Grace to You Resources
Grace to You - Resource

لِنَفتَح بِتَرَقُّبٍ شَديدٍ على سِفْرِ دانِيال. وأريدُ أن أقرأَ الأعدادَ التِّسعةَ الأولى تَمهيدًا لِرسالَتِنا في هذا المَساء. الأصحاح الأوَّل:

"فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ مُلْكِ يَهُويَاقِيمَ مَلِكِ يَهُوذَا، ذَهَبَ نَبُوخَذْنَاصَّرُ مَلِكُ بَابِلَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَحَاصَرَهَا. وَسَلَّمَ الرَّبُّ بِيَدِهِ يَهُويَاقِيمَ مَلِكَ يَهُوذَا مَعَ بَعْضِ آنِيَةِ بَيْتِ اللهِ، فَجَاءَ بِهَا إِلَى أَرْضِ شِنْعَارَ إِلَى بَيْتِ إِلهِهِ، وَأَدْخَلَ الآنِيَةَ إِلَى خِزَانَةِ بَيْتِ إِلهِهِ.

"وَأَمَرَ الْمَلِكُ أَشْفَنَزَ رَئِيسَ خِصْيَانِهِ بِأَنْ يُحْضِرَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمِنْ نَسْلِ الْمُلْكِ وَمِنَ الشُّرَفَاءِ، فِتْيَانًا لاَ عَيْبَ فِيهِمْ، حِسَانَ الْمَنْظَرِ، حَاذِقِينَ فِي كُلِّ حِكْمَةٍ وَعَارِفِينَ مَعْرِفَةً وَذَوِي فَهْمٍ بِالْعِلْمِ، وَالَّذِينَ فِيهِمْ قُوَّةٌ عَلَى الْوُقُوفِ فِي قَصْرِ الْمَلِكِ، فَيُعَلِّمُوهُمْ كِتَابَةَ الْكَلْدَانِيِّينَ وَلِسَانَهُمْ. وَعَيَّنَ لَهُمُ الْمَلِكُ وَظِيفَةً كُلَّ يَوْمٍ بِيَوْمِهِ مِنْ أَطَايِبِ الْمَلِكِ وَمِنْ خَمْرِ مَشْرُوبِهِ لِتَرْبِيَتِهِمْ ثَلاَثَ سِنِينَ، وَعِنْدَ نِهَايَتِهَا يَقِفُونَ أَمَامَ الْمَلِكِ. وَكَانَ بَيْنَهُمْ مِنْ بَنِي يَهُوذَا: دَانِيآلُ وَحَنَنْيَا وَمِيشَائِيلُ وَعَزَرْيَا. فَجَعَلَ لَهُمْ رَئِيسُ الْخِصْيَانِ أَسْمَاءً، فَسَمَّى دَانِيآلَ «بَلْطَشَاصَّرَ»، وَحَنَنْيَا «شَدْرَخَ»، وَمِيشَائِيلَ «مِيشَخَ»، وَعَزَرْيَا «عَبْدَنَغُوَ».

"أَمَّا دَانِيآلُ فَجَعَلَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ لاَ يَتَنَجَّسُ بِأَطَايِبِ الْمَلِكِ وَلاَ بِخَمْرِ مَشْرُوبِهِ، فَطَلَبَ مِنْ رَئِيسِ الْخِصْيَانِ أَنْ لاَ يَتَنَجَّسَ. وَأَعْطَى اللهُ دَانِيآلَ نِعْمَةً وَرَحْمَةً عِنْدَ رَئِيسِ الْخِصْيَان".

سَوفَ نَتوقَّفُ هُنا. وهذهِ ليسَت نِهاية القِصَّة، بَل هي فقط البِداية. ولكِن إن أردتُم أن تَعرِفوا نِهايتَها، عَليكُم أن تَأتوا في المَرَّةِ القَادِمَة.

نَحنُ نَعيشُ في زَمنِ المُساوَمة. والحقيقةُ هي أنَّني أُوْمِنُ بأنَّهُ مِنَ الوقتِ الَّذي نَبدأُ فيهِ حَياتَنا في العالَمِ فإنَّنا نَتعلَّمُ جَيِّدًا فَنَّ المُساوَمة. فَطوالَ حَياتِنا، نَحنُ نَتعلَّمُ أن نُبدي أَقَلَّ مُقاومةٍ مُمكِنَة. فنحنُ نَتمسَّكُ بقناعَةٍ مُعَيَّنةٍ إلى أن تَقِفَ عَائِقًا في طَريقِ رَاحَتِنا أو طُمأنينَتِنا. ونَحنُ نَلتَزِمُ بمِعيارٍ مُحَدَّدٍ طَالَما أنَّهُ لا يُعارِضُ شَيئًا نَرغَبُ في القِيامِ بِه. وَإنْ استَطَعنا أن نَفعلَ شَيئًا بمُستوى أَدنى قَليلاً مِنْ أفضلِ مَا لَدينا، فإنَّنا نَفعلُه. وَإنِ استَطعنا أن نَغشَّ قَليلاً في المَبادئِ الإلهيَّةِ، أو حَتَّى في المَبادئِ الَّتي نَقولُ إنَّنا نُؤمِنُ بها، فإنَّنا نَفعلُ ذلكَ أيضًا، في حَالاتٍ كَثيرةٍ، إنْ كانَ ذلكَ يُحَقِّقُ أهدافَنا. وَهذا نَهْجٌ شَخصيٌّ جدًّا في الحَياةِ يَنظُرُ إلى الحَياةِ نَظرةً دُنْيَوِيَّةً جدًّا لأنَّنا جَميعًا، نَحنُ الَّذينَ نَعيشُ بتلكَ الطَّريقةِ، نُساوِمُ كَثيرًا.

وَبِصَراحَة، إنَّ النَّفْعِيَّةَ هِيَ المِعيارُ السَّائِدُ في الحَياةِ البَشريَّة. فنحنُ نَعبُدُ الصَّنَمَ الكَبيرَ الَّذي يُسَمَّى: "الذَّرائِعِيَّة". وأعتقدُ أنَّ شِعارَنا اليومَ هُوَ: إنْ كَانَ هَذا الأمرُ مُفيدًا لَكَ، افْعَلْهُ". فَنحنُ نَفْعِيُّونَ أكثرَ مِن أيِّ شَيءٍ آخر. وحيثُ إنَّنا تَخَلَّيْنا في مُجتمعنا اليومَ عَن كُلِّ مِعيارٍ أخلاقِيٍّ، وَفَصَلنا أنفسَنا تَمامًا عنِ المَبادئِ المَسيحيَّة، وَلَم نَعُد نُبالي بالأخلاقِيَّاتِ الكِتابيَّة، وَلَم نَعُد نُبالي بِما يَقولُهُ اللهُ في أغلبِ الأحيان، لَم تَعُد لَدينا سِوى الفَلسفة النَّفْعِيَّة، أوِ الذَّرائِعِيَّة. فَأيًّا كَانَ الشَّيءُ الَّذي يُحَقِّقُ غَايَتَك، وَأيًّا كانَ الشَّيءُ الَّذي يُحَقِّقُ هَدَفَك، وَأيًّا كانَ الشَّيءُ الَّذي يُفيدُكَ في مَسْعَاكَ فإنَّكَ تَفعلُه. لِذا فإنَّنا نَتَخَلَّى بِسُهولةٍ عَن ضَميرِنا، وَنَتَخَلَّى بِسُهولةٍ عن قَناعاتِنا، وَنَتَخَلَّى بِسُهولةٍ عن مَعاييرِنا في سَبيلِ تَحقيقِ غَايَةٍ عَمليَّةٍ مُعَيَّنة. والشَّيءُ المُدهِشُ في هَذا هُوَ أنَّ مُجتمعَنا لا يَشْعُرُ كَثيرًا بِوَخْزِ الضَّمير، وَلا يَشعُرُ كَثيرًا بالذَّنبِ أوِ النَّدَم.

فَنحنُ نَجِدُ أنَّ السِّياسِيِّينَ الَّذينَ يَتَظاهَرونَ بأنَّ مَعاييرَهُم عَالِيَة، والَّذينَ كَانُوا في وَقْتِ تَرشيحِهِم للانتخاباتِ يَجُوبونَ البِلادَ مِن شَرقِها إلى غَربِها ويَتَشَدَّقونَ بهذهِ المَعاييرِ العَظيمَة، نَجِدُهم بَعدَ تَوَلِّيهِم لِمَناصِبِهم يُعَجِّلونَ في المُساوَمةِ على هذهِ المَعاييرِ إنْ كَانت تُحَقِّقُ غَايَاتِهم. وَنحنُ نَجدُ الشَّيءَ نَفسَهُ يَحدُثُ في مَجالِ التِّجارَةِ بَدْءًا مِن كِبارِ رِجالِ الأعمالِ وانتِهاءً بالأشخاصِ الَّذينَ يَعمَلونَ مَندوبي مَبيعاتٍ إذْ إنَّهُم يَفعلونَ الشَّيءَ نَفسَهُ. والمُحَامُونَ، الَّذينَ يَنبغي أن يَكونُوا ضَميرَ أيِّ مُجتَمَعٍ، يُسَاوِمونَ على ضَمائِرِهم إنْ كانَ ذلكَ يُحَقِّقُ غَايَةً مُحَدَّدَةً في حَالاتٍ كَثيرة.

والقَادَةُ في مُختَلَفِ مَجالاتِ الحَياةِ ومُختلفِ الشَّرائِحِ البَشريَّةِ يَفعلونَ الشَّيءَ نَفسَهُ غَالِبًا. فنَحنُ جَميعًا، على اختِلافِنا وَتَنَوُّعِنا، نَتَعَلَّمُ أن نَكذِب، ونَتَعَلَّمُ أن نَغشَّ، ونَتَعَلَّمُ أن نَسرِقَ، ونَتَعَلَّمُ أن نُخفي الحَقَّ، ونَتَعلَّمُ أن نَفعلَ كُلَّ مَا يَلزَمُ لِتَحقيقِ غَايَتِنا. لِذا فإنَّ المُساوَمَةَ تَصيرُ نَهْجَ حَياة.

وعندما نَجِدُ أنفسَنا في مَوقِفٍ يَتطلَّبُ مُواجَهَةً، نَجِدُ أحيانًا أنَّ أعظمَ مَبادِئِنا تَتَوارَى في الخَلفيَّةِ لأنَّنا لا نُريدُ أن نُؤذي مَشاعِرَ أحد، أو لأنَّنا لا نريدُ أن نَكونَ مُزْعِجينَ، أو لأنَّنا نَخافُ في الحَقيقةِ مِن قَولِ مَا نُؤمِنُ به. ورُبَّما كَانَ أوضَحُ مَثَلٍ على ذلكَ في حَياةِ المُؤمِنِ هُوَ أنْ تَجِدَ نَفسَكَ تُشارِكُ في حَديثٍ تَعلَمُ فيهِ أنَّهُ يَنبغي لكَ أن تَتحدَّثَ عَنِ المَسيحِ؛ ولكِنْ خَشْيَةَ أن يُفَكِّرَ فيكَ الآخرونَ تَفكيرًا شِرِّيرًا، أو خَشْيَةَ أن يَسخَرُوا مِنكَ، فإنَّكَ تُبقي فَمَكَ مُغلَقًا وَلا تَقولُ شَيئًا عَنِ المَسيحِ في حينِ أنَّهُ كَانَ يَنبغي لكَ أن تَتحدَّثَ عَنه. وَهَذا في ذاتِهِ مُسَاوَمَة. فَمِنْ أجلِ حِفْظِ مَاءِ وَجْهِنا، ومِن أجلِ تَحقيقِ أهدافِنا الشَّخصيَّةِ فإنَّنا نُساوِم.

وَقد نَجَحَتِ المُساوَمَةُ على المَعاييرِ وَالمُساوَمَةُ على الحَقِّ في التَّسَلُّلِ إلى الكَنيسة. والحَقيقةُ هِيَ أنَّنا سَاوَمْنا مَعَ العَالَمِ مَرَّاتٍ كَثيرةً جدًّا، وَسَاوَمْنا مَعَ العَالَمِ كَثيرًا جدًّا حَتَّى إنَّنا لم نَعُد نُدرِكُ، بِصَراحَة، مَا هِيَ تِلكَ المُساوَمات. فعندما يَخرُجُ العَالَمُ بِشيءٍ مَا فإنَّنا نَلْحَقُ بِه. وَإنْ أرادَ العَالَمُ أنْ يُؤسِّسَ حَركةً غَريبةَ الأطوار فإنَّنا نُقَلِّدُهُم بِتأسيسِ حَرَكَةٍ مَسيحيَّةٍ مُشابِهَةٍ غَريبةِ الأطوار. وإن أرادَ العَالَمُ أن يُؤسِّسَ حَرَكَةً لِمُوسيقا الرُّوك، فإنَّنا سَنُقَلِّدُهم بَعدَ مُدَّةٍ ونُؤسِّسُ حَركَةً مُشابهةً أيضًا. وَإن قَرَّرَ العَالَمُ أنْ يُؤسِّسَ حَركةً لتحريرِ المَرأة، انتَظِرُوا وَحَسْب لأنَّنا سنُؤسِّسُ واحِدَةً.

فَقد صَرَفْنا وَقتًا طَويلاً في المُساوَمَةِ مَعَ العَالَمِ إلى أنْ غَرِقْنا جدًّا في وُجْهَةِ نَظَرِهِ المَادِّيَّةِ، وفي اقتِصادِهِ، وفي نَمَطِ حَياتِهِ حَتَّى إنَّهُ لم تَعُد هُناكَ فُرصةٌ كَبيرةٌ أمامَنا في أنْ نَفهمَ مَعنى الحَياةِ الخَالِيَةِ مِنَ المُساوَمَة. فَنَحنُ نُجاهِدُ في سَبيلِ الانفصالِ عَنِ العَالَم، ولكِنَّنا لا نَستطيعُ أن نُعَرِّفَ مَعنى هذا الانفصالِ لأنَّنا تَعَرَّضْنا لِغَسْل دِماغٍ شَديدٍ مِن قِبَلِ النِّظام.

فَقد قَبِلنا أنماطَ التَّفكيرِ الدُّنيويَّة. وَقد قَبِلنا الأنظمةَ الأخلاقيَّةَ الدُّنيويَّة. وقد قَبِلنا المَواقِفَ الدُّنيويَّة. وفي حَالاتٍ كَثيرةٍ جدًّا قَبِلنا النِّظامَ العَالَمِيَّ الاقتصادِيَّ. فَنحنُ غَارِقونَ تَمامًا فيه. وَقد قَبِلنا أخلاقِيَّاتهُ. وَمَرَّةً أخرى، إنَّنا غَارِقونَ تَمامًا فيه. وَمَعَ أنَّنا نَعلَمُ أنَّ الكتابَ المقدَّسَ يُعَلِّمُ شَيئًا مُحَدَّدًا، إنْ شَعَرنا بأنَّنا نُريدُ أن نَفعلَ شيئًا مَا فإنَّنا نَمضي ونَفعلُهُ بأيَّةِ حَال.

في الآونةِ الأخيرةِ، جَاءَ أشخاصٌ إلينا طَلَبًا للمَشورَةِ لأنَّهُم يَرغَبونَ في الزَّواج. وَلكِنَّنا لم نَجِد أيَّ تَبريرٍ كِتابيٍّ لِزواجِهِم. لِذا فقد قُلنا لَهُم إنَّهُم لا يَمْلِكونَ أيَّ حَقٍّ في الزَّواج. وَهَذا لم يُزعِجُهم. فقد ذَهبوا ببساطَةٍ إلى كَنيسةٍ أخرى مُجاوِرَة وَتَزَوَّجُوا، ثُمَّ جَاءُوا إلى هُنا في الأسبوعِ الَّذي يَلي ذلك.

المَساوَمَةُ هِيَ عَدَمُ القُدرةِ على التَّعامُلِ مَعَ المُعْطَياتِ الكِتابيَّةِ كَما قَصَدَ اللهُ أن نَتعامَلَ مَعَها لأنَّنا مُنْهَمِكونَ جدًّا في التَّفكيرِ في رَغْباتِنا الشَّخصيَّة. لِذا فإنَّنا نَظُنُّ أنَّنا نَحْنُ الأشخاصُ الَّذينَ يَنبغي إرضَاؤُهم، وليسَ الله. وَنَحنُ نَتَعَلَّمُ جَيِّدًا فَنَّ المُساوَمَةِ، وَنَنجَرِفُ وَراءَ أولويَّاتِ العَالَم، وَنَنجَرِفُ وَراءَ وَسائِلِ التَّسْلِيَةِ الَّتي يُقَدِّمُها العَالَم، وَهَلُمَّ جَرَّا.

ولكِنَّ الكتابَ المقدَّسَ يَدعونا إلى فِعْلِ العَكسِ تَمامًا. ويُمكِنُنا أن نَصرِفَ وَقتًا طَويلاً في دِراسةِ هذا الأمرِ مِن وُجهةِ النَّظرِ اللاَّهُوتِيَّة. ويُمكِنُنا أن نُراجِعَ كُلَّ العهدِ القديمِ وأن نَدرُسَ كُلَّ دَعوةٍ مِنَ اللهِ لنا لكي نَنفَصِلَ عَنِ العالَم. ويُمكِنُنا أن نَنظُرَ إلى الأناجيلِ وَنَرى مَا قَالَهُ يَسوع. ويُمكِنُنا أن نَنظُرَ إلى الرَّسائِلِ وَأن نَدرُسَ مَا جَاءَ فيها. ولكِنَّنا لَسنا بِحاجَةٍ حَقًّا إلى القِيامِ بذلك، بَل يَكفي أن نَقولَ إنَّهُ في كُلِّ الكتابِ المقدَّسِ مِن أوَّلِهِ إلى آخِرِهِ فإنَّ كُلَّ مَا يَقولُهُ اللهُ لِشعبِهِ هُوَ أنَّهُ يَجِبُ علينا أن نَعيشَ مُنفَصِلينَ عَنِ العَالَم. فَهذهِ هِيَ كُلُّ رِسالةِ اللهِ إلى شَعبِه.

فَعِندما اختارَ اللهُ أُمَّةَ إسرائيل، وَضَعَ في حَياتِهم اليَوميَّةِ، وفي الطَّريقةِ الَّتي يَرْتَدونَ فيها مَلابِسَهُم، وفي الطَّريقةِ الَّتي يَأكُلونَ فيها، وفي الطَّريقةِ الَّتي يُمارِسونَ فيها أعمالَهُم الرُّوتينيَّةَ اليَوميَّة، وفي تَقويمِهمِ السَّنَوِيِّ، وَضَعَ تَدابيرَ احِترازِيَّةً تَحُوْلُ دُونَ اختِلاطِهِم بالوَثنيِّين. وَقد فَعَلَ الشَّيءَ نَفسَهُ لأجلِ كُلِّ شَعبِهِ. فَنحنُ لَدينا مِعيارٌ لا يُمكِنُ أن يَنسَجِمَ مَعَ العَالَم.

وعلى الرَّغمِ مِن ذلك، مَا أسهَلَ أن نُساوِم! وَما أسهَلَ أن نَتَخَلَّى عَن مَبادِئِنا! وَما أسهَلَ أن نَسمَحَ لِصفاتِنا الشَّخصيَّةِ أن تَتَراجَعَ بسببِ سَعْيِنا إلى إرضاءِ أنفُسِنا تَحتَ ضَغطِ النِّظامِ الَّذي نَعيشُ فيه!

ويَنبغي أن نُذَكِّرَ أنفسَنا في البدايةِ بأنَّ اللهَ إلَهٌ لا يُساوِم. فاللهُ لا يُساوِم البَتَّة على أيِّة ثَوابِت. واللهُ لا يُساوِم البَتَّة على أيَّة مَبادِئ. واللهُ لا يَتَخَلَّى البَتَّة عنِ الحَقِّ في سَبيلِ مَقاصِدَ نَفْعِيَّة. بَلْ إنَّ اللهَ أمينٌ دَائِمًا لِكَلمَتِه. والحَقيقةُ هِيَ أنَّهُ قَال: "قَدْ عَظَّمْتَ كَلِمَتِي عَلَى كُلِّ اسْمِي". بِعبارةٍ أخرى، إنَّهُ يَقولُ: "أنا نَفسي، وَبِطبيعَتي، أُلْزِمُ نَفسي بِكَلِمَتي".

لَقد كُنَّا نَعِظُ في هذا الصَّباحِ عَن مَوضوعِ الصَّلاة. والصَّلاةُ مُهِمَّة. ولكِنِّي سأقولُ لكُم شَيئًا أكثر أهميَّةً مِنَ الصَّلاة وَهُوَ: دِراسَةُ الكَلِمَة. لأنَّكَ إن لم تَدرُس كلمةَ اللهِ، لَن تَعرِفَ كيفَ تُصَلِّي لأنَّكَ لن تَعرِفَ مَا هِيَ مَشيئةُ الله. لِذا فإنَّ دراسةَ كلمةِ اللهِ أَهَمُّ مِنَ الصَّلاة. وَقد أخبرَني شَخصٌ في هذا الصَّباحِ بأنَّ أحدَ قِدِّيسي اللهِ القُدَماء قَالَ إنَّهُ لَوْ كُتِبَ لَهُ أن يَعيشَ هذهِ الحَياةَ مَرَّةً أخرى فإنَّهُ سيُصَلِّي أَقَلَّ ويَدرُسُ الكلمةَ أكثر لأنَّ ذلكَ سيُمَكِّنُهُ مِنَ التَّخَلُّصِ مِنَ الصَّلواتِ الَّتي لا ضَرورةَ لَها.

فالكلمةُ هِيَ أساسُ نَزاهَةِ حَياةِ المُؤمِن. واللهُ القُدُّوسُ يُعَظِّمُ كَلِمَتَهُ على كُلِّ اسْمِهِ وَيُلزِمُ نَفسَهُ بتلكَ الكلمةِ ذَاتِها. وبِصِفَتِنا أولادًا لَهُ، يَجِبُ عَلينا أن نَفعلَ الشَّيءَ نَفسَهُ.

وَأريدُ وَحَسْب أن أُشارِكَ مَعَكُم مَقطَعًا واحِدًا مِنَ الرِّسالةِ الثَّانيةِ إلى أهلِ كُورِنثوس والأصحاحِ السَّادِسِ قَبلَ أن نَتأمَّلَ في سِفْرِ دَانِيال، ثُمَّ مَقطعًا آخرَ مِنَ الرِّسالةِ إلى العِبرانِيِّينَ لكي أُعطيكُم فِكرةً عن ذلك. ففي رِسالةِ كورِنثوسَ الثَّانية 6: 17، أعتقدُ أنَّكُم تَجِدونَ مُلَخَّصًا لِما يُعَلِّمُهُ العهدُ الجديدُ عن هذا النَّوعِ مِنَ الانفصال. فَهُوَ يَقولُ: "لِذلِكَ اخْرُجُوا مِنْ وَسْطِهِمْ...". والعِبارَةُ "مِنْ وَسْطِهِم" تُشيرُ إلى الأشخاصِ الوَثَنِيِّينَ، والأشخاصِ الَّذينَ يَتْبَعونَ الشَّيطانَ، والكَافِرينَ، والأَثَمَة، والَّذين يَعيشونَ في الظُّلمةِ، والأشخاصِ الَّذينَ لم يَختَبِروا التَّجديد. "اخْرُجُوا مِنْ وَسْطِهِمْ وَاعْتَزِلُوا، يَقُولُ الرَّبُّ. وَلاَ تَمَسُّوا نَجِسًا فَأَقْبَلَكُمْ، وَأَكُونَ لَكُمْ أَبًا، وَأَنْتُمْ تَكُونُونَ لِي بَنِينَ وَبَنَاتٍ، يَقُولُ الرَّبُّ، الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ".

والآن، اسمَعوني: إنَّ اللهَ هُوَ الإلَهُ المُفْرَزُ الَّذي لا يُساوِم. وَهُوَ يَقولُ لِشَعبِهِ أنْ يُظْهِروا حَقًّا أنَّهُم شَعبهُ، وَأنْ يَكونوا أيضًا شَعْبًا مُفْرَزًا وغَيرَ مُساوِم. فعندما نُساوِمُ مَعَ العَالَم فإنَّ ذلكَ يَترُكُ تَأثيراتٍ مُدَمِّرَةً في نِطاقَيْن: أوَّلاً، سَوفَ يُدَمِّرُ عِبادَتَنا (كَما جَاءَ في الرِّسالةِ إلى العِبرانِيِّينَ والأصحاح 13). فعندما نُساوِمُ، وَنَقبَلُ مِعيارَ العَالَمِ، ونَضَعُ مَعاييرَ اللهِ جَانِبًا فإنَّ ذلكَ يُدَمِّرُ عِبادَتَنا.

واسمَحُوا لي أن أُريكُم ذلك. الرِّسالةُ إلى العِبرانِيِّين 13: 12. فَهذهِ آيةٌ رَائِعَة: "لِذلِكَ..." [كَما جَاءَ في الرِّسالةِ إلى العِبرانِيِّين 13: 12] "...يَسُوعُ أَيْضًا، لِكَيْ يُقَدِّسَ [أوْ يُفْرِزَ – فَهذا هُوَ مَعنى الكَلِمَة "يُقَدِّس"]. "لِكَيْ يُقَدِّسَ الشَّعْبَ بِدَمِ نَفْسِهِ..."؛ أيْ لِكَيْ يُفْرِزَهُم عَنِ الخَطِيَّة. "...تَأَلَّمَ خَارِجَ الْبَاب".

بِعبارةٍ أخرى، لَعَلَّكُم تَذكُرونَ أنَّهُ في نِظامِ الذَّبائِحِ في إسرائيل، عندما كَانَ الوَقتُ يَحينُ لِذَبْحِ خَروفٍ عَن خَطايا الشَّعبِ، كانت تِلكَ الخَطايا تُوضَعُ رَمْزِيًّا على حَيَوانٍ آخرَ فَيُؤخَذُ الحَيَوانُ الآخرَ خَارِجَ المَدينةِ، وَخارِجَ البَوَّاباتِ، ويَتِمُّ فَصْلُهُ عَنِ الشَّعب. وَيسوعُ يُوَضِّحُ بِبساطَةٍ فِكرةَ الانفصال. فعندما مَاتَ، مَاتَ خَارِجَ المَدينَةِ، وَخارِجَ الأسوارِ، وَخارِجَ حُدودِ المُجتَمَعِ البَشريِّ. فَقد مَاتَ مُنفَصِلاً "لِكَيْ يَشْتَري شَعْبًا مُفْرَزًا". هذهِ هي النُّقطةُ الجَوهريَّة.

ثُمَّ نَقرأُ في العَدد 13 إنَّهُ حَيثُ إنَّ المَسيحَ فَرَزَ نَفسَهُ لِيَشتري شَعبًا مُفْرَزًا: "فَلْنَخْرُجْ إِذًا إِلَيْهِ خَارِجَ الْمَحَلَّةِ حَامِلِينَ عَارَهُ". بِعبارةٍ أخرى، لِنَحيا حَياةً مُنفَصِلَة. فإنْ كَانَ هُوَ قَد مَاتَ مُفْرَزًا لكي يَشتري شَعبًا مُفْرَزًا، لِنَعِش حَياةً مُفْرَزَةً. "لأَنْ لَيْسَ لَنَا هُنَا مَدِينَةٌ بَاقِيَةٌ، لكِنَّنَا نَطْلُبُ الْعَتِيدَةَ". وبَعدَ أن نَفعلَ ذلك: "فَلْنُقَدِّمْ بِهِ فِي كُلِّ حِينٍ للهِ ذَبِيحَةَ التَّسْبِيحِ".

بِعبارةٍ أخرى، لا يُمكِنُكَ حَتَّى أن تَعبُدَ إلاَّ إذا كُنتَ تَعيشُ حَياةً مُنفصِلَة. فَلا يُمكِنُكَ أن تَأتي إلى اللهِ بِتَسبيحاتِكَ، وَلا بِثَمَرِ شِفَاهٍ مُعْتَرِفَةٍ بِاسْمِهِ، ولا بأعمالِكَ الصَّالِحَةِ، ولا بِمُشارَكَتِكَ، وَلا بِقَرابينِكَ لَهُ إلاَّ إذا كُنْتَ تَعيشُ حَياةً مُنفَصِلَة. هذهِ هِيَ النُّقطةُ الجَوهريَّة. فَقد دُعِينا إلى الانفِصال.

وَقد عَبَّرَ يُوحَنَّا عَن ذلكَ بالطَّريقةِ التَّالية: "لاَ تُحِبُّوا الْعَالَمَ وَلاَ الأَشْيَاءَ الَّتِي فِي الْعَالَمِ. إِنْ أَحَبَّ أَحَدٌ الْعَالَمَ فَلَيْسَتْ فِيهِ مَحَبَّةُ الآب".

وَقد عَبَّرَ يَعقوبُ عَن ذلكَ بالطَّريقةِ التَّالية: "أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّ مَحَبَّةَ الْعَالَمِ عَدَاوَةٌ للهِ؟" فَلا يُمكِنُكَ أن تُحِبَّ العَالَمَ وَأن تُحِبَّ اللهَ. لِذا فقد دُعِينا إلى أن نَحيا حَياةً مُنفَصِلَة. وَإن لم نَنفصِل عنِ العَالَم فإنَّ ذلكَ سيُدَمِّر عِبادَتَنا.

ثَانيًا، إنَّ ذلكَ يُدَمِّرُ خِدمَتَنا. فَهُوَ يُدَمِّرُ خِدمَتَنا. فَلا يُمكِنُنا حِينئذٍ أن نَخدُمَ الرَّبَّ، بَلْ إنَّنا نَصيرُ عَديمي النَّفْع. فَنحنُ نَقرأُ في الرِّسالةِ الثَّانيةِ إلى تيموثاوس 2: 20: "وَلكِنْ فِي بَيْتٍ كَبِيرٍ لَيْسَ آنِيَةٌ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ فَقَطْ، بَلْ مِنْ خَشَبٍ وَخَزَفٍ أَيْضًا، وَتِلْكَ لِلْكَرَامَةِ وَهذِهِ لِلْهَوَان". وَرُبَّما كُنْتَ تُطَبِّقُ ذلكَ الأمرَ حَتَّى في بَيتِك. أليسَ كذلك؟ فهُناكَ الآنِيَةُ القَديمةُ، كَما تَعلَمونَ؛ أيْ تِلكَ الَّتي تُقَطِّعونَ عليها التُّفَّاحَ، أو تلكَ الآنِيَة البلاستيكيَّة، وتلكَ الآنية المُختلفة الَّتي يَستخدِمُها جَميعُ أفرادِ عَائِلَتِك. ولكِن عندما يَزورُكَ شَخصٌ مُهِمٌّ فإنَّكَ تُخرِجُ الآنِيَةَ الجَيِّدةَ فيقولُ الجَميعُ: "لِماذا لا نَستَخدِم هَذِهِ الآنِيَة؟" فَهذا يَحدُثُ في كُلِّ بَيت. وَنَحنُ جَميعًا نَفعلُ ذلك. فَهُناكَ الآنيةُ الَّتي نَستخدِمُها كُلَّ يَومٍ لتَناوُلِ الطَّعامِ، وأدواتِ المَطبخِ، وَهُناكَ الآنِيَةُ الفِضِّيَّةُ الجَيِّدَةُ الَّتي نَحْتَفِظُ بها للمُناسَباتِ الخَاصَّة.

كذلكَ هِيَ الحَالُ مَعَ الله. فَفي بَيتِ اللهِ آنِيَة – "سكيوس" (skeuos)؛ وهي كلمة تُشيرُ إلى أيِّ نَوعٍ مِنَ الآنِيَة. وَهُناكَ آنِيَةٌ للكَرامَة، وآنِيَةٌ للهَوَان. والآن، إن أردتَ أن تَكونَ آنِيَةً يُمكِنُ للهِ أن يَستخدِمَها، يَنبغي أن تُطَهِّرَ نَفسَكَ "مِن هَذِهِ". مِن مَاذا؟ مِنَ المُعَلِّمينَ الكَذَبَة، والتَّعليمِ الزَّائِف، والحَياةِ الزَّائفةِ الَّتي كَانُوا يَعيشونَها. افرِزوا أنفسَكُم عَنِ النَّجاسَة. واهربُوا مِنَ الشَّهَوات. وَتَجَنَّبُوا الأسئلةَ الحَمقاءَ والغَبِيَّةَ الَّتي تُحْدِثُ شِقاقًا. بِعبارةٍ أخرى، افرِزوا أنفسَكُم عَنِ التَّعليمِ البَاطِل، والمَعاييرِ البَاطِلَةِ، وأساليبِ الحَياةِ البَاطِلَةِ؛ وَإلاَّ فإنَّكَ لن تَكونَ إناءً نَافِعًا لِلسَّيِّد.

والآن، يا أحبَّائي، إنَّ مَا أقولُهُ هُوَ التَّالي: اللهُ يَدعونا إلى الانفصال. وَمَا لَم نَحيا حَياةً مُنفصِلَة فإنَّنا نَهْدِمُ عِبادَتَنا، ونَهدِمُ خِدمَتَنا لَهُ. فيجب أن يَكونَ هُناكَ تَطهيرٌ وَأن تَكونَ هُناكَ تَنقِيَةٌ في حَياتِنا.

كانَ هُناكَ قَارِبٌ يَرْسُو في نَهْرِ نَيَاغْرا (Niagara River) ذاتَ مَرَّة. وفجأةً، ولأنَّ المِياهَ كَانت تَندفِعُ بسُرعة، والرِّيحُ تَعصِفُ، وهُناكَ هَيَجانٌ طَفيفٌ في النَّهر، انقَطَعَ الحَبلُ الَّذي يُمسِكُ القَارِبَ بالمَرْفَأ فابتدأَ القارِبُ يَنجرِفُ مَعَ التَّيَّار. وكانَ هُناكَ أشخاصٌ على مَتْنِ القَارِب. وَقد ذُعِرُوا لأنَّ القَارِبَ كَانَ يَنجَرِفُ بسُرعَة نَحوَ شَلالاتِ نَيَاغْرا.

وَراحَ كُلٌّ مِنهُم يَلومُ الآخرَ ويَصرُخُ على الآخر لإلقاءِ اللَّومِ عليهِ لأنَّهُ هُوَ مَن أقنَعَهُ بالصُّعودِ إلى ذلكَ القَارِب، وَهَلُمَّ جَرَّا. وَكانَ بِمَقدورِهم أن يَسْمَعُوا هَدْرَ الشَّلالاتِ الَّتي يَنجَرِفونَ إليها. وَماذا فَعَلَ رُبَّانُ القَارِب؟ لَقد كانَ رَجُلاً عَمَلِيًّا. وبحسبِ مَا ذَكَرَتْهُ صَحيفةُ "كرونيكل" (The Chronicle)، كانَ يُوجَدُ إصْبَعُ مُتَفَجِّرات في قَارِبِه. وقد وَضَعَهُ في مُنتَصَفِ القَارِبِ وَأشْعَلَهُ فَأحْدَثَ الانفِجارُ فُتحَةً كَبيرةً في وَسَطِ القَارِب فابتدأَ القَارِبُ حَالاً في الغَرَق. وحَالَما ابتدأَ القَارِبُ يَغرَق ولم يَعُد يَتحرَّك، تَمَّ إنقاذُ الأشخاصِ الَّذينَ كَانُوا على مَتْنِهِ بَعدَ أن تَشَبَّثُوا بِهِ في المِياهِ الضَّحلَة.

وأعتقدُ أنَّ هَذا هُوَ مَا يَنبغي أن يَحدُثَ في حَياتِنا نَحنُ أيضًا. فَفي نُقطةٍ مَا مِن حَياتِنا نَحنُ المُؤمِنينَ، يَجِبُ علينا أن نُغْرِقَ سَفينةَ المُساوَمَة. ويجبُ علينا أن نُغرِقَ قَارِبَ الدُّنيويَّة؛ وَإلاَّ فإنَّنا سنَجِدُ أنفسَنا نَتحرَّك بسُرعة نَحوَ الهَلاك.

وَهَذا هُوَ مَا يَدعُونا اللهُ إلى القِيامِ به. وَهَذا هُوَ المِعيارُ الَّذي يَنبغي لَنا أن نَعيشَ بِموجِبِه. ولا يُوجَد أحدٌ نَقْتَدِي بِهِ سِوى الرَّبِّ يَسوعَ المسيح. فَنحنُ نَقرأُ في الأصحاحِ السَّابعِ مِنَ الرِّسالةِ إلى العِبرانِيِّين والعَدد 26: "لأَنَّهُ كَانَ يَلِيقُ بِنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ مِثْلُ هذَا..." [اسمَعُوا] "...قُدُّوسٌ بِلاَ شَرّ وَلاَ دَنَسٍ..." [ثُمَّ استَمِعُوا إلى هَذا] "...قَدِ انْفَصَلَ عَنِ الْخُطَاة". فَهُوَ قُدوَتُنا. فَهُوَ قُدُّوسٌ، وَبِلا شَرٍّ، وَلا دَنَسٍ، ومُنفَصِلٌ عَنِ الخُطاة. واللهُ يَدعُونا إلى مِثلِ هَذِهِ الحَياة. واللهُ يَدعونا إلى مِثلِ هَذا التَّكريس.

وَقد أَظْهَرَ مُوسَى هَذا التَّكريسَ للحَياةِ المُنفصِلَة. فنحنُ نَقرأُ في الرِّسالةِ إلى العِبرانِيِّين 11: 26 عَن مُوسَى: "مُفَضِّلاً بِالأَحْرَى أَنْ يُذَلَّ مَعَ شَعْبِ اللهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ تَمَتُّعٌ وَقْتِيٌّ بِالْخَطِيَّةِ، حَاسِبًا عَارَ الْمَسِيحِ غِنًى أَعْظَمَ مِنْ خَزَائِنِ مِصْرَ، لأَنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ إِلَى الْمُجَازَاةِ. بِالإِيمَانِ تَرَكَ مِصْرَ غَيْرَ خَائِفٍ مِنْ غَضَبِ الْمَلِكِ، لأَنَّهُ تَشَدَّدَ، كَأَنَّهُ يَرَى مَنْ لاَ يُرَى". بِعبارةٍ أخرى، لَقدِ اختارَ مُوسَى اللهَ على فِرْعَوْن. وَقدِ اختارَ السَّماءَ على الأرض. وَقدِ اختارَ الفَقْرَ في مَشيئةِ اللهِ على الغِنَى خَارِجَ مَشيئةِ الله. وَقدِ اختارَ مَشيئةَ اللهِ على كُنوزِ مِصْر.

وَقد كَرَّسَتْ رَاعُوثُ نَفسَها بهذهِ الطَّريقةِ أيضًا: "ثُمَّ رَفَعْنَ أَصْوَاتَهُنَّ وَبَكَيْنَ أَيْضًا. فَقَبَّلَتْ عُرْفَةُ حَمَاتَهَا، وَأَمَّا رَاعُوثُ فَلَصِقَتْ بِهَا. فَقَالَتْ: «هُوَذَا قَدْ رَجَعَتْ سِلْفَتُكِ إِلَى شَعْبِهَا وَآلِهَتِهَا. اِرْجِعِي أَنْتِ وَرَاءَ سِلْفَتِكِ»". بِعبارةٍ أخرى، نَحنُ نَقرأُ عَن تَمَسُّكِ رَاعُوث. "ارجِعي إلى حَياتِكَ السَّابقةِ، وارِجعي إلى آلِهَتِكِ الوَثنيَّة". "فَقَالَتْ رَاعُوثُ: «لاَ تُلِحِّي عَلَيَّ أَنْ أَتْرُكَكِ وَأَرْجعَ عَنْكِ، لأَنَّهُ حَيْثُمَا ذَهَبْتِ أَذْهَبُ وَحَيْثُمَا بِتِّ أَبِيتُ. شَعْبُكِ شَعْبِي وَإِلهُكِ إِلهِي. حَيْثُمَا مُتِّ أَمُوتُ وَهُنَاكَ أَنْدَفِنُ. هكَذَا يَفْعَلُ الرَّبُّ بِي وَهكَذَا يَزِيدُ. إِنَّمَا الْمَوْتُ يَفْصِلُ بَيْنِي وَبَيْنَكِ». فَلَمَّا رَأَتْ أَنَّهَا مُشَدِّدَةٌ عَلَى الذَّهَابِ مَعَهَا، كَفَّتْ عَنِ الْكَلاَمِ إِلَيْهَا". فَقد قَالَت رَاعُوث: "لَن أرجِعَ إلى الحَياةِ السَّابقة. فأنا مُكَرَّسةٌ للهِ. وَحيثُ أنَّكِ تُمَثِّلينَهُ، فإنِّي مُلتَصِقَةٌ بِكِ".

وَقد كَرَّسَ دَاوُدُ نَفسَهُ بِذاتِ الطَّريقة. فَنحنُ نَقرأُ في المَزمور 119 أنَّ دَاوُدَ قَال: "حَلَفْتُ فَأَبِرُّهُ، أَنْ أَحْفَظَ أَحْكَامَ بِرِّكَ". وَقَد قَالَ في العَدد 115: "انْصَرِفُوا عَنِّي أَيُّهَا الأَشْرَارُ" – ابتَعِدُوا. "فَأَحْفَظَ وَصَايَا إِلهِي".

فَقد رَفَضَ مُوسَى أن يُساوِم. وَقد رَفَضَتْ رَاعُوثُ أن تُساوِم. وقد رَفَضَ دَاوُدُ أن يُساوِم. وَنَقرأُ عَنْ بَرنابا، رَجُل اللهِ المَحبوب الَّذي نَراهُ في العهدِ الجديدِ ونَرى دَوْرَهُ البَارِزَ جدًّا في حَياةِ الكَنيسةِ الأولى، نَقرأُ عَنهُ في سِفْرِ أعمالِ الرُّسُل 11: 23: "الَّذِي لَمَّا أَتَى وَرَأَى نِعْمَةَ اللهِ فَرِحَ، وَوَعَظَ الْجَمِيعَ أَنْ يَثْبُتُوا فِي الرَّبِّ بِعَزْمِ الْقَلْب". فَقد قَالَ بَرنابا للكنيسةِ الأولى أَلاَّ تُساوِمَ، بَل أن تَلْتَصِقَ بالرَّبّ.

ولكِنَّنا لا نَجِدُ قُدْوَةً تُحْتَذى في عَدَمِ المُساوَمَةِ أفضلَ مِن دَانِيال. لِذا، لِنَنظُر إليه. وبالمُناسَبَة، لا شَكَّ في أنَّ حِزْقيالَ، الَّذي كَانَ مُعاصِرًا لِدَانِيال، كَانَ يَشعُرُ بنفسِ الشُّعورِ لأنَّهُ عِندَما أرادَ أن يَذْكُرَ أسماءَ الرِّجالِ العُظَماءِ والأبرارِ في التَّاريخِ (في سِفْرِ حِزْقيال 14: 14)، فإنَّهُ يَقولُ إنَّهُم: نُوح، وَدانِيال، وأيُّوب. وَهُوَ يَذكُرُ دانيال في الوَسَط مَعَ أنَّ الرَّجُلَيْنِ الآخَرَيْنِ كَانَا قَدْ مَاتَا مُنذُ وَقتٍ طَويلٍ، وَأنَّ دَانيال كَانَ على قَيدِ الحَياة. وَنادِرًا ما يَحصُلُ إنسانُ حَيٌّ على هَذا النَّوعِ مِنَ التَّكريم. فَعادَةً مَا يَحدُثُ ذلكَ بَعدَ وَفاتِه.

لَقد كانَ دَانيال رَجُلاً عَظيمًا، وَرَجُلاً بَارًّا. وَسوفَ نَرى سَببَ ذلكَ في الأعدادِ الثَّمانِيةِ الأولى الَّتي سَنتأمَّلُ فيها في هذا المَساء. فابتداءً مِنَ العَدَدَيْنِ الأوَّلِ والثَّاني، نَجِدُ البَلِيَّة... نَجِدُ البَلِيَّة. وَقد تَأمَّلنا سَابِقًا في هذهِ الآيات. لِذا، لا حَاجَةَ إلى صَرْفِ وَقتٍ طَويلٍ عَليها، بَل يَكفي أن نَقرأها بِسُرعة وَأن نُعَلِّقَ عَليها تَعليقًا أوِ اثْنَيْن.

فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ مُلْكِ يَهُويَاقِيمَ مَلِكِ يَهُوذَا..." [وَقد كانَت يَهُوذا المَملكةَ الجَنوبيَّة]. "...ذَهَبَ نَبُوخَذْنَاصَّرُ مَلِكُ بَابِلَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَحَاصَرَهَا. وَسَلَّمَ الرَّبُّ بِيَدِهِ يَهُويَاقِيمَ مَلِكَ يَهُوذَا مَعَ بَعْضِ آنِيَةِ بَيْتِ اللهِ، فَجَاءَ بِهَا إِلَى أَرْضِ شِنْعَارَ إِلَى بَيْتِ إِلهِهِ، وَأَدْخَلَ الآنِيَةَ إِلَى خِزَانَةِ بَيْتِ إِلهِهِ".

لَقد خَصَّصْنا دَرْسَيْنِ، أو سَاعَتَيْنِ تَعليميَّتَيْنِ على الأقَلّ، للتَّأمُّلِ في هَاتَيْنِ الآيتَيْن. وأريدُ فقط أن أُذَكِّرَكُم بأنَّ السِّفْرَ يَبتَدِئُ بكلماتٍ مُحزِنَةٍ جدًّا. فَما نَجِدُهُ هُنا هُوَ أوَّلُ مَرحلةٍ مِن ثَلاثِ مَراحِلَ في السَّبْيِ البَابِلِيِّ. وكانتِ المَملكةُ الشَّمالِيَّةُ قد سُبِيَتْ مُنذُ وَقتٍ طَويل. والآن، حَانَ دَوْرُ يَهوذا، أيْ بَقِيَّةِ بَني إسرائيل، لأنَّهُم لم يَكونُوا أُمناءَ، بَل كَانُوا عُصَاةً. لِذا فقد حَانَ وَقتُ إدانَتِهم.

فَقد قَامَ نَبُوخَذْنَاصَّر، مَلِكُ بَابِل الَّذي كَانَ في ذلكَ الوَقتِ يَحكُمُ، لِمَقاصِد وَغَاياتٍ عَديدة، ذلكَ الجُزء كُلّه مِنَ العَالَم، قَامَ بِمُهاجمةِ إسرائيلَ أو يَهوذا، وَحَاصَرَها، وَسَبَى أهلَها. لِذا، في هَذِهِ المَراحِلِ الثَّلاثِ مِنَ السَّبْيِ، كانَت أوَّلُ مَرحلةٍ هِيَ تلكَ الَّتي حَدَثَتْ في عَهْدِ يَهُويَاقِيم إذْ تَمَّ سَبْيُ الشَّعبِ إلى بَابِل. لِذا فإنَّ السِّفْرَ يَبتَدِئُ بكلماتٍ مُحزِنَة.

وَلا يَسَعُكُم إلاَّ أن تُفَكِّرُوا في عَددِ المَرَّاتِ الَّتي حَذَّرَ اللهُ فيها الشَّعبَ. فَكَما قُلتُ لَكُم، كانَ اللهُ قَد حَذَّرَهُم بِثلاثِ طَرائِق: أوَّلاً، لَقد حَذَّرَهُم مِن خِلالِ الأنبياءِ الَّذي كَانُوا يُنادونَ باستِمرار بأنَّهُ إن لم يَتوبوا فإنَّهُم سَيُدانون. ثَانِيًا، لَقد حَذَّرَهُم مِن خِلالِ الأشورِيِّينَ الَّذينَ احتَلُّوا بَلَدَهُم وَمَارَسُوا عَليهِم ضَغطًا شَديدًا. وكَانَ اللهُ يُخَلِّصُهُم في كُلِّ مَرَّة. ولكِنَّهُم ذَاقُوا قَليلاً مَرارةَ الوُقوعِ تَحتَ اضطِهادٍ أجنبيٍّ. ولكِنَّهُم لم يُصغُوا إلى الأنبياءِ ولم يَتَعَلَّمُوا شَيئًا مِن مُضايَقاتِ الأشورِيِّينَ لَهُم.

وَأخيرًا، حَذَّرَهُمُ اللهُ مِن خِلالِ وُقوعِ المَملكةِ الشَّمالِيَّةِ في السَّبْي. لِذا، كانَ يَنبغي لَهُم أن يَتَعَلَّمُوا الدَّرسَ بَعدَ أن رَأَوْا مَا حَدَثَ للمَملكةِ الشَّمالِيَّةِ؛ ولكِنَّهُم لم يَتَعَلَّمُوا مِن خِلالِ أيٍّ مِن هذهِ الأشياء، بَلِ استَمَرُّوا في خَطِيَّتِهم. وَقَدْ بَقِيَ اللهُ صَبورًا وَرَحيمًا ومُنعِمًا أطولَ وَقتٍ مُمكِن. ولكِنَّ اللهَ نَفسَهُ الَّذي قَالَ في الأصحاحِ السَّادسِ مِن سِفْر التَّكوين: "لاَ يَدِينُ رُوحِي فِي الإِنْسَانِ إِلَى الأَبَدِ" تَوَقَّفَ عَنِ المُحاولةِ مَعَ يَهوذا وَجَلَبَ عَليهِم الدَّينونَة. لِذا فقد وَقَعُوا في السَّبي.

والآن في المَرحلةِ الأولى، تَمَّ تَرحيلُ دَانيالَ، وَرِفاقِهِ، ومَجموعةٍ أخرى مِنَ الفِتْيانِ كَما هُوَ مُشارٌ إليهِ في هَذا المَقطَع. وَنَحنُ نَلَتقيهِم في العَددِ السَّابِعِ، أوْ بالحَرِيِّ في العَدَدَيْن 6 و7. وَسَوفَ نَصِلُ إلى ذلكَ الجُزءِ بَعدَ قَليل.

ولكِنَّ الفِكرةَ بمُجملِها هي أن نُعِدَّ المَشهَد. فقد تَمَّ سَبْيُ دَانيال. ولكِنَّ الأُمَّةَ كُلَّها لم تَقَعْ بعدُ في السَّبْيِ لأنَّ اللهَ كانَ يُريدُ مِن دَانيال أن يَستقِرَّ هُناكَ قبلَ سَبْيِ بَقيَّةِ الشَّعب. والآن، يُخبِرُنا العَددُ الثَّاني شَيئًا مُدهشًا وَهُوَ أنَّهُ عندما قَامَ نِبوخَذنَاصَّر بِهذا الحِصارِ الأوَّلِ وَهَزَمَ في الحَقيقةِ يَهوياقيم، قَد يَكونُ مِنَ المُدهِشِ أن نُضيفَ هُنا أنَّهُ عندما هَزَمَ يَهوياقيم فإنَّهُ لم يَخْلَعْهُ عَن عَرشِه.

فقد رأى في مَا مَضَى أنَّ المَلِكَ يَهوياقيم كَانَ خَادِمًا مُطيعًا لِفِرْعَوْنَ في مِصْر. لِذا فقد كانَ يَعلمُ أنَّ يَهوياقيمَ شَخصٌ ضَعيفٌ وَأنَّهُ لا خَطَرَ مِن إبقائِهِ هُناكَ، وَأنَّ خَوفَهُ سيَمنَعُهُ مِنَ القِيامِ بأيِّ عَمَلٍ خَطير. لِذا فقد أَبْقَى يَهوياقيم هُناكَ وتَرَكَهُ وَشأنَهُ.

ولكِن لكي يُثْبِتَ نَبوخَذنَاصَّر قُوَّتَهُ، نَهَبَ كُلَّ الآنِيَةِ القَيِّمَةِ مِن بَيتِ الرَّبِّ. فقد نَهَبَ الهَيكلَ حَرفِيًّا، وَأخذَ كُلَّ الأشياءِ القَيِّمة. لماذا؟ لأنَّكَ إنْ كُنْتَ تَستطيعُ أن تَنْهَبَ إلَهَ أو آلِهَةَ أيَّةِ قُوَّةٍ أجنبيَّة، فإنَّكَ تَستطيعُ أن تُثْبِتَ عَظَمَتَك.

فإن لم يَكُن إلَهُهم قَادِرًا على حِمايَتِهم عِوَضًا عَنِ التَّمَسُّكِ بالأشياءِ المَوضوعَةِ في هَيكَلِه، لا حَاجَةَ إلى أن تَخشاه. لِذا، كانَ الغُزاةُ الَّذينَ يَحتَلُّونَ الأُمَمَ يَجمَعونَ كُلَّ ثَرواتِ هَياكِلِ آلِهَةِ تلكَ الأُمَّةِ ويأخُذوها إلى بَلَدِهم لتأكيدِ أنَّهُم أقوى مِنَ الآلِهَةِ الزَّائفةِ أوِ الآلهةِ الأجنبيَّة.

لِذا فقد جَمَعَ نَبوخَذنَاصَّر كُلَّ تلكَ الأشياء. ونَقرأُ أنَّهُ أخذَها إلى بَيتِ إلَهِهِ. وَهُناكَ أسماءٌ كَثيرةٌ لإلَهِهِ حَتَّى إنَّهُ مِنَ المُستحيلِ تَقريبًا أن نَعرِفَ اسمَهُ الحَقيقيَّ. ولكِن يبدو أنَّ الآلِهَةَ الرَّئيسيَّةَ كانت مُرتبطةً بالإلَه "بيل" (Bel) الَّذي يَرتَبِطُ أيضًا بالإلَهِ "بَعْل" (Baal). وَهُوَ يُسَمَّى أحيانًا "مِرودَخ" (Merodach)، ويُسَمَّى أحيانًا "مَردوخ" (Marduk)، وَهَلُمَّ جَرَّا. فَقد كَانُوا عَاجِزينَ عَن تَحديدِ لاهُوتِهم، وَكانُوا يَخلِطونَ الحَابِلَ بالنَّابِل في كُلِّ الأحوال. ولكِن أيًّا كَانَ إلَهُهُ فقد أَدْخَلَ إلى خِزانَةِ بيتِ إلَهِهِ آنِيَةَ الهَيكَل.

والسَّببُ في ذِكْرِ هَذِهِ الأمورِ لَنا، في اعتقادي، هُوَ أن يُرينا كيفَ أنَّ الدَّينونَةَ ستَكونُ شَامِلَةً. فَاللهُ لم يَعُد يُدافِعُ عَن يَهوذا. فَقد تَمَّ نَهْبُ هَيكلِ اللهِ دُونَ أن يُحَرِّكَ اللهُ سَاكِنًا. وَقد تَحَطَّمَتْ دِفاعاتُ يَهوذا. فقد دَافَعَ اللهُ عَنهُم ضِدَّ الأشورِيِّينَ، ولكِنَّ اللهَ لم يَعُد يُدافِعُ عَنهُم.

وَكما تَعلَمونَ، مِنَ المُؤكَّدِ أنَّ ذلكَ كَانَ وَقتًا عَصيبًا على دَانِيال أيضًا. فَحَتَّى بعدَ سَبعينَ سَنة، أيْ بَعدَ تَرحيلِ دَانيال، بَعدَ سَبعينَ سَنة، نَقرأُ في الأصحاحِ السَّادسِ والعَددِ العَاشِرِ أنَّهُ عِندَما صَلَّى دانيال فإنَّهُ صَلَّى وَهُوَ يُوَجِّهُ وَجْهَه نَحوَ أورُشَليم. فَحَتَّى بعدَ سَبعينَ سَنة، كانَ قَلبُهُ مَا يَزالُ يَتوقُ إلى مَدينةِ أورُشَليم. ويُمكِنُكم أن تَتخيَّلوا الغَصَّةَ الَّتي شَعَرَ بِهِا في قَلبِهِ عِندَما تَمَّ سَبيُه. إذًا، نَقرأُ هُنا عَنِ البَلِيَّةِ وَهِيَ أنَّ الشَّعبَ سُبِيَ إلى أرضٍ أجنبيَّة.

والآن، لِنَنظُر [ثَانِيًا] إلى المَكيدَة... المَكيدَة. فَمِنَ البَلِيَّةِ إلى المَكيدَة في الأعدادِ مِن 3 إلى 7. وهذا واحِدٌ مِن أكثرِ الأجزاءِ إدهاشًا في السِّفْر. وَهُوَ يُوَضِّحُ كُلَّ مَا سيَحدُثُ في حَياةِ دَانيال هُناك.

والآن، لَقد قُلتُ لَكُم قبلَ قَليل، ويَنبغي أن تَعلَمُوا ذلك لأنَّها خَلفيَّةٌ تَاريخيَّة، أنَّهُ عِندَما حَاصَرَ نَبوخَذنَاصَّر أورُشَليم، بَلَغَهُ في مُنتَصَفِ الحِصارِ أنَّ أباهُ على فِراشِ المَوت. لِذا فقد تَرَكَ الحِصارَ على تِلكَ الحَالِ وعَادَ إلى بَابِل لكي يَهْتَمَّ بِمَوضوعِ مَوتِ أبيه. لِذا فقد تَرَكَ يَهوياقيم مَلِكًا. والآن، لاحِظُوا ذلك. لَقَد تَرَكَهُ مَلِكًا.

ولكِن لكي يَتَيَقَّنَ مِن وَلائِهِ، ولكي يَتَيَقَّنَ مِن أنَّ يَهوياقيم لن يَقودَ عِصْيانًا ويَهْزِمَ أيَّ جُنودٍ أَبْقاهُم نَبوخَذنَاصَّر هُناكَ، فَعَلَ شَيئًا ذَكِيًّا جدًّا. فقد أَخَذَ رَهائِن. لِذا فإنَّ أوَّلَ دُفْعَةٍ مِنَ المَسْبِيِّينَ لم تَكُن حَشْدًا عَشوائِيًّا مِنَ سُكَّانِ يَهوذا، بَل إنَّهُ أَخَذَ مَجموعَةً مِنَ الرَّهائِنِ إلى أنْ يَعودَ في سَنة 597 ويَسبيِ المَزيدَ مِنهُم، ثُمَّ أخيرًا في سَنة 586 يَسبي الأُمَّة بأسْرِها. والعَددُ الثَّالِثُ يُخبِرُنا بِما فَعَلَهُ:

"وَأَمَرَ الْمَلِكُ أَشْفَنَزَ رَئِيسَ خِصْيَانِهِ بِأَنْ يُحْضِرَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمِنْ نَسْلِ الْمُلْكِ وَمِنَ الشُّرَفَاءِ فِتْيَانًا". فَقد أرادَ رَهائِنَ، بَلْ أرادَ رَهائِنَ مِنَ العَائِلَةِ المَالِكَةِ، وَأرادَ رَهائِنَ مِنَ الشُّرَفاءِ في أرضِ يَهوذا.

وبالمُناسَبة، إنَّ الكلمة "أَمَرَ" في العِبارَة "وَأَمَرَ المَلِكُ" تُشيرُ في اللُّغَةِ العِبريَّةِ إلى "أمْرٍ رَسْمِيٍّ". ويَرى أُناسٌ أنَّ الكلمةَ "أَشْفَنَز" هِيَ اسْمُ عَلَمْ؛ أيْ أنَّهُ أَمَرَ رَجُلاً اسمُهُ "أَشْفَنَز". وَهُناكَ مَن يَرى أنَّ هذهِ الكلمةَ كَانَت لَقَبًا يُشيرُ إلى شَخصٍ مَسؤولٍ أو قَائِدٍ أو مُشرِفٍ. وَسَواءَ كَانَت لَقَبًا أوِ اسمًا، فإنَّ ذلكَ ليسَ مُهِمًّا. لِذا، سَوفَ نَفْتَرِضُ أنَّهُ اسْمُ عَلَم. فَمِنَ الأسهَل جدًّا أن نَتعامَلَ مَعَهُ على أنَّهُ هَكذا. لِذا فقد وَجَّهَ المَلِكُ أمْرًا لِهذا الشَّخصِ الَّذي يُدعَى "أَشْفَنَز" والَّذي نَقرأُ أنَّهُ كَانَ رَئيسَ خِصْيانِهِ.

فَقد كانَ يُوجَدُ لَدى كُلِّ مَلِكٍ أشخاصٌ يَعمَلونَ لَديهِ أو يَخدِمونَهُ. وفي بَلاطِ المَلِكِ، كَانَ يُوجَدُ خِصْيانٌ. وبِصورةٍ رَئيسيَّةٍ فإنَّ الخَصِيَّ هُوَ شَخصٌ وَصَفَهُ إشَعْياءُ بأنَّهُ "شَجَرَةٌ يَابِسَة". بِعبارةٍ أخرى، إنَّهُ شَخصٌ خَضَعَ لِعَمليَّةٍ جِراحِيَّةٍ لاستِئصالِ خِصْيَتَيْه. ثُمَّ كَانَ هَؤلاءِ الخِصْيانُ يُوَظَّفونَ في جَناحِ الحَريمِ للقِيامِ بوظائفَ مُحَدَّدة في القَصْرِ المَلَكِيِّ.

ولكِنْ تُوجَدُ نُقطةٌ لا بُدَّ مِن تَوضيحِها حَتَّى تَفهَموها بِوضوح. فَلأنَّ الخِصْيانَ كَانُوا في أغلبِ الأحيانِ يَخدِمونَ المَلِكَ، صَارَتِ اللَّفظَةُ "خَصِيٌّ" تُطلَقُ على أُناسٍ كَثيرينَ يَخدِمونَ المَلِكَ حَتَّى إنْ لم يَخضَعُوا لتلكَ العَمليَّةِ الجِراحِيَّةِ الَّتي تَجعَلُهم خِصْيانًا. لِذا فإنَّ هذهِ الكلمةَ في ذاتِها قَد تُشيرُ إلى شَخصٍ خَضَعَ لِتِلكَ العَمليَّةِ الجِراحيَّةِ، أو قَد تُشيرُ إلى شَخصٍ يَخدِمُ المَلِكَ وَحَسْب.

والحَقيقةُ هِيَ أنَّ "فُوطيفار" وُصِفَ بأنَّهُ كَانَ خَصِيًّا في مِصْرَ على الرَّغمِ مِن أنَّنا نَعلَمُ أنَّهُ كَانَ مُتزوِّجًا ولديهِ زَوجَة لأنَّنا نَقرأُ عَنِ المُواجَهَةِ الَّتي حَدَثَتْ بينَ يُوسُف وَزَوجَةٍ فُوطيفار. لِذا، في حَالَةِ فُوطيفار، كَانَ يُلَقَّبُ على الأرَجَحِ بأنَّهُ خَصِيٌّ مَعَ أنَّهُ لم يَكُنْ خَصِيًّا بالمَعنى الجَسَدِيِّ. ولكِنَّ تَعريفَ إشَعْياء يُشيرُ إلى الجَانِبِ الجَسَدِيِّ مِن كَوْنِ الرَّجُلِ خَصِيًّا.

والآن، سَواءٌ كَانَ دَانيالُ خَصِيًّا جَسَدِيًّا أَم لا، مِنَ الصَّعبِ عَلينا أن نَعرِفَ ذلك. ويَبدو لي، وأعتقدُ أنَّني ذَكَرْتُ ذلكَ في وَقتٍ مَضَى، يَبدو لي أنَّهُ مِنَ المُرَجَّحِ أنْ يَكونَ المَلِكُ قد خَصَى هَؤلاءِ الفِتْيانِ عندما ابتدأوا يَخدِمونَهُ. ورُبَّما يُفَسِّرُ ذلكَ حَقيقةَ أنَّ دَانيال لم يَتزوَّج. فَنحنُ لا نَقرأُ البَتَّةَ أيَّ شَيءٍ يُشيرُ إلى وُجودِ عَائِلَةٍ لَهُ. فَنَحنُ نَقرأُ أنَّهُ بَقِيَ طَوالَ حَياتِهِ يَخدِمُ المَلِك.

وَفي مُطْلَقِ الأحوالِ، كانَ هذا الرَّجُلُ الَّذي يُدعَى "أَشْفَنَز" رَئيسًا على الأشخاصِ الَّذينَ تَمَّ تَعيينُهُم لِخدمةِ المَلِك؛ وَهُم خِصْيانٌ بالمَعنى الجَسَدِيِّ، وَخِصيانٌ مِن جِهَةِ خِدمَتِهم للمَلِك. لِذا، فقد أُمِرَ هَذا الرَّجُل... وقد أردتُ أن تَعلَمُوا مَن هُوَ لأنَّنا سَنَلتَقيهِ مَرَّةً أخرى... وَقد كَانَ يَتَبَوَّأُ مَنصِبًا مُهِمًّا. والكلمة "رَئيس" هِيَ كلمة مُرادِفَة حَرفِيًّا للكلمة "أمير". وَقد كَانَ مَسؤولاً عَنِ اخْتيارِ هؤلاءِ الفِتْيان.

والآن، لَقد أَشارَ عَددٌ مِنَ المُؤرِّخينَ إلى أنَّهُ كانَ يُوجَدُ مَا بين خَمسين إلى خَمسةٍ وسَبعينَ مِنَ الفِتْيانِ على أَقَلِّ تَقدير. ورُبَّما كانَت هُناكَ مَعلوماتٌ مُتوافِرَةٌ لَديهم عَلِمُوا مِن خِلالِها أنَّها كانت مَجموعَة كَبيرة يَتراوَحُ عَدَدُها مَا بينَ 50 إلى 75 مِنَ الفِتْيان. لاحِظُوا أنَّهُم "مِنْ بَني إسرائيل". وَهذا لا يَعني أنَّهم كَانُوا مِنَ المَملكةِ الشَّمالِيَّةِ لأنَّهُ في ذلكَ الوقتِ كانَ بَعضٌ مِنهُم قد نَزَحُوا إلى الجَنوبِ مِنَ القَبائلِ العَشْرَةِ قبلَ المَذبحةِ الجَماعِيَّةِ الَّتي حَدَثَتْ في الشَّمال. لِذا فقد كانت كُلُّ يَهوذا مَشمولَةً بِنَسْلِ إسرائيل.

لِذا فقد جَمَعَ "مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمِنْ نَسْلِ الْمُلْكِ وَمِنَ الشُّرَفَاءِ"؛ أيْ مِنَ العَائِلَةِ المَلَكِيَّةِ وطَبَقَةِ الشُّرَفاء. فقد أرادَ أفضلَ رَهائِنَ لكي يَتيقَّنَ مِن أنَّ يَهوياقيم لن يُقْدِمَ على أيِّ تَصَرُّفٍ طَائِش.

ثَانِيًا، والآن لاحِظُوا مَا يَلي: لقد أرادَ نَبوخَذنَاصَّر أيضًا أن يُدَرِّبَ هؤلاءِ الفِتيانَ في بَلاطِهِ، أو في قَصْرِه، لِمُساعَدَتِهِ في إدارَةِ شُؤونِ اليَهودِ لأنَّهُ كَانَ يُفَكِّرُ في أنْ يَجْعَلَ مِن يَهوذا دَولةً تَابِعَةً لبَابِل. فَقد كَانَ يَعْتَزِمُ احتِلالَ العَالَم. وَكانَ يَنبغي لَهُ أن يَعرِفَ كَيفَ يَتعامَل مَعَ هَؤلاءِ الشَّعبِ اليَهودِيِّ. لِذا فقد أرادَ فِتْيانًا مُدَرَّبينَ جَيِّدًا يُمكِنُ صَهْرُهُمْ وَإعادَةُ تَشكيلِهم في المُجتَمَعِ الكَلدَانِيِّ على أن يَكونوا مِن خَلفيَّةٍ يَهوديَّةٍ لكي يَكونَ بِمَقدورِهِ أن يَستخدِمَهُم في مُناوَراتِهِ الَّتي كانَ يَشعُرُ أنَّها ضَروريَّة لِفَرْضِ سُلطانِهِ بَينَ اليَهود.

انظُروا إلى العَددِ الرَّابع. فَهُوَ يَقولُ لا فقط إنَّهُم يَنبغي أن يَكونوا مِنَ النَّسلِ المَلَكِيِّ (أيْ مِنَ العَائِلَةِ المَالِكَةِ)، وَمِنَ الشُّرَفاءِ (أيْ مِنْ أعْيانِ البَلاطِ المَلَكِيِّ)، بَل يَنبغي أيضًا أن يَكونُوا "فِتْيَانًا" أو "ييليديم" (yeledim) باللُّغَةِ العِبريَّة. وَمِنَ الصَّعبِ جدًّا أن نُعَرِّفَ هذهِ الكلمةَ تَمامًا، ولكِنَّ أغلبيَّةَ الشُّرَّاحِ مُتَّفِقونَ على أنَّ أعمارَهُم لا تَزيدُ عَن سَبعَ عَشْرَةَ سَنَة، وَرُبَّما لا تَقِلُّ عَن ثَلاثَ عَشْرَةَ أو أربَعَ عَشْرَةَ سَنة. لِذا فقد كَانَ دَانيالُ في هذا الوَقتِ في سِنِّ المُراهَقَة.

وَنَحنُ نَعلَمُ أنَّهُ بعدَ سَبعينَ سَنة، كَانَ مَا يَزالُ في مَنصِبِهِ، وَكانَ مَا يَزالُ يَقودُ في بَابِل. لِذا، لا بُدَّ أنَّهُ كَانَ فَتِيًّا جدًّا في هذا الوقت. إذًا، كانَ هَؤلاءِ فِتْيانًا صِغارًا يَتراوَحُ عُمرُهُم بينَ سِنِّ الثَّالثة عَشْرَةَ والسَّابعة عَشْرَة. وَمِنَ المُرَجَّحِ أنَّ دَانيال كَانَ إمَّا في سِنِّ الرَّابعة عَشْرَةَ أوِ الخَامِسَة عَشْرَة، وليسَ أكبرَ مِن ذلك. تَذَكَّرُوا ذلكَ لأنَّها فِكرةٌ مُذهِلَة. فَهُوَ مُجَرَّد صَبِيٍّ... أو مُجَرَّد مُراهِقٍ.

وَقد تَكَلَّمَ أفلاطُون عن تَعليمِ الفِتيانِ في فَارِس وَقالَ إنَّهُ كَانَ يَبتَدِئُ في سِنِّ الرَّابعةِ عَشْرَة ويَنتَهي في سِنِّ السَّابعة عَشرة. وَرُبَّما كانَت عَاداتُ البَابِلِيِّينَ على الأرجَحِ مُشابِهَة جدًّا. لِذا، كانَت هُناكَ فَترةٌ تَدريبيَّةٌ بانتِظارِ هؤلاءِ الفِتيانِ اليَهودِ لِكَي يَجعَلوهُم كَلدانِيِّين.

والآن، أريدُ مِنكُم أن تَرَوْا نَوعيَّةَ الفِتيانِ الَّذينَ كانُوا يَبحَثونَ عَنهُم. فَهذا أمرٌ مُدهشٌ جدًّا. فنحنُ نَقرأُ في العَددِ الرَّابع: "لاَ عَيْبَ فِيهِمْ". والكلمةُ العِبريَّةُ هِيَ "مُوْؤُم" (mum)، وَمَعناها: "بِلا عُيوبٍ جَسديَّة". فَهُمْ لم يَكونوا يُريدونَ أيَّ شخصٍ لَديهِ إعَاقة جَسديَّة، بَل أرادُوا فِتيانًا خَالينَ مِن أيَّة عُيوبٍ جَسديَّة. وَالإشارةُ هُنا هِيَ إلى صِحَّةِ هؤلاء.

ثَانيًا، لاحِظُوا أنَّ النَّصَّ يَقول: "حِسَانَ الْمَنْظَرِ". والآن، هَذا يُشيرُ إلى وُجوهِهم، وإلى وَسامَتِهم. فَبصورةٍ رَئيسيَّةٍ، إنَّ الكلمة "مُوْؤُم" (mum) تُشيرُ على الأرجَح إلى أجسادِهِم وقُدُراتِهم البَدنيَّة، وَأنَّ العِبارَةَ "حِسانَ المَنظَرِ" تُشيرُ تَحديدًا إلى الوَجه؛ مَعَ أنَّها قَد تُشيرُ أيضًا إلى الهَيئةِ البَدنيَّةِ. فَقد كَانُوا يَبحَثونَ عَن صِفاتٍ جَسديَّة مُعَيَّنة.

وَهَذا أمرٌ بَديهيٌّ. فعندما أرادَ بَنو إسرائيلَ أن يَختارُوا مَلِكًا، مَنِ اختاروا؟ الرَّجُلَ الأكثرَ طُولاً وَوَسامَةً في البَلَد وَهُوَ: "شَاوُل"! ولكِنَّهُ كَانَ شَخصًا فَاشِلاً. ولكِنَّ هَذا الأمرَ بَديهيٌّ – المَنظَر. اجلِبُوا لَنا أفضلَ الفِتيانِ مِن نَاحِيَةِ المَظهَرِ، وَأفضَلَهُم شَكلاً، وأحسَنَهُم صُورةً، وَأكثَرَهُم قُوَّةً وَوَسامَةً. فَنَحنُ لا نُريدُ أشخاصًا لَديهِم عُيوبٌ في أجسادِهم أو وُجوهِهم.

وَالأمرُ لم يَكُن يَتوقَّفُ على الصِّفاتِ الجِسمانِيَّةِ فقط، بَل كَيفَ يُقَيِّمُ العَالَمُ الأشخاصَ؟ أولاً، مِن جِهَةِ صِفاتِهم الجَسديَّة، ثَانِيًا، مِن جِهَةِ عُقولِهم. فَهُناكَ الصِّفاتُ الجَسديَّةُ والعَقليَّةُ. فَهَذا هُوَ كُلُّ مَا يَبحَثُ العَالَمُ عَنهُ. لِذا فقد كَانُوا يَبحَثونَ عَن تلكَ المُواصَفات: "حَاذِقِينَ فِي كُلِّ حِكْمَةٍ". فَقد كَانُوا يَبحَثونَ عَن أربعةِ مُؤهِّلاتٍ عَقليَّةٍ هُنا:

أولاً: "حَاذِقِينَ فِي كُلِّ حِكْمَةٍ". وَهَذا يَعني أن يَكونوا مُتَفَوِّقينَ عَقليًّا، وأذكياءَ جدًّا، ولَديهم قُدرةٌ على التَّمييز، وقُدرةٌ على اتِّخاذِ القَراراتِ، وقُدرةٌ على تَطبيقِ الحَقِّ في كُلِّ المَواقِف. فَقد كَانُوا يَبحَثونَ عَن أشخاصٍ مُتَمَيِّزينَ فِكريًّا.

ثَانيًا [مِن جِهَةِ المُؤهِّلاتِ العَقليَّة]: "وَعَارِفِينَ مَعْرِفَةً". وَهَذا يَعني أن يَكونوا مُتَفَوِّقينَ في تَعليمِهم. أيْ أن تَكونَ لَديهم المَعلوماتُ الصَّحيحة، وَأن يَكونوا قَد تَعَلَّمُوا تَعليمًا سَليمًا. فَالنَّصُّ العِبريُّ يَقولُ حَرفِيًّا: "عارِفينَ مَعرِفَةً"؛ أيْ أشخاصًا يَعرِفونَ مَعلوماتٍ جَيِّدة، وطَلَبةً مُتَفَوِّقينَ، وأشخاصًا تَلَقَّوْا تَعليمًا جَيِّدًا. لِذا فقد أرادُوا أشخاصًا مُتَعَلِّمينَ ويَعرِفونَ كَيفَ يُطَبِّقونَ ذلكَ العِلْمَ في التَّمييزِ واتِّخاذِ القَرارات.

ثَالثًا: لَقد أرادُوا فِتيانًا "ذَوِي فَهْمٍ بِالْعِلْم". وَمِنَ الوَاضِحِ أنَّ هَذِهِ اللَّفظةَ العِبريَّةَ تَحْمِلُ مَعنى القُدرةَ على رَبْطِ الأمورِ بِعضِها بِبَعض. فأوَّلاً، يَنبغي أن يَعرِفوا الحَقائق؛ وَثانيًا، يَنبغي أن يُطَبِّقوا الحَقائِق؛ وثَالِثًا، يَنبغي أنْ يَرْبِطُوا الحَقائقَ مَعًا، ويُوَفِّقُوا بينَ الكَثيرَ مِنَ الأشياءِ، وَيَتَّخِذوا قَراراتٍ. والحَقيقةُ هِيَ أنَّ هَذا هُوَ مَا يَفعلُهُ العِلمُ بِصورةٍ رَئيسيَّة. أليسَ كذلك؟ فالعِلمُ يَستخلِصُ النَّتائِجَ مِن مُقارَنَةِ البَيانات. فَقد كانَ يَنبغي أن يَملِكُوا القُدرةَ على التَّفكيرِ وَرَبْطِ الأشياءِ بَعضِها بِبَعض.

وَأخيرًا: "وَالَّذِينَ فِيهِمْ قُوَّةٌ عَلَى الْوُقُوفِ فِي قَصْرِ الْمَلِكِ". وَهَذهِ النُّقطةُ مُرتبطة بِبُعْدٍ ثَالِثٍ في المُؤهِّلاتِ الَّتي كَانُوا يَبحَثونَ عَنها. فقد كانُوا يَبحثونَ [أوَّلاً] عَن مُؤهِّلاتٍ جَسديَّة: "فِتْيَانًا لاَ عَيْبَ فِيهِمْ، حِسَانَ الْمَنْظَرِ"؛ ثُمَّ كَانُوا يَبحثونَ عَن مُؤهِّلاتٍ عَقليَّة: "حَاذِقِينَ فِي كُلِّ حِكْمَةٍ وَعَارِفِينَ مَعْرِفَةً وَذَوِي فَهْمٍ بِالْعِلْمِ"؛ وَثالِثًا، كَانُوا يَبحثونَ عَن مُؤهِّلاتٍ اجتِماعيَّةٍ وَهِيَ أن يَمتَلِكُوا رَباطَةَ الجَأشِ، والكِياسَةِ، واللَّباقَةِ الاجتِماعِيَّةِ للوُقُوفِ فِي قَصْرِ الْمَلِكِ دُونَ أن يَظْهَرُوا كَالحَمْقَى.

وَأودُّ أن أقولَ لَكُم شَيئًا: أنا لا أَمْلِكُ كُلَّ هذهِ المُؤهِّلات. فَأوَّلاً، سَوفَ أُخْفِقُ في كُلِّ فِئَة. ولكِن إنْ نَجَحْتُ في الفِئتَيْنِ الأولى والثَّانية، وَهُوَ أمرٌ غَيرُ مُمكِن، لا يُمكِنُني أن أَنجَحَ في الفِئةِ الثَّالثةِ لأنَّهُ عندما أَجِدُ نَفسي في مَوقِفٍ مُهِمٍّ جدًّا فإنِّي أفعلُ دائِمًا الشَّيءَ الخَطأ.

فَأنا أَذكُرُ مَا حَدَثَ عندما كُنتُ في دَالاس بولاية تكساس قبلَ وَقتٍ قَصيرٍ إذْ إنَّ شَخصًا اتَّصَلَ بي وَقالَ: "نَوَدُّ أن تَأتي وَأن تَتناوَلَ طَعامَ الغَداءِ مَعَ السَّيِّدة فُلانَة. فَهِيَ تُقَدِّرُ خِدمَتَكَ وتُريدُ أن تَلتَقيكَ. وَسوفَ نَتَناوَلُ طَعامَ الغَداءِ في الطَّابِقِ العُلويِّ لأشهرِ نَادٍ يَرْتَادُهُ مُنَقِّبو النِّفْطِ في دالاس. وَسوفَ تَحِلُّ ضَيفًا على هذهِ السَّيِّدة". قُلتُ: "هَذا رَائعٌ". وَكانَ "سَام إريكسون" (Sam Ericsson) مَعي. قُلتُ: "هَيَّا يا سَام. يُمكِنُكَ أن تأتي أنتَ أيضًا".

ولكنِّي لم أَكُن أُدركُ أنَّ الأمرَ لا يَتِمُّ هَكذا، لِذا فقد اصْطَحَبْتُ "سَام" مَعي كَما لو أنَّ الحَفلةَ حَفلَتي. وَعلى أيَّةِ حَال، لَقد كُنتُ مُنشَغِلاً طَوالَ اليومِ فَما كَانَ مِنِّي إلاَّ أنِ ارتَديتُ سُترةً غَير رَسميَّة. فَقد كُنتُ أدرُسُ فَارتديتُ سُترةً غير رَسميَّة وَخَرجتُ مِنَ الباب. فَقد كُنتُ سأتناوَلُ الغَداءَ وَحَسْب مَع هذهِ السَّيِّدةِ اللَّطيفة. وَقَد دَخَلْنا في المِصعَد وَاستَمَرَّينا في الصُّعودِ والصُّعود. وَقد رُحْتُ أُفَكِّرُ في أنَّ الاختِطافَ قَد حَدَثَ في أثناءِ صُعودِنا. وَأخيرًا، وَصَلنا إلى الطَّبقةِ العُلويَّة فَخَرجتُ مِنَ المِصعَد. وَأريدُ أن أقولَ لَكُم إنَّ ذلكَ المَكانَ كَانَ شَيئًا مِن مُستوىً آخَر!

فَأنتَ تَشعُرُ بأنَّكَ مُضْحِكٌ حَالاً، وَتَشعُرُ بأنَّكَ لافِتٌ للنَّظر، وَبأنَّ حِذاءَكَ عَتيق، وَبأنَّ ثِيابَكَ ليسَت في المُستوى المَطلوب، وَبأنَّ هُناكَ خَللاً كَبيرًا جدًّا في شَعرِكَ، وبأنَّ أُذُنَيْكَ لَيسَتا في المَوضِعِ الصَّحيح. فأنتَ تَشعُرُ... تَشعُرُ بأنَّكَ مُضْحِكٌ لأنَّ كُلَّ شَخصٍ يُحَدِّقُ فيكَ، وَهُناكَ الكَثيرُ مِن: "إحِمْ... إِحِمْ... إِحِمْ... هَل يُمكِنُني أن أُساعِدَكَ يَا سَيِّدي؟ هَل تَبحثُ عَن شَخصٍ مَا؟"

"أجل، مِنَ المُفتَرَضِ أن ألتَقي السَّيِّدة فُلانة"، وَقد ذَكَرتُ لَهُ اسمَها. وَقد نَظَرَ إليَّ ذلكَ الرَّجُلُ مِن أعلى إلى أسفَل. وَقد خَرَجَت تلكَ السَّيِّدة وقالَت: "أهلاً، أنا مَسرورةٌ بِلُقياك". ولم أَكُن أعلَمُ مَا المُشكلة. ولكنِّي اكتشفتُ أنَّهُ لا يُمكِنُكَ أن تَصعَدَ في ذلكَ المِصعَدِ مِن دُونِ سُترةٍ رَسميَّةٍ وَرَبْطَةِ عُنُق. لِذا فقد ذَهَبَ الرَّجُلُ إلى الخِزانَةِ الخَلفيَّةِ وَقال: "أعتقدُ أنَّهُ تُوجَدُ لَدينا سُتْرةٌ رَسميَّةٌ يُمكِنُكَ أن تَستَعيرَها".

وَقد ذَهَبَ إلى الخِزانَةِ الخَلفيَّةِ وأحضرَ سُترةً رَسْمِيَّةً قِياس 48 مِنَ الطِّرازِ الَّذي يُلائِمُ قِصارَ القَامَة. صَدِّقوني، فَقد نَظرتُ إلى قِياسِها. وَقد كانَت أكبر كَثيرًا مِن حَجمي مِن هُنا وَمِن هُناك. وأعتقدُ أنَّهُ كانت هُناكَ بُقَعٌ كَثيرةٌ عليها. فَقد كانت في حَالةٍ مُزرِيَة. وَقد جَلَسْتُ طَوالَ فَترةِ الغَداءِ في وَسْطِ مُنَقِّبي النِّفْطِ هَؤلاءِ وَأنا أرتَدي تلكَ السُّترة الضَّخمة جدًّا وَأحاولُ أن أتظاهَرَ بأنِّي على مَا يُرام اجتِماعِيًّا. ولكنِّي كُنتُ أشعُرُ بأنِّي لا أنتَمي إلى هُناك. أعطُوني وَجبةً مِن مَطعَم مَكدونالدز. أليسَ كذلك؟ فَلا يُمكِنُني أن أَنجَحَ في مِثلِ هذهِ الاختبارات.

عِندَما يَبحثُ العَالَمُ عن أشخاصٍ لِيَملأوا مَناصِبَ مُعيَّنة فإنَّهُ يَنظُرُ إلى مُؤهِّلاتِهم البَدنيَّة، والعَقليَّة، والاجتِماعِيَّة. هذا هُوَ كُلُّ شَيء. لأنَّ هَذا هُوَ كُلُّ مَا يَفهمونَهُ. فَهُم لَمْ يَكونُوا يَعرِفونَ أيَّ شَيءٍ عَنِ الشَّخصيَّة، ولم يَكونُوا يَعرِفونَ أيَّ شَيءٍ عَنِ الصِّفاتِ الرُّوحيَّة، ولم يَكونُوا يَعرِفونَ أيَّ شَيءٍ عَنِ الفَضيلة، ولم يَكونُوا يَعرِفونَ أيَّ شَيءٍ عَنِ الأخلاق. لِذا فقد قَالوا: أحضِرُوا لَنا أكثرَ الفِتيانِ ذَكاءً، وَوَسامَةً، وَدَماثَةً يُمكِنُكُم أن تَعثُروا عَليهم. فَسوفَ نَصْهَرُهُم ونَجعلُهم كَلدانِيِّين". كانَت تلكَ هِيَ كُلّ الخُطَّة. فقد كانَت مَكيدةً يا أحبَّائي حَتَّى يَغسِلُوا أدمِغَةَ هؤلاءِ الفِتيانِ اليَهود. فقد كانت مَكيدةً لِغَسلِ أدمِغَتِهم. فالأمرُ وَاضِحٌ وَبَسيط. فقد أرادُوا أن يَغسِلُوا أدمِغَتَهُم.

وَماذا كَانَ قَصدُهُم؟ نَقرأُ في نِهايةِ العَددِ الرَّابع: "فَيُعَلِّمُوهُمْ كِتَابَةَ الْكَلْدَانِيِّينَ وَلِسَانَهُمْ". والكلمة "كَلدانِيِّين" هي كلمة مُرادِفَة للبابِلِيِّين. ففي الأصل، كانَ الكَلدانِيُّونَ فِئَةً مُنفصلَة، ولكِن عندما نَمَتِ الإمبراطوريَّةُ البَابِلِيَّةُ، وَهَيمَنَ عِلْمُ التَّنجيمِ الكَلدانِيِّ، والتَعليمُ الكَلدانِيُّ، والعِلْمُ الكَلدانِيُّ على الإمبراطُورِيَّةِ البَابِليَّةِ، صَارَتِ الكلمة "كَلدانِيّ" مُرادِفَة للكلمة "بَابِلِيّ". لِذا، لَقد أرادُوا أن يَجعَلُوا مِن هَؤلاءِ الفِتيانِ أشخاصًا بابِلِيِّينَ أو كَلدانِيِّينَ تَمامًا. فَقد أرادُوا أن يُعَلِّموهُم كِتابَةَ الكَلدانِيِّين.

وَما هِيَ تلكَ الكِتابَة؟ بالمُناسَبَة، كانَ لِسَانُ الكَلدانِيِّينَ (أو لُغَتُهُم) لُغَةً لَها وَزْنُها، وَلُغَةً مُهِمَّةً جدًّا جدًّا في ذلكَ الوقت. ولم يَكُنِ اليَهودُ يَعرِفونَ تلكَ اللُّغَة. لِذا، كانَ يَنبغي لَهُم أن يَتَعَلَّمُوها. ولكِنَّ ذلكَ يَجعَلُهُم قَادِرينَ على التَّواصُلِ مَعَ ذلكَ الجُزءِ مِنَ العَالَمِ لأنَّ تلكَ اللُّغَةَ كَانَت تُهَيمِنُ على ذلكَ الجُزءِ مِنَ العَالَم.

فَضْلاً عَن ذلك، كانَت كِتابَةُ الكَلدانِيِّينَ شَيئًا مُدهشًا جدًّا. فَنحنُ نَقرأُ في المَوسوعَةِ الدَّوليَّةِ القِياسِيَّةِ للكِتابِ المُقَدَّس (International Standard Bible Encyclopedia) أنَّ كِتابَةَ الكَلدانِيِّينَ كَانَتْ تَضُمُّ اللُّغةَ البَابِليَّةَ القَديمَة، ولَهْجَتَيْنِ سُومَرِيَّتَيْن، ومَعرفةً مُعَيَّنة باللُّغَةِ الكِيشِيَّة الَّتي كانت قَريبةً مِنَ اللُّغَةِ الحِيثيَّة، وَلُغاتٍ أخرى مُشابَهةً جدًّا لَها. بعبارةٍ أخرى، كانوا سيَصيرونَ حَرفيًّا خُبراءَ في اللُّغات.

كذلك، كانَ الكَلدانِيُّونَ ضَليعينَ في عِلْمِ الفَلَكِ وَعِلْمِ النُّجوم. وَكانَ لَديهم نِظامٌ حِسابِيٌّ مُعَقَّدٌ يَشمَلُ نِظامَ عَدٍّ مُؤلَّفا مِن سِتِّين رَقْمًا. وَكانَ لَديهم مَعرفة بالتَّاريخِ الطَّبيعيِّ. وَكانَ لَديهم مَخزونٌ ضَخمٌ مِنَ المَعرفةِ بِعِلْمِ الأساطير بِما في ذلكَ قِصَصِ الخَلْقِ والطُّوفان. وَكانَ لَديهم أيضًا عَدَدٌ هَائِلٌ وَضَخْمٌ جدًّا مِنَ الآلِهَة... عَدَدٌ ضَخمٌ جدًّا مِنَ الآلِهَة. وَكانَت لَديهم مَعرفة واسِعَة بِالزِّراعَة. وَرُبَّما كانُوا أفضلَ مُهَندِسينَ مِعمارِيِّينَ في كُلِّ العَالَم بِحَسَبِ مَا نَرى مِنْ خِلالِ المَباني الشَّهيرةِ الَّتي كَانَت مَوجودةً في بَابِل. ورُبَّما يَهُمُّكُم أن تَعلَموا أنَّهُم استَخدَمُوا في بِناءِ حَدائِق بَابِل المُعَلَّقَة وفي بِناءِ القُصورِ نِظامًا مُعَقَّدًا لِتَكييفِ الهَواءِ في ذلكَ الوقت طَوَّروهُ بأنفُسِهم.

لِذا فقد كانَ هَؤلاءِ الفِتيانِ سيَتعلَّمونَ كُلَّ ذلكَ التَّعليم. فَسواءَ كَانُوا سَيَتَعَلَّمونَ الهَندسةَ المِعماريَّةَ، أوِ الهَندسةَ الزِّراعيَّةَ، أوِ اللُّغاتِ، أوِ اللاَّهُوتَ، أوِ التَّاريخَ، كَانُوا سيَصيرونَ جَهابِذَةً كَلدانِيِّين. وَكانَ الكَلدانِيُّونَ أيضًا خُبراءَ في السِّحرِ، وفي العرافَةِ، وفي التَّعويذاتِ، وقِراءَةِ الطَّالِعِ، والرُّقْياتِ، والصَّلواتِ، والأغاني الدِّينيَّةِ، والخُرافاتِ، والأساطيرِ، والمَهاراتِ العِلميَّة. وَكانُوا خُبراءَ في صِناعَةِ الزُّجاج. ونَحنُ نَعلَمُ ذلك. إلخ، إلخ، إلخ. وَكانَ هَؤلاءِ الفِتيانِ سيَتعلَّمونَ كُلَّ ذلك. فَقد كانَت تلكَ عَمليَّة غَسْلِ أدمِغَة.

وَهل تَعلَمونَ شَيئًا؟ إنَّ هَذا لا يَختَلِفُ في شَيءٍ عَمَّا تَفعلُهُ الجامِعاتُ والكُلِّيَّاتُ بالشَّبابِ اليَوم: زَعزِعُوا إيمانَهُم، اسلُبوهُم تُراثَهُم، أعيدُوا تَشكيلَهُم مِن خِلالِ المَعلوماتِ الإلحاديَّةِ والإنسانِيَّةِ والاجتماعِيَّةِ الَّتي تَملأُ كُتُبَهُم وَأذهانَ مُعَلِّميهِم. فَإنْ أرسلتَ ابنِكَ اليومَ إلى كُليَّةٍ أو جامِعَةٍ فإنَّكَ لا تَصْنَعَ مَعَهُ مَعروفًا البَتَّة، بَل إنَّك تُعَرِّضُهُ لِعَمليَّةِ غَسْلِ دِماغ. وَمِنَ المُحزِنِ أنَّ حَتَّى كُلِّيَّاتِ اللاَّهوتِ في بَلَدِنا، والَّتي كَانَت في وَقتٍ مِنَ الأوقاتِ تَتَمَسَّكُ بكلمةِ اللهِ، قَد تَرَكتها الآنَ ولم تَعُد تُؤمِنُ بأنَّها ذَاتُ سُلطانٍ، بَلْ إنَّها تَغسِلُ أدمِغَةَ النَّاسِ وتُقنِعُهم بأنَّ الإجاباتِ البَشريَّةَ تُخبرُنا أنَّهُ لا يُمكِنُنا أن نَتَّكِلَ على اللهِ، وَأنَّ كلمَتَهُ غير صَحيحَة. وَهذهِ عَمليَّةُ غَسْلِ دِماغٍ أخرى.

ولَعَلَّكُم تَذكرونَ مَا قَرأناهُ عَن مُوسَى عندما كَانَ في مِصْرَ في سِفْرِ أعمالِ الرُّسُل 7: 22: "فَتَهَذَّبَ مُوسَى بِكُلِّ حِكْمَةِ الْمِصْرِيِّينَ". ولكِن هَل تَعلَمونَ شَيئًا؟ هُناكَ أشخاصٌ لا يُمكِنُكم أن تُفسِدوهُم. فَلا يُمكِنُكُم أن تَفعلوا ذلك. وَسوفَ نَلتقي هَؤلاءِ بعدَ قَليل.

كانت جامِعاتُ الكَلدانِيِّينَ وكُلِّياتُهُم تَعْتَزِمُ هَدْمَ كُلِّ شَيءٍ يَعرِفُهُ دانيالُ وَكُلُّ رِفَاقِهِ عَنِ اللهِ، وَهَدْم التُّراثِ الَّذي وَضَعَهُ اللهُ في وَسْطِ شَعبِه. فقد أرادُوا مِنهُم أن يَنْسوا اللهَ، وأن يَنْسوا الحَقَّ المُختصَّ باللهِ، وَأرادُوا أن يَمْحُوا كُلَّ شَيءٍ مِنَ المَاضي. وَصَدِّقوني، يا أحبَّائي، أنَّ هَذا هُوَ مَا يَهدِفُ إليهِ التَّعليمُ المُعاصِر. فِمُنذُ الوقتِ الَّذي يَذهبُ فيهِ طِفلُكَ إلى المَدرسةِ، باستثناءِ المُعَلِّمينَ الَّذي يَتَّقونَ اللهَ وَالأشخاص الَّذينَ يُحِبُّونَ المَسيحَ ويُعَلِّمونَ أبناءَكُم، فإنَّهُم سيَحصُلونَ على نِظامِ قِيَمٍ إنسانِيٍّ بَعيدٍ عَنِ اللهِ وإلحادِيٍّ وَضَعَهُ الشَّيطانُ لِمَحْوِ أيِّ أثَرٍ للهِ مِنَ الصُّورةِ، وَلِغَسْلِ تِلكَ الأدمِغَةِ وَجَعلِها تَخدِمُ الشَّيطان. هذهِ هيَ المَكيدَة.

وتَتَعَمَّقُ المَكيدَةُ أكثر في العَددِ الخَامِس: "وَعَيَّنَ لَهُمُ الْمَلِكُ وَظِيفَةً كُلَّ يَوْمٍ بِيَوْمِهِ مِنْ أَطَايِبِ الْمَلِك"؛ أيْ مِنَ أَطايِبِ الطَّعامِ، واللُّحومِ، والمَأكولات. والكلمةُ المُستخدَمَةُ هُنا تُشيرُ إلى أطايِبِ الطَّعامِ وليسَ إلى الطَّعامِ العَادِيِّ. وأعتقدُ أنَّ التَّرجمةَ القِياسِيَّةَ المُنَقَّحة (RSV) للكِتابِ المُقَدَّسِ أَصابَتْ في تَرْجَمَتِها بالطَّعامِ الغَنِيِّ. لِذا، كانوا سيَحصُلونَ عَلى كَمِيَّةٍ مِن طَعامِ المَلِكِ الغَنِيِّ. ولكِن لِماذا؟ لِماذا كَانُوا سَيُطعِمونَهُم مِن أطايِبِ المَلِك؟ أنا أعرِفُ الإجابَةَ لأنِّي عِشْتُ في سَكَنٍ جَامِعِيٍّ مِن قَبل. وَلو أنَّ أيَّ مَلِكٍ تَناوَلَ ذلكَ الطَّعامَ لَتَخَلَّى عَن عَرشِهِ حَالاً. إذًا، لماذا كانُوا يُطعِمونَهُم ذلكَ الطَّعام؟ هَل هُوَ جُزءٌ مِنَ التَّعليم؟

اسمَعوني: إنَّ واحِدًا مِنْ أَهَمِّ العَناصِرِ الأساسيَّةِ في غَسْلِ الدِّماغِ هُوَ الشُّعورُ بالمَديونِيَّة؛ أيْ أنْ يَجعَلوهُم يَشعرونَ بأنَّهُم مَدينونَ لَهُم. فَأنتَ تُقَدِّمُ إليهم طَعامًا شَهِيًّا لكي يَعْتَمِدُوا في مَصْدَرِ غِذائِهِم عَليكَ وَيَتَعَلَّمُوا الاتِّكالَ عليكَ في تَوفيرِ الطَّعامِ لَهُم. فأنتَ تُعَلِّمُهم في حَياتِهم أن يَطْلُبوا مَا تُقدِّمُهُ لَهُم فَتُسيطِرُ عَليهم. وَلَعَلَّكُم تَذكُرونَ الجُملةَ الشَّهيرة: "كيفَ سَتُبقيهِم في المَزرعةِ بَعدَ أن شَاهَدُوا مَدينَةَ بَاريس؟"

أطعِموهُم طَعامَ الكَلدانِيِّينَ وانظُروا إنْ كَانُوا سيأكلونَ بعدَ ذلكَ الطَّعامَ الوَضيعَ الَّذي كَانُوا يأكُلونَهُ وإنْ كَانُوا سيَشربونَ المَاءَ الَّذي كانُوا يَشربونَه. أَغْووهُم بالمُشَهِّياتِ، واجعَلوهُم يَشعرونَ بأنَّهُم مَدينونَ لَكُم بسببِ الطَّعام، وارفَعُوا مُستوى مَعيشَتِهم إلى المُستوى الَّذي تُريدونَهُ لَهُم حَتَّى لا يُفَكِّرُوا في العَودةِ إلى حَياتِهم السَّابقة. فقد كانَ هذا كُلُّهُ جُزءًا مِن غَسْلِ الدِّماغ.

وَقد كانَ المَلِكُ نَفسُهُ رَجُلاً ذَكِيًّا. فقد كَانَ نَبوخَذنَاصَّر رَجُلاً نَابِغَةً. وَقد قَيَّمَ هَذا الوَضعَ وَأمرَ "أَشْفَنَز" بإطعامِ هؤلاءِ الفِتيانِ أطايِبَ المَلِكِ، وَأنْ يُسْقُوهُم "مِنْ خَمْرِ مَشْرُوبِهِ". فَقد كانُوا يَشرَبونَ الخَمرِ بِجَميعِ أنواعِها؛ ولكِنَّ خَمْرَ المَلِكِ كَانَتْ أفضلَ خَمر... أفضَلَها. ويَقولُ النَّصُّ: "لِتَرْبِيَتِهِمْ ثَلاَثَ سِنِينَ. وَعِنْدَ نِهَايَتِهَا يَقِفُونَ أَمَامَ الْمَلِكِ". فَقد كانُوا يَدخُلونَ إلى المَلِكِ ويَقولون: "أيُّها المَلِكُ، مَا أعظَمَ صَلاحَك. يا للرَّوعَة! انظُر إلينا أيُّها المَلِك. فَنحنُ نَتمتَّعُ بِصِحَّةٍ مُمتازَة. فقد وَاظَبْنا على أكلِ الطَّعامِ الجَيِّدِ طَوالَ ثَلاثِ سَنواتٍ. وَقَد صَرَفْنا وَقتًا رَائِعًا".

والعِبارَةُ "يَقِفُونَ أَمَامَ الْمَلِكِ" تُشيرُ إلى خِدمةِ المَلِك. هَل سَمِعتُم ذلك؟ خِدمَةِ المَلِك. فَوقوفُهُم أمامَهُ يَعني أن يَخدِموه. ونَحنُ نَرى هذهِ العِبارَةَ مِرارًا وتَكرارًا. فَنحنُ نَقرأُ أنَّ المَلائكةَ يَقِفونَ أمامَ عَرشِ اللهِ ويَفعلونَ مَاذا؟ يَنتظرونَ الأوامِرَ كَي يَخدِموه". وَقد وَقَفَ إرْميا النَّبِيِّ أمامَ اللهِ بانتظارِ أن يَنطَلِقَ في الخِدمَة. فالمَلِكُ يَقولُ: "أنا أريدُ أشخاصًا يَخدِمونَني، وَأنا أعلَمُ أنَّهُم سيَخدِمونَني إنْ كَانُوا يَشعُرونَ بأنَّهُم مَدينونَ لي. وَأنا أعلَمُ أنَّهُم سيخدِمونَني إنْ كَانُوا يَتَّكِلونَ على الأشياءِ الَّتي أُقَدِّمُها لَهُم وإنْ كَانُوا قَدِ اعْتادُوا على مُستوى الحَياةِ الَّذي أُوَفِّرُهُ لَهُم".

هَل تَذَوَّقْتَ يَومًا طَعمَ تلكَ الأشياء؟ هَل ذَهبتَ يَومًا إلى مَكانٍ وَتَنَعَّمْتَ فيهِ يَومينِ أو ثَلاثة أيَّام، أو رُبَّما يَومًا واحِدًا؟ أو رُبَّما دَعَاكَ أَحَدُهم إلى مَطعَمٍ فَاخِرٍ لا يَقِلُّ سِعْرُ الوَجْبَةِ فيهِ عِن خَمسينَ دُولارًا فَتَذَوَقْتَ الطَّعامَ هُناكَ وَقُلتَ: "هَذا طَعامٌ رَائِعٌ مِنَ السَّهلِ أن أَعتَادَ عَليه. أنا أَسْتَحِقُّ مِثْلَ هَذِهِ المُعامَلَة!"

هَذِهِ هي كُلُّ فِكرةِ غَسْلِ الدِّماغ. فَالأمرُ فَخٌّ. وَمِنَ الوَاضِحِ... هَل تُريدونَ أن تَعلَموا شَيئًا؟ إن كانَ هُناكَ مَا بين خَمسينَ إلى خَمسةٍ وَسَبعينَ مِنَ الفِتيانِ الَّذينَ أَخذوهُم، لا بُدَّ أنَّ المَكيدَةَ نَجَحَتْ مَعَ نَحوِ وَاحِدٍ وسَبعينَ مِنهُم لأنَّ الأشخاصَ الوَحيدينَ الَّذينَ لم يَقَعُوا ضَحِيَّةَ عَمليَّةِ غَسْلِ الدِّماغِ تِلكَ هُمُ أربعة فقط... أربعة فقط.

فَنحنُ نَقرأُ في العَددِ السَّادس: "وَكَانَ بَيْنَهُمْ مِنْ بَنِي يَهُوذَا: دَانِيآلُ وَحَنَنْيَا وَمِيشَائِيلُ وَعَزَرْيَا". لاحِظُوا الكلمة: "بَينَهُم". فَهذا يَعني أنَّهُ كَانَ يُوجَدُ المَزيدُ مِن هَؤلاءِ الفِتيانِ، وَكانَ مِن بَينِهِم فقط هَؤلاءِ الأربَعَة... فقط هَؤلاءِ الأربعة. فَلا يُوجَد أشخاصٌ كَثيرونَ في العَالَمِ يُقاوِمونَ مُحاولةَ العَالَمِ لِغَسلِ أدمِغَتِهم. وَلا يُوجَدُ أشخاصٌ كَثيرونَ لا يَقبَلونَ أن يَشترُوا قُمامَةَ العَالَم، أو لا يَرقُصونَ على مُوسيقا العَالَم. فقد كانَ هُناكَ أربعةُ فِتيانٍ فقط. وَهَل تَعلَمونَ مَاذا فَعَلوا بِهِم؟ نَقرأُ في العَددِ السَّابع: "فَجَعَلَ لَهُمْ رَئِيسُ الْخِصْيَانِ أَسْمَاءً، فَسَمَّى دَانِيآلَ «بَلْطَشَاصَّرَ»، وَحَنَنْيَا «شَدْرَخَ»، وَمِيشَائِيلَ «مِيشَخَ»، وَعَزَرْيَا «عَبْدَنَغُوَ»".

والآن، هَل تَعلمونَ مَاذا حَدَث؟ لَقد غَيَّروا كُلَّ أسمائِهِم وَأطلَقُوا عَليهِم أسماءً كَلدانِيَّة. وهذا جُزءٌ آخرُ مِن عَمليَّةِ غَسلِ الأدمِغَة. فَأنتَ تَنسَى أُصولَكَ، وتَنسَى تُراثَكَ، وتَنسَى عَائِلَتَكَ، وتَنسَى مَاضيكَ عندما تَنسَى هُوِيَّتِكَ الأصليَّة. فَلم تَعُد لَكَ هُوِيَّةٌ أصلاً. فَقَد فَقَدْتَ هُوِيَّتَكَ وَحَسْب.

وأنا أذكُرُ أنَّني بَقِيتُ سَنواتٍ طَويلة أُدعَى "ابنَ الدُّكتور جاك". فقد كُنتُ "لا أَحَد". فقد كُنتُ "ابن الدُّكتور جاك" وَحَسْب. وإن لم يَكُن هُناكَ الدُّكتور "جاك" لَما كُنتُ مَوجودًا. أجل. ولا يُمكِنُني أن أنسى مَا حَدَثَ يَومًا إذْ إنَّ شَخصًا قَالَ عِندَما قَدَّمَني إلى إحدى السَّيِّدات: "هَذا ابنُ الدُّكتور جاك". قالَت: "آه، الدُّكتور جاكسون! أنا مَسرورةٌ بِلُقياك". فقد كُنتُ "الدُّكتور جاكسون" أيًّا كانَ الدُّكتور جاكسون. وَأنا لا أُمانِعُ في أن أكونَ الدُّكتور جاكسون إنْ كُنتُ حَقًّا الدُّكتور جاكسون. ولكِنَّ تَجريدَ النَّاسِ مِن أُصولِهم ليسَ شَيئًا جَديدًا، بَل إنَّهُ مَا يَزالُ شَيئًا شَائِعًا اليوم.

فَقد كُنتُ أقرأُ في هذا الأسبوعِ كِتابًا عَن شَخصٍ اسمُهُ "الدُّكتور هونغ" (Dr. Hong) نَشَأَ في كُورِيَّا الشَّمالِيَّة. وَهُوَ رَجُلٌ مُمَيَّزٌ جدًّا نَشأَ في كُورِيَّا الشَّمالِيَّة. والحَقيقةُ هِيَ أنَّني التَقيتُهُ في الأسبوعِ المَاضي. وَكانَ قَد شَاهَدَ كُلَّ أفرادِ عَائلتِهِ يُعَذَّبونَ عندما تَمَّ غَزْو كُورِيَّا الشَّمالِيَّةِ مِنْ قِبَلِ اليَابانِيِّين. فَقد دَاهَموا بَيتَهُم، وقَطَعُوا إبْهامَيَّ أبيهِ، وقَتلوا جَدَّتَهُ، وقَتَلوا أخاهُ. والحَقيقةُ هِيَ أنَّهُم شَنَقوهُ في مَدخَلِ بَابِ بَيتِهم. وواحِدٌ مِنَ الأشياءِ الَّتي فَعلوها في كُلِّ أنحاءِ كُورِيَّا الشَّمالِيَّةِ عندما غَزوها هُوَ أنَّهُم غَيَّروا كُلَّ الأسماءِ الكُورِيَّةِ إلى أسماءٍ يَابانِيَّة لِكَي يَمْحُوا لَديهِم أيَّ شُعورٍ بالهُوِيَّة. وَهذا جُزءٌ مِن عَمليَّةِ غَسْلِ الدِّماغ. وَهَذا هُوَ مَا فَعلوه.

ورُبَّما تَرغَبونَ في مَعرفةِ شَيءٍ عَنِ الأسماءِ لأنِّي أعتقدُ أنَّ هَذا... بالمُناسَبة، أَوَدُّ أن أُضيفَ أنَّهُم غَيَّروا اسمَ يُوسُف. أَتَذكُرونَ ذلك؟ فَقد أطلَقُوا عليهِ اسمًا مِصرِيًّا عندما أُخِذَ إلى مِصْر. وأعتقدُ أنَّ اسمَهُ صَارَ "صَفْنَاتَ فَعْنِيح" أو شَيئًا مِن هَذا القَبيل. وَهَل تَعرِفونَ سَيِّدةً في الكتابِ المقدَّسِ تُدعَى: "هَدَسَّة"؟ إنَّهُ الاسمُ الحَقيقيُّ لأستير. فَقد غَيَّرُوا اسمَها هِيَ أيضًا عندما جَاءَت إلى مُجتمعٍ آخر. فَهذا هُوَ مَا كَانُوا يَفعلونَهُ غَالِبًا.

حَسَنًا! لننظر إلى الاسمِ "دَانيال". فالاسمُ "دانيال" يَعني: "اللهُ قَاضِيَّ". أمَّا اسمُهُ الجَديدُ "بَلْطَشَاصَّر" فمَعناهُ: "البَعْلُ يُدَبِّر" أو "بِيْل يُدَبِّر" أو رُبَّما: "أميرُ بِيْل". لِذا فقد غَيَّروا اسمَ اللهِ مِن يَهْوَه أوِ الله إلى بَعْل. فقد مَحَوْا اسمَ الله. أتَرَوْن؟

ثَانيًا: إنَّ الاسمَ "حَنَنْيَا" يَعني: "الرَّبُّ حَنَّان". ولكِنَّهُم غَيَّروا اسْمَ حَنَنْيَا إلى "شَدْرَخ". والاسمُ "شَدرَخ" مُشْتَقٌّ مِنَ الإلَه "آكو" (Akku) الَّذي جاءَت مِنهُ الكلمة "مَردوخ". والأمرُ كُلُّهُ مُتشابِكٌ، ولكِنَّهُ كانَ واحِدًا مِنَ الآلِهَةِ الرَّئيسيَّةِ في بَابِل.

أمَّا الاسمُ "مِيشَائِيل" فيَعني بالمُناسَبة، وَأنا أُحِبُّ ذلك: "مَنْ مِثْلُ الرَّبِّ". أليسَ هذا الاسمُ رائعًا؟ مَنْ مِثْلُ الرَّبِّ. ولكِنَّهُم غَيَّروا اسمَهُ إلى "مِيشَخ"، وَهُوَ مُشتَقٌّ أيضًا مِنَ الاسم "ميشا-آكو" وَمَعناهُ: "مَن مِثْلَ الإلَه آكو؟" وَالإلَه "آكو" هُوَ إلَهُ القَمَر.

أمَّا الاسْمُ "عَزَرْيَا" فَمَعناهُ: "الرَّبُّ مُعيني". ولكِنَّهُم غَيَّروهُ إلى "عَبْدَنَغُو" ومَعناهُ: "خَادِم نَغُو"، أو: "خَادِم نَبُو". وَقد كانَ "نَبُو" ابنَ البَعْل.

لِذا، في كُلِّ حَالةٍ، كَانَ هُناكَ شَيءٌ في كُلِّ تلكَ الأسماءِ الأربعةِ يُشيرُ إلى اللهِ، ويُشيرُ إلى حَقيقةِ أنَّهُم كَانُوا يَنْتَمونَ إلى عَائلاتٍ تَقِيَّةٍ. ورُبَّما كَانَ هَذا هُوَ السَّببُ في أنَّهُم تَمَيَّزُوا عَنِ البَقِيَّة لأنَّهُم كَانُوا يُمَثِّلونَ بَقِيَّةً مِنَ الأُناسِ المُؤمِنينَ في يَهوذا. ومِنْ بَينِ كُلِّ الفِتيانِ الَّذينَ أُخِذُوا، رُبَّما كانَ هؤلاءِ الفِتيانِ الأربعةِ هُمُ الوُحيدونَ الَّذينَ لَديهِم تُراثٌ تَقِيٌّ. وَلا شَكَّ في أنَّ أسماءَهُم كانت رَائِعَةً وَتَدُلُّ على التَّقوى. ولكِن في كُلِّ حَالةٍ، تَمَّ إلغاءُ اسْمِ اللهِ مِن أسمائِهِم والاستعاضَةُ عَنهُ بآلِهَتِهم الوَثنيَّة. فَقد كانَ البَابِلِيُّونَ يُحاوِلونَ أن يُلغُوا أيَّ وُجودٍ لله. وَكانُوا يُحاوِلونَ أن يَضَعُوا مَكانَهُ عِبادَتَهُم الشَّيطانِيَّة. وَهذا كُلُّهُ جُزءٌ مِن غَسْلِ الدِّماغ.

وَأنا أرى ذلكَ يَحدُثُ في مُجتمعِنا. فأنا أرى الشَّيطانَ يَعملُ على غَسْلِ أدمِغَةِ شَبابِنا لكي يُعَلِّموهُم أشياءَ العَالَم، ويَجذِبُوهُم إلى مُغْرِياتِ العَالَم، ويَجعَلوهُم يأكُلونَ لَحْمَ العَالَمِ، ويَلْعَبونَ ألعابَ العَالَمِ. والأغلبيَّةُ مِنهُم يَنجَرِفون.

وَهَذا يَقودُنا إلى الفِكرةِ الأخيرةِ في العَددِ الثَّامِن. وَسوفَ نَكتَفي بالتَّمهيدِ لها في هذا المساء. فقد انتقلنا مِنَ البَلِيَّةِ إلى المَكيدَةِ إلى القَصد... القَصد. وَهَذا يُغَيِّرُ كُلَّ شَيء. فَنحنُ نَرى مِفتاحَ الحَياةِ الخَالِيَةِ مِنَ المُساوَمَة في العَددِ الثَّامِنِ – في الجُزءِ الأوَّلِ مِنه: "أَمَّا دَانِيآلُ فَجَعَلَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ لاَ يَتَنَجَّسُ بِأَطَايِبِ الْمَلِكِ وَلاَ بِخَمْرِ مَشْرُوبِهِ". تَوَقَّفُوا هُنا.

فَدانيال... استَمِعُوا إلى هَذا: لَقد كانَ هذا الفَتى في سِنِّ الرَّابعة عَشْرَة. وَقد "جَعَلَ في قَلبِهِ". والمَعنى الحَرفِيُّ هُوَ أنَّهُ عَقَدَ العَزْمَ في قَلبِه. فَهُناكَ ثَلاثةُ أشياءٍ وَثنيَّة جدًّا حَدَثَت لهؤلاءِ الفِتيان: فَقد كانَ يَنبغي أن يُعَلِّموهُم الحِكمَةَ الوَثنيَّة، وكانَ يَنبغي أن يُطلِقُوا عَليهم أسماءً وَثنيَّة، وَكانَ يَنبغي أن يُطعِموهُم طَعامًا وَثَنِيًّا.

والآن، لَقد قَبِلُوا أوَّلَ شَيئَيْن. فقد مَضَوْا في التَّعليمِ الوَثنيِّ، وَتَعَلَّمُوا تَعليمًا كَلدانِيًّا. ولم يَكُن كُلُّ تَعليمِهم شِرِّيرًا. فَقد تَعَلَّمُوا أمورًا عِلميَّةً كثيرة، وَتَعَلَّمُوا الكَثيرَ مِنَ المَبادِئِ الهَندسيَّةِ المُفيدَة، والأشياءِ العِلميَّة، وَهَلُمَّ جَرَّا. وَقد سَمَحُوا لأنفسِهم بِقَبولِ مِثلِ ذلكَ التَّعليم. وأحيانًا، قد نُضْطَرُّ في مُجتَمَعِنا أو عَالَمِنا أن نَتَعَلَّمَ الأشياءَ الَّتي يُقَدِّمُها العَالَم، وَأن نَعرِفَ كيفَ نُمَيِّز بينَ الغَثِّ والسَّمين، وبينَ الحَقِّ وَالبَاطِل. لِذا فإنَّهُم لم يَعتَرِضُوا على عَمليَّةِ التَّعليم.

ثَانيًا، يَبدو أنَّهُم لم يَنزَعِجُوا مِنَ الأسماءِ الوَثنيَّةِ الَّتي أُطلِقَتْ عَليهم لأنَّهُ يُمكِنُكَ أن تُغَيِّرَ أسماءَهُم ولكِنَّكَ لا تَستطيعُ أن تُغَيِّرَ حَقيقةَ أنَّ أسماءَهُم الأصليَّةَ الَّتي أُطلِقَت عَليهِم مَكتوبَة في سِفْرِ اللهِ لأنَّهُم أولادُه. فَرُبَّما يُمكِنُكَ أن تُغَيِّرَ أسماءَهُم، ولكِنَّكَ لا تَستطيعُ أن تُغَيِّرَ قُلوبَهُم. ورُبَّما يُمكِنُكَ أن تُغَيِّرَ أسماءَهُم، ولكِنَّكَ لا تَستطيعُ أن تُغَيِّرَ أرواحَهُم.

ولكِنْ عِندَما حَانَ وَقتُ الشَّيءِ الثَّالثِ رَسَمُوا خَطًّا وقَالوا: "لا". فقد قَالَ دانيال إنَّهُ لن يَتَنَجَّس. والكلمة "يَتَنَجَّس" تَعني "يَتَلَوَّث" أو "يَتَلَطَّخ" بشيءٍ دَنِس. فقد قَال: "لَن أُلَطِّخَ حَياتي، ولَن أُلَوِّثَ حَياتي بِأَطَايِبِ الْمَلِكِ وَلاَ بِخَمْرِ مَشْرُوبِه".

والآن، مَهلاً! حَسنًا يا دَانيال، مَا الأمر؟ لماذا تَرفُضُ الطَّعامَ مَعَ أنَّكَ قَبِلتَ التَّعليم؟ فَيَبدو أنَّ تَأثيرَ التَّعليمِ أقوى مِن تَأثيرِ الطَّعام؟ لا، لا أَظُنُّ ذلك. لا أَظُنُّ ذلكَ لأنَّ الأكلَ مِن أطايِبِ العَالَمِ يَمْلِكُ قُدرةً أكبرَ على إفسادِنا. فالانخراطُ في أُسلوبِ حَياةِ العَالَمِ هُوَ الَّذي يُدَنِّسُنا أكثرَ مِنْ أنماطِ تَفكيرِ العَالَم. وَقد كانَ مُستعدًّا للإقرارِ بأنَّ هُناكَ أمورًا جَيِّدةً وأمورًا سَيِّئةً يُمكِنُ للمَرءِ أن يَتَعَلَّمَها. وَقد كَانَ يَملِكُ القُدرةَ على التَّمييزِ بينَ الاثنين.

ولكِن كانَ هُناكَ مَا هُوَ أخطرُ مِن ذلك. فالأمرُ لا يَقتَصِرُ فقط على اتِّخاذِ القَراراتِ المَنطِقيَّة. اسمَحُوا لي أن أقولَ لَكُم لماذا قَرَّرَ مَا قَرَّر. اسمَعوني: لم تَكُن هُناكَ وَصِيَّةٌ صَارِمَةٌ في كلمةِ اللهِ... افهَمُوا هَذا: لم تَكُن هُناكَ وَصِيَّةٌ صَارِمَةٌ في كلمةِ اللهِ تَنْهَى عَنِ اتِّخاذِ اسْمٍ وَثَنِيٍّ. فلم يَكُن هُناكَ أيُّ نَهْيٍ كَهَذا. ثَانيًا، لم تَكُن هُناكَ وَصِيَّةٌ صَارِمَةٌ تَنْهَى عَنْ تَعَلُّمِ مَا يُعَلِّمُهُ الآخرون. ولكِن كانَتْ هُناكَ وَصَايا صَارِمَةٌ جدًّا بشأنِ مَا يُمكِنُ لليهودِ أن يَأكُلوهُ ويَشرَبوه. أليسَ كذلك؟

والآن، اسمَعوني: هَذهِ هِيَ الفِكرةُ مِنَ الأمرِ كُلِّه. فقد رَسَمَ دَانيالُ خَطَّ عَدمِ المُساومةِ في حَياتِهِ على أساسِ مَا تَقولُهُ كلمةُ الله. هَل فَهِمتُم ذلك؟ إذًا، مَا هِيَ سِمَةُ الحَياةِ الخَالِيَةِ مِنَ المُساوَمَة؟ إنَّها حَياةٌ مُكَرَّسَةٌ بأنْ تَرسُمَ الخُطوطَ في حَياتِكَ في المَكانِ الَّذي تَرسُمُهُ فيها كلمةُ الله. هَل تَرَوْنَ ذلك؟ فَهُناكَ رَسَمَ دانيالُ الخَطَّ.

والآن، اسمَعوني: لم يَكُن بإمكانِهِ أن يأكُلَ طَعامَ المَلِكِ لِسَبَبَيْنِ رَئيسيَّيْن: الأوَّلُ هُوَ أنَّهُ لم يَكُن طَعامًا مُحَلَّلاً. فقد كَانَت لَديهم شَرائِعُ مُختصَّةٌ بالأكل. فَقد كانَ يَنبغي تَحضيرُ الأطعِمَةِ اليَهودِيَّةِ بطريقةٍ مُعَيَّنة. فَقد كانَ يَنبغي أن يُصَفَّى الدَّمُ بطريقةٍ مُعَيَّنة. وَكانَت هُناكَ حَيَواناتٌ طَاهِرَةٌ وَحَيَواناتٌ نَجِسَة. أليسَ كذلك؟ أمَّا البَابِلِيُّونَ فلم تَكُن لَديهم شَرائِعُ كهذه. فَهَل تَعلَمونَ أنَّهُم كَانُوا يَتَلَذَّذُونَ بأكلِ لُحومَ الخِنزير؟ فَقد كَانُوا يَحْسَبونَ لَحْمَ الخِنزيرِ مِنَ الأطايِب، وَكانُوا يأكُلونَ لُحومًا مَحظورَةً على اليَهود. ولم تَكُن طَريقةُ إعدادِ الطَّعامِ تُوافِقُ اليَهود. والآن، يُمكِنُكم أن تَرَوْا جُزءًا مِن قَصْدِ اللهِ عندما أعطى شَرائِعَ مُختصَّةً بالطَّعام. أليسَ كذلك؟ لأنَّه في هذهِ الحَالَةِ، كانت تِلكَ الشَّرائِعُ تَحْمي الفِتيانَ الرَّائِعينَ مِنَ الفَساد. فَقد كَانَ هَذا هُوَ قَصْدُ اللهِ مِنها: أنْ يُقَلِّصَ مِن فُرصَةِ اختلاطِهم بالوَثنيِّين.

ولكِنْ كانَ يُوجَدُ سَببٌ آخر لِعَدَمِ تَمَكُّنِ دَانيال مِنَ الأكلِ مِن ذلكَ الطَّعامِ وَهُوَ أنَّ العهدَ القديمَ قَالَ المَرَّةَ تِلوَ المَرَّةِ إنَّهُ لا يَجوزُ التَّهاوُنُ مَعَ الأصنامِ، وَإنَّهُ لا يَجوزُ التَّهاوُنُ مَعَ الوَثنيَّةِ مِن أيِّ نَوعٍ، وَإنَّهُ لا يَجوزُ التَّهاوُنُ مَعَ أيِّ شَيءٍ يَرْتَبِطُ بالأشخاصِ الَّذينَ يَعبُدونَ الأصنام. واستَمِعُوا إلى مَا يَلي: كانَ الطَّعامُ الَّذي يُقَدَّمُ على مَائِدَةِ المَلِكِ مُرتبطًا دَائِمًا بالآلِهَة لأنَّنا نَعرِفُ مِن خِلالِ التَّاريخِ البَابِلِيِّ أنَّ الطَّعامَ الَّذي كَانُوا يَأكُلونَهُ كَانَ يُقَدَّمُ أوَّلاً إلى الآلِهَةِ، وَأنَّ الخَمْرَ الَّذي كَانُوا يَشرَبونَهُ كَانَ يُقَدَّمُ أوَّلاً إلى الآلِهَةِ، وَأنَّ كُلَّ ذلكَ كَانَ يُقَدَّمُ للآلِهَةِ رَمْزِيًّا قَبلَ أن يَأكُلوه.

وَإنْ أَكَلَ دَانيالُ وَأصدقاؤُهُ مِن ذلكَ الطَّعامِ فإنَّهُم سيأكُلونَ شَيئًا قُدِّمَ للآلِهَة. وَهَذا يَعني أنَّهُم سيَشتركونَ حَرفيًّا في احتفالاتٍ وَثنيَّة. ولم يَكُن بِمَقدورِهم أن يَفعَلوا ذلك. لِذا فَقد وَقَفُوا ذلكَ المَوقِفِ استِنادًا إلى الكتابِ المقدَّس. فَحيثُ تُوجَدُ وَصِيَّةٌ كِتابِيَّةٌ مُحَدَّدَةٌ، يَنبغي أن تَرسُمَ الخَطَّ.

وَقد سَألني شَخصٌ في هذا الصَّباح: "هَل تَأخُذُ مَوقِفًا مِنَ الأشياء؟" قُلتُ: "أجل". "وَكيفَ تُقَيِّمُ ذلك؟" في ضَوْءِ رِسالةِ اللَّيلة، مِنَ السَّهلِ عليكُم أن تَعرِفُوا الإجابَة. قال: كَيفَ تُقَيِّمُ الأشياءَ الَّتي سَتَأخُذُ مَوقِفًا بشأنِها؟" وَأنا أقولُ لَهُ وَلَكُم: "في المَوضِعِ الَّذي يَرسُمُ فيهِ الكتابُ المقدَّسُ الخَطَّ فإنَّني أرسُمُ الخَطَّ... في ذلكَ المَوضِعِ وَحَسْب". فإنْ كَانَت هُناكَ كلمةٌ واضِحَةٌ مِنَ اللهِ فإنَّ هذهِ هِيَ سِمَةُ الحَياةِ الخَالِيَةِ مِنَ المُساوَمَة. لِذا، لَمْ يَسْمَحْ دَانيالُ بأن يَتَنَجَّسَ، ولا بأنْ يَتَلَوَّثَ، وَلا بأنْ يَتَدَنَّسَ بِسببِ عِصْيانِهِ للكِتابِ المُقَدَّس.

والآن، استَمِعُوا إلى مَا يَلي: لَقد كَانَتْ لَديهِ كُلُّ الأسبابِ للقيامِ بذلك... كُلُّ الأسباب. فَكِّرُوا وَحَسْب: أوَّلاً، لَقد كانَ صَبِيًّا. وَما نَوعُ الشَّخصيَّةِ الَّتي تَجِدونَها في صَبِيٍّ عُمرُهُ أربعَ عَشْرَةَ سَنة؟ ليسَت غَالِبًا مِن هَذا النَّوع. فَقد كَانَ مُجَرَّدَ صَبِيٍّ. وليسَ هَذا فقط، بَل إنَّهُ كَانَ بَعيدًا عَن وَطَنِه. فلم يَكُن هُناكَ أَحَدٌ يُشرِفُ عَليه. فَلم تَكُن أُمُّهُ تَنتَظِرُهُ عِندَ نَاصِيَةِ الشَّارِعِ وَهِيَ تَحْمِلُ بِيَدِها عَصَا. ولم يَكُن أبوهُ يَنتَظِرُهُ والحِزامُ في يَدِهِ. ولم يَكُن هُناكَ مَن سَيَقولُ لَهُ: "مَا الَّذي تَفعَلُهُ أيُّها الصَّبِيّ؟" فَقد كَانَ بِمُفرَدِهِ.

وليسَ هَذا وَحَسْب، بَل إنَّ المَلِكَ كَانَ هُوَ صَاحِب الكَلِمَةِ الأولى والأخيرة. وَكانَ المَلِكُ هُوَ الَّذي يُسِنُّ القَوانين. ورُبَّما كَانَ قد تَعَلَّمَ أن يُطيعَ السُّلُطات. وليسَ هَذا وَحَسْب، بل إنَّهُ إنْ أرادَ أن يَتَقَدَّمَ في المَملكةِ، وَهُوَ طُموحٌ كَانَ يَسعى إليهِ كُلُّ شَابٍّ إنْ كَانَ يَمْلِكُ تِلكَ الصِّفاتِ، لا بُدَّ أنَّهُ كَانَ يَعلَمُ أنَّهُ يَنبغي لَهُ أن يَفعلَ مَا يَقولُهُ المَلِك.

كذلك، إنْ عَصَى الأوامِرَ، سَوفَ يَغضَبُ المَلِكُ جدًّا. وسُرعانَ مَا تُدركونَ ذلكَ لأنَّهُ عندما تَقرأونَ سِفْرَ دَانيال ستَجدونَ أنَّهُ عِندَما غَضِبَ المَلِكُ وَاحْتَدَمَ غَضَبُهُ ابتدأَ في طَرْحِ النَّاسِ في أَتُونِ النَّار. وَقَد يُفَكِّرُ دانيال قَائِلاً: "لَقَد سَمَحَ اللهُ لَنا بأن نُسْبَى إلى هُنا. لِذا، مَا الَّذي نَدينُ بِهِ لَهُ؟"

فَقد كانَت لَديهِ كُلُّ الأسبابِ للمُساوَمَة... كُلُّ الأسباب. ولكِنَّهُ لم يَفعل ذلك. هَل تَعلَمونَ لِماذا؟ لأنَّهُ كَانَ يَتَحَلَّى بِصِفاتٍ مُعَيَّنة. لَقد كَانَ يَتَحَلَّى بالصِّفاتِ الحَقيقيَّة. فَقد كَانَ شَخصًا نَزيهًا. فَقدِ ارْتَضَى أنْ يَتَعَلَّمَ لُغَةَ المَلِك. أجل. وَقَدِ ارْتَضَى أن يَتَعَلَّمَ عُلومَ الكَلدانِيِّين. وَقدِ ارتَضى حَتَّى الاسْمَ الَّذي أَطْلَقُوهُ عَليه. ولكِنَّهُ لم يَقبَل يَومًا أُسلوبَ الحَياة. هَل سَمِعتُم ذلك؟ لم يَقبَل يَومًا أُسلوبَ الحَياة... لم يَقبَل يَومًا أُسلوبَ الحَياة.

والآن، أريدُ مِنكُم أن تَعلَموا أنَّ هَذا لم يَكُن يَعني أن يَغضَبَ، وأن يَصيرَ مُرَّ النَّفسِ، وَأن يَصيرَ عَنيدًا، وَأن يَصيرَ رُوحُهُ شِرِّيرًا، وَأن يَقلِبَ الجَميعَ ضِدَّهُ. فالعَددُ التَّاسِعُ يَقولُ إنَّ رَئيسَ الخِصْيانِ تَحَنَّنَ عَليه. فَقد تَحَنَّنَ على دَانيال. فقد كَانَ هذا الشَّخصٌ يُؤمِنُ بِمُعتَقداتِهِ بِمَحَبَّة. يا لَهُ مِن شَابٍّ مُمَيَّز! يَا لَهُ مِن شَابٍّ مُمَيَّز!

ويا أحبَّائي، أريدُ أن أقولَ لَكُم إنَّ سِمَةَ الحَياةِ الَّتي لا تَقبَلُ المُساوَمَةَ تَقومُ على الطَّاعَةِ المُطلَقَةِ لِمَبادِئِ كلمةِ الله. وَكُلُّ مَا أقولُهُ يا أحبَّائي هُوَ أنَّهُ عندما يَقولُ الكتابُ المقدَّسُ شَيئًا، لا تُساوِم على ذلك، بَل تَمَسَّك بِمُعتقداتِكَ بِمَحَبَّة. وعندما تَعيشُ حَياةً خَالِيَةً مِنَ المُساوَمَةِ، سَوفَ يَستَخدِمُكَ اللهُ. ومِن هذهِ اللَّحظةِ فَصاعِدًا، يَستخدِمُ اللهُ دَانيال بِطَرائِقَ مُدهشة... مُدهِشَة. لِذا، كُونُوا نَافِعينَ لله. ضَعُوا مِعيارًا وَعِيشُوا بِمُوجِبِهِ كُلَّ يَومٍ مِن أيَّامِ حَياتِكُم.

وَسَوفَ أختِمُ بهذهِ القِصَّة. يُحكَى أنَّ رَجُلاً إنجليزيًّا غَنِيًّا كَانَت لَديهِ مَجموعَةٌ مِنْ آلاتِ الكَمانِ النَّادِرَة. وَكانَت هُناكَ آلَةُ كَمانٍ مِن نَوعيَّةٍ فَاخِرَةٍ وَرائعةٍ حَتَّى إنَّ عَازِفَ الكَمانِ الشَّهير "فريتز كرايسلر" (Fritz Kreisler) كَانَ يَرغَبُ في الحُصولِ عَليها مِن هَذا الرَّجُلِ الإنجليزيِّ الشَّهير، ولكِنَّ مَالِكَها لَم يَرغَب في بَيعِها. وَذاتَ يَومٍ، جَاءَ "كرايسلر" لِرؤيَتِه. وَلا شَكَّ في أنَّهُ كَانَ يَستَطيعُ العَزفَ عليها بِبراعَةٍ شَديدةٍ وَإتقانٍ لا مَثيلَ لَهُ حَتَّى إنَّهُ في اليَومِ الَّذي جَاءَ فيهِ تَوَسَّلَ إلى الرَّجُلِ كَي يَسمَحَ لَهُ على أَقَلِّ تَقديرٍ بأن يَعزِفَ على هذهِ الآلَةِ الرَّائعة.

وَقد سَمَحَ لَهُ الرَّجُلُ بذلك فأمسكَ عَازِفُ الكَمانِ بالآلَةِ وَعَزَفَ عَليها مَعزوفَةً لا يَستطيعُ أحدٌ سِوى "فريتز كرايسلر"أن يَعزِفَها. وَقد نَسِيَ نَفسَهُ كَما يَقولُ كَاتِبُ سِيرَتِهِ الذَّاتِيَّة. فَقَد سَكَبَ نَفسَهُ في المُوسيقا. وبينَما كَانَ يَعزِفُ، وَقَفَ الرَّجُلُ الإنجليزيُّ كَما لو كَانَ مَسحُورًا. وعِندَما انتَهى كرايسلر مِنَ العَزف، لم يَتَفَوَّه بكلمة، بَل أَرْخَى القَوْسَ والأوتارَ، وَوَضَعَ الآلَةَ في حَقيبَتِها بِذاتِ الرِّقَّةِ الَّتي تَضَعُ فيها الأُمُّ طفلَها الرَّضيعَ في سَريرِه. ثُمَّ إنَّ مَالِكَها قَالَ: "سَيِّد كرايسلر، لا يُمكِنُكَ أن تَشتري آلَةَ الكَمانِ، ولكِنْ يُمكِنُكَ أن تأخُذَها. فأنا لا أَمْلِكُ أيَّ حَقٍّ في الاحتفاظِ بِها. فَيَنبغي أن تَكونَ في عُهْدَةِ شَخصٍ يَستطيعُ أن يُخرِجَ مِنها مُوسيقا رَائِعَة كَهذه".

اسمَعوني: إنَّ اللهَ قَادِرٌ على إخراجِ مُوسيقا رَائَعة مِنَ حَياتِك. وَسَوفَ تَرَوْنَ كَيفَ فَعَلَ ذلكَ بِدانيال. ولكِن يَجِبُ عليكَ أن تُسَلِّمَهُ حَياتَك. سَلِّمْهُ حَياتَكَ، وَكُنْ صَاحِبَ شَخصيَّةٍ لا تُساوِمُ، بَل تَحيا بِحَسَبِ مَبادِئِ كلمةِ الله. دَعُونا نُصَلِّي مَعًا:

يَا رَبّ، لَقَد صَرَفنا وَقتًا رَائعًا في هذا المساء. وَنحنُ نَشعُرُ وَحَسْب بِالدَّهشةِ مِن قِصَّةِ دَانيال.. فَيا لَها مِن قِصَّةٍ رَائعةٍ جدًّا! يا رَبُّ، أُصَلِّي لأجلِ الأشخاصِ الأعِزَّاءِ الحَاضِرينَ هُنا، وَأُصَلِّي لأجلِ نَفسي أنْ تُشَكِّلَنا وتَجعَلَنا نَمْتَلِكُ تلكَ الشَّخصيَّةَ الَّتي كَانَ ذلكَ الصَّبِيُّ ابْنَ الرَّابعة عَشْرَةَ أوِ الخَامِسَة عَشْرَةَ يَمْتَلِكُها. فَهُناكَ أشخاصٌ مِنَّا عَاشُوا وَقتًا أطولَ بكثير مِن ذلك ولكِنَّنا نَعْجَزُ على العُثورِ على شَخصيَّةٍ كَهذهِ في حَياتِنا.

يا أبانا، نُصَلِّي مِن أجلِ الفِتيانِ، والمُراهِقينَ والفَتياتِ الَّذينَ يَتَعَرَّضُونَ لِكُلِّ هَذا الكَمِّ مِنَ النُّفايَةِ مِنَ العَالَم، والَّذينَ يُجَرَّبونَ في أن يَتَكَلَّمُوا لُغَةَ العَالَم، وَأنْ يَتَعَلَّمُوا التَّعليمَ الَّذي يُقَدِّمُهُ العَالَم، وَأن يَنغَمِسُوا في نَمَطِ حَياةِ العَالَم. يا رَبُّ، صَلاتي هِيَ أن تُقيمَ أشخاصًا في هذهِ الكَنيسةِ مِثلَ دَانيال ورِفاقِه لا يَنقادُونَ وَراءَ الفَسادِ، وَلا يَتَنَجَّسونَ، وَلا يَتَدَنَّسونَ، وَلا يَتَلَوَّثونَ، بَل يَبْنُونَ شَخصِيَّتَهُم وَحَياتَهُم الخَالِيَةَ مِنَ المُساوَمَةِ على كلمةِ الله.

يا رَبّ، أنا مُتَحَمِّسٌ لأنَّنا سنَنظرُ في الأسبوعِ القَادِمِ إلى نَتائِجِ الحَياةِ الخَاليةِ مِنَ المُساوَمَة، وَإلى مَا يَحدُثُ عندما نَعيشُ بتلكَ الطَّريقة. وَقد رأينا ذلكَ في هذا المساء. فَالأمرُ يُشبِهُ إعطاءَ آلةِ كَمانٍ لِعازِفٍ مَاهِر. خُذْ حَياتَنا وافعَل بها أُمورًا عَجيبةً. وَساعِدنا، يَا أبانا، على أن نُكَرِّسَ أنفسَنا مِن جَديدٍ لَكَ. باسْمِ المَسيح. آمين!

This sermon series includes the following messages:

Please contact the publisher to obtain copies of this resource.

Publisher Information
Unleashing God’s Truth, One Verse at a Time
Since 1969

Welcome!

Enter your email address and we will send you instructions on how to reset your password.

Back to Log In

Unleashing God’s Truth, One Verse at a Time
Since 1969
Minimize
View Wishlist

Cart

Cart is empty.

Subject to Import Tax

Please be aware that these items are sent out from our office in the UK. Since the UK is now no longer a member of the EU, you may be charged an import tax on this item by the customs authorities in your country of residence, which is beyond our control.

Because we don’t want you to incur expenditure for which you are not prepared, could you please confirm whether you are willing to pay this charge, if necessary?

ECFA Accredited
Unleashing God’s Truth, One Verse at a Time
Since 1969
Back to Cart

Checkout as:

Not ? Log out

Log in to speed up the checkout process.

Unleashing God’s Truth, One Verse at a Time
Since 1969
Minimize