [مِن جهة] في جَهنَّم، ولكنَّها كانت موجودة منذ الأزل في السَّماء.
وهناك مجموعة أخرى شاركت في اعتقال المسيح وصَلبه وَهي مجموعة أُناسٍ أشرار. فالأمر لم يقتصر على جَهنَّم والسَّماء، بل هناك أيضًا أُناسٌ أشرار. فنحن نجد هنا أنَّ رُؤساء الكهنة الأشرار الَّذينَ تآمروا منذ وقتٍ طويل على أن يَقتلوا يسوعَ اجتمعوا (بحسب إنجيل يوحنَّا والأصحاح الحادي عشر بعد إقامة لِعازَر مِن الموت مباشرةً، وقبل بضعة أسابيع مِن هذه السَّاعة) وقالوا: "إِنَّ هذَا الإِنْسَانَ يَعْمَلُ آيَاتٍ كَثِيرَةً". فَهُم لم يُنكروا يومًا ذلك. فقد كانوا يَعلمون أنَّه يَصنع مُعجزات. فقد كانت أمرًا لا يُمكن إنكارُه. فقد كانت مُعجزات عظيمةً جدًّا لا يمكن إنكارها. وقد كانت تَحدث بكثرة لا يُمكن لأحد أن يُفَوِّتَها. لذا فقد قالوا: "إِنَّ هذَا الإِنْسَانَ يَعْمَلُ آيَاتٍ كَثِيرَةً". ولكن إن لم نَقتلهُ "يَأتِي الرُّومَانِيُّونَ وَيَأْخُذُونَ مَوْضِعَنَا [وقد قَصدوا بذلكَ: هَيكلهم] وَأُمَّتَنَا". بعبارة أخرى، لقد كانوا يَخشون أنَّ جميع اليهود سيبتدئون في اتِّباع يسوع. وعندما يَرى الرُّومانُ أنَّ كلَّ الشَّعب يَسير وراء يسوع سيَخافون مِن حدوث ثورة فيَصدر عنهم رَدُّ فِعلٍ يَتمثَّلُ في اضطهادِ اليهودِ، وعَزلهم مِن مناصبِهم، وحِرمانهم مِن ميزاتهم، وتدمير هيكلِهم، وإهلاكِ أُمَّتهم فتكون تلك هي نهايتُهم.
لذا فقد رأوا هذه الحُشود الكبيرة الَّتي تَتبع يسوع، والحُشودَ الَّتي راحت تَصرخ قائلةً: أُوْصَنَّا لابنِ داود"، وَ "مُبارك الآتي باسمِ الرَّبّ" عندما دَخل المدينة وشَكَّلَ خطرًا كبيرًا على أَمنهم لأنَّ الرُّومان قد يَرون ذلك مؤشِّرًا على اندلاعِ ثورة فيتحرَّكون لقمع الثَّورة ويُهلكوهم جميعًا. وهذا هو ما دَفع قَيافا إلى أن يقف ويقول: "أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَ شَيْئًا [أيُّها الشَّعب]، وَلاَ تُفَكِّرُونَ أَنَّهُ خَيْرٌ لَنَا أَنْ يَمُوتَ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ عَنِ الشَّعْبِ وَلاَ تَهْلِكَ الأُمَّةُ كُلُّهَا!" وما قَصدهُ هو: مِن الأفضل لنا أن نَقتل هذا الرَّجُل؛ وإلاَّ سوف نخسر أُمَّتنا كُلَّها. مِن الأفضل أن يموت رَجُل واحد ولا تَهلِك الأُمَّة كُلُّها. والنَّصُّ المذكور في إنجيل يوحنَّا 11: 53 يقول إنَّه لم يكن يَعلم ما يقول، ولكنَّ ما قاله كان نبوءة بأنَّ يسوعَ سيموت حقًّا عن أُمَّته. لذا، بالرَّغم مِن غباوته وحماقته وفمه الَّذي يَقطُر كراهيةً خرجت نبوءة عن الموت النِّيابيِّ ليسوع المسيح مِن أجل فداء شعبه. ولكنَّ قادة اليهود كانوا يَرون ذلك تهديدًا.
والآن، استمعوا إلى ما سأقول: إنَّ ما نَراه هنا هو مؤامرة مَصدرُها الجحيم، وتحقَّقت بحسب خُطَّة الله، وتَمَّت بأن دَخل إلى تلك الصُّورة أناسٌ حاقِدون وأشرار كانوا يَرفضون المسيح في ذلك الوقت. وأريد منكم أن تَفهموا ما يلي: بالرَّغم مِن أنَّها خُطَّةُ الله فإنَّ ذلك لا يُقلِّل بأيِّ شكلٍ مِن الأشكال مِن شَرِّ مؤامرة الجحيم. وبالرَّغم مِن أنَّها خُطَّةُ الله فإنَّ ذلك لا يُقلِّل بأيِّ شكلٍ مِن الأشكال مِن شَرِّ الأشخاص الَّذينَ نَفَّذوها على الأرض. فذنبُهم الشرِّير لا مُبَرِّر له البتَّة. صحيحٌ أنَّها خُطَّة الله، ولكنَّهم كانوا عاقِدي العَزمِ على تنفيذ مؤامرتهم. فقد اختاروا أن يكونوا أعوان جَهنَّم بإرادتهم. لذا، لا يمكن التَّخفيف مِن ذَنبهم بِحُجَّة أنَّها كانت خُطَّة الله. فاللهُ هو الَّذي عَكَسَ شَرَّهم الَّذي اختاروه بأنفسهم ليفعل عَمَلَهُ الصَّالح. لذا، سوف نُتابع دراسة المشهد مِن النُّقطة الَّتي جاؤوا فيها وقبضوا على يسوع في بُستان جثسيماني وأوثقوه. وهو مشهد مأساويٌّ جدًّا. فهناك طَيشٌ كبيرٌ في ما فعلوه. وقد أَظهروا تَعَنُّتًا شديدًا يَصعُب تصديقه. فَهُم يأتون هنا للقبض على يسوعَ المسيح، مَلِكِ المَجد، وابنِ الله. وَهُم يأتون بِتَعَنُّتٍ عجيبٍ حقًّا.
وما أعنيه بذلك هو ما يلي: عندما جاء يسوع مِن البُستان لمُلاقاتهم، ووقفَ أمامهم، ورأوه، فإنَّ الكتاب المقدَّس يقول إنَّ الحَشْدَ كُلَّه الَّذي كان يَضُمُّ نحو ألف شخص سقطوا وانطرحوا على الأرض. فقوَّة حضوره أَسقطتهم أرضًا كما لو أنَّهم ضُربوا بمطرقة سَماويَّة. فقد ارتطموا بالأرض ارتطامًا. وقد انطرحوا هناك دون حِراك لأنَّهم تَعرَّضوا لقوَّة ابن الله الحيِّ ودينونته. والآن، ربَّما تَظنُّون أنَّ أيَّ شخصٍ عاقل سيقول لنفسه: "هذا ليس رَجُلاً كبقيَّة الرِّجال الآخرين"، وأنَّهم كانوا سينظرون إلى تلك المعجزة المُتمثِّلة في قوَّته ودينونته كرسالة تدفعهم إلى التَّفكير مَليًّا في مَن هو. ولكنَّ ذلك لم يجد أيَّ صَدىً في قلوبهم القاسية، ولا أيَّ تجاوب في أذهانهم المُتصلِّبة. فالقوَّة الرَّهيبة الَّتي طَرحتهم أرضًا لم تَدفعهم إلى التَّفكير في حقيقة لاهوت يسوع المسيح أو رُبوبيَّته. فقد تَجاهلوا تمامًا تلك العلامة التَّحذيريَّة بالرَّغم مِن وضوحها التَّامّ.
وبعد وقتٍ قصير، جاء بطرس وقَطع أُذُن "مَلْخُس" الَّذي كان خادم رئيس الكهنة. وفي ذلك المشهد في البُستان، يَتقدَّم يسوعُ ويقول: "يَكفي. لنتوقَّف قبل أن نخوض معركةً". وهو يَمُدُّ يَدَه ويَخلِق حالاً أُذُنًا لذلك الرَّجُل. والآن، نجد هنا معجزةً لا تُشير إلى السُّلطان والدَّينونة، بل إلى اللُّطف والرَّحمة. وَهُم يَرون تلك المعجزة. وأنت تقول لنفسك: "مِن المؤكَّد أنَّ قوَّة الخَلق الخارقة الَّتي تَمنح أُذُنًا حالاً لشخصٍ فَقَد أُذُنَه هي شيء يُحسَب له أَلف حساب. يجب علينا أن نتوقَّف وأن نَنظر مَن هو". ولكنَّهم يَتجاهلون تلك العلامة أيضًا. والآن، هناك احتمالان اثنان فقط لهذا التَّصرُّف: الأوَّل هو أنَّهم لم يكونوا يَعلمون أنَّه المَسيَّا. فبالرَّغم مِن هذا كُلِّه، لم يكونوا يَعلمون أنَّه المَسيَّا. ولكن هل تَعلمون شيئًا؟ لو أنَّهم ظَنُّوا في أنَّه ليس المَسيَّا، أعتقد أنَّهم كانوا سيبذلون جهدًا لإثبات ذلك. ولكنِّي أعتقد أنَّهم كانوا خائفين مِن أن يكون هو المَسيَّا، وأنَّهم لم يكونوا يرغبون في التحقُّق من ذلك لأنَّهم كانوا يخشون النَّتيجة. فقد أرادوا وحسب أن يُبعدوه عن طَريقهم.
وقد تقول: "هل تعني أنَّهم لم يكونوا يَرغبون حتَّى في معرفة إن كان هو حقًّا مَسيحَهم؟" هذا هو التَّفسير الوحيد المُحتمل؛ وإلاَّ ما الَّذي كان سيمنعهم مِن إجراء تحقيقٍ شاملٍ لإثبات أنَّه ليس المَسيَّا فيفرحون بذلك؟ لا! لقد كانوا غارقين تمامًا في ديانتهم الزَّائفة، وكانوا غارقين تمامًا في بِرِّهم الذَّاتيّ، وكانوا غارقين تمامًا في نَمَط حياتهم وعبادتهم، وفي نفوذهم، وفي مكانتهم المَرموقة، وفي صورتهم أمام الشَّعب. فقد كانوا يَشعرون بتهديدٍ حقيقيٍّ بسبب قداسة يسوع، وطهارته الحقيقيَّة، وسُلطانه الحقيقيّ حتَّى إنَّهم كانوا خائفين مِن اكتشاف الحقيقة لأنَّهم إن اكتشفوا أنَّه هو المَسيَّا، فإنَّ كلماتِه ستَدينُهم. وعوضًا عن البحث عن الحقيقة، أرادوا أن يَقتلوه. ولو ظَنُّوا لحظةً أنَّه ليس المَسيَّا، لأجروا تحقيقًا أكثر دقَّةً.
لذا فإنَّ المَشهد يَعُجُّ بالطَّيشِ والتَّعَنُّتِ الَّذي مَنعهم مِن تصديق ما يَرونَهُ، ومَنعهم مِن تصديق الحقيقة، ومَنعهم مِن تصديق المعجزات، وجَعلهم يَرغبون في التخلُّص منه بالرَّغم مِن كلِّ هذا. وحتَّى بعد قيامة لِعازَر (كما قلتُ)، قالوا: "إنَّ هذا الرَّجُل يَصنع مُعجزاتٍ". فلم يكن بمقدورهم أن يُنكروا ذلك، ولكنَّهم لم يرغبوا في مواجهة ما يعنيه ذلك. فذلك يَعني إدانتهم لأنَّ يسوعَ عَلَّم تعليمًا يُناقض تَعليمهم في كلِّ شيء. وكان المشهد يَعُجُّ بالعُنف عندما قبضوا عليه. وكان هناك شابٌّ في ذلك المكان (كما يُخبرنا مَرقُس في الأصحاح 14 والعَددين 51 و 52) يَنظر وحسب، ويُراقب، ويُشاهد ما يجري. وقد أمسكوه فمَزَّقوا ثوبَه. وقد هَرب للنَّجاة بنفسه بملابسه الدَّاخليَّة. وهذه واحدة مِن الطُّرق الَّتي يُخبرنا فيها الكتاب المقدَّس عن عُنف المشهد. فقد كان موقفًا يَعُجُّ برُعاعٍ غاضبين. فنحن نقرأ هنا عن شخصٍ لم يكونوا يحاولون حتَّى القبض عليه. وحتَّى إنَّنا لا نَعرف مَن هو. ولكنَّ عُنف الموقف أدَّى إلى القبض عليه وتمزيق ملابسه. فقد كانوا حشدًا طائشًا وعنيدًا يريد القبض على يسوع. وكما قال إشعياء: "كَشاةٍ تُساقُ إلى الذَّبح". وقبل أن يَقتلوه، أرادوا أن يُحاكموه. ومِن هُنا نُكمِل القصَّة ابتداءً مِن العدد 57. ونحن ننظر إلى المحاكمة غير العادلة وغير القانونيَّة ليسوع.
أَلم أَقُل لكم في المرَّة السَّابقة إنَّ الشَّعب اليهوديَّ كان يُطبِّق نظامًا رائعًا في القضاء والعدالة؟ وإنَّ مَحكمتهم العُليا كانت السِّنهدريم الَّذي هو المَجلس اليهوديُّ الَّذي يَنعقدُ في أورُشليم ويتألَّف مِن سبعين شيخًا وكاهنًا وهَلُمَّ جَرَّا بالإضافة إلى رئيس الكهنة ليصير المجموع واحدًا وسبعين شخصًا كي يكون هناك دائمًا عددٌ فَرديٌّ في التَّصويت؟ وإنَّ تلك المجموعة الكبيرة مِن الأشخاص كانت هي المحكمة العُليا في إسرائيل؟ وإنَّهم هُمُ الَّذينَ قَرَّروا أن يَتولَّوا قضيَّة يسوع؟ وقد رأينا أنَّ المحكمة العُليا في إسرائيل كانت قائمة على أساس أنَّ كلَّ شخصٍ تَتِمُّ مُحاكمته يَملِكُ الحقَّ في ثلاثة أشياء: الأوَّل هو المحاكمة العَلنيَّة. ثانيًا، فُرصة الدِّفاع عن نفسه. ثالثًا، عدم إدانته مِن دون شهادةٍ مُطابقةٍ لِما لا يَقِلُّ عن شاهدين أو ثلاثة شهود. لِذا فقد كان السِّنهدريم يَضمن المحاكمة العَلنيَّة، والحقَّ في الدِّفاع عن النَّفس، وسماع شهادة شاهدين أو ثلاثة قبل إدانة أيِّ شخص. وقد قلنا أيضًا إنَّ نظامَهم كان يَنُصُّ أيضًا على مُعاقبةِ أيِّ شاهدِ زُورٍ بنفس العقوبة الَّتي كان يحاول إلصاقها بالشَّخص الَّذي شَهِدَ ضِدَّه، وإنَّه لم يكن بمقدورهم أن يُقيموا دَعوى على أيِّ شخص، بل أن يَعقدوا مُحاكمةً فقط. لذا، لم يكن بمقدورهم أن يكونوا مَحكمةً هَزليَّة.
وكان نظامهم القضائيُّ يَنُصُّ أيضًا على أنَّه لا يمكن لأيِّ محكمة أن تَنعقد في اللَّيل أو في أيِّ مكانٍ آخر سوى قاعة المحكمة ذاتِها، وأنَّه لا يمكن لأيِّ محكمة أن تَنعقد حتَّى في وقتٍ مُتأخِّر مِن بعد الظُّهر لئلاَّ يَتِمَّ التَّعجيل في القضاء بهدف إنهاء المحاكمة قبل انتهاء اليوم، وأنَّه لا يمكن إعدام أيِّ شخصٍ في نفس اليوم الَّذي تَمَّت مُحاكمتُه فيه، وأنَّه لا يمكن عقد محاكمة لإصدار حُكمٍ بالإعدام في يوم عيد أو في اليوم الَّذي يَسبق العيد، وأنَّه يجب أن يكون هناك يوم فاصِل، وأنَّ جميع الأصوات ينبغي أن تُحصى بدقَّة، وأنَّه لا يمكن لأيِّ شخص أن يَدين نفسه بأن يَشهدَ ضِدَّ نفسه إذ لا يجوز أن تَكون الشَّهادة الوحيدة المتوفِّرة هي شهادته ضِدَّ نفسه. فقد كانت كلُّ هذه القواعد ضمانات يَنُصُّ عليها القانون. وقد انتَهَكوا كلَّ واحدٍ مِن هذه القوانين... كلَّ واحدٍ منها.
فَهُم، على سبيل المثال، لم يُحاكموا يسوعَ عَلنًا، بل عَقدوا مَحكمةً سِريَّة. وَهُم لم يُوفِّروا له أيَّ دفاع، ولم يَستدعوا شهودًا كي يَشهدوا معه. وقد عَجزوا عن العثور على شاهِدين أو أكثر لإدانته بأيِّ شيء. والحقيقة هي أنَّهم رَشَوْا شُهودَ زُورٍ فَخالَفوا بذلك نِظامَهم الَّذي يَنُصُّ على مُعاقبة شهودِ الزُّور. فلم يكن يُسمَح لهم أن يَرفعوا دَعوى على يسوع، ولكنَّهم فعلوا ذلك. فلم تكن هناك مُقاضاة سليمة، ولم تكن هناك أيَّة تُهمة، ولم تكن هناك أيَّة إدانة، ولم تكن هناك أيَّة جريمة. وقد اجتمعوا في مُنتصف اللَّيل. وقد حَكموا عليه في يومٍ واحد وأعدموه في نفس اليوم. وكان ذلك اليوم قبل العيد؛ بل في الحقيقة يوم العيد. وقد اجتمعوا خارج قاعة المحكمة ولم يُكَلِّفوا أنفسهم عَناء إحصاء الأصوات. فكيفما نظرتم إلى المحاكمة ستجدون أنَّهم انتَهكوا قوانينهم. وقد قلتُ لكم في المَرَّة السَّابقة إنَّ مُحاكمة يسوع هذه تَضُمُّ سِتَّة أجزاء: ثلاثة منها أمام المحكمة اليهوديَّة، وثلاثة منها أمام الرُّومان. وفي المحاكمة الدينيَّة اليهوديَّة، وقفَ يسوع أوَّلاً أمام حَنَّان، ثُمَّ إنَّه مَضَوا به إلى قَيافا والسِّنهدريم، ثُمَّ وقفَ مَرَّةً ثالثةً أمام قَيافا والسِّنهدريم. لذا فهي تتألَّف مِن ثلاث مراحل. وفي المحاكمة الرُّومانيَّة العِلمانيَّة المدنيَّة، وَقَفَ أمام بيلاطُس، ثُمَّ أمام هيرودس، ثُمَّ مَرَّةً أخرى أمام بيلاطُس. وكلُّ هذه المراحل السِّتّ تُلَخِّص كلَّ المحكمة الهزليَّة ليسوع الَّتي انتُهِكَ فيها القضاءُ عند كلِّ مُنعَطف.
والآن، لقد ابتدأنا في المَرَّة السَّابقة بالنَّظر إلى هذا المقطع. وسوف أَذكر بإيجاز ما تأمَّلنا فيه. وسوف نَنظر إلى نَصِّ اليوم. أوَّلاً، هناك المواجهة غير القانونيَّة وغير العادلة. وقد انتقلنا مِن هذا النَّصِّ إلى إنجيل يوحنَّا والأصحاح 18 لأنَّ المرحلة الأولى كانت أمام حَنَّان. وقد كان حَنَّان الرَّأس المُدبِّر وراء ما يَفعله الكهنة. فقد كان هو حقًّا الشَّخص الَّذي يجلس في الكواليس ويُدير كلَّ شيء مع أنَّه كان قد تَرك مَنصب رئيس الكهنة بأمرٍ مِن الرُّومان لأنَّه صارَ يَتمتَّع بنفوذٍ أكبر مِن اللَّازم. وقد خَلَفَهُ قَيافا. ولكنَّ حَنَّان كان ما يزال مُحتفظًا بلقب رئيس الكهنة لأنَّه لَقب يَبقى مَدى الحياة. وكان ما يزال يُدير كلَّ شيء في الكواليس. وكان يُدير كلَّ الأعمال التِّجاريَّة في الهيكل مِن بيعٍ وشراءٍ وتَصريفٍ للعُملات. لِذا، كان الشَّيءُ المُتوقَّع مِن حَنَّان هو أن يُلَفِّقَ تُهمةً، وكان يُتوقَّع منه أن يُلَفِّقَ جريمةً. لذا فقد قَبضوا على يسوع في البُستان ومَضوا به إلى حَنَّان (كما يُخبرنا إنجيل يوحنَّا والأصحاح 18) كي تُوَجَّه إليه التُّهمة. ولكنَّ ذلك لم يكن قانونيًّا. فقد كان الوقتُ ليلاً. ولم تكن هناك جريمة، ولا شهود، ولا تُهمة، ولا فُرصة للدِّفاع. وهو لم يكن المكان المناسب. ولم يكن حَنَّان يَملك الصَّلاحية للقيام بذلك.
ولم يتمكَّن حَنَّان مِن التَّعامُل مع يسوع، ولا مِن التغلُّب عليه، ولا مِن مُجاراته، ولا مِن الرَّدِّ على أسئلته. لذا فقد أرسلَه إلى قَيافا والسِّنهدريم. ومِن هُنا نُتابع ما جَرى ابتداءً مِن العدد 57: "وَالَّذِينَ أَمْسَكُوا يَسُوعَ مَضَوْا بِهِ إِلَى قَيَافَا رَئِيسِ الْكَهَنَةِ، حَيْثُ اجْتَمَعَ الْكَتَبَةُ وَالشُّيُوخُ". إنَّه السِّنهدريم أو المَحكمة اليهوديَّة العُليا. ولكنَّه كان اجتماعًا غير قانونيٍّ وغير عادل. فقد كان هذا الاجتماع الَّذي عَقدهُ السِّنهدريم غير قانويّ. فقد كان الوقتُ ليلاً. وقد تَمَّ عقدُ الاجتماع في بيت رئيس الكهنة؛ وهذا مكانٌ غير قانونيّ. ولم تكن هناك جريمة. فقد اجتمعوا لِرفعِ دَعوى على يسوعَ، لا لِمُحاكمته. وقد اجتمعوا بسبب رَشوةِ شخصٍ خائن. وكان ذلك اليوم يَسبق يوم عيد. لذا فإنَّها لم تكن محاكمة قانونيَّة، بل محاكمة زائفة.
وفي ذلك الاجتماع غير القانونيّ وغير العادل، نأتي إلى النُّقطة الثَّالثة وهي: المؤامرة غير القانونيَّة وغير العادلة. فابتداءً مِن العدد 59، نجد أنَّهم لم يتمكَّنوا مِن العثور على أيِّ تُهمة ضِدَّ يسوع. لذا فقد راحوا يبحثون عن شهود زُور. فسوف يدفعون في الحقيقة رشوةً لهؤلاء الأشخاص كي يَشهدوا زُورًا ضِدَّ يسوع. وقد عَجزوا حتَّى عن العثور على أشخاصٍ يفعلون ذلك كي يُنفِّذوا مؤامرتهم. وأخيرًا وجدوا شخصين. ونقرأ في العدد 61 أنَّ هَذين الشَّاهِدينِ قالا: "هذَا قَالَ: إِنِّي أَقْدِرُ أَنْ أَنْقُضَ هَيْكَلَ اللهِ، وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَبْنِيه". ونحن نَعلم مِن إنجيل مَرقس أنَّ شهادة هذين الشَّاهدين لم تكن متوافقة مِن جهة ما قاله يسوع. لِذا، فقد اصطدموا الآن بحقيقة أنَّهم بَحثوا في كلِّ مكانٍ عن شخصٍ يمكنه أن يقول إنَّ يسوعَ فَعل شيئًا خاطئًا؛ ولكنَّهم لم يعثروا على أيِّ شيء لأنَّه لم يفعل يومًا شيئًا خاطئًا. فقد كان اللهُ الظَّاهرُ في الجسد. فلم تكن هناك جريمة. ولم يكن هناك ذنب. وَهُوَ لم يَفعل أيَّ ذَنب، ولم يفعل يومًا أيِّ شيءٍ خاطئ، ولم يَقُل يومًا شيئًا خاطئًا. لذا، كان مِن الصَّعب جدًّا العثور على تُهمة ضِدَّه.
لذا فقد رَشَوْا هذين الشَّخصين كي يَكذبا. وكلُّ ما استطاع هذان الشَّاهدان أن يقولاه هو أنَّه قال ذاتَ مَرَّة إنَّه يستطيع أن يَنقُضَ الهيكل وأن يُقيمَه مَرَّةً أخرى في ثلاثة أيَّام. ومِن المؤكَّد أنَّ هذه ليست جريمة يمكن أن تُعدَم عليها إن قلتَ إنَّك تستطيعُ أن تفعل شيئًا. ولا شَكَّ في أنَّهم حَرَّفوا ما قالَهُ في الأصل، وشَوَّهوا ما قاله، ولم يقولوا إنَّه كان يتكلَّم عن جسده وقيامته؛ لا عن الهيكل في أورُشليم. لذا فقد أَخفقوا بشدَّة. ويقول مَرقُس: "وَلاَ بِهذَا كَانَتْ شَهَادَتُهُمْ تَتَّفِقُ". فقد كانت تلك الشَّهادة [بصورة رئيسيَّة] عقيمة. ونَرى مَرَّةً أخرى الطَّبيعة غير القانونيَّة لتلك المُحاكمة. فقد رَشَوْا شُهود زُور. وقد حَاكَموهُ أوَّلا. ونقرأ في نهاية العدد 59 أنَّهم كانوا قد قَرَّروا سَلفًا أنَّهم سيَقتلونه. وها هُمُ الآن يحاولون العثور على سبب للقيام بذلك. وهذا يعني أن تُصدر حُكمًا قبل أن تَعقد مَحكمةً. وقد أرادوا أن يُعدموا يسوعَ بسبب شيءٍ قالَهُ. وهذا لا يجوز! وكان قَيافا قد شَعر بإحباطٍ شديد. وكان قد وَصَل حقًّا إلى نُقطة اليأس.
ونأتي إلى النُّقطة الرَّابعة وهي: الإدانة غير القانونيَّة وغير العادلة. لاحظوا ما حدث عندما زاد شُعورهم بالإحباط. وقد كانوا في عَجَلةٍ مِن أمرهم. فيجب عليهم أن يَنتهوا مِن هذا الأمر وأن يَدينوا يسوعَ، وأن يَنتهوا مِن كلِّ شيءٍ قبل الفجر، وقبل أن يبتدئ النَّاسُ بالتَّجمُّع لأنَّ النَّاس كانوا يُحبُّون هذا الرَّجُل (أي: يَسوع). فقد كان يَتمتَّع بشعبيَّة كبيرة. وكانوا يَحسبون ألفَ حسابٍ لما قد يحدث. لذا فقد أرادوا أن يُوقِّعوا الحُكْمَ، ويَختموه، ويُغَلِّفوه، ويُرسلوه قبل حلول الفجر، وقبل أن يبتدئ الشَّعب بالضَّغط عليهم. لذا فقد كانوا يتحرَّكون بأقصى سُرعة ممكنة. وقد أرادوا أن يَنتهوا مِن هذا الأمر تمامًا لكي يتمكَّنوا مِن الاحتفال بالفِصح مِن دون أيدي مُلطَّخة بالدِّماء [إن جاز التَّعبير]. لِذا، "فَقَامَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ [في العدد 62]" فقد نَهَضَ عن كُرسيِّه وَقَالَ لَهُ: "أَمَا تُجِيبُ بِشَيْءٍ؟ مَاذَا يَشْهَدُ بِهِ هذَانِ عَلَيْكَ؟" ألن تَقُل شيئًا؟ كان الإحباط قد بَلَغ الذُّروة. ويمكنكم أن تَفهموا ذلك. فقد جَمعوا شُهود الزُّور هؤلاء الَّذينَ كانوا يجيئون ويذهبون محاولين أن يُلَفِّقوا تُهمةً زائفةً ضِدَّ يسوع، ولكنَّ جهودَهم لم تَنجح. وكان يسوع يقف هناك وينظر بعينين ثاقبتين إلى عَينيِّ قَيافا؛ وهي نظرات مِن المؤكَّد أنَّها أَشعلتِ النَّارَ في أعماقه. ولم ينطق يسوعُ بكلمة. وكان كلُّ هذا الغضب وهذا الإحباط وهذه الكراهية تَتفاقَم وتَتفاقَم وتَتفاقَم. وكانوا ينتظرون أن يقول يسوعُ شيئًا يمكنهم أن يُهاجموه عليه للتَّنفيس عن غضبهم. ولكنَّه لم يقل أيَّ شيء.
وأخيرًا، جاءوا بهذين الشَّخصين الكاذِبينِ المُرتَشِيَيْنِ اللَّذَيْن لم تَتَّفق شَهادتهما فقالا هذا الشَّيء الزَّائف بأنَّ يسوع قال شيئًا لم يَقُله بهذا المَعنى. ولم يَكُن يجدر بالمحكمة أن تَقبل شهادتهما لأنَّها لم تكن شهادة مُنسجمة. وكان يسوع واقفًا هناك دون أن يقول أيَّ شيء. وكان الجَوُّ مشحونًا حقًّا بأكاذيبهم وأقوالهم المُتناقضة. وكانت مَهزلة القضاء هي السَّائدة. وكانوا غاضبين جدًّا لأنَّهم أرادوا مِن يسوع أن يقول شيئًا كي يُحَرِّفوا ما قاله ويَجعوا تلك قضيَّة جديدة. وحتَّى هذه النُّقطة، كان كلُّ ما يسمعونه هو صَدى غَباوتهم وغضبهم. وكان ذلك خانقًا. ولكنَّ يسوعَ لم يقل شيئًا لأنَّه لم يكن هناك شيء يُقال. فإن لم يُطبِّقوا القانونَ اليهوديَّ، فإنَّه سَيُطبِّقه. وكان القانون اليهوديُّ يقول إنَّه لا يمكن للمرء أن يَدين نفسَه بنفسه. يقول "مايمونيديس" (Maimonides)، العالمُ اليهوديُّ الَّذي عاش في العصور الوسطى: "لا يَسمح القانون بإعدام شخصٍ خاطئٍ عقابًا له على اعترافه هو شخصيًّا". وكان هذا هو دائمًا ما يَنُصُّ عليه القانونُ اليهوديّ.
ولم يكن لدى يسوع ما يقوله. وكان قانونهم يَسمح له بالوقوف هناك صامتًا. فيجب أن يُتَّهَم مِن قِبَل آخرين، وأن يَتِمَّ إثبات أنَّه مُذنِب مِن قِبَل آخرين. لذا فإنَّه لم يقل شيئًا. فَضلاً عن ذلك، لم يكن هناك شيء يَستحقُّ الرَّدَّ لأنَّ كلَّ ما قيل هناك مِن جُمَل مُلَفَّقة وغير منسجمة بعضُها مع بعض عَمَّا قاله لم يكن حتَّى صحيحًا. لِذا، ما الَّذي كان سيقوله؟ لذا فقد وقف هناك وتَرك صَدى كلماتهم الغبيَّة يَتردَّد في أرجاءِ تلك القاعة في بيت قَيافا إلى أن أدَّى ذلك إلى إثارة غضبهم الشَّديد. وهو يقول: "ألن تَرُدَّ؟ أَمَا تُجِيبُ بِشَيْءٍ؟ ماذا يقوله هذانِ عنكَ؟ مَاذَا يَشْهَدُ بِهِ هذَانِ عَلَيْكَ؟" وماذا كان الرَّدُّ؟ لا شيء... لا شيء. فقد كان هدوء المسيح في مواجهة غضب قَيافا مُذهلاً. أليس كذلك؟ وكما تَرون، لا يمكن لأيِّ شخصٍ أن يَرى هنا يسوع يَخضَع للمُحاكمة حين تنظرون إلى القصَّة، بل تَرون أنَّهم هُم مَن يَخضعون للمُحاكمة. فيسوعُ لم يكن يَخضع للمحاكمة. فَمِن الواضح مَن هو. أمَّا هُم فكانوا يَخضعون للمحاكمة. وقد أخفقوا إخفاقًا شديدًا كما سنَرى.
لقد وقف يسوعُ بصمتٍ وجلال، وراح يَنظر إلى عَينيِّ قَيافا. ولا شَكَّ في أنَّه كان يُحدِّق في الرِّجال الآخرين المُحيطين به. فلا حاجة إلى الرَّدِّ، ولا حاجة إلى التَّبرير، ولا حاجة إلى الدِّفاع عن النَّفس، ولا حاجة إلى إنكار أيِّ شيء. فقد وقف هناك وَهُوَ عاقِدُ العَزمِ على المِضيِّ إلى الصَّليب عالِمًا أنَّ هذه هي ساعة موته عن خطايا العالَم. فلم تكن هناك حاجة إلى الدِّفاع عن نفسه لأنَه لم تكن هناك تُهمة وُجِّهَت إليه قانونيًّا. لذا فإنَّه يقف هناك بصمت. ونقرأ في العدد 63: "وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ سَاكِتًا". والنَّصُّ اليونانيُّ يقول: "في صمتٍ مُستمرّ". وهذا يعني أنَّهم استمرُّوا في استفزازه. فلا بُدَّ أنَّ قَيافا استمرَّ في مضايقته لكي يقول شيئًا، ولكنَّه بقي صامتًا. وقد قال النبيُّ إشعياء إنَّه عندما سَيَتِمُّ اقتياده إلى المحكمة فإنَّه سيكون "كَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ". فهو لم يَفتح فَاهُ. وكان قَيافا يَعلم أنَّ ذلك الصَّمتَ ليس صَمْت الشُّعور بالذَّنب؛ بل هو صَمتُ البَراءة، وصَمتُ الكرامة، وصَمتُ الجلال، وَصمتُ النَّزاهة، وصَمتُ الثِّقة.
وكان ذلك الصَّمت مُدَوِّيًا ومُحبِطًا بالنِّسبة إليهم. فلم يكن هناك صوتٌ سِوى صَدى كلماتِ شاهِديِّ الزُّور يَتردَّدُ في أرجاء الغرفة. وكان الهواء مشحونًا بالشُّعور بالذَّنب والدَّينونة النَّاجمة عن صمت يسوع. وقد أدَّى انتهاكُهم للعدالة، والكراهية الموجودة في قلوبهم، والشَّرِّ الَّذي تَقطُر به كلماتهم إلى توتيرِ الجَوّ. وكان كلُّ ما يسمعونه هو صَدى كلماتِهم الشرِّيرة. وكانوا يَتمنُّون أن يُمَزِّقَ يسوعُ ذلك الصَّمتَ المؤلم بشيءٍ يمكنهم أن يَدينوه عليه كي يُخفِّفوا مِن شعورهم بالذَّنب. فقد كانوا يرغبون بشدَّة في أن يُمزِّق ذلك الصَّمتَ بكلماتٍ غاضبة يدافع فيها يسوعُ عن نفسه كي يجدوا سببًا مشروعًا لمتابعة هجومهم. ولكنَّه وَبَّخهم بصمته الكامل المُقدَّس.
ثُمَّ إنَّ قَيافا فَقَدَ كلَّ صَبرٍ لديه بعد أن جَرَّبَ كلَّ مكيدة أخرى للشَّهادة وإحضار أشخاص يَشهدون ضِدَّ يسوع. ثُمَّ نقرأ في العدد 63: "فَأَجَابَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ وَقَالَ لَهُ: أَسْتَحْلِفُكَ..."؛ أي: أُناشِدُكَ أن تَحلِفَ أو تُقسِمَ "بِاللهِ الْحَيِّ". وَهُوَ يَستخدم قَسَمًا يمكن وَصفُه بأنَّه أقدس قَسَمٍ يُمكن لليهود أن يَنطقوا به وَهُوَ أن تقول إنَّك تُجيب عن هذا السُّؤال بصدقٍ على أساس أنَّك تُقسم أمام اللهِ الحيِّ؛ أي أمامَ اللهِ الحيِّ الَّذي يَسمعك، أو أمامَ اللهِ الحيِّ الَّذي يُعاقب الكذبة، أو الله الَّذي هو إلهُ الحقّ. "أَسْتَحْلِفُكَ"؛ أي: أدعوك إلى أن تُقسِم باللهِ الحيِّ الَّذي تقف في حضرته "أَنْ تَقُولَ لَنَا: هَلْ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ؟" وَهُوَ يُهاجِمُ يسوعَ هُنا هُجومًا عَنيفًا. فهذا هو ما يريدون مِن يسوعَ أن يقوله لأنَّه (مِن وُجهة نظرهم) إن ادَّعى أنَّه ابنُ الله فإنَّ هذا يعني أنَّه يَدَّعي الألوهيَّة. والادِّعاءُ بالألوهيَّة هو تجديف إن لم تكن الله. فاللهُ وَحدُه يَملِكُ الحَقَّ في ذلك. وقد كان مِن التَّجديف أن يَدَّعي أيُّ شخصٍ أنَّه الله. لِذا فقد أرادوا مِن يسوع أن يُجَدِّف بفمه لكي يكون لديهم سبب لإعدامه لأنَّ الآية لاويِّين 24: 16 تقول: "وَمَنْ جَدَّفَ عَلَى اسْمِ الرَّبِّ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ".
ولكن لم تكن هناك أيَّة جريمة البتَّة. فالجريمة الوحيدة الَّتي استطاعوا أن يُلَفِّقوها هي أنَّه قال إنَّه الله. ولم تكن هذه جريمة لأنَّ تلك هي الحقيقة. لذا دَوِّنوا ما يلي طَوال التَّاريخ: لقد تَمَّ إعدامُ يسوعَ لا لأنَّه قال إنَّه الله ولم يكن صادقًا، بل لأنَّه كان الله الَّذي قال إنَّه هو. فقد استخدمَ قَيافا آخرَ ورقة لديه ووضع يسوعَ تحتَ قَسَمٍ قويٍّ. ويمكنكم أن تقرأوا عن ذلك في سِفْر اللاَّويِّين 5: 1 وسفر الملوك الأوَّل 22: 16: "أَسْتَحْلِفُكَ بِاللهِ الْحَيِّ" (أي: أمام الله الحيِّ الَّذي يُعاقب الكَذبة) أن تقول لنا الحقيقة. أوَّلاً، هل أنت المَسيَّا؟ هل أنتَ المَسيَّا المَوعود؟ المَلِك المَوعود؟" فكما تَعلمون، لقد قال إنَّه المَسيَّا. ففي إنجيل لوقا 4: 21، قَرأَ النَّصَّ المذكور في سِفْر إشعياء في المَجمَع، وَطَوَى السِّفْرَ وَسَلَّمَهُ إِلَى الْخَادِمِ، وَجَلَسَ، وابْتَدَأَ يَقُولُ لَهُمْ: "إِنَّهُ الْيَوْمَ قَدْ تَمَّ هذَا الْمَكْتُوبُ فِي مَسَامِعِكُمْ". بعبارة أخرى، أنا هو المَسيَّا. أنا هو ذاك الَّذي تَحدَّثت عنه الأسفار المُقدَّسة.
وقد التقى المرأة السَّامريَّة فقالت: "أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ المَسيَّا يَأتِي". فقال: "أَنَا الَّذِي أُكَلِّمُكِ هُوَ". فقد قال بصراحةٍ شديدةٍ ووضوحٍ شديد إنَّه المَسيَّا المَمسوح والموعود به، وإنَّه مُحَرِّر ومُخلِّص إسرائيل. فهو لم ينكر ذلك، بل أكَّد ذلك. وحقيقة أنَّ قَيافا طَرح هذا السُّؤال تشير إلى أنَّهم كانوا يَعلمون أنَّ ذلك صحيح. وعندما دَخل مدينة أورُشليم في إنجيل مَتَّى والأصحاح 21، نَقرأ أنَّهم قالوا: "أُوصَنَّا لابْنِ دَاوُدَ! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ". فكلُّ تلك كانت ألقابًا مَسيحانيَّة وصِفات مَسيحانيَّة. أجل، لقد كان مِن الواضح أنَّه قال إنَّه المَسيَّا. ولكنَّه لم يَتَباهى بذلك. فهو لم يقل ذلك بغرور أو مُبالغة لئلاَّ يُسَبِّب مشاكل خِلافًا لخُطَّة الله. ومع أنَّه قال إنَّه المَسيَّا بألفاظٍ مؤكَّدة (كما هي الحال مَثلاً في إنجيل مَتَّى 16: 20) فإنَّه قال لتلاميذه: "لا تُخبروا أحدًا أنَّني المسيح أو المَسيَّا". بعبارة أخرى، لقد كان يتجنَّب الخَطر، ويَتجنَّب التَّهديدات، ويَتجنَّب أيَّ شيءٍ قد يحدث عندما يَنزعج النَّاسُ مِن ادِّعاءٍ كهذا. لذا مع أنَّه قال ذلك فإنَّه قاله بطريقة حذرة.
كذلك، لقد كانوا يَعلمون أنَّه قال لا فقط إنَّه المَسيَّا (مع أنَّه قال ذلك في الخَلفيَّة)، بل قال أيضًا إنَّه ابنُ الله. لِذا فقد سألهُ قَيافا: "هل أنتَ ابنُ الله؟" وما الَّذي قَصَده بذلك؟ هل قَصدَ أنَّه مُجرَّد وَلَدٌ مِن أولادِ لله؟ أو أنَّه خَليقة أخرى مِن خلائق الله؟ لا، بل قصد اللاَّهوت. وإلاَّ لماذا دَعَوْا ذلك تجديفًا؟ فلو أنَّه قَصد وحسب أنَّه ابنُ الله كما أنَّ أيَّ شخصٍ آخر هو ابنٌ للهِ طَالما أنَّه يُحِبُّ اللهَ، أو كما أنَّ أيَّ شخصٍ آخر هو ابنُ الله طَالما أنَّ الله هو الَّذي خَلقه بقدرته. فلو أنَّه قَصدَ ذلك فقط لما كان هناك أيُّ تجديفٍ بقوله إنَّه كذلك. ولكنَّ ما قَصدهُ هو ما قَصَدهُ المسيح. أجل، فعندما قال إنَّه ابنُ اللهِ قَصَدَ أنَّه مُساوٍ لله. فالآبُ والابنُ هُما نفسُ الجوهر ونفسُ الطَّبيعة. وعندما قال يسوعُ إنَّه ابنُ الله، كان يقصد أنَّه واللهُ واحد: "أنا والآبُ واحد". وقد قال ذلك المَرَّة تِلو المَرَّة. اقرأوا إنجيل يوحنَّا. فواحدٌ مِن الأشياء الَّتي كَرَّرها يسوعُ دائمًا وباستمرار هو أنَّه ابنُ الله. وهو يقصد بذلك أنَّه اللهُ الظَّاهر في جسدٍ بشريٍّ، وأنَّه مُساوٍ لله مِن كلِّ ناحية. والحقيقة هي أنَّ اليهود قالوا في إنجيل يوحنَّا 19: 7: "يَجِبُ أَنْ يَمُوتَ لأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ ابْنَ الله".
لِذا، هذه هي الأشياء الَّتي كان قَيافا يَعلم أنَّ يسوعَ قالَها: أنَّه المَسيَّا، أي المَسيح، وأنَّه المَلكُ الآتي ورئيسُ وقاضي إسرائيل. ولا شَكَّ أنَّ هذا كان تهديدًا لحُكمهم ولمنصبه بصفته رئيس كهنة. كذلك، أنَّه قال إنَّه ابنُ اللهِ الحيّ. فلا يمكن لأيِّ شخصٍ أن يقول ذلك (حتَّى ولو بطريقة حَذِرة) مِن دون أن يَنتشر الخبرُ كالنَّار في الهَشيم. وقد أراد أن يَسمع مِن فمه ما يُؤكِّد تلك الأقوال التَّجديفيَّة كي يَجِد سببًا لإعدام يسوع. وكما تَعلمونَ، إن وُضِعَ يسوعُ تحتَ القَسَمِ باللهِ الحيِّ فإنَّه سيُجيب. وهو يَفعل ذلك في العدد 64. "قَالَ لَهُ يَسُوعُ: أَنْتَ قُلْتَ!" أنتَ قُلتَ ذلك. ويُضيفُ مَرقُس أنَّ يسوعَ قالَ أيضًا: "أَنَا هُوَ" (في إنجيل مَرقُس 14: 62). أنتَ قُلتَ ذلك. أنا هو. أنا هو المَسيَّا المَمسوح. أنا هو ابنُ الله. أُقسِم باللهِ الحَيِّ أنِّي هو. فقد أقسمَ باللهِ الحَيِّ أنَّ هذا صحيح. ولا يوجد وقت ينبغي أن يَتوخَّى فيه أيُّ شخص فيما يقول أكثر مِن هذا. فهو الوقتُ الَّذي سيموتُ فيه. وَهُوَ الوقتُ الَّذي ينبغي فيه أن يُفْصِحَ عن ذاته. وهو الوقتُ الَّذي ينبغي فيه أن يُصارِحهم بكلِّ شيء. وهو يُعلن أنَّه المسيح. وهو يُعلن أنَّه اللهُ دون تَردُّد.
ثُمَّ إنَّه يَقولُ الزُّبدة. فهو يَقتبس ما جاء في سِفْر دانيال 7: 13 و 14؛ وهي واحدة مِن أعظم وأشهر النُّبوءات عن المسيَّا: "وَأَيْضًا أَقُولُ لَكُمْ..."، وَهُوَ يَقتبس هنا هذه النُّبوَّة مِن سِفْر دانيال 7: 13 و 14 عن المَسيَّا: "مِنَ الآنَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ، وَآتِيًا عَلَى سَحَاب السَّمَاء". ويا له مِن تصريحٍ مُدهش! فهو يقول: أجل، أنا هو الله. وسوف تُبصرونَني قريبًا جالسًا عن يَمين القُوَّة (حَرفيًّا: القُوَّة بحسب النَّصّ)؛ وهي لَفظة تُشيرُ إلى الله. سوف تُبصرونَني جالسًا عن يَمين الله، وآتياً ذاتَ يومٍ على سَحابِ السَّماء. وَهُوَ يتحدَّث هنا عن حقيقة أنَّه سيَصعَد ويُتَوَّج، وأنَّه سيعود إلى الأرض بصفته الدَّيَّان والملك لكي يُؤسِّس مملكته الأبديَّة. ويا له مِن تَصريح. أنا هو ذاك الَّذي تَحدَّث عنه دانيال. فعندما تَحدَّث عن كيف أنَّ المَسيَّا سيأتي ويَصعد، وعن كيف أنَّ المسيَّا سيَجلس عن يَمين الله، وعن كيف أنَّ المَسيَّا سيأتي على سَحاب المجد، كان يتحدَّث عنِّي. "مِنَ الآنَ..." لاحظوا ما يَلي [ضَعوا خَطًّا تحت ذلك]: "...تُبْصِرُونَ". سوف تُبصرون ذلك.
بعبارة أخرى، يا قَيافا، هذه ليست المَرَّة الأخيرة الَّتي ستَراني فيها. فسوف تَراني مَرَّةً أخرى. فسوف تَراني عندما آتي على سَحاب المجد بصفتي دَيَّانَ كُلِّ الأرض. وسوف تَراني عند العرش العظيم الأبيض عندما أدعو مِن القبور كلَّ الَّذينَ عاشوا ورفضوني أنا وأبي، وعندما أصيرُ دَيَّانًا أبديًّا لك. هذه ليست المَرَّة الأخيرة. فسوف تُبصرونَني مِن الآن جالسًا عن يمين الله. وسوف آتي بقوَّة ومجد بصفتي المَلِك المَمسوح والدَّيَّان. أجل، أنا هو المَسيَّا. أجل، أنا هو ابنُ الإنسانِ وابنُ الله. وَهُوَ يَدعو نفسَه هنا: "ابنُ الإنسان" لأنَّ هذه هي العبارة المُستخدمة في نُبوَّة دانيال، ولأنَّ هذا هو اللَّقَب الشَّائع الَّذي كان يُطلَق عليه. فهو ابنُ الإنسانِ، وابنُ اللهِ. فَهُوَ إنسانٌ كاملٌ، وإلهٌ كامل. لذا فقد دَانَ نَفسه [في نَظرهم] بكلماته. وهذا غيرُ عادلٍ وغير قانونيّ.
وَهُم يقولونَ إنَّه دَانَ نفسه بنفسه مِن خلال تَجديفِه هذا. فقد تَجرَّأَ على الادِّعاء بأنَّه تَمَّمَ بنفسه ما جاء في سِفْر دانيال 7: 13 و 14؛ أي أنَّه مُعادل لله، وأنَّه سيجلس عن يمين الله. ولكنَّ هذا كانَ بِحَقّ صحيحًا تمامًا. ونحن نقرأ في الرِّسالة إلى العِبرانِيِّين والأصحاح الأوَّل أنَّ يسوعَ المسيح هو رَسْمُ جَوهر الله، والمُمَثِّلُ الكامِلُ لله. وعندما أَكملَ عمله، جَلَسَ فِي يَمِينِ الْعَظَمَةِ فِي الأَعَالِي، وأنَّه سيأتي ذاتَ يومٍ (كما يقول الكتاب المقدَّس) بمجدٍ عظيمٍ على سَحابِ السَّماء كما جاء في إنجيل مَتَّى 24: 30، وفي إنجيل مَتَّى والأصحاح 25 إذْ إنَّه كان قد قال ذلك أصلاً. لِذا فإنَّ يسوعَ يقول: "سوف أذهبُ حال مَوتي لأكون في حضرةِ اللهِ لتمجيدي. وسوف أبقى جالسًا في يمين الله بصفتي مَلِكًا وحاكمًا". وقد كانت اليدُ اليُمنى تُشيرُ إلى القُدرة والمجد. وسوف آتي ثانيةً بمجد. والأشخاصُ الَّذينَ يَدينون المسيحَ الآن سيُدانون في يومٍ مَا مِن قِبَلِه. فسوف تَنقلبُ الحال.
لذا فقد أدَّت إدانة المسيح غير العادلة وغير القانونيَّة استِنادًا إلى كلماته، أَدَّت في العدد 65 إلى نَتيجة غير قانونيَّة وغير عادلة. "فَمَزَّقَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ حِينَئِذٍ ثِيَابَهُ قَائِلاً: قَدْ جَدَّفَ! مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إِلَى شُهُودٍ؟" فقد أَخَلَّ بكلِّ ذلك النِّظام المُختصّ بالشُّهود. "تجاهلوا ذلك. انظروا! هَا قَدْ سَمِعْتُمْ تَجْدِيفَهُ!" وهل كان ذلك تجديفًا؟ هل قَول يسوع إنَّه الله تجديفًا؟ لقد كان إمَّا تَجديفًا وإمَّا ليس تَجديفًا. ولكنَّه لم يكن تجديفًا لأنَّ ما قاله كان صحيحًا. أليس كذلك؟ لقد كان صحيحًا. ولكنَّ رئيسَ الكهنة لم يكن راغبًا في معرفة الحقّ. وَهُوَ لم يكن راغبًا في التحقُّق مِن ذلك. ففي إنجيل يوحنَّا 10: 37-39، قال يسوع: "إن لم يكن كلامي مُقنعًا لكم، انظروا إلى أعمالي. فلا بُدَّ أن تُبرهن لكم على مَن أكون". وقد قالوا إنَّه كان يَصنع المعجزات. وكانوا يَعلمون أنَّه أقام لِعازَر مِن الموت. فلا شَكَّ البتَّة في ذلك. فقد كانوا يَعلمون أنَّ لِعازَر كان مَيتًا، وكانت هناك جَنازة، وكانوا يَعلمون أنَّه عاد إلى الحياة. ولكنَّهم لم يكونوا يرغبون في معرفة الحقّ. فقد أغلقوا أذهانهم أمام الحقِّ خوفًا منه. وهناك أشخاصٌ يُشبهونهم اليوم إذ إنَّهم يَرفضون المسيح لا لأنَّهم فَحصوه ووجدوا أنَّ أقوالَه غير صحيحة، بل لأنَّهم يخافون مِن فحص الأمر لأنَّه سيَقلِب حياتَهم ويَكشفهم على حقيقتهم. وَهُم يُفضِّلون الذَّهاب إلى جَهنَّم وَهُم مُصابون بالعَمى على أن يَكتشفوا الحقيقة! وهذا أمرٌ عَجيب!
لذا فإنَّه يَفعل ما كان يَحِقُّ لرئيس الكهنة أن يَفعله. فبحسب ما جاء في سِفْر اللاَّويِّين 21: 10، لم يكن يَحِقُّ لرئيس الكهنة أن يُمَزِّق ثِيابَه على حُزنٍ شَخصيٍّ، ولكن كان يُتوقَّع منه أن يُمَزِّق ثيابه عندما يُجَدَّف على الله. لذا فإنَّه يَتظاهر بالحُزن. فهو ليس حزينًا. فهو لم يكن حزينًا بسبب التَّجديفِ على اسمِ الله، بل إنَّه كان سعيدًا لأنَّ يسوعَ سيُعدَم الآن. فهو فَرِح، ولكنَّه يَتظاهر بالحُزن. وهذا كُلُّه كان تَمثيلاً. وَهُوَ يَفعل شيئًا تاريخيًّا قديمًا كان شائعًا بين النَّاس في القديم. فعندما كانوا يَرغبون في التَّعبير عن الأسى أو الحزن أو الكَرب أو المَشقَّة أو العواطف الجَيَّاشة، كانوا يُمَزِّقون ثيابهم. وحتَّى إنَّ التَّلمودَ (Talmud) يقول إنَّ القضاةَ الَّذينَ يَسمعون أحيانًا كلامَ تَجديف يَحِقُّ لهم أن يُمزِّقوا ثيابهم وأن يَخيطوها ثانيةً. وربَّما كانت هذه المجموعة تَرتدي ثِيابًا مُزِّقَت مَرَّاتٍ عديدة لأنَّهم تَظاهروا مِرارًا بهذا النَّوع مِن الحزن مِن قَبل. ولكنَّ رئيسَ الكهنة مَزَّقَ ثيابه وقال: "قَد جَدَّفَ". وقد أرادَ في الظَّاهر أن يبدو بأنَّه يدافع عن قَداسة الله، ولكنَّه كان في الدَّاخل فَرِحًا بالتخلُّص مِن يسوع المسيح بِغَضِّ النَّظر عَمَّن يكون. لذا فإنَّه يقول: "مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إِلَى شُهُودٍ؟ لقد سَمعتم ذلك بأنفسكم. هذا تَجديف. وكانت تلك هي نهاية المحاكمة.
هذه هي النِّهاية. فلم يوجد أيُّ شخصٍ يَشهد لأجل يسوع. ولم يوجد أيُّ دليلٍ على أيِّ شيء. ولم يوجد بُرهانٌ على أنَّه لم يكن حقًّا ابنُ الله. هذه هي النِّهاية. وَهُوَ يقول في العدد 66: "مَاذَا تَرَوْنَ؟" لِنَحكُم عليه. "فَأَجَابُوا وَقَالوُا: «إِنَّهُ مُسْتَوْجِبُ الْمَوْتِ»". وقد ابتدأوا جميعًا يَصرخون. وهذا لا يَنسجم مع الأعراف القَضائيَّة البتَّة. فأين هو الكَاتِب الَّذي يُدَوِّن المَحضَر؟ وأين هو الشَّخص الَّذي يُحصي الأصوات المؤيِّدة لِحُكم الإعدام والأصوات الرَّافضة لذلك؟ وأين هي الفترة الفاصلة بين كلِّ شخصٍ وآخر يُدلي صَوتَهُ، مع وجود فترة فاصلة بين الواحد والآخر كي يَعلم كلُّ قاضٍ خطورة قراره؟ إنَّها مَهزلة. فَهُم مُجرَّدُ رُعاعٍ غاضِبين يَصرخون مُطالبين بقتله. فلا توجد عدالة... البتَّة. ولا يوجد تصويت. فهو حُكْمُ الغَوغاء. إنَّهُ مُستوجبُ الموت. إنَّه مُجَدِّف. وبالمناسبة، نقرأ في إنجيل مَرقس 14: 64 أنَّ الحُكمَ كانَ جَماعيًّا. فقد صَوَّتوا جميعًا مُطالبين بإعدامه. فقد تَجاهلوا عمليَّة التَّصويت الدَّقيقة المألوفة. ولم يكن هناك كَتَبَة يُدَوِّنون المَحضَر. فهو حُكْمُ الغَوغاء وحَسب. وكان قانون "المِشنَه" (Mishnah) يقول إنَّه يجب عليك أن تُؤجِّل التَّصويت لإصدار حُكمٍ بالإعدام يومًا واحدًا. يجب أن تُؤجِّل الإعدام. ولكن لا! فقد أرادوا أن يُعدموه سريعًا.
وهناك ملاحظة أخيرة. فقد رأينا المواجهة غير القانونيَّة وغير العادلة، وانعقاد المحكمة، والمؤامرة، والإدانة، والنَّتيجة. وأريد أن أريكم شيئًا آخر. وهذا سيُريكم حقًّا أين كانت قُلوبُهم: السُّلوك غير القانونيّ وغير العادل. انظروا كيف تَصرَّفوا. فهذه هي المَحكمة العُليا في إسرائيل. اسمعوني، يا أحبَّائي: لقد كانت هذه هي الأرستقراطيَّة الدِّينيَّة في اليهوديَّة. فنحن نقرأ في العدد 67: "حِينَئِذٍ بَصَقُوا فِي وَجْهِهِ وَلَكَمُوهُ، وَآخَرُونَ لَطَمُوهُ قَائِلِينَ: «تَنَبَّأْ لَنَا أَيُّهَا الْمَسِيحُ، مَنْ ضَرَبَكَ؟»". هذه هي الأرستقراطيَّة اليهوديَّة. فها هُم رئيسُ الكهنة، والشُّيوخ، ورؤساء الكهنة، والكتبة. وكان ينبغي أن تكون هذه نُخبة جميع القادة الَّذينَ اجتمعوا معًا لعقد المحكمة العُليا. وهذا أمرٌ لا يُصَدَّق! ولكي أُريكم إلى أيِّ مَدى كانوا تحت سيطرة شياطين جَهنَّم، نقرأ في إنجيل لوقا 22: 65: "وَأَشْيَاءَ أُخَرَ كَثِيرَةً كَانُوا يَقُولُونَ عَلَيْهِ مُجَدِّفِين". لاحظوا ذلك. "وَأَشْيَاءَ أُخَرَ كَثِيرَةً كَانُوا يَقُولُونَ عَلَيْهِ مُجَدِّفِين". اسمعوني: إنَّ المُجَدِّف هنا هو ليس يسوع. فالمُجدِّفون هُم بقيَّة هؤلاء الأشخاص جميعًا. فقد قال يسوعُ إنَّه الله. وهذا ليس تجديفًا، بل هي الحقيقة. أمَّا البَصْقُ في وجه اللهِ فهذا تَجديف. إنَّه تجديفٌ مِن نوعٍ لا يَستوعبُه أيُّ عقل البتَّة.
ونقرأ أيضًا في أناجيل أخرى أنَّهم كانوا يُغَطُّونَ وَجْهَهُ وَيَلْكُمُونَهُ وَيَقُولُونَ لَهُ: ’مَن ضَربكَ؟ إن كنتَ المَسيَّا أخبرنا مَن ضَربك‘". وهذا مُريعٌ حقًا. فبالنِّسبة إلى اليهود، كانت أقوى علامة على الازدراء هي البَصْق (كما جاء في سِفْر العدد 12: 14 وسفر التَّثنية 5: 29). والحقيقة هي أنَّه حتَّى هذا اليوم، هناك قَبر في وادي قدرون يُعرَف بقبر أبشالوم. ولا شَكَّ في أنَّ الشَّعبَ اليهوديَّ كان يَكره منذُ وقتٍ طويلٍ ذِكرى أبشالوم لأنَّ أبشالوم كان ابن داود الَّذي خانَ أباهُ وحاول أن يَقتُل أباهُ. وداودُ مَحبوبٌ مِن الشَّعب اليهوديِّ. وَهو مَحبوبٌ حقًّا. وعندما يَمُرُّ أيُّ شخصٍ بجانب قبر أبشالوم حتَّى هذا اليوم [إن كانَ أمينًا للتَّقليد اليهوديِّ] فإنَّه يَبصُق على قبر أبشالوم. وهذه علامة على الازدراءِ والكَراهِيَة. وقد بَصَقوا في وجه الله... في وجه يسوعَ المسيح الحَبيب.
وهناك أشخاصٌ آخرونَ لَكَموه (وهي الكلمة "إيكولافيسان" – “ekolaphisan”)؛ أي ضَربوه بقبضة يدهم. فقد لَكموهُ حَرفيًّا كما لو كان كيسَ مُلاكمة. وهناك أشخاصٌ صَفعوهُ بِراحَةِ أيديهم، وسَخروا منه، وهَزئوا بلاهوتِه المَزعوم قائلين: "أخبرنا بعد أن وضعنا هذا الثَّوبَ على رأسك: مَن ضَرَبك؟" ثُمَّ إنَّ إنجيل مَرقس يُلَمِّحُ إلى أنَّه عندما انتهى السِّنهدريم مِن لُعبتهم تلك، ومَلُّوا منها، سَلَّموهُ إلى حَرس الهيكل الَّذينَ استمرُّوا في صَفعِه والقيام بالشَّيء نفسه. وأريد منكم أن تَعلموا أنَّ الأُمَّة كلَّها كانت فاسدة. فهي لم تكن سوى جُثَّة مُتعفِّنة تنتظر أن يَلتَهِمَها النَّسرُ الرُّومانيُّ. وقد حدث ذلك بعد وقتٍ قصيرٍ جدًّا (في سنة 70 ميلاديَّة). فَهُم مَجموعة مِن الأشخاص الَّذينَ تَخَلَّوا عن كلِّ حِسٍّ بالفضيلة والصَّلاح والقداسة. وأنا أقصد أنَّنا نَعرفُ ذلك الوَجه الَّذي بَصَقوا عليه. فهو وَجهُ ذاكَ الَّذي ابتسمَ في وجهِ حُشودٍ غفيرةٍ مِن النَّاس وعَلَّمَهم أن يُحبُّوا أعداءَهم. وهو وَجهُ ذاكَ الَّذي كان يَبتسم دائمًا عندما يَأتي إليه طفل. وهو وجهُ ذاك الَّذي كان يَتهلَّل بكلِّ نِعمة عندما يصيرُ أيُّ خاطئٍ قِدِّيسًا. وهو وجهُ ذاك الَّذي يَعكِس قلبَ اللهِ المُحبّ. لِذا فإنَّه أمرٌ لا يَتخيَّلُه عقل. فالتَّجديفُ كان مُرَوِّعًا... ومؤلمًا جدًّا.
ولكنَّكم تَفهمون الصُّورة هنا. أليس كذلك؟ فهذا الأمرُ بأسره لم يكن سوى مؤامَرة. فأنتم تَرون هنا عددًا مِن القادة الدينيِّين الَّذينَ يتظاهرون بأنَّهم يَعرفون اللهَ، ولكنَّ حقيقة الأمر هي أنَّه عندما يأتي اللهُ إليهم فإنَّهم يَبصُقون عليه. فَهُم بَعيدون كلَّ البُعد عن الحقِّ. لذا فإنَّهم يَتظاهرون بالتَّقوى الشَّديدة مِن أجل الحفاظ على نُفوذهم وهَيبتهِم ومكانتهم، ومِن أجل الحفاظ على قِناع التَّقوى المَزعومة الَّتي يَدَّعونها حتَّى إنَّهم عوضًا عن أن يَعرفوا الحقَّ فإنَّهم يَبصُقون على ذاك الَّذي يأتي بالحقِّ إليهم. وَقد تقول: "هذا مُريع! هذا أمرٌ لا يُصَدَّق!" وأنا أقول لكم إنَّ كلَّ شخصٍ حتَّى يومنا هذا، وفي هذا المكان في هذا الصَّباح، يَرفُض يسوعَ المسيح فإنَّه يَقِف مع البَاصِقين. وما أعنيه هو أنَّ هذه هي الحقيقة. "مَنْ لَيْسَ مَعِي فَهُوَ عَلَيَّ".
والسُّخرية في هذا الموقف هي أنَّ أولئك الَّذينَ يُسيئون الحُكم على يسوع سيُدانون بعدالة أمامه في يومٍ مَا. فالأمور ستَنقلب رأسًا على عَقِب. فهُنا نَرى قُضاةً ليسوا سِوى مُجرمين. وَهُم تحت الدَّينونة وسيُدانون بالعدل. ونجد هنا شخصًا قِيل عنه إنَّه مُجرم، ولكنَّه في الحقيقة البريء الَّذي سيَصيرُ الدَّيَّان. فإن أسأتَ الحُكم على يسوعَ المسيح فإنَّه لن يُسيء الحُكم عليك، بل إنَّه سيَدينُك بالحقّ. ونَرى هنا الخَطيئة الَّتي تَجلب الدَّينونة وهي خطيئة عدم الإيمان. فهي خطيئة عدم الإيمان المَعجون بالغُرور، وعدم التَّوبة، والاستقلال، والاكتفاءِ الذَّاتيِّ. وهي خطيَّة العيش مِن دون المسيح، والظَّنّ بأنَّك قد تَتمتَّع بعلاقة سليمة مع الله مِن دونه، وأن أحاول الحفاظ على علاقتي بالله مِن خلال بِرِّي الذَّاتيِّ ومِن دون الوسيط الوحيد. وأنا أنظر إلى هذا المشهد فيَعتريني الذُّهولُ بسبب نِعمة المسيح. فمُحاكمتي العادلة صارت مَشروعةً مِن خلال مُحاكمته الجائرة، والحُكمُ العادِلُ بِحقِّي صار مَشروعًا مِن خلال الحُكمِ الجائِر بِحَقِّه، وإعدامي العادل صَارَ مَشروعًا مِن خلال إعدامِه الجائِر، ودينونتي العادلة صارت مَشروعةً مِن خلال إدانته الجائرة.
وأنا أُوْمِنُ بيسوعَ المسيح. وكلُّ هذا هو مِن أجلي. أليس هذا الأمر رائعًا؟ وما أعنيه هو أنَّه ينبغي للهِ أن يَبصُقَ في وَجهي، وأن يَلكُمني، وأن يَصفعني، وأن يُعدمني، وأن يَدينَني؛ ولكنَّ المسيحَ أخذ مكاني. فقد كنتُ يومًا أسيرًا. فقد كنتُ يومًا أسيرًا لمشيئة الشَّيطان، ولكنَّ المسيحَ صار أسيرًا لكي أصيرَ أنا حُرًّا. وقد كنتُ يومًا مَنبوذًا، ومَتروكًا، ونفسًا ضائعةً مِن دون شَرِكة؛ ولكنَّ المسيح صار مَنبوذًا، ووحيدًا، ومتروكًا مِن خاصَّته لكي أصير أنا إلى الأبد فَردًا في عائلة الله. وقد حُرِمتُ يومًا مِن العاطفةَ والحنانَ؛ ولكنَّ يسوعَ ماتَ مِيتةً مُريعةً فصار رئيس الكهنة المُتعاطِف لأجلي، والَّذي يَفهمني ويَعتني بي. وقد كنتُ يومًا مَلعونًا مِن الله؛ ولكنَّ يسوعَ صارَ لَعنةً لأجلي. وقد كنتُ يومًا شاهدَ زُور إذ كُنتُ أُنكرُ الحقَّ المُختصَّ بالمسيح؛ ولكنَّ المسيحَ احتملَ شُهودَ الزُّور كي يَجعلني خاصَّته. والآن لا يمكن لأيِّ شخصٍ أن يَتَّهمني بأيَّة تُهمةٍ [حتَّى لو كانت صحيحةً] تَقِفَ حائلاً بيني وبين خلاصي. وقد رأيتُ يسوعَ صامتًا مِن أجلي. لِذا، أَلا أَملأُ فَمي بالتَّسبيحِ له؟ وقد كنتُ مَيتًا؛ ولكنَّ يسوعَ ماتَ لكي أَحيا أنا. دعونا نَحني رؤوسَنا حتَّى نُصلِّي:
يا لهُ مِن نَصٍّ حَيٍّ في أذهانِنا يا رَبّ! فنحن نَرى المشهدَ. وهو مَشهدٌ يَصعُب تَخَيُّلُه! يا رَبُّ، أسألكَ وحسب في هذا اليوم أنَّه إن كان هناك أشخاصٌ هنا يَستمعون إلى هذه الرِّسالة ويقفون ويَبصُقونَ في وجه المسيحِ بالرَّغم مِن أنَّهم لا يَفعلون ذلك عن قصد، ولكنَّهم يَرفضونه، ويُسيئون الحُكمَ عليه، أسألكَ أن يَروا خُطورة تلك الجريمة. فالأشخاصُ الَّذينَ يُخطئون في حُكمهم على المسيح، والذين يَحكمون عليه حُكمًا خاطئًا، والذين يُنكرونَ عليه حَقَّه في أن يُطالب بنفوسهم الأبديَّة سيَقفون ذات يوم أمامه فيَحكُم هُوَ عليهم ويُصدر حُكمًا عادلاً بحقِّهم على أساس خطيَّتهم ورفضهم. يا رَبُّ، سوف يَتكرَّرُ هذا المشهدُ؛ ولكنَّ كلَّ شيءٍ سيكونُ مَعكوسًا. لذا، نُصلِّي أن نكون جميعًا مستعدِّين للوقوف أمام المُخلِّص الَّذي سيَقبلنا بمحبَّة ولن يُخرجنا خارجًا حين يأتي بِصفته دَيَّانًا.
فيما تَحنون رؤوسكم في هذه اللَّحظات الخِتاميَّة، هذه كلمة قويَّة جدًّا مُوجَّهة إلينا. إذا كنتَ تقف مع المسيح فإنَّك مَحميٌّ إلى الأبد بمحبَّته ونعمته لأنَّه احتملَ كلَّ هذا لأجلك. أمَّا إن لم تكن قد قَبلتَ يسوعَ المسيح فإنَّك تقف مع الرَّافضين. فمهما كان سُلوكهم بغيضًا مِن وجهة نظرك فإنَّه موقفك أنت أيضًا. فهو رَفض. فهو موقفٌ يقول: "نحن نَرفض يسوعَ المسيح". صَحيحٌ أنَّ درجة العداوة قد تتفاوت، ولكنَّ الرَّفضَ هو نَفسُه. وكذلك ستكونُ الدَّينونة. ولكنَّ المسيحَ يقف بذراعين مَفتوحتين. فقد ماتَ عنك. وقد مات لأجل الأشخاص الَّذينَ بَصَقوا عليه، ولَكَموه، وصَفَعوه. وهو يُرَحِّبُ بأيِّ خاطئٍ لقَبولِ غُفرانِه.

This article is also available and sold as a booklet.