
افتَحوا كِتابَكُم المُقدَّسَ على إنجيل لُوقا والأصحاحِ التَّاسِع، مِنْ فَضْلِكُم. وأريدُ أن أَلفِتَ انتباهَكُم إلى العَدد 26. وقد صَرَفْنا بِضعةَ أسابيع في دِراسَةِ فَقْرَةٍ مُعَيَّنة في الأصحاحِ التَّاسِعِ مِن إنجيل لُوقا ابتِداءً مِنَ العدد 23 وُصولاً إلى العَدد 26. وَهذا النَّصُّ هُوَ في صَميمِ تَعليمِ يَسوع. وَهُوَ في صَميمِ الإنجيل. فالعَددُ 23 يَقول: "وَقَالَ لِلْجَمِيعِ: «إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي، فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ كُلَّ يَوْمٍ، وَيَتْبَعْنِي. فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي فَهذَا يُخَلِّصُهَا. لأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ، وَأَهْلَكَ نَفْسَهُ أَوْ خَسِرَهَا؟ لأَنَّ مَنِ اسْتَحَى بِي وَبِكَلاَمِي، فَبِهذَا يَسْتَحِي ابْنُ الإِنْسَانِ مَتَى جَاءَ بِمَجْدِهِ وَمَجْدِ الآبِ وَالْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِين".
وقبلَ أنْ نَختِمَ دِراسةَ هذا المَقطَع، أريدُ أن أَتأمَّلَ في كلماتِ يَسوعَ في العَدد 26: "لأَنَّ مَنِ اسْتَحَى بِي وَبِكَلاَمِي، فَبِهذَا يَسْتَحِي ابْنُ الإِنْسَانِ مَتَى جَاءَ بِمَجْدِهِ وَمَجْدِ الآبِ وَالْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِين".
وأريدُ أن أُرَكِّزَ على الكلمة "اسْتَحَى". فعندما نَتحدَّثُ عن أسوأ صِفَةٍ مِنْ صِفاتِ البَشَر، أو عن أسوأ سُلوكٍ بَشَرِيٍّ، فإنَّنا نَقولُ غَالِبًا إنَّ ذلكَ الشَّخصَ لا يَسْتَحي، أو إنَّهُ يَتصرَّفُ كَشَخْصٍ عَديمِ الحَياء. ومِنَ المُؤكَّدِ أنَّ هُناكَ أشخاصًا كثيرينَ لا يَسْتَحونَ مِنْ تَصَرُّفِهم وسُلوكِهم. وَهُم يَتفاوَتونَ في ذلكَ بصراحَة. فَهُناكَ أشخاصٌ لا يَسْتَحونَ، وشِرِّيرونَ جدًّا، وعَديمو الأخلاقِ جدًّا، وَفاسِقونَ جدًّا. وَهُم يَعيشونَ حَياةً شِرِّيرةً إلى أَقصَى الحُدود. وَيَبدو أنَّ ضَمائِرَهُم مَوْسُومَة لأنَّهُم لا يَشعرونَ بأيِّ ذَنْبٍ أوْ نَدَمٍ بِغَضِّ النَّظَرِ عَن عَدَدِ شَرائعِ اللهِ الَّتي يَتَعَدَّوْنَ عليها أو عَدَدِ المَرَّاتِ الَّتي يَكسِروها فيه. فَهُمْ أُناسٌ عَديمو الحَياء.
ولكِنْ في الجَانِبِ الآخَرِ، هُناكَ شخصٌ آخرُ لا يَسْتَحي. صَحيحٌ أنَّهُ ليسَ بَائسًا جدًّا أو سَيِّئًا جدًّا أو شِرِّيرًا جدًّا، ولكنَّهُ شَخصٌ سَيِّءٌ في الخَفاءِ لأنَّهُ يَبدو في الظَّاهِرِ مُتديِّنًا أو بَارًّا في عَيْنَي نَفسِه. وَهَؤلاءِ مُقتَنِعونَ في أذهانِهِم أنَّهُمْ يَحْظَوْنَ بِسَبِ صَلاحِهِمِ البَشَرِيِّ بالقَبولِ عندَ اللهِ، وأنَّهُم لا يَكسِرونَ شَرائِعَ اللهِ. لِذا فإنَّهُمْ لا يَسْتَحونَ أيضًا وَلا يَشعُرونَ بالذَّنبِ ولا بالنَّدَمِ بسببِ نَجاحِهِم في خِداعِ أنفُسِهم بِشأنِ حَالَتِهم الحَقيقيَّة.
إذًا، هُناكَ أُناسٌ بَائِسونَ لا يَشعُرونَ بأيِّ حَياءٍ. وهُناكَ أُناسٌ مُتَديِّنونَ لا يَشعرونَ بأيِّ حَياء. وهُناكَ أشخاصٌ أشرار عَلَنًا لا يَشعرونَ بأيِّ شُعورٍ بالذَّنْب لأنَّهُم دَرَّبوا أنفُسَهُم على إنكارِ ذلك. وهُناكَ أشخاصٌ مُتديِّنونَ أشرارٌ في الخَفاءِ ولا يَشعرونَ بأيِّ ذَنْبٍ لأنَّهُم دَرَّبوا أنفُسَهُم على الاتِّكالِ على بِرِّهِمِ الذَّاتِيِّ.
وفي كُلِّ الأمكِنَةِ والأزمِنَةِ، كانت إسرائيلُ تَعِجُّ بتلكَ الأنواعِ مِنَ الأشخاصِ عَديمي الحَياء. فقد كانَ هُناكَ الفَاسِقونَ. وكانَ هُناكَ الزُّناةُ. وكانَ هُناكَ المُجرِمونَ الخَطيرونَ. وكانَ هُناكَ أَوْبَاشُ أو حُثَالَةُ المُجتمعِ البَشريِّ. وكانَ هُناكَ الرُّذَلاءُ، والعَشَّارونَ، والأشخاصُ البَائِسونَ الأشرارُ عَلَنًا الَّذينَ يَعيشونَ حَياةً عَديمَةَ الحَياء. أمَّا الفِئَةُ الَّتي هِيَ أَسْوأُ الكُلِّ ويَصعُبُ الوُصولُ إليها فهي فِئَةُ النُّخْبَةِ الدِّينيَّةِ، والكَتَبَة، والفَرِّيسيِّينَ، ورُؤساءُ الكَهَنةِ، والأشخاصُ الَّذينَ أَسَّسُوا المؤسَّسَةَ الدِّينيَّةَ؛ وَهُمْ أيضًا عَديمو الحَياءِ لأنَّهُم كانوا يُؤمِنونَ بأنَّهُم ليسوا مُذْنِبينَ أمامَ اللهِ، وبأنَّهُمْ مِن خِلالِ بِرِّهِمِ الذَّاتِيِّ قد مَحَوْ أيَّ ذَنْبٍ يَدينُهم. وفي كِلتا الحَالَتَيْن، كانَ هؤلاءِ النَّاس يَفتخِرونَ بأشياءٍ يَنبغي أنْ يَخْجَلوا مِنها. فالأشخاصُ الأشرارُ عَلَنًا ينبغي أن يَخجَلوا مِنْ شَرِّهِم. والمُراؤونَ يَنبغي أن يَخجَلوا مِن رِيائِهم.
ويَصِفُ بولُسُ في رِسالَتِهِ إلى أهلِ فيلبِّي 3: 19 الأشخاصَ الَّذينَ يَفتَخِرونَ بأمورٍ ينبغي أن يَخجَلوا مِنها سَواءٌ أكانَتْ فُجورًا تَجاوَزَ الحَدَّ أَمْ رِياءً مَكبوحًا. فالخُطاةُ بارِعونَ جدًّا في خِداعِ أنفُسِهم، وبارِعونَ جدًّا في الشُّعورِ بمشاعِرَ طَيِّبة تُجاهَ أنفُسِهم. وهذا صَحيحٌ بِصورةٍ خَاصَّةٍ في يَومِنا هذا حيثُ إنَّ مُجتَمَعَنا يَعمَلُ جَاهِدًا على إقناعِ النَّاسِ بأنَّهُ يَجِبُ عليهم أن يَشعُروا بمَشاعِرَ طَيِّبَة أيًّا كانَ الشَّيءُ الَّذي اختاروا أن يَتَّصِفوا بِهِ أو أن يَفعلوهُ لأنَّهُمْ في نِهايةِ المَطافِ مُسْتَقِلُّونَ بِذواتِهم وأحرارٌ في اختيارِ مَا يَشاؤون. لِذا فإنَّ الخُطاةَ يُدَرِّبونَ أنفُسَهُم على عَدَمِ الشُّعورِ بالخَجَل.
وفي الأصحاحِ السَّادِسِ مِن سِفْرِ إرْميا، هُناكَ كَلِماتٌ رائعةٌ بهذا الخُصوص. وهي تَصِفُ الخَاطِئَ بِلُغَةٍ وَاضِحَةٍ تَمامًا. استَمِعوا إلى هذهِ الكلماتِ في سِفْرِ إرْميا 6: 15: "هَلْ خَزُوا لأَنَّهُمْ عَمِلُوا رِجْسًا؟ بَلْ لَمْ يَخْزَوْا خِزْيًا وَلَمْ يَعْرِفُوا الْخَجَلَ". فَهُمْ لَمْ يَعلَموا حَتَّى أنَّهُم فَعَلوا شَيئًا مُخْزِيًا. وَهُمْ لم يَعلَموا حَتَّى أنَّهُمْ قد أَخْزَوْا أنفُسَهُم. فقد دَرَّبوا أنفُسَهُم على عَدَمِ الشُّعورِ بذلك.
فَجميعُ الخُطاةِ (سَواءٌ أكانُوا مُتَدَيّنِينَ أَمْ غير مُتَدَيّنِين، وسَواءٌ أَكانوا يَتَحَلَّوْنَ بأخلاقٍ حَسَنة أَمْ لا يَتَحَلَّوْنَ بأخلاقٍ حَسَنة) لَديهم أُمورٌ كَثيرة يَنبغي أن يَخجَلوا مِنها...أمورٌ كَثيرة. وَالكتابُ المقدَّسُ يُرَكِّزُ كثيرًا على ذلك. فالكلماتُ المَقرونَةُ بالعَارِ تَملأُ الكتابَ المقدَّسَ: العَار، خَجِلون، مُخْزٍ، بِلا خَجَل. وَهي تَظهَرُ في الكتابِ المقدَّسِ مُقتَرِنَةً بالخطيَّة. فَسَواءٌ أكانت خَطِيَّةُ الرِّياءِ النَّاجِمِ عنِ البِرِّ الذَّاتِيِّ، أَمْ خَطِيَّةُ الفُجورِ العَلَنِيِّ، أَمْ أيَّ شَيءٍ في الوَسَط، فإنَّها سَبَبٌ للشُّعورِ بالعَارِ، والذَّنبِ، والحَرَجِ، والخِزْيِ، أو حَتَّى تلكَ الكَلِمَة القَديمَة: "الهَوان".
وقد كانت أُمِّي تَستخدِمُ تلكَ الكلمة. فأنا أذكُرُ أنَّها كانت تَقولُ لي عندما كُنتُ صَبيًّا: "يجبُ عليكَ أنْ تَشعُرَ بالهَوانِ لأنَّكَ فَعلتَ ذلك. أو أنا أشعُرُ بالهَوانِ لأنَّكَ قُلتَ ذلك". وقد كانت تلكَ أقوى كَلِمَة لَديها للتَّعبيرِ عن خَجَلِها مِنِّي. وأنا مَسرورٌ لأنِّي تَرَبَّيْتُ في بَيتٍ يَقولُ لي فيهِ أبَوايَ في أوقاتٍ كَثيرة: "يجبُ عليكَ أنْ تَخْجَلَ مِن نَفسِك". فهذا أفضَلُ بِكَثير مِن أن يَقولا: "يجبُ عليكَ أنْ تَكونَ فَخورًا بنفسِك" أو "أن تَشعُرَ بِمَشاعِرَ طَيِّبة تُجاهَ نَفسِك" لأنَّ هُناكَ أمورًا كَثيرةً يَنبغي أن نَخجَلَ مِنها. ويجبُ علينا أن نُعَلِّمَ أولادَنا أنْ يَستَحُوا بأنفُسِهم؛ لا فقط أمامَ النَّاسِ، بَلْ إنَّ الأهَمَّ مِن ذلكَ هُوَ أنْ يَستَحُوا أمامَ اللهِ. فهذا سَيَنفَعُهم جَيِّدًا في اقتيادِهم إلى التَّوبة.
والحَقيقةُ هي أنَّهُ لكي أُبَسِّطَ الموضوعَ في هذا الصَّباحِ في إطارِ الوَقْتِ المُتاحِ لدينا، فإنَّ الخَلاصَ يَتَلَخَّصُ بالشُّعورِ بالخِزْي. فَهُوَ يَرتَبِطُ ارتباطًا وَثيقًا بالشُّعورِ بالخِزْي. ففيما يَخُصُّ الأشخاصَ الَّذينَ يَشعُرونَ بالخِزْيِ مِن أنفُسِهم، هُناكَ رَجاءٌ بالخَلاص. وفيما يَخُصُّ الأشخاصَ الَّذينَ لا يَشعرونَ بالخِزْي، لا يُوجَدُ رَجاء. فهذهِ هي الخُلاصَة. فهُناكَ نِعمَة، وهُناكَ غُفرانٌ، وهُناكَ حَياةٌ أبديَّةٌ للأشخاصِ الَّذينَ يَخْجَلونَ مِن أنفُسِهم. ولكِنْ لا تُوجَدُ نِعمَةٌ ولا غُفرانٌ وَلا حَياةٌ أبديَّةٌ للأشخاصِ الَّذينَ لا يَخجَلون. وهذا هُوَ الخِيار.
والحقيقةُ هي أنَّ يَسوعَ جَعَلَ الخِيارَ وَاضحًا حينَ قال: "لأَنَّ مَنِ اسْتَحَى بِي وَبِكَلاَمِي، فَبِهذَا يَسْتَحِي ابْنُ الإِنْسَانِ مَتَى جَاءَ بِمَجْدِهِ". وكما تَرَوْنَ، عندما يأتي ابنُ الإنسانِ بمجدِه، سوفَ يَتعامَلُ معَ الخُطاة. والموقفُ الوحيدُ الَّذي قد يُظهِرُهُ اللهُ مِن نَحوِ الخَطيَّةِ الَّتي لم تُغفَر هو أن يَستَحي بالخَاطئِ تَمامًا وإلى الأبد. ففيما يَخُصُّ الأشخاصَ الَّذينَ لا يَسْتَحونَ مِن أنفُسِهم، سَيَستَحي المَسيحُ بِهم.
فهُناكَ أُناسٌ، كَما هُوَ وَاضِحٌ، يَرفُضونَ أنْ يَسْتَحوا مِن أنفُسِهم، ولكنَّهُم يَسْتَحونَ بيسوعَ وبِرِسالَتِه. فَهُمْ يَسْتَحونَ بالإنجيل. وَهُمْ يَسْتَحونَ بأنْ يَدْعُوا يَسوعَ رَبًّا ومَسيحًا. وهذا سَيَكونُ عَارًا عَليهِم. فهَذا سَيكونُ إقرارًا بِبُؤسِهم، ولكنَّهُم يَرفُضونَ الإقرارَ بِه. وقد كانت هذِهِ سِمَة رَئيسيَّة للمؤسَّسَة الدِّينيَّة. لاحِظُوا لُوقا 9: 22: "إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يَتَأَلَّمُ كَثِيرًا، وَيُرْفَضُ مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلُ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ".
فَقد رَفَضوا أن يَكونَ يَسوعُ هُوَ المَسِيَّا. وقد رَفَضُوا أن يَكونَ رَبًّا لَهُم، وأنْ يَكونَ مُخَلِّصًا لَهُم. وقد رَفَضوا أن يَكونَ يَسوعُ مَلِكًا عَليهم. وقد رَفَضُوا أن يَمْلِكَ هذا الرَّجُلُ عَليهم (كَما قالوا). فقدِ اسْتَحوا بالمَسيح. وكانَ كُلُّ شَيءٍ يَختصُّ بيسوعَ حَجَرَ عَثْرَةٍ بالنِّسبةِ إليهم، وإساءةً إليهم؛ لا فقط الصَّليب، بل كُلُّ شَيءٍ آخرَ أيضًا. وقد صَلبوهُ لأنَّهُم كانوا يَسْتَحونَ بحقيقةِ أنَّهُ ادَّعَى أنَّهُ مَسيحُهم. فقد كانَ مِنَ المُسيءِ مِنْ وُجهَةِ نَظَرِهم أنْ يُعلِنَ ذلكَ الشَّخصُ المُتواضِعُ جِدًّا والوَديعُ جدًّا أنَّهُ مَسيحُهم.
فَلَم يَكُنْ عَدَمُ وُجودِ صِفاتٍ نَبيلةٍ فيهِ هُوَ الَّذي أَثارَ استياءَهُم. ولم تَكُنِ القُدرةُ الإلهيَّةُ هي الَّتي أثارَت استياءَهُم. فلم يَكُن هذا هو ما أثارَ استياءَهُم، بل إنَّ مَا أثارَ استياءَهُم هُوَ رِسالَتُه. وما أثارَ استيائَهُم هو أنَّهُ قالَ عَنهُم إنَّهُم خُطاة، وأنَّهُ وَصَفَ صَوْمَهُم بالرِّياء، وأنَّهُ وَصَفَ صَلاتَهُم بالرِّياء، وأنَّهُ وَصَفَ عَطاءَهُم بالرِّياء. وقد قالَ في الحَقيقة إنَّهُم فُقراءَ، وأَسْرَى، وعُميانًا، ومَقهورينَ، وإنَّ حَالَتَهُم الروحيَّةَ الحقيقيَّةَ كانت فَقْرًا مُدْقِعًا، وإنَّهُمْ مُفلِسونَ رُوحِيًّا. فقد كَانُوا أَسْرَى إثْمِهِم ويَسيرونَ نَحوَ الدَّينونة. وقد كانُوا عُميانًا لأنَّهُم لا يَرَوْنَ الحَقَّ الرُّوحِيَّ. وقد كانوا ثَقيلي الأحمالِ حَرفِيًّا لأنَّهُم كانوا يَحمِلونَ ثِقْلَ ذُنوبِهم. وقد كانوا يَرفُضونَ قَبولَ تلكَ الرِّسالَة.
والحقيقةُ هي أنَّهُ عندما وَعَظَ تلكَ العِظَة في مَجْمَعِهِم في بَلدَةِ النَّاصِرةِ في أوَّلِ مَرَّةٍ وَعَظَ بِها هُناكَ في المَجمَعِ الَّذي نَشَأ فيه، وفي المَكانِ الَّذي صَرَفَ فيهِ ثَلاثينَ سَنَة مِن حَياتِه، وفي المَكانِ الَّذي كانَ الجَميعُ فيهِ يَعرِفُهُ، وَوَعَظَ تلكَ العِظَةَ الواحِدَة، كانَ جِيرانُهُ، وأصدقاؤُهُ، وأقرباؤُهُ هُمُ الَّذينَ أخَذوهُ بعدَ تلكَ العِظَةِ إلى حَافَّةِ الجَبَلِ وأرادوا أنْ يَطرَحوهُ إلى أسفَلَ ويَقتُلوه. فإلى هَذا الحَدِّ كَرِهوا رِسالَتَه.
وقد كانتِ النُّقطةُ الجَوهريَّةُ هي أنَّ هذا كانَ يَستدعي مِنهُم أنْ يَستَحُوا مِن أنفُسِهم. ولكنَّهُم كَانُوا مُقتَنِعينَ جدًّا في أنفُسِهِم بِبِرِّهِمِ، أيْ بِبِرِّهِمِ الذَّاتِيِّ، حَتَّى إنَّ رِسالَتَهُ أثارَتْ غَضَبَهُم إلى الحَدِّ الَّذي أرادوا فيهِ أن يَقتُلوهُ بعدَ عِظَةٍ واحِدَة.
وهذهِ هي حَقًّا النُّقطةُ الجَوهريَّةُ في نِهايةِ المَطافِ: مَنْ سَيَذهَبُ إلى السَّماء. فالأمرُ يَتوقَّفُ على ما إذا كُنتَ سَتَستَحي مِن نَفسِكَ أَمْ أنَّكَ سَتَستَحي بيسوعَ وبإنجيلِهِ. فهذهِ هي النُّقطةُ الجَوهريَّة. وبالمُناسَبَة، هُناك أمورٌ كثيرة جدًّا ينبغي أن تَستَحي مِنها...كَثيرة جدًّا. فَلديكَ سِجِلٌّ يُدَوِّنُ كُلَّ خَطِيَّةٍ اقتَرفتَها طَوالَ حَياتِكَ دُونَ كَبْحٍ، وَدُونَ قُيودٍ، وَدُونَ خَلْطٍ بأيِّ شَيءٍ مِنَ البِرِّ. لِذا يجب على كُلِّ خَاطِئٍ أن يَستَحي تَمامًا مِن نَفسِهِ (أو أنْ تَستَحي مِن نَفسِها).
ولكنِّي أقولُ لكم إنَّ هُناكَ شَخصًا لا يَجوزُ أن تَستَحوا بِهِ وَهُوَ يَسوع. فما الَّذي سَتَسْتَحونَ مِنْهُ؟ القَداسةَ الكامِلَة؟ البِرَّ الكَامِل؟ الفَضيلةَ الكَامِلَة؟ الصَّلاحَ الكَامِل؟ العِلْمَ والحِكمةَ الكامِلَيْن؟ التَّعاطُفَ الكامِل؟ المحبَّةَ الكاملة؟ الرَّحمةَ الكامِلة؟ النِّعمةَ الكاملة؟ القُدرةَ الكاملة؟ العَدالةَ الكامِلة؟ فما الَّذي سَتَسْتَحونَ مِنهُ؟ فإنْ قُلتَ إنَّكَ تَستَحي بيسوعَ فإنَّكَ تَدينُ حَالَتَكَ البائسة. وكأنَّكَ بذلكَ تَقول: "أنا أَسْتَحي بِما هُوَ مُقَدَّس. وأنا أَسْتَحي بما هُوَ حَقّ. وأنا أَسْتَحي بما هُوَ صَالِح. وأنا أَسْتَحي بما هُوَ صَادِقٌ ونَزيهٌ وَعادِلٌ. أنا أَسْتَحي بذلك". وهذا يَدُلُّ بوضوحٍ على حَالَتِك.
لِذا فإنَّ الرَّسولَ بولسَ يَقول: "وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي، فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيح". فالمَسيحيُّونَ هُمْ أُناسٌ لا يَسْتَحونَ بيسوعَ المَسيحِ، بل يَستَحونَ مِن أنفُسِهم ويأتونَ إليهِ وَهُمْ يَشعُرونَ بالعَارِ كي يَنالوا الغُفران. فهل يَجوزُ لي أنْ أَسْتَحي بِذاكَ الَّذي مَاتَ على الصَّليبِ كي يُخَلِّصَني مِنَ الخطيَّة؟ وهل يَجوزُ لي أنْ أَسْتَحي بِذاكَ الَّذي أحَبَّني مَحَبَّةً كاملةً مِن قَبلِ تَأسيسِ العَالَم؟ وهل يَجوزُ لي أن أَسْتَحي بِذاكَ الَّذي اختارَ أن يَكونَ خَليلي وفَادِيَّ؟ وهل يَجوزُ لي أن أَسْتَحي بذاكَ الَّذي ذَهَبَ إلى السَّماءِ كي يُعِدَّ لي مَكانًا في بيتِ الآبِ، وكي يَقبَلَني لِنَفسِهِ، وكي يَسمَحَ لي أنْ أسكُنَ في حَضْرَتِهِ المُقَدَّسَةِ إلى أبدِ الآبِدين؟ فما الَّذي سأستَحي مِنْهُ؟
وفي الرِّسالةِ إلى العِبرانِيِّينَ والأصحاحِ الثَّاني، هُناكَ جُملة قَويَّة جدًّا جدًّا في العَددِ الحادي عَشَر. ومعَ أنَّها جُملةٌ قَصيرة فإنَّها، بِصَراحَة، رائعة. وهي تَتحدَّثُ عن يَسوعَ، وتَتحدَّثُ عنِ المُؤمِنينَ فتقولُ إنَّهُ (في عِبرانِيِّين 2: 11): "لاَ يَسْتَحِي أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِخْوَةً". "لاَ يَسْتَحِي أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِخْوَةً". وَهُوَ "رَئيسُ خَلاصِنا" (كَما جَاءَ في العَددِ العَاشِر). "وَهُوَ آتٍ بِأَبْنَاءٍ كَثِيرِينَ إِلَى الْمَجْدِ". فَمِنْ خِلالِ آلامِهِ، اشتَرى خَلاصَنا. وَهُوَ "لاَ يَسْتَحِي أَنْ يَدْعُونا إِخْوَةً".
فأحيانًا تَسمَعونَ النَّاسَ يَقولون: "إنَّهُ أَخِي، ولكنِّي لا أريدُ أنْ يَعرِفَ أحدٌ بِذلك. فأنا أستَحي بِه. أنا أستَحي أنْ أَقتَرِنَ بشخصٍ كَهذا". وأودُّ أن أقولَ إنَّ الرَّبَّ نَفسَهُ (أيِ المَسيحَ الكَامِلَ الَّذي هُوَ بِلا خَطيَّة) لَديهِ الكَثيرَ لِيَستَحي بِهِ مِنْ جِهَتي. ولكِنَّها نِعمةٌ مُدهشةٌ أن يَقولَ الرَّبُّ: "أنا لا أستَحي بأنْ أدعو جون ماك آرثر أَخًا لي". أنا لا أستَحي بأنْ أدعوهُ واحِدًا مِن خَاصَّتي. ولكنِّي أتَعَجَّبُ كَمْ مِنَ المُحرِجِ لَهُ أنْ يَدعوني مِنْ خَاصَّتِه! ولكنَّهُ لا يَستَحي أنْ يَدعونا إخوةً.
وفي الأصحاحِ الحادي عَشَر مِنَ الرِّسالةِ إلى العِبرانِيِّين، تَتَعَمَّقُ هَذِهِ الحَقيقةُ نَفسُها لِتَضُمَّ الثَّالوثَ لأنَّهُ في العَدد 16 (في مُنتَصَفِ العَدد في عِبرانِيِّين 11) نَقرأُ: "لِذلِكَ لاَ يَسْتَحِي بِهِمِ اللهُ أَنْ يُدْعَى إِلهَهُمْ".
وأذكُرُ أنِّي قَرأتُ مَقالَةً قبلَ سَنواتٍ في مَجَلَّةِ "نيو ويست" (New West Magazine). وَقد كانوا يَكتُبونَ مَقالَةً يَنتَقِدونَ فيها المَسيحيَّةَ والطَّريقةَ الَّتي يَتصرَّفُ بِها المَسيحيُّونَ عَلَنًا، ولا سِيَّما المَسيحيُونَ الإعلامِيُّونَ، والمَسيحيُّونَ المَشهورونَ. ولن أَنْسَ يَومًا ذلكَ السَّطْر. فقد قالَ كَاتِبُ المَقالَة: "يَبدو لي أنَّ يَسوعَ أَرْقَى مِنْ أغلبيَّةِ وُكلائِه". ويا لَها مِن فِكرة! إذًا، لماذا يُريدُ يَسوعُ أن يَدعونا إخوةً؟ ولماذا يُريدُ اللهُ أنْ يَقِفَ أمامَ جُنْدِ السَّماءِ ويَقول: "أنا لا أسْتَحي أنْ أدعُوهُم خَاصَّتي. فَهَؤلاءِ يَنْتَمونَ إلَيَّ"؟
إنَّها نِعمةٌ عَجيبَةٌ لأنَّنا قد جَلَبْنا أصلاً العَارَ على اسْمِ المَسيحِ، وَعَيَّرْنا اسْمَ الله. وبالرَّغمِ مِن ذلكَ فإنَّ المَسيحَ واللهَ، أيِ الابْنَ والآبَ، لا يَسْتَحيان أنْ يَقْتَرِنا بِنا. وبالرَّغمِ مِن ذلكَ فإنَّ العَالَمَ يَستَحي بيسوع. ولكِنَّ الرِّسالةَ إلى العِبرانِيِّين 12: 2 تَقول إنَّهُ مَضَى إلى الصَّلْبِ، واحْتَمَلَ الصَّلِيبَ مُسْتَهِينًا بِالْخِزْيِ. ولكِنَّ العَالَمَ اسْتَحى بِهِ، وَهُوَ ما زَالَ يَفعلُ ذلك. وَهُمْ ما زَالوا يَصلِبونَهُ كُلَّ يوم، ويُعَيِّرونَهُ عَلَنًا. فَكُلُّ خَاطِئِ يَرفُضُ الإنجيلَ يَستَحي بيسوعَ، ويَخجَلُ مِنْهُ، ويَشعُرُ بالإحراجِ حَتَّى مِنَ الاقتِرانِ بِهِ. ولكِنَّهُ استَهانَ بالخِزْيِ مِنَ العالَمِ لكي يَحتَمِلَ الصَّليبَ ليكونَ رَئيسَ إيمانِنا ومُكَمِّلَهُ.
فعندما كانَ الرَّبُّ في السَّماءِ قبلَ أن يَأتي إلى الأرضِ، تَوَقَّعَ العَارَ ثُمَّ اختَبَرَهُ بالرَّغْمِ مِنْ أنَّهُ كَانَ شَيئًا لم يَعْرِفْهُ سَابِقًا طَوالَ وُجودِهِ الأزلِيِّ. ولكِنَّ يَسوعَ اسْتَهانَ بذلكَ الخِزْي، واستَخَفَّ بِهِ لكي يَفدينا. لِذا فقدِ احتَمَلَ العَارَ، واستَهانَ بِهِ كي لا يَستَحي أنْ يَدعونا إخوةً، وكي لا يَستحي اللهُ أن يَقولَ إنَّنا نَنْتَمي إليه.
إذًا، مَنْ هُوَ المُؤمِنُ المَسيحيُّ؟ إنَّهُ شَخصٌ لا يَستَحي بالمَسيح، ولا يَستَحي بالله، بل هُوَ شَخصٌ يَستَحي مِن نَفسِه. وقد شَهِدَ بولسُ لنا في رِسالَةِ رُومية 1: 16: "لأَنِّي لَسْتُ [ماذا؟] أَسْتَحِي بِإِنْجِيلِ الْمَسِيحِ، لأَنَّهُ قُوَّةُ اللهِ لِلْخَلاَصِ لِكُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ: لِلْيَهُودِيِّ أَوَّلاً ثُمَّ لِلْيُونَانِيِّ". فبولسُ يَقولُ: "أنا لا أَسْتَحي بالإنجيل".
ونحنُ نَعلَمُ أنَّ هَذا صَحيح. ففي كُلِّ مَكانٍ ذَهَبَ إليهِ، نَادَى بالمَسيح. فقد كانَ مِثْلَ أولئكَ المَلائكةِ الَّذينَ ظَهَروا للرُّعاةِ وَرَنَّموا: "الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي". فَهُوَ لم يَكُن يَستَحي بالابْنِ الَّذي وُلِدَ مُخَلِّصًا وَفادِيًا. والحَقيقةُ هي أنَّهُ يَقولُ في رِسالةِ فيلبِّي 1: 20: "حَسَبَ انْتِظَارِي وَرَجَائِي أَنِّي لاَ أُخْزَى فِي شَيْءٍ، بَلْ بِكُلِّ مُجَاهَرَةٍ كَمَا فِي كُلِّ حِينٍ، كَذلِكَ الآنَ، يَتَعَظَّمُ الْمَسِيحُ فِي جَسَدِي، سَوَاءٌ كَانَ بِحَيَاةٍ أَمْ بِمَوْتٍ".
فسوفَ أعيشُ حَياةً مُكَرَّسَةً للمَسيح، ولن أستَحي بالمَسيح، ولن يَستَحي المَسيحُ بي. فَهُوَ سَيَستَحي بِمَنْ يَستَحونَ بِهِ. ولكِنَّهُ لن يَستَحي يَومًا بالأشخاصِ الَّذينَ لم يَسْتَحُوا بِهِ.
فقد كانَ هَذا هُوَ بُولُسُ. وقد كانت هذهِ هي الطَّريقَةُ الَّتي عَاشَ بِها حَياتَهُ. وقد قالَ في رِسالَتِهِ الثَّانيةِ إلى تِيموثاوُس 1: 12: "لِهذَا السَّبَبِ أَحْتَمِلُ هذِهِ الأُمُورَ أَيْضًا". وقد فَعَلَ ذلكَ حَقًّا. "لكِنَّنِي لَسْتُ أَخْجَلُ، لأَنَّنِي عَالِمٌ بِمَنْ آمَنْتُ، وَمُوقِنٌ أَنَّهُ قَادِرٌ أَنْ يَحْفَظَ وَدِيعَتِي إِلَى ذلِكَ الْيَوْمِ". فلن أستَحي بالمَسيح، بل إنِّي سأعيشُ حَياتي أمينًا لَهُ. وسوفَ أُمَجِّدُهُ، وأُكرِمُهُ، وأُنادي بِاسمِهِ دُونَ خَجَل. وَهُوَ يُذَكِّرُ تيموثاوُسَ قَائِلاً: "لا تَستحي يَومًا بالرَّبِّ". وقد قالَ بُطرُسُ في رِسالَةِ بُطرُسَ الأولى 4: 16: "وَلكِنْ إِنْ كَانَ كَمَسِيحِيٍّ، فَلاَ يَخْجَلْ، بَلْ [لأجْلِ هذا الاسمِ؛ أيْ لأجلِ اسمِ المَسيحِ] يُمَجِّدُ اللهَ".
وَهَذِهِ هِيَ الخُلاصَةُ. فإمَّا أنْ تَستَحي بالمَسيحِ أوْ أنْ تَستَحي مِن نَفسِكَ ولا تَستَحي بالمَسيح. فكيفَ يُمكِنُني أن أسْتَحي بِذاكَ الَّذي مَاتَ لأجلي؟ وكيفَ يُمكِنُني أن أستَحي بإلَهِ السَّماءِ الَّذي يُريدُ أن يَكونَ لي إلهًا؟ وكيفَ يُمكِنُني أن أستَحي بالابنِ، ابنِ اللهِ، الَّذي جاءَ إلى العالَمِ لِيَموتَ عن خَطايايَ، وليأخُذني إلى مَنزِلي في السَّماءِ ويَدعوني إلى الأبدِ أَخًا لَهُ؟
ولكِنَّ الخُطاةَ...الخُطاةَ الَّذينَ لم يَتوبوا ولم يُؤمِنوا، يَستَحونَ بيسوع. وَهُمْ يَشعُرونَ بالحَرَجِ مِن قَبولِهِ؛ لا بسببِ عَيْبٍ في شَخصِه، ولا لأنَّهُ لم يُظهِر القُدرةَ الإلهيَّةَ والدَّليلَ على مَنْ هُوَ، بل لأنَّ عَدَمَ الاستِحياءِ بِهِ يَتطلَّبُ مِنْهُم أنْ يَسْتَحُوا مِنْ أنفُسِهِم. وَهُوَ يَتطلَّبُ (إنْ رَجَعْنا إلى الأصحاحِ التَّاسِعِ مِن إنجيل لوقا) مَا يَقولُهُ رَبُّنا تَمامًا: "إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأتِيَ وَرَائِي..." [إليكُم مَا هُوَ مَطلوبٌ] "...فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ". وَهذا يَعني بِصورة رَئيسيَّة أن تَستَحي مِن نَفسِكَ، وأنْ تَتَواضَع. وقد تَحَدَّثنا عن ذلكَ في الأسابيعِ القَليلةِ السَّابقة؛ أيْ عنِ الخَجَلِ مِنَ الذَّاتِ وَبُغْضِ الذَّات. فهذا هُوَ جَوْهَرُ التَّوبة: إنكارُ الذَّاتِ وَحَمْلُ الصَّليب. أيْ أنْ تَحْمِلَ صَليبَكَ كُلَّ يَومٍ، وأنْ تَكونَ مُستَعِدًّا لاتِّباعِ المَسيحِ، وأنْ تَسْتَحي مِن خَطاياكَ، وأنْ تَشعُرَ بالحَماسِ لأنَّ المُخَلِّصَ جاءَ وغَفَرَ لَكَ خَطاياكَ، وأنْ تَقودَكَ تلكَ الحَماسَةُ إلى تَكريسِ حَياتِكَ لَهُ حَتَّى لو كانَ ذلكَ يَقتَضي مَوتَكَ. وهذا يَعني، بِكُلِّ تأكيدٍ، أنْ تَتبَعَهُ.
لِذا فإنَّ الخُطاةَ الَّذينَ غُفِرَتْ خَطاياهُم هُمْ أولئكَ الَّذينَ يَشعرونَ بمشاعِرَ قَويَّةٍ وَغَامِرَة بالخَجَلِ مِن أنفُسِهم، والَّذينَ يَسألونَ المَسيحَ أن يُخَلِّصَهُم مِن شُعورِهم بالعَار. أمَّا الخاطِئُ الَّذي لم تُغفَر خَطاياهُ فَهُوَ شخصٌ يَشعُرُ شُعورًا قَويًّا وَغَامِرًا بالخَجَلِ مِنَ الإنجيلِ لأنَّهُ يَرفُضُ أنْ يَرى نَفسَهُ على حَقيقَتِها. لِذا، إنْ ذَهَبْتَ إلى جَهَنَّمَ إلى الأبد فإنَّ السَّببَ في ذلكَ هُوَ أنَّكَ استَحيتَ بالمَسيح. وإنْ ذَهبتَ إلى السَّماءِ إلى الأبد فإنَّ السَّببَ في ذلكَ هُوَ أنَّكَ استَحَيْتَ مِن نَفسِك.
وفي هذا النَّصِّ...إنْ نَظَرْنا إليهِ نَظرةً سَريعَةً وَحَسْب...يَبدو الأمرُ وَاضِحًا. فأوَّلاً، يُمكِنُكم أن تَرَوْا الخُطاةَ الَّذينَ يَسْتَحونَ بابنِ الإنسانِ، ثُمَّ تَرَوْنَ ابنَ الإنسانِ يَستَحي بالخُطاة. فالعَددُ السَّادِسُ والعِشرونَ يَبتدئُ بالقول: "لأَنَّ مَنِ اسْتَحَى بِي وَبِكَلاَمِي".
ونَقرأُ في الأصحاحِ الأوَّلِ مِن إنجيلِ يُوحَنَّا: "كَانَ فِي الْعَالَمِ، وَكُوِّنَ الْعَالَمُ بِهِ، وَلَمْ يَعْرِفْهُ الْعَالَمُ. إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ، وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ". وبالرَّغمِ مِن ذلكَ فقد كَانَ يَسوعُ مَجدَ اللهِ الظَّاهِر. وتُبَيِّنُ الآيَةُ يُوحَنَّا 1: 14 أنَّ ذلكَ الأمرَ واضِحٌ تَمامًا ولا يُمكِنُ أنْ يُساءَ فَهْمُه: "وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا".
فقد كانَ استِعلانُ يَسوعَ وَاضِحًا. فقد كانَ مِنَ الواضِحِ أنَّهُ اللهُ وَلا يُمكِنُ التَّشكيكُ في ذلك. فقد كانَ إعلانُهُ واضِحًا، وكانت رِسالَتُهُ حَقيقيَّةً، وكانت مُنَاقِضَةً للخطيَّة. وقد كانَ جَديرًا بالإكرام، وجَديرًا بالمَجد، وجَديرًا بالعِبادة. ولم يَكُن هُناكَ شَيءٌ فيهِ يُسْتَحَى بِهِ. والحَقيقةُ هي أنَّكُم تَحصُلونَ على نَظرَةِ خَاطِفَةٍ إلى السَّماءِ في الأصحاحِ الخَامِسِ مِن سِفْرِ الرُّؤيا إذْ نَقرأُ أنَّ كُلَّ جُنْدِ السَّماءِ والقِدِّيسينَ المُمَجَّدينَ أيضًا كانوا يَقولونَ: "مُسْتَحِقٌ هُوَ الْخَروُفُ الْمَذْبُوحُ أَنْ يَأْخُذَ الْقُدْرَةَ وَالْغِنَى وَالْحِكْمَةَ وَالْقُوَّةَ". وطَوالَ الأبديَّةِ في السَّماءِ، سيكونُ هُناكَ تَسبيحٌ تِلْوَ التَّسبيحِ للمَسيحِ على كُلِّ مَجْدِ كَمالِهِ الفَائِق. فلا يُوجَدُ فيهِ شَيءٌ يُسْتَحي بِهِ.
وكما قُلتُ سَابِقًا، إنْ كُنتَ تَستَحي بالمَسيحِ فإنَّ هَذا يُشيرُ إلى حَالَتِكَ، وإلى ذِهنِكَ المُنحَرِفِ والفَاسِدِ وَالخَاطِئ. فالصَّليبُ هُوَ حَجَرُ عَثْرَةٍ وإساءَةٌ للهَالِكينَ (كَما تَقولُ الرِّسالَةُ الأولى إلى أهلِ كورِنثوس). فيَسوعُ حَجَرُ عَثْرَةٍ لِكُلِّ الأشخاصِ الَّذينَ يُريدونَ أن يَستمرُّوا في خَطاياهُم سَواءٌ أَكانوا يَتَمَسَّكونَ بِفُجورِهم أَمْ بِبِرِّهِمِ الذَّاتِيِّ.
وَلِماذا يَفعلونَ ذلك؟ لماذا يَسْتَحونَ بالمَسيح؟ بسببِ حُبِّهِم لِذواتِهم، وحُبِّهم للخطيَّة، وحُبِّهِم لِقَبولِ النَّاسِ لَهُم. فَهُم لا يُريدونَ أن يَعيشوا حَياةً مُقدَّسَةً وَطَاهِرَةً إنْ كانوا عَديمي الأخلاقِ لأنَّهم سَيَخسَرونَ أصدقاءَهُم عَديمي الأخلاق. فأصدقاؤُهُم سَيَزدَرونَ بِهِم ويَسخَرونَ مِنهُم إنْ صَاروا مُتَدَيِّنين. مِن جِهَةٍ أخرى، فإنَّ الأشخاصَ الأبرارَ في نَظَرِ أنفُسِهم لا يُريدونَ أن يَعترِفوا بخطاياهُم. وَهُمْ لا يُريدونَ أنْ يُوْصَفوا بأنَّهُم خُطاة، أوْ أنْ يَقولوا عن أنفُسِهِم إنَّهُم خُطاة، لِئَلَّا يَنفَصِلوا عن أصدقائِهم المُرائين.
فالتَّمَسُّكُ الشَّديدُ بالذَاتِ، والتَّمَسُّكُ الشَّديدُ بِحالةِ الخَطيَّةِ الَّتي تَجِدُ رَاحَتَكَ فيها، وَتَوْقُكَ إلى أنْ تَحظَى بالقَبولِ مِنْ جَماعَةِ أصدقائِكَ الخُطاة هُوَ ما يُسَيطِرُ على الخَاطِئِ، ويَجعَلُهُ يَسْتَحي بالمَسيحِ، ويَستَحي بالإنجيلِ، وَيَكشِفُ أنَّهُم بَائِسونَ ومَاضونَ إلى العَذابِ الأبديّ.
وَهؤلاءِ النَّاسُ يُوصَفونَ هُنا في العَدد 26 بأنَّهُم يَسْتَحونَ "بِي وَبِكَلاَمِي". وَهَذا هُوَ لُبُّ القَضيَّة. فلا يُمكِنُكَ أن تَفصِلَ يَسوعَ عن إنجيلِه. فَأنا وكَلامي واحِد. فَلا يَكفي أنْ تُعجَبَ بيسوعَ، بل يَنبغي أن تَقبَلَ الإنجيلَ الَّذي كَرَزَ بِه. ولكِنْ أيًّا كانَ الخَوفُ مِنَ السَّلْخِ أوِ الإبعادِ عن دَائرةِ الأصدقاءِ، أو حُبُّ الذَّاتِ، أو حُبُّ الخَطيَّةِ الَّذي يُهيمِنُ على القَلبِ، فإنَّ الخَاطِئَ لن يُنكِرَ نَفسَهُ، ولن يَحمِلَ الصَّليبَ طَوعًا، ولن يَتبَعَ المَسيحَ. لِذا فإنَّ العَدَدَ 24 يَقولُ إنَّهُ: "يَخسَرُ حَياتَهُ". فَهُوَ يَخسَرُ حَياتَهُ بالمَعنَى الأبدِيِّ.
والأمرُ يَتوقَّفُ على مَنِ الَّذي سَتَسْتَحِي بِه. ولا يُوجَدُ شَيءٌ البَتَّة أخطَرُ مِنْ أنْ تَسْتَحي بيسوعَ المَسيحِ وإنجيلِه. فهذهِ كَارِثَة أبديَّة. والجُزءُ الثَّاني مِنَ الآيةِ يَتحدَّثُ عن ذلك. فأوَّلاً، هُناكَ الخُطاةُ الَّذينَ يَستَحونَ بابنِ الإنسانِ، ثُمَّ إنَّ هُناكَ ابنَ الإنسانِ يَستَحي بالخُطاة.
فَهُوَ يَقول: "فَبِهذَا..." [أيْ بِكُلِّ شَخصٍ يَستَحي بي وبِكلامي] "...يَسْتَحِي ابْنُ الإِنْسَانِ مَتَى جَاءَ بِمَجْدِهِ وَمَجْدِ الآبِ وَالْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِين". والحَديثُ هُنا هُوَ عنِ المَجيءِ الثَّاني. فعندما يَأتي يَسوعُ بِمَجْدٍ عَظيمٍ كَامِلٍ، وَبِمَجْدِ الآبِ، أيْ بِمَجْدِهِ شَخصيًّا وَما يُرافِقُ ذلكَ مِنْ مَجْدِ المَلائكةِ المُرافِقينَ لَهُ (وَهِيَ مَشاهِدُ مَوصوفَة في الأجزاءِ النَّبويَّةِ مِنَ الكتابِ المقدَّسِ؛ ولا سِيَّما في سِفْرِ دَانِيال، وإنجيلِ مَتَّى، وفي جُزءٍ لاحِقٍ مِن إنجيلِ لُوقا، وفي سِفْرِ الرُّؤيا)، فعندما يأتي يَسوعُ ثانيةً لِيَجلِسَ على عَرشِ الدَّينونَةِ، لن يَفعلَ شَيئًا آخَرَ سِوى أنَّهُ سَيَستَحي بأولئكَ الَّذينَ استَحوا بِهِ.
وكَلِماتُ يَسوعَ هُنا (في العَدد 26) وَثيقَةُ الصِّلَةِ بِنَصٍّ مَوجودٍ في العهدِ القديمِ ومَعروفٍ لَدى اليَهودِ الَّذينَ سَمِعوهُ يَقولُ هذهِ الكلمات. فقد كانُوا يَعرِفونَ تَمامًا أنَّ دَانِيالَ تَنَبَّأَ بمجيءِ ابنِ الإنسانِ (أيِ المَسِيَّا)، وأنَّهُ عندما يأتي فإنَّهُ سَيأتي بِمَجْدِ الآبِ، وَبِمَجدِ المَلائكةِ المُرافِقينَ لَهُ. وسوفَ يَكونُ العَرشُ هُوَ عَرشُ دَينونَة. وأريدُ مِنكُم أن تَنظُروا إلى ذلكَ بأنْ تَفتَحوا على العهدِ القديمِ (وتَحديدًا على سِفْرِ دَانيال والأصحاحِ السَّابع). سِفْرِ دَانيال والأصحاحِ السَّابع. وهذا هُوَ، دُونَ شَكٍّ، النَّصُّ الَّذي كانَ يُفَكِّرُ فيهِ يَسوع.
وبالرَّغمِ مِن أنَّهُ أشارَ إلى نَفسِهِ بأنَّهُ "ابنُ الإنسانِ" عَادَةً، فإنَّ العِبارَةَ "ابنَ الإنسانِ" في هَذهِ الحَالَةِ تُشيرُ مُباشرةً إلى دانيال 7. وأريدُ مِنكُم أن تَنظُروا أوَّلاً إلى العَددَيْنِ التَّاسِعِ والعَاشِر. فَفي رُؤيا دانيال، يَقول: "كُنْتُ أَرَى أَنَّهُ وُضِعَتْ عُرُوشٌ، وَجَلَسَ الْقَدِيمُ الأَيَّامِ". فَهُوَ يَرى اللهَ جَالِسًا على العَرش. "لِبَاسُهُ أَبْيَضُ كَالثَّلْجِ [رَمْزًا للطَّهارَة]، وَشَعْرُ رَأْسِهِ كَالصُّوفِ النَّقِيِّ [رَمْزًا للحِكمَة]، وَعَرْشُهُ لَهِيبُ نَارٍ، وَبَكَرَاتُهُ نَارٌ مُتَّقِدَةٌ. نَهْرُ نَارٍ جَرَى وَخَرَجَ مِنْ قُدَّامِهِ". وَهذا يَرمِزُ إلى الدَّينونَةِ الشَّديدة.
وهذا يُشبِهُ ما جاءَ في سِفْرِ حِزْقيال والأصحاحِ الأوَّل. فهَا هِيَ آلاتُ حَرْبِ عَرْشِ اللهِ تَدور. وَهذا هُوَ الهَلاكُ الإلهيُّ. إنَّها الطَّهارَةُ الكَامِلَة، ولكِنَّهُم اعْتَدَوْا على القَداسَة. والحِكمَةُ المُطلَقَةُ تَرُدُّ الرَّدَّ المُناسِبَ مِن خِلالِ دَينونَةٍ شَديدة، وَمِن خِلالِ غَضَبِ آلاتِ الحَرْبِ الإلهيَّة. وإنْ أردتُم مَزيدًا مِنَ الوَصفِ لها، سَتَجدونَ ذلكَ في سِفْرِ حِزْقيال والأصحاحِ الأوَّل. وتَجِدونَ صُورةً لها أيضًا في الأصحاحِ الرَّابعِ مِن سِفْرِ الرُّؤيا. فهذا هُوَ وَقتُ الدَّينونَة. "أُلُوفُ أُلُوفٍ تَخْدِمُهُ، وَرَبَوَاتُ رَبَوَاتٍ وُقُوفٌ قُدَّامَهُ". وَهؤلاءِ هُمُ المَلائِكَةُ...المَلائِكَةُ القِدِّيسين.
وقد رأينا للتَّوِّ مَجْدَ اللهِ إذْ إنَّ القَديمَ الأيَّامِ جَالِسٌ بِمَجْدِهِ الأبيضِ العَظيمِ وَالبَهِيِّ. والآن، هَا نَحْنُ نَرى مَجدَ المَلائكةِ الحَاضِرينَ عندَ الدَّينونة. والعَددُ العَاشِرُ يَنتَهي بالكلماتِ التَّالية: "فَجَلَسَ الدِّينُ". فَهَذِهِ قَاعَةُ مَحكَمة. "وَفُتِحَتِ الأَسْفَارُ". وما هي الأسفارُ؟ الأسفارُ هِيَ سِجِلاتُ حَياةِ كُلِّ إنسانٍ إذْ إنَّ كُلَّ الأفكارِ الَّتي افتَكَرَ بِها، وكُلَّ الكَلامِ الَّذي قَالَهُ، وكُلَّ الأعمالِ الَّتي قامَ بِها مُدَوَّنَة في تلكَ الأسفار.
وتُقَدِّمُ لنا الآياتُ رُؤيا 20: 11-15 نَفسَ المَشهَدِ بكلماتٍ مُختَلِفَة. والحَقيقةُ هي أنَّكُمْ عندما تُوْشِكونَ على إنهاءِ الكتابِ المقدَّسِ هُنا في رُؤيا 20، وعندما تَصِلونَ إلى النِّهاية، نَجِدُ تَصويرًا لِهَذا المَشهَدِ إذْ نَقرأُ: "وَانْفَتَحَتْ أَسْفَارٌ...وَدِينَ [كُلُّ شَخصٍ] مِمَّا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي الأَسْفَار". وهذا هُوَ المَشهَدُ الَّذي كانَ حَاضِرًا في فِكْرِ رَبِّنا عندما تَحَدَّثَ في إنجيل لُوقا 9: 26.
فَسوفَ يَأتي وَقتٌ يَأتي فيهِ ثانيةً. وسوفَ يَأخُذُ مَكانَهُ بِصِفَتِهِ الدَّيَّان. فاللهُ سَيكونُ جَالِسًا على العَرشِ...على عَرشِ الدَّينونةِ الأبيضِ العَظيمِ ذَاكَ (كَما وَصَفَهُ كَاتِبُ سِفْرِ الرُّؤيا). والمَسيحُ سَيَكونُ الدَّيَّانُ. ونَقرأُ في الأصحاحِ الخَامِسِ مِن إنجيلِ يُوحَنَّا: "لأَنَّ الآبَ...قَدْ أَعْطَى كُلَّ الدَّيْنُونَةِ لِلابْن". فَهُوَ سَيَجلِسُ على العَرشِ مَعَ الآبِ. لِذا، هُناكَ أكثرُ مِن عَرشٍ واحِدٍ مَذكور في العَددِ التَّاسِع. وَمِنْ ذلكَ العَرشِ سَيَدين.
والعَدد 13 يَصِفُ ذلك: "كُنْتُ أَرَى فِي رُؤَى اللَّيْلِ وَإِذَا مَعَ سُحُبِ السَّمَاءِ مِثْلُ ابْنِ إِنْسَانٍ أَتَى وَجَاءَ إِلَى الْقَدِيمِ الأَيَّامِ". وَهُنا يَأتي ابنُ الإنسان. فَهُوَ يَأتي إلى العَرشِ حيثُ يَجلِسُ القَديمُ الأيَّامِ. "فَقَرَّبُوهُ قُدَّامَهُ. فَأُعْطِيَ [مِنَ اللهِ الآبِ كَما يَصِفُ الأصحاحُ الخَامِسُ مِنْ إنجيلِ يُوحَنَّا] سُلْطَانًا وَمَجْدًا وَمَلَكُوتًا لِتَتَعَبَّدَ لَهُ كُلُّ الشُّعُوبِ وَالأُمَمِ وَالأَلْسِنَةِ. سُلْطَانُهُ سُلْطَانٌ أَبَدِيٌّ مَا لَنْ يَزُولَ، وَمَلَكُوتُهُ مَا لاَ يَنْقَرِضُ".
"وَمَلَكُوتُهُ مَا لاَ يَنْقَرِضُ". فنحنُ نَقرأُ هُنا أنَّ الآبَ يُعطي الابنَ المَلكوتَ حينَ يَأتي مِنْ أجلِ الدَّينونَة. وقد أُعْطِيَ سُلطانًا [أوْ سِيادَةً]، سُلطانًا ومَجدًا ومَلكوتًا لا يَزول. فهذا هُوَ مَشهَدُ الدَّينونَة.
فالابنُ يأتي لِتَنفيذِ الدَّينونَةِ ويَحصُلُ مِنَ اللهِ الآبِ على مَلكوتِه. وتلكَ الدَّينونَةُ مَوصوفَةٌ أكثَر في الأصحاحِ الثَّاني عَشَر مِن سِفْرِ دَانيال. وفي نِهايةِ العَدَدِ الأوَّل، يَتحدَّثُ عن سِفْرٍ آخَر. وكُلُّ مَنْ يُوْجَدُ مَكتوبًا في ذلكَ السِّفْرِ سَيُنقَذُ ويُخَلَّصُ وَيَنْجو مِنَ الدَّينونة. "وَكَثِيرُونَ مِنَ الرَّاقِدِينَ فِي تُرَابِ الأَرْضِ يَسْتَيْقِظُونَ، هؤُلاَءِ إِلَى الْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ، وَهؤُلاَءِ إِلَى الْعَارِ لِلازْدِرَاءِ الأَبَدِيِّ".
فهُناكَ يَومٌ يَأتي فيهِ ابنُ الإنسانِ إلى عَرشِ اللهِ مِن أجلِ تَنفيذِ الدَّينونَة. وَكُلُّ مَنْ كُتِبَتْ أَسماؤُهُم في السِّفْرِ المَعروفِ لَدينا بِسِفْرِ حَياةِ الخَروفِ، أيْ كُلُّ مَنْ وُجِدَ في لائحةِ الأشخاصِ الَّذينَ غُفِرَتْ خَطاياهُم مِن خِلالِ إيمانِهم بالمَسيحِ، سَيَنْجونَ مِنْ تِلكَ الدَّينونَة. وَسوفَ يَقومُ جَميعُ البَقِيَّةِ مِنَ التُّرابِ والَّذينَ أرواحُهُم مَوجودَةٌ أصلاً مَعَ اللهِ. فسوفَ تَخرُجُ أجسادُهُم مِنَ التُّرابِ وتَنضَمُّ إلى تلكَ الأرواحِ لكي تَتَعَذَّبَ إلى الأبدِ في جَهَنَّمَ؛ وهي أجسادٌ مُلائمةٌ لتلكَ الدَّينونَة.
وسوفَ يَكونُ مَصيرُهُم هُوَ العَارُ كَما هُوَ مَكتوبٌ. وهذا هُوَ تَمامًا ما كانَ يَتحدَّثُ عنهُ يَسوعُ. ففي ذلكَ اليوم، سوفَ يَسْتَحي بِهم، وَسَوْفَ يُخْزَوْنَ، وسوفَ يَكونونَ عَارًا عِنْدَهُ ويَمْضُونَ إلى الازدِراءِ الأبديِّ. أمَّا القِدِّيسونَ (كَما جاءَ في العَددِ الثَّالِثِ) فَيَضِيئُونَ كَضِيَاءِ الْجَلَدِ في مَجْدِ الحَياةِ الأبديَّة.
إذًا، فقد كانَ يَسوعُ يَقولُ ذلك. ويُمكِنُكم أن تَعودوا الآنَ إلى إنجيل لُوقا والأصحاحِ التَّاسِع. فقد كانَ يَسوعُ يَصِفُ هُنا بكلماتٍ مُوجَزَةٍ جدًّا ذلكَ المَشهَدَ نَفسَهُ ويَقولُ إنَّ الوقتَ سَيأتي. وأنا أقولُ لَكُمْ، يا مَنْ تَسْتَحونَ بي وبِكلامي، إنِّي سَأستَحي بِكُم في تلكَ الدَّينونَةِ المَجيدَة.
لِماذا؟ لِماذا سَيَكونُ هُناكَ مِثلُ هذا الخَجَل؟ لأنَّ الأسفارَ مَوجودَة...لأنَّ الأسفارَ مَوجودَة. وعندما تُفتَحُ الأسفارُ (كَما يَقولُ الأصحاحُ العِشرونَ مِن سِفْرِ الرُّؤيا، وكَما يَقولُ الأصحاحُ السَّابِعُ مِن سِفْرِ دَانيال) عندما تُفتَحُ الأسفارُ، سَتَكونُ كُلُّ فِكرةٍ فَكَّرْتَ فيها يَومًا، وكُلُّ عَمَلٍ عَمِلْتَهُ يَومًا، وكُلُّ كَلِمَةٍ قُلتَها يَومًا، وكُلَّ شَيءٍ صَالِحٍ لم تَفْعَلْهُ، وكُلُّ دَافِعٍ غيرِ نَقِيٍّ ولا يُمَجِّدُ اللهَ مَكتوبًا فيهِ. وكُلُّ مَا هُوَ مَكتوبٌ في السِّفْرِ سَيَستَدعي العَارَ الأبديَّ والخَجَلَ الأبديَّ. وسوفَ يَعتَرِضُ أُناسٌ. وهُناكَ مَنْ سَيَقول (كَما جَاءَ في إنجيل لوقا والأصحاح 13 على ما أَظُنّ): "ولكِنَّنا كُنَّا هُناكَ في الشَّوارِعِ مَعَكَ، وأَكَلْنَا مَعَكَ، وكُنَّا حَوْلَكَ، وسَمِعناكَ، وعَامَلناكَ مُعامَلَةً طَيِّبَة". فَيَقُولُ: "تَبَاعَدُوا عَنِّي يَا فَاعِلِي الشَّرِّ". وَهُناكَ مَنْ سَيَقولونَ: "لقد فَعَلْنا أكثرَ مِن ذلك. يا رَبُّ، يا رَبُّ، لقد فَعَلْنا أعمالاً رائعةً باسمِكَ وَتَنَبَّأنا". ولَكِنَّهُ سَيَقولُ لَهُم: "تَباعَدُوا عَنِّي يا فَاعِلي الإثْمِ. إنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمْ قَطّ". فسوفَ يَكونُ هُناكَ مُعْتَرِضونَ في ذلكَ اليوم.
وسوفَ تَكونُ هُناكَ فِئَةٌ أُخرى مِنَ المُحْتَجِّينَ القَائِلين: "لقد كُنَّا مُتَدَيِّنينَ، وكُنَّا صَالِحينَ بالقَدرِ الكَافي". ولكِنَّ السِّفْرَ دَقيقٌ. وسوفَ يَمْضي هَؤلاءِ حَالاً إلى الازدِراءِ الأبديِّ والعَار. وسوفَ يَكونُ رَدُّ فِعلِهِم (بِحَسَبِ مَا قالَ رَبُّنا) هُوَ البُكاءُ، والنَّوحُ، وَصَريرُ الأسنان. وَمِنَ المُرَوِّعِ وَحَسْب أنْ يُفَكِّرَ المَرءُ في مَا جاءَ في إنجيل لُوقا 13: 28 إذْ إنَّهُ يَقولُ: "تَبَاعَدُوا عَنِّي يَا جَمِيعَ فَاعِلِي الظُّلْمِ. هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الأَسْنَان".
وَما مَعنى ذلك؟ سوفَ أقولُ ذلكَ ببساطَة: إذا اسْتَحَيْتَ بيسوعَ الآنَ، سَوفَ يَستَحي بِكَ آنَذاك. وَسوفَ يُفْتَحُ سِجِلُّ عَارِكَ في يَومِ الدَّينونة. وسوفَ تَقضي الأبديَّةَ في عَذابٍ شَديدٍ ومُريعٍ يُعَبِّرُ تَمامًا عَن عَارِك. فإمَّا أنْ تَسْتَحي مِنْ نَفسِكَ الآنَ وَتَحصُل على الغُفران، وإمَّا أنْ تَخْجَلَ مِنْ نَفسِكَ إلى الأبدِ مِن دونِ رَاحَة.
وهذهِ هِيَ أوَّلُ مَرَّةٍ يَتحدَّثُ فيها إنجيلُ لُوقا عن عَودَةِ المَسيح، ولكِنَّها ليستِ المَرَّة الأخيرة. وَلوقا يَتحدَّثُ عن ذلكَ اليومِ غَالِبًا كَيومِ حِساب. ولن يَكونَ الأمرُ في ذلكَ اليومِ كَما تَرغَبُ في أن يَكون، بل إنَّهُ سيكونُ كَما يُقَرِّرُ اللهُ أنَّهُ مُناسِب. دَعونا نَحْني رُؤوسَنا مَعًا حَتَّى نُصَلِّي:
يا أبانا، إنَّ الدَّعوةَ بَسيطَة. فإنْ جِئنا إليكَ وَنِلْنا الغُفرانَ، نَكونُ قدِ استَحَيْنا مِن أنفُسِنا. وهذا هُوَ مَعنى إنكار الذَّات. وَيجبُ أن يكونَ ذلكَ إنكارًا تَامًّا كي نُظهِرَ استِعدادَنا لِحَمْلِ الصَّليبِ كُلَّ يَومٍ واتِّباعِكَ أيًّا كانتِ النَّفَقَة. وَصَلاتي، يا رَبُّ هي أنْ يَخجَلَ الخُطاةُ مِن أنفُسِهم، وأنْ يَكونوا مُستَعِدِّينَ للاعترافِ بخطاياهُم، ومُستَعِدِّينَ لاحتِمالِ الرَّفضِ مِنَ العالَم، ومُستَعِدِّينَ للتَّخَلِّي عن أَوهامِ الحُريَّةِ الشَّخصيَّة، ومُستَعِدِّينَ لإهلاكِ حَياتِهم كي يَجِدوها إلى الأبد.
وَصَلاتي، يا رَبُّ، هي أنْ يَشعُرَ الخُطاةُ بالخَجَلِ في سَبيلِ الحُصولِ على المَجدِ، وأنْ يَتألَّموا في سَبيلِ الحُصولِ على البَرَكة، وأن يَخضَعُوا في سَبيلِ الحُصولِ على الحَياةِ الأبديَّة. ونحنُ نَتذكَّرُ كَلماتِ رُومية 9: 33: "هَا أَنَا أَضَعُ فِي صِهْيَوْنَ حَجَرَ صَدْمَةٍ وَصَخْرَةَ عَثْرَةٍ، وَكُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُخْزَى". فإمَّا أنْ نَخجَلَ مِنْ أنفُسِنا الآنَ ولا نَخجَلَ طَوالَ أفراحِ الأبديَّة، وإمَّا أنْ نَسْتَحي بالمَسيحِ الآنَ ونَستَحي مِنْ أنفُسِنا إلى الأبد.
وَصَلاتي، يا رَبُّ، هي أنْ يَحْفِزَنا رُوْحُكَ على التَّجاوُبِ المُناسِب. والكَلِمَة "إلى الأبَد" هي المِفتاحُ لأنَّ يَومَ الحِسابِ أمرٌ مَحْتوم. ويا أبانا، صَلاتي هي أن تَعمَلَ في قُلوبِ الأشخاصِ الَّذينَ يَسمعونَ هذهِ الرِّسالةَ كي يَتَّخِذوا القَرارَ السَّليمَ بأنْ يَسْتَحُوا بأنفُسِهم لا بِفادينا المُبارَك. نُصَلِّي لأجلِ مَجْدِهِ وباسْمِهِ. آمين!

This article is also available and sold as a booklet.