
أرجو منكم أن تَفتحوا على إنجيل يوحنَّا والأصحاح 13 إذ إنَّنا سنَنظر إلى الآياتِ الافتتاحيَّة مِن هذا الأصحاح. يوحنَّا 13. ونحنُ نُسَمِّي هذا الأصحاح: "تَواضُع المَحبَّة" لأنَّ هذا هو ما يَتحدَّث عنهُ تَحديدًا. وأريدُ أن أُذكِّرَكُم بالمَوضِعِ الَّذي وَصلنا إليه في دراستِنا لحياةِ المسيح الَّتي دَوَّنَها الرَّسول يوحنَّا. فنحنُ في ليلةِ الخميسِ في آخرِ أسبوعٍ مِن حياتِهِ قبلَ مَوتِه وقيامَتِه. فسوفَ يَتِمُّ القبضُ عليه في الصَّباحِ الباكِر، بل في الحقيقة في ظُلمةِ بعدَ مُنتصفِ اللَّيل. وسوفَ يَخضَعُ لمُحاكَماتٍ زائفة في ساعاتِ الصَّباحِ الباكِرِ يومَ الجُمُعة. وسوفَ يَتِمُّ إعدامُهُ يوم الجُمُعة. وسوفَ يَموتُ بصفتهِ حَمَلَ اللهِ الحقيقيِّ – حَمَلَ الفِصح. ونحنُ هُنا في ليلةِ الخَميس؛ أي في اللَّيلةِ الَّتي سَبَقَت صَلبَهُ.
وهذا هو اليومُ الَّذي كانَ يَهودُ الشَّمالِ (أوِ الجُزءِ الشَّماليِّ مِن إسرائيل) يَحتفلونَ فيهِ بعيدِ الفِصح. فقد كانَ يَهودُ الجُزءِ الجَنوبيِّ يَحتفلونَ به يومَ الجُمُعة، في حين أنَّ يَهودَ الجُزءِ الشَّماليِّ كانوا يَحتفلونَ به مساءَ يومِ الخميس. وفي مساءِ ذلك الخميس، يَلتَقي يسوعُ بتلاميذِهِ ليأكُلوا وليمةَ الفِصح؛ وهو عَشاءٌ تَذكاريٌّ يَحتفِلُ فيهِ اليهودُ بتَخليصِ اللهِ لبني إسرائيلَ مِن مِصر عندما عَبَرَ مَلاكُ الموتِ عن مَنازلهم الَّتي كانت دِماءُ الحُملانِ قد رُشَّت على قوائِمِ أبوابِها. وقد أَوصاهُم اللهُ بأن يَحتفلوا بهذا العيدِ كي يَتذكَّروه بصفتِهِ مُخَلِّصَ شَعبِهِ ومُحَرِّرَهُم.
إذًا كانَ هذا هو يومُ الخميس مساءً عندما كانَ يسوعُ والاثنا عشر وَحدَهُم. ولم يَكُن هناكَ أيُّ شخصٍ آخر لأسبابٍ واضحة. فقد كانَ اليهودُ يُلاحِقونَهُ. وكانَ ينبغي لهُ أن يَحتفلَ بهذا العيدِ معهم في السِّرِّ قبلَ أن يَتِمُّ القَبضُ عليهِ في وقتٍ لاحقٍ في البُستانِ في نفسِ تلك اللَّيلة. لِذا، كانَ الوقتُ هو الخميس مساءً. وفي مساءِ ذلك الخميس، قَطَعَ رَبُّنا عَددًا مِن الوُعود لتلاميذِهِ؛ وهي تَسري علينا جميعًا. وهي مَذكورة في الأصحاحات 13-16. فهيَ أربعة أصحاحات تَزخُرُ بالوعودِ الَّتي قَطَعَها رَبُّنا لأولئكَ الَّذينَ أَحبَّهُم. ولا شَكَّ في أنَّ ذلك ابتدأَ بالتَّلاميذ؛ ولكنَّهُ يَسري على كُلِّ المُؤمنينَ طَوالَ التَّاريخ.
ثُمَّ إنَّهُ يَمضي في الأصحاحِ السَّابع عشر إلى الآبِ ويُصَلِّي أن يُتَمِّمَ الآبُ كُلَّ تلك الوعود. وهو يَقولُ في تلك النُّقطة إنَّ كُلَّ تلك الوعود تَسري لا فقط على الرُّسُل، بل على كُلِّ الَّذينَ يؤمنونَ به. لِذا فإنَّ ما نَراهُ هُنا في الأصحاحات 13-16 هو الإرثُ النِّهائيُّ الَّذي تَرَكَهُ يَسوعُ لخاصَّتِه. وقد كَتبتُ كِتابًا عن ذلك بعُنوان "العِلِّيَّة" (The Upper Room). وقد صَدَرَ الآنَ بطَبعةٍ جديدة. وهو مُتاحٌ في المَكتبة. وأعتقد أنَّهم عَرضوا صُورةً لَهُ في نَشرة "غريس توداي" (Grace Today) لهذا اليوم. لِذا، إن أردتُم أن تَنظروا إلى الأمرِ مِن وُجهةِ نَظرِ الكِتاب فإنَّهُ يَتحدَّث عن نفسِ الأشياءِ الَّتي سنتحدَّثُ عنها في الأسابيع القادمة. وقد كانَ الوقتُ مساءَ يوم الخميس، ونحنُ في ذلكَ المَشهدِ في العددِ الأوَّل:
"أَمَّا يَسُوعُ قَبْلَ عِيدِ الْفِصْحِ، وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ سَاعَتَهُ قَدْ جَاءَتْ لِيَنْتَقِلَ مِنْ هذَا الْعَالَمِ إِلَى الآبِ، إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ، أَحَبَّهُمْ إِلَى الْمُنْتَهَى".
إنَّ هذهِ الآية تُمَهِّد لكُلِّ هذا المَشهد. فهي تُعَبِّر عن تلك المحبَّة. إنَّها تُعبِّر عن تلك المحبَّة. فهي تتحدَّث عن محبة يسوع لخاصَّتِه الَّذينَ في العالَم؛ أيِ المُؤمِنين. فهناكَ [أولاً] الرُّسُل الَّذينَ اجتمعوا معهُ؛ وهناكَ [ثانيًا] كُلُّ الَّذينَ آمنوا بَعدهم كما يُبَيِّن يسوع. فهذه لَيلة مَحَبَّة. إنَّها ليلة يُودِعُ فيها المُخَلِّصُ بِدافعِ مَحبَّتِهِ في مَصْرِفِ الرُّسُل وكُلِّ مَن يُؤمِن بهِ كُلَّ غِنى السَّماء. فهذه هي عَطيَّتُه لنا جميعًا في الأصحاحات 13 و14 و15 و16. ثُمَّ إنَّهُ يُصَلِّي في الأصحاح 17 ويَسألُ الآبَ أن يُحَقِّقَ ذلكَ - عَالِمًا أنَّهُ سَيَفعل.
وهو مَقطعٌ رائعٌ مِن الكتاب المقدَّس. فهي خمسة أصحاحات كاملة تُبَيِّنُ مَحبَّةَ ابنِ اللهِ لخاصَّتِه. فهذا هو مِقدارُ مَحبَّتِهِ لنا إذ إنَّنا نَقرأُ أنَّهُ أَحَبَّنا إلى المُنتَهى، أو إلى الذُّروة، أو إلى الحَدِّ الأقصى، أو إلى الأبد، أو محبَّةً غير مَحدودة. فكما أنَّ مَحبَّةَ اللهِ غير محدودة وأبديَّة، فإنَّهُ أحبَّنا بهذا القَدر. فمحبَّتُهُ لا تُقاسُ ولا يُسْبَرُ غَورُها. فعُمقُها وارتفاعُها وطُولُها لا يُمكِن تَصَوُّرُه. فكُلُّ ما تتحدَّثُ عنهُ هذه الأصحاحاتُ هو المحبَّة.
والآن، حينَ نَنظرُ إلى هذا المَقطعِ ونَصِلُ إلى العدد 17 نَقرأُ عن حادثةٍ أخرى معروفة في حياةِ المسيح؛ ولكنِّي أريدُ أن تَرَوها في السِّياقِ الأكبرِ لمحبَّتِه. لِذا، لِنَقرأ النَّصَّ إلى أن نَصِلَ إلى تلكَ الحادثة:
العدد الثَّاني: "فَحِينَ كَانَ الْعَشَاءُ، وَقَدْ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي قَلْبِ يَهُوذَا سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ أَنْ يُسَلِّمَهُ، يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ الآبَ قَدْ دَفَعَ كُلَّ شَيْءٍ إِلَى يَدَيْهِ، وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَرَجَ، وَإِلَى اللهِ يَمْضِي، قَامَ عَنِ الْعَشَاءِ، وَخَلَعَ ثِيَابَهُ، وَأَخَذَ مِنْشَفَةً وَاتَّزَرَ بِهَا، ثُمَّ صَبَّ مَاءً فِي مِغْسَل، وَابْتَدَأَ يَغْسِلُ أَرْجُلَ التَّلاَمِيذِ وَيَمْسَحُهَا بِالْمِنْشَفَةِ الَّتِي كَانَ مُتَّزِرًا بِهَا. فَجَاءَ إِلَى سِمْعَانَ بُطْرُسَ. فَقَالَ لَهُ ذَاكَ [أيْ: بُطرُس]: «يَا سَيِّدُ، أَنْتَ تَغْسِلُ رِجْلَيَّ!» أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: «لَسْتَ تَعْلَمُ أَنْتَ الآنَ مَا أَنَا أَصْنَعُ، وَلكِنَّكَ سَتَفْهَمُ فِيمَا بَعْدُ». قَالَ لَهُ بُطْرُسُ: «لَنْ تَغْسِلَ رِجْلَيَّ أَبَدًا!» أَجَابَهُ يَسُوعُ: «إِنْ كُنْتُ لاَ أَغْسِلُكَ فَلَيْسَ لَكَ مَعِي نَصِيبٌ». قَالَ لَهُ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: «يَا سَيِّدُ، لَيْسَ رِجْلَيَّ فَقَطْ بَلْ أَيْضًا يَدَيَّ وَرَأْسِي». قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «الَّذِي قَدِ اغْتَسَلَ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إِلاَّ إِلَى غَسْلِ رِجْلَيْهِ، بَلْ هُوَ طَاهِرٌ كُلُّهُ. وَأَنْتُمْ طَاهِرُونَ وَلكِنْ لَيْسَ كُلُّكُمْ». لأَنَّهُ عَرَفَ مُسَلِّمَهُ، لِذلِكَ قَالَ: «لَسْتُمْ كُلُّكُمْ طَاهِرِينَ». فَلَمَّا كَانَ قَدْ غَسَلَ أَرْجُلَهُمْ وَأَخَذَ ثِيَابَهُ وَاتَّكَأَ أَيْضًا، قَالَ لَهُمْ: «أَتَفْهَمُونَ مَا قَدْ صَنَعْتُ بِكُمْ؟ أَنْتُمْ تَدْعُونَنِي مُعَلِّمًا وَسَيِّدًا، وَحَسَنًا تَقُولُونَ، لأَنِّي أَنَا كَذلِكَ. فَإِنْ كُنْتُ وَأَنَا السَّيِّدُ وَالْمُعَلِّمُ قَدْ غَسَلْتُ أَرْجُلَكُمْ، فَأَنْتُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَرْجُلَ بَعْضٍ، لأَنِّي أَعْطَيْتُكُمْ مِثَالاً، حَتَّى كَمَا صَنَعْتُ أَنَا بِكُمْ تَصْنَعُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا. اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ لَيْسَ عَبْدٌ أَعْظَمَ مِنْ سَيِّدِهِ، وَلاَ رَسُولٌ أَعْظَمَ مِنْ مُرْسِلِهِ. إِنْ عَلِمْتُمْ هذَا فَطُوبَاكُمْ إِنْ عَمِلْتُمُوهُ".
تَواضُع المحبَّة. فالتَّواضُعُ الخالي مِن الأنانيَّة هو جَوهرُ المحبَّة. ويُمكننا أن نُعَبِّرَ عن ذلك بطريقةٍ أخرى: الأشخاصُ المُتواضعونَ هُمُ الوحيدونَ الَّذينَ يُحبُّون. وقُدرتُكَ على أن تُحِبَّ مُرتبطة ارتباطًا مُباشِرًا بقُدرتكَ على التَّواضُع. هل تَفهمونَ ذلك؟ فهذه حقيقة كِتابيَّة بسيطة ومبدأٌ كِتابيٌّ بسيط. فالأشخاصُ المتواضعونَ هُمُ الوحيدونَ القادرونَ على أن يُحبُّوا. فكُلَّما زادَ تواضُعُك، وقَلَّ اهتِمامُكَ بنفسِك، زادت قُدرتُك على استثمارِ نفسِكَ في حياةِ شخصٍ آخر. فالأمرانِ وَثيقا الصِّلة أحدُهُما بالآخر. فكُلَّما قَلَّ اهتمامُكَ بذاتِك، زادَ اهتمامُكَ بالآخرين. وكُلَّما زادت تَضحيتُك بنفسِك، زادت تَضحيتُك لأجلِ الآخرين.
فالمحبَّة الحقيقيَّة، أوِ المحبَّة الكِتابيَّة، أوِ المحبَّةِ الَّتي نَتحدَّثُ عنها هنا هي تَكريسٌ كاملٌ يُظهِرُهُ المُحِبُّ تُجاهَ حَاجاتِ وخَيْرِ وبَرَكَةِ وفَرَحِ الشَّخصِ المَحبوب. والآن، أنا أَعلمُ أنَّهُ في العالَم، مِنَ المُمكِن أن يُظهِرَ النَّاسُ مَحبَّةً مُضَحِّيَةً تُجاهَ أُناسٍ آخرين، وأن يُضَحُّوا تَضحيةً كبيرةً ويَهتمُّوا اهتمامًا حَقيقيًّا على المُستوى البَشريِّ بشخصٍ آخر. ولكن فيما يَخُصُّنا نحنُ المؤمنين، فإنَّ اللهَ يُوصينا بأن نُحبَّ الجميعَ هكذا... الجَميعَ مِن دونِ اعتبارٍ لأيَّة مَنافِعَ بالمُقابِل. فالمحبَّةُ الكِتابيَّة بأنقى صُوَرِها هي محبَّة غير أنانيَّة البَتَّة. وهذا غيرُ مُتاحٍ في المحبَّة البشريَّة. فهناكَ دائمًا مَصلَحَة مُقابِلَة تَنتَظِرُ الشَّخصَ الَّذي يُحبّ. أمَّا بالنِّسبةِ إلينا فإنَّ المحبَّةَ بأنقى صُوَرِها هي غير أنانيَّة البَتَّة. فهي لا تَهتمُّ بالمَنفعة الشَّخصيَّة، ولا تَهتمُّ بالرِّضا أوِ الإنجازِ الشَّخصيّ.
فهذا النَّوعُ مِنَ المحبَّة بأنقى أشكالِها يَهتمُّ تمامًا بفرحِ الآخرينَ ورِضاهم وخَيرهِم بِغَضِّ النَّظرِ عنِ الثَّمن أوِ العَناءِ أوِ التَّضحية. وهذا هو نوعُ المحبَّة الَّتي أوصانا اللهُ به. وقد لَخَّصَ بولسُ كُلَّ ذلك في جُملةٍ واحدة: "المَحبَّةُ لاَ تَطْلُبُ مَا لِنَفْسِهَا". "المَحبَّةُ لاَ تَطْلُبُ مَا لِنَفْسِهَا". فهي لا تَطلُبُ ما يَعودُ بالفائدةِ على الشَّخصَ المُحِبّ. فالمحبَّة لا تُبالي البتة برغباتِها الذاتيَّة، بل تَطلبُ فقط أن تُنفِقَ نَفسها لأجلِ الآخرين. فقد قالَ بولُس ذلك.
فقد قالَ في رسالته الثانية إلى أهلِ كورِنثوس والأصحاح 12: "إن أَنفقتُ نَفسي لأجلكم تَعبيرًا عن مَحبَّتي، هل ستُحبُّونَني أَقَلّ؟" فقد كانَ يَنظُرُ إلى المحبَّة بصفتِها إنفاقًا لكُلِّ حياتِه. وَهُوَ يَقولُ في الأصحاحِ الحادي عشر الَّذي يَسبِقُ الأصحاحَ الثَّاني عشر: "انظروا إلى حياتي! فقد ضُرِبتُ، وجُلِدْتُ بالسِّياطِ والسُّيورِ الجِلديَّة، وانكسرَت بي السَّفينة، وعِشتُ في خَطرٍ طَوالَ حياتي، ونَجَوْتُ بطريقةٍ عَجيبةٍ المرَّةَ تِلو الأخرى مِن أشخاصٍ كانوا يَتآمَرونَ لقَتلي. فوقَ هذا كُلِّه، كانَ ينبغي لي أن أهتمَّ بجميعِ الكنائس. وهذا يعني أنَّهُ عندما يَشعُرُ أيُّ شخصٍ بالضَّعف، أشعُرُ أنا بالألم. وعندما يُخطئُ شخصٌ مَا، أشعُرُ أنا بالألم. ولماذا أفعلُ ذلك؟ لماذا أَخدِمُ مَثلاً الكورِنثيِّينَ وأُعاني بسببِ هذه الشَّوكةِ المُريعةِ في الجسد الَّتي نَشَأت عنِ المُعلِّمينَ الكَذبة الَّذينَ جاءوا إلى كورِنثوس لكي يُمَزِّقوا كنيسةَ كورِنثوس مِن مُنطَلَقِ عِلمِهِم أنَّ ذلكَ سيكونُ سَهْمًا يَخترِقُ قَلبي. لماذا أفعلُ هذا؟ لأنَّني لا أُفَكِّرُ في نَفسي".
وذاتَ يَومٍ، وَضَعَ رأسَهُ على خَشَبَةٍ فَفَصلوا رأسَهُ عن جسدِه. وما أعنيه هو أنَّها كانت تَضحية تِلو التَّضحية تِلو التَّضحية. وقد كانَ يُعبِّرُ دائمًا عن ذلك بأنَّهُ تعبيرٌ عن محبَّتِه. وَهُوَ يَسألُ أهلَ كورِنثوس: "هل تُعاملونَني بهذه الكَراهيةِ وهذا العِصيانِ بالرَّغمِ مِن كُلِّ هذه المحبَّةِ الَّتي أَظهرتُها لَكُم؟" فقد كانَ يَفهمُ مَعنى المحبَّة. لِذا، عندما يقول: "المَحبَّةُ لاَ تَطْلُبُ مَا لِنَفْسِهَا"، كانت حياتُهُ كُلُّها نَموذجًا على ما قَصَدَهُ بذلك. وقد كانت حياتُهُ تَطبيقًا لتلك الجُملة. وهذه المحبَّة لا تُشبِهُ محبَّةَ العالَم الَّتي لا بُدَّ أن تكونَ مُشبِعَةً للنَّفس، ومُفرِطَةً، ومُرضيةً للذَّات. لِذا فإنَّ المؤمنينَ هُمُ الوحيدونَ الَّذينَ يَملِكونَ القُدرةَ على أن يُحبُّوا هكذا، وأن يُحبُّوا كلَّ شخصٍ هكذا طَوالَ الوقت.
والآن، نحنُ بحاجة إلى مِثالٍ على ذلك، وبحاجة إلى نَموذجٍ على ذلك. والنَّموذجُ هو الرَّبُّ نَفسُه. فنحنُ نَقرأُ في رسالة فيلبِّي والأصحاح الثَّاني: "الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ...". فقد كانَ مُنذُ الأزل أُقنومًا في الثَّالوث. وكانَ بمقدورِهِ أن يَتَمَسَّكَ بذلك بكُلِّ قُوَّة. "لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ". فقد تَنازَلَ حَرفيًّا عن كُلِّ حُقوقِ اللَّاهوتِ وامتيازاتِهِ. "آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ". فقد نَزَلَ كُلَّ تلك المَسافة إلى أسفل.
والآن، فَكِّروا في ما يَلي: لقد قَدَّمَ أكبرَ تَنازُلٍ مُمكِن، وأحبَّ أكبرَ مَحبَّة مُمكنة. فقد أَخلى نَفسَهُ إلى أقصى حَدٍّ مُمكن. وحيثُ إنَّ المحبَّة تَرتبطُ ارتباطًا مُباشِرًا بالتَّواضُع فإنَّ الشَّخصَ الَّذي يَتواضَعُ أكثر يُظهِرُ مَحبَّةً أكثر للآخرين. فمحبَّتُهُ لا مَثيلَ لها، وتَفوقُ الاستيعابَ، وتَفوقُ الفَهم. فارتِفاعُها وعُمقُها وطُولُها وعَرضُها يَفوقُ قُدرتَنا على الاستيعاب. وقد قالَ يسوعُ عن نفسِه: "أنا وَديعٌ ومُتواضِعٌ" (في إنجيل مَتَّى 11: 29). فقد نَزَلَ كُلَّ تلك المسافة إلى أسفل وماتَ كَما يَموتُ أَعتى المُجرمينَ مع أنَّهُ لم يَكُن يَستحقُّ ذلك. فقد نَزَلَ كُلَّ تلك المسافة إلى أسفل لكي يَموتَ عَنَّا وعَمِلَ كُلَّ ما يُمكن عَمَلُه تَعبيرًا عن محبَّتِهِ الأزليَّة لنا.
لِذا فإنَّنا نَرى أنَّ اتِّضاعَ المحبَّةِ والعلاقةَ بين التَّواضُع والمحبَّة يَظهرانِ بأعظمِ صُورةٍ مُمكنة وكاملة فيه. والآن، نحنُ نَفهمُ هذا النَّوعَ مِن المحبَّة؛ أي هذه المحبَّة الكِتابيَّة. فقد وَصَفها يسوعُ بالكلماتِ التَّالية: "لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هذَا: أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ" (يوحنَّا 15: 13). وسوفَ نَتحدَّثُ عن ذلك بعدَ بِضعة أسابيع. لِذا فإنَّ أعظمَ عَمَلٍ مُحِبٍّ... طَالما أنَّ المحبَّةَ هي تَضحيةٌ مُتواضعة، فإنَّ أعظمَ عَمَلٍ مُحِبٍّ هو أن تُقدِّمَ أكبرَ تَضحية مُمكنة. أليسَ كذلك؟
لِذا، إن كُنتَ تُحبُّ ابنتكَ الصَّغيرةَ ورأيتَ سَيَّارةً قادمةً باتِّجاهِها في الشَّارع ورَكضتَ إلى الشَّارعِ وَدَفَعتَها إلى جانبِ الطَّريقِ فَنَجَتْ هي وصَدَمَتْكَ السَّيارة، نَقولُ إنَّ عَمَلَكَ هذا يُعَبِّرُ عن أعظمِ شَكلٍ مِن أشكالِ المحبَّة البشريَّة. وإن أَنفقتَ حَياتَكَ كما فَعَلَ الرَّسول بولس مِن أجلِ تَوصيلِ الإنجيلِ إلى النَّاس، وتَمَّ سَجنُك وَقَطْعُ رأسِك، نقولُ إنَّ هذا العملَ هو أعظمُ شكلٍ مِن أشكالِ المحبَّة البشريَّة. وهو كذلك. ولكن لا يُمكنكَ أن تَفعلَ ذلكَ إلاَّ مَرَّةً واحدة فقط. أليس كذلك؟ فلا يُمكنكَ أن تَفعلَ ذلك إلاَّ مَرَّةً واحدة فقط لأنَّكَ لن تتمكَّنَ مِن القيامِ بذلك مَرَّةً أخرى لأنَّكَ لن تكونَ هُنا، بل في السَّماء.
لِذا فإنَّنا نُحاولُ أن نُطيلَ الأمرَ قدرَ الإمكان. فلا أحدَ مِنَّا يَتَعَجَّلُ في الاستشهاد. ولكنَّنا لا نستطيعُ أن نَموتَ عن خطايا النَّاس. لِذا، لا يُمكننا أن نَموتَ مَوتًا فاعِلاً. فالموتُ لأجلِ أيِّ شخصٍ لا يَجعلُنا نَحصُلُ على أيِّ شيءٍ مِنَ الله. وإن فَجَّرتَ نَفسَكَ بأن تَضَعَ حِزامًا ناسِفًا حَولَ خَصرِكَ فإنَّ ذلكَ سيُرسِلُكَ مُباشرةً إلى جَهنَّمَ إن كانَ هذا هو ما تُؤمِن به. فأنتَ لا تَذهبُ إلى السَّماء مِن خلالِ أيِّ نوعٍ مِن أنواعِ التَّضحية بالنَّفس. وأنتَ لا تَكسَبُ رِضا اللهِ مِن خلالِ القيامِ بذلك. فهذا ليسَ ما نَتحدَّثُ عنه، بل إنَّ ما نَقولُهُ هو أنَّكَ إن كُنتَ مُؤمِنًا فقد تَغيَّرتَ، واكتسبتَ الآنَ قُدرةً على أن تُحبَّ الجميعَ بطريقةٍ لا يَفهمُها العالَم. والحقيقةُ هي أنَّها مَحبَّة تَفصِلُنا تمامًا عن بقيَّةِ المُجتمع.
وهي مَحبَّة ينبغي أن تَكونُ مُستعدَّةً لِحَمْل الصَّليب. أليس كذلك؟ وأن تَموتَ إنِ اقتضى الأمرُ ذلكَ مِن أجلِ خلاصِ شخصٍ آخر. ولكنَّكَ لن تَتمكَّنَ مِنَ القيامِ بذلك إلاَّ مَرَّةً واحدةً فقط. ولكن ينبغي لكَ بَقيَّةَ حياتِكَ أن تُحبَّ بطريقةٍ لا تَتطلَّبُ منكَ أن تَموت. ولا أدري إن كانَ يوجدُ في هذا المكانِ شخصٌ قد يموتُ في سَبيلِ تَوصيلِ الإنجيلِ إلى شخصٍ مَا! فقد يَفعلُ أُناسٌ منكم ذلك. قد يَفعلُ أُناسٌ مِنَّا ذلك. وقد يَحدُثُ هذا لي بصفتي واعِظًا إن غَضِبَ شخصٌ مِنِّي كثيرًا بسببِ كِرازتي بالإنجيل للآخرين فَقَرَّرَ في أثناءِ قيامي بذلكَ في مكانٍ ما أن يُنهي حَياتي. ولكنَّ احتماليَّةَ حُدوثِ ذلك قد تكونُ ضَئيلةً في حياتي أو حياتِكُم.
ولكنَّ ما يَحدُثُ كُلَّ يومٍ هو أنَّكم دُعيتُم إلى أن تُحبُّوا بعضُكم بعضًا، وأنَّكُم أُعطيتُم القدرةَ على القيامِ بذلك، وأنَّكُم بِحاجة إلى رُؤيةِ نَموذَجٍ على ذلك بأن يَموتَ شَخصٌ مَا لكي تَعرفوا كيفَ يَبدو الأمر؟ كيفَ يَبدو ذلك؟ إنَّهُ يَبدو مِثلَما يَبدو يسوعُ هُنا في هذا النَّصّ. فهذا نَصٌّ لا مَثيلَ لَهُ حيثُ إنَّنا نَرى الرَّبَّ يسوعَ معَ رُسُلِهِ إذ إنَّهُ يُعَلِّمُهم مِن خلالِ القُدوةِ مَعنى أن يُحبُّوا، ومَعنى أن يُحبُّوا تمامًا، ومَعنى أن يُحبُّوا إلى المُنتَهى. فَلِسانُ حَالِهِ هوَ: "أنا أُحِبُّكم إلى المُنتَهى. وإليكُم أوَّلَ دَرس. فهكذا تَتصرَّفُ المحبَّة".
وهو دَرسٌ مُهمٌّ للأسبابِ الَّتي ينبغي أن تَكونَ قدِ اتَّضَحت لكم مِن خلالِ قراءتي لرسالة يوحنَّا الأولى لأنَّ مَحَبَّتَنا بعضُنا لبعض تُؤكِّدُ لنا [في المقامِ الأوَّل] خَلاصَنا. فهل تَذكرونَ ما قالَهُ يوحنَّا؟ عندما تُحبُّونَ فإنَّ المحبَّة تَطردُ الخَوفَ مِنَ الدَّينونة. فالمحبَّةُ الكاملةُ تَطرحُ الخَوفَ إلى خَارج. فإن نَظرتُم إلى دَينونةِ اللهِ لَن تَشعروا بأيِّ خوفٍ لأنَّكم تَعلمونَ أنَّكم نَجَوْتُم مِن دينونةِ الله. فلا توجد دينونة. لماذا؟ وكيفَ تَعلمونَ ذلك؟ يُمكنكم أن تَعلموا ذلك لأنَّكم تُحبُّونَ بالطَّريقةِ الَّتي يُريدُها الله. وهذا يعني أنَّكُم تَنتمونَ إليه. فاللهُ مَحبَّة. والَّذين يُحبُّونَ يَنتمونَ إليه.
ولا يَتوقَّفُ الأمرُ على أنَّ العالَمَ يَعرفُنا مِن خلالِ محبَّتِنا، بل إنَّنا نَعرفُ حالتَنا أمامَ اللهِ مِن خلال مَحبَّتِنا. فإن قلتَ إنَّك مُؤمِن وأنتَ تُبغِضُ أخاكَ، أنتَ كاذِب. لِذا، إن قُلتَ إنَّك مُؤمِن وأنتَ تُحبُّ أخاكَ، يُمكنكَ أن تَعلمَ أنَّ الحقَّ فيك. وهذا أمرٌ خاصٌّ جدًّا جدًّا بذلك المَعنى. فنحنُ نُحبُّ بعضُنا بعضًا فتصيرُ مَحبَّتُنا هذه ضَمانةً لنا. ونحنُ نُحبُّ بعضُنا بعضًا فتصيرُ مَحبَّتُنا هذه شَهادةً للعالَم (كما قُلتُ سابقًا تَعليقًا على العَدَدَيْن 34 و35). انظروا إليهما في إنجيل يوحنَّا والأصحاح 13: "وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَنَا أُعْطِيكُمْ: أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا. كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا تُحِبُّونَ أَنْتُمْ أَيْضًا بَعْضُكُمْ بَعْضًا. بِهذَا [أي: بهذهِ المحبَّة] يَعْرِفُ الْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تَلاَمِيذِي: إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْضًا لِبَعْضٍ".
فهكذا نَعرِضُ المسيحيَّةَ على المَلأ. فأكثرُ المُؤمنينَ تَقوى لا يَقتلونَ الناسَ، بل إنَّ أكثرَ المُؤمنينَ تَقوى يُحبُّونَ النَّاسَ. ونحنُ نُحبُّ العالَمَ بِذاتِ المحبَّةِ الَّتي يُحبُّهم بها اللهُ؛ ولكنَّنا نُحبُّ بصورةٍ خاصَّةٍ الإخوةَ؛ أيِ المؤمنينَ الآخرينَ بالمسيح. ونحنُ نُظهِرُ تلك المحبَّة بطريقةٍ مُتواضعةٍ كهذه. والآن، لقد كانَ غَسْلُ الأرجُلِ ضَرورةً مُلِحَّة. وغَسلُ الأرجُلِ [في حالِ أنَّكُم لا تَعلمونَ ذلك] ما يَزالُ ضَرورةً مُلِحَّةً. وأريدُ فقط أن أُذكِّرَكُم بذلك. فلا أُريدُ أن نَنسى ذلك. وأعتقدُ أنَّكم تَعلمونَ ذلك. فهناكَ فوائد كثيرة للحفاظِ على نَظافةِ أرجُلِكُم مِن أجلِكُم أنتُم، ومِن أجلِ الأشخاصِ الَّذينَ تَختلطونَ بهم. لِذا، نَحنُ نَفهمَ ذلك. فنحنُ نَسيرُ في العالَم. نحنُ نَسيرُ في العالَم.
وفي الأزمنةِ القديمة، لم تَكُن الصَّنادِلُ مُفيدةً كثيرًا في المشيِ على الطُّرُق التُّرابيَّة أوِ الطُّرُقِ المُوحِلَة أوِ الطُّرُقِ المُبْتَلَّة. لِذا، كانتِ الأرجُلُ تَتَّسِخُ وتَتَغَبَّر. لِذا، كانَ يوجدُ أمامَ كُلِّ مَنزل وِعاءُ ماءٍ لأنَّهُ لا يُمكِنُكَ أن تَدخُلَ المنزلَ وتَترُكَ آثارَ الوَحْلِ في المنزل. لِذا، كانَ يوجدُ وِعاءُ مَاءٍ في الخارِج يُستخدَمُ لغسلِ الأرجُل. وكانَ يُعْهَدُ بهذه المَهمَّة لشخصٍ وَضيعٍ، أو أحيانًا إلى أَحقَرِ عَبْدٍ أو أَحقرِ خادِمٍ كي يقومَ بغسلِ الأرجُلِ لأنَّها كانت أَحقرُ مَهمَّة. فهي لم تَكُن تَتطلَّبُ أيَّة مَهارة، ولم تَكُن تَنطوي على أيَّة مُتعة؛ ولكنَّها كانت ضَروريَّة جدًّا.
وفي الأزمنة القديمة، في أزمنةِ الكتابِ المقدَّس، عندما كانَ النَّاسُ يَأكلونَ وَجبةً مِثلَ وَجبةِ الفِصحِ، كانَ الأمرُ يَدومُ ساعاتٍ وساعات. وكانوا يَتَّكِئون. فَهُم لم يكونوا يَستخدمونَ المقاعِدَ، بل كانوا يَتَّكِئون. لِذا، كانَ رأسُكَ قَريبًا جدًّا مِن رِجْلَيِّ شخصٍ آخر. وكانتِ اللِّياقَةُ تَقتضي أن تَهتمَّ بنظافةِ رِجْلَيْك. لِذا، هذا هو ما كانَ يَحدُثُ. فعندما تَذهبُ إلى مَنزلِ أحدهم، كما يَحدُثُ اليوم إذ إنَّ هناكَ أشخاصًا يَطلبونَ أحيانًا مِنِّي ومِن زوجتي "باتريشا" (Patricia) أن نَخلَعَ أحذيتَنا أمامَ البابِ قبلَ دُخولِنا. وأنا أَتفهَّمُ ذلك. ولكنِّي أعتقدُ أنَّ خَلْعَ أحذيتِنا يُمكنُ أن يكونَ أحيانًا أسوأ مِن عَدمِ خَلعِها. ولكن على أيَّةِ حال، لنَضَع هذا جانبًا ونتحدَّثُ عن شيءٍ آخر. ولكنَّكم تَفهمونَ قَصدي.
إذًا، كانوا يَجتمعونَ في العِليَّة في ليلةِ الخميسِ هذه؛ أيِ الرَّبُّ وتلاميذُه. وكانت خِدمتُهُ الأرضيَّةُ على وَشْكِ الانتهاء. ونَقرأُ في العددِ الثَّالث: "وَهُوَ عَالِمٌ...أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَرَجَ، وَإِلَى اللهِ يَمْضِي". فهذا هو ما يَقولُهُ النَّصُّ في العددِ الأوَّل. فقد كانَ يَعلمُ أنَّهُ سيُغادرُ هذا العالَمَ ويَمضي إلى الآب. وهذا أمرٌ مُهِمٌّ هنا. فقد كانَ عائدًا مَرَّةً أخرى إلى المَجد. فقد كانَ عائدًا إلى المَجدِ الَّذي كانَ لهُ قبلَ كَوْنِ العالَم. فسوفَ يعودُ إلى المَجد. ويبدو أنَّ هذه هي اللَّحظة الَّتي كانَ ينبغي لشخصٍ ما أن يَغسِلَ رِجْلَيْه. أليسَ كذلك؟
فرُبَّما بعدَ كُلِّ تلك السَّنواتِ الثَّلاثِ والثَّلاثين مِنَ الاتِّضاع، يجب أن يأتي شخصٌ ويُدرك أنَّهُ في طَريقِهِ إلى الصَّليبِ والقيامةِ والصُّعودِ، وأنَّهُ رُبَّما حان الوقتُ لكي نُدركَ مُلْكَهُ وجلالَهُ ومَجدَهُ. فقد كانَ ينبغي لشخصٍ آخرَ أن يَغسِلَ رِجلَيه. فقد كانَ سيَحصُلُ على الاسمِ الَّذي هو فَوقَ كُلِّ اسمٍ؛ أي: الرَّبّ. وهو الاسمُ الَّذي ستَنحني لهُ كُلُّ رُكبةٍ مِمَّن في السَّماءِ ومَن على الأرضِ ومَن تحتَ الأرض. ولكنَّ أحدًا لم يَفعل ذلك. فلم يَتقدَّم أيُّ شخصٍ لغسلِ الأرجُل.
وكانَ هذا كافِيًا لِحدوثِ ما حَدث. فقد كانوا جَميعًا مُتَّكِئينَ لتَناوُلِ العشاءِ فيما كانت أَرجُلُهم مُتَّسِخَة. وكانَ هذا التَّصَرُّفُ غيرَ لائقٍ البَتَّة. لِذا، في ذلك السِّياق، لا بُدَّ أنَّ أَمَلَ الرَّبِّ قد خَابَ جدًّا... قد خَابَ جدًّا. ولكن تَذكَّروا أنَّهم كانوا يَتجادَلون. فقد كانوا يَتجادلون في تلك اللَّحظةِ وَفقًا لما جاءَ في إنجيل لوقا والأصحاحِ الثَّاني والعِشرين. فقد كانوا يَتجادلونَ مَن هو الأعظمُ بينَهُم في الملكوت. أتَرَوْن؟ لِذا فقد كانوا يُبالونَ فقط بكَرامَتِهم، ومَجدِهم، وَمَكانتِهم. وفي ذلك الإطار، لم يَكُن أحدٌ مِنهم يَرغبُ في القيامِ بعملِ العَبْد. لِذا، لم يَفعل أيٌّ منهم ذلك.
ولا شَكَّ في أنَّ ما حَدثَ كانَ مُحزِنًا للرَّبّ. فقد كانَت هذه دَلالة أخرى على ضَعفِهم، وعلى بَلادَتِهم الرُّوحيَّة؛ ولكنَّهُ أحبَّهُم بالرَّغمِ مِن ذلك. وهذا هو ما يَجعلُ مَحبَّتَهُ مُدهشةً جدًّا لأنَّهم كانوا بَشِعينَ جدًّا في تلك النُّقطة... بَشِعينَ جدًّا. ثُمَّ إنَّهُ كانَ هناكَ يهوذا. فَكَم كانَ قَبيحًا! ولكنَّ هذا هو ما يُساعِدُنا على أن نَفهمَ مَعنى أنَّهُ أَحبَّهُم إلى المُنتهَى، أو إلى النِّهاية، أو إلى الحَدِّ الأقصى بالرَّغمِ مِن كُلِّ شيء.
وإذْ نَنظُرُ إلى هذا المَشهد، هناكَ بِضع نِقاطٍ نَوَدُّ أن نَذكُرها: أوَّلاً، لقد تَمَّ التَّحدُّثُ عن مَحبَّتِه في العددِ الأوَّل. وقد تَأمَّلنا في ذلك: "إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ، أَحَبَّهُمْ إِلَى الْمُنْتَهَى". فهذه الآية تَتحدَّثُ عن محبَّته. فيوحنَّا يقولُ هذه الجُملةَ المُوحى بها بوحيٍ مِنَ الرُّوحِ القُدُس. فقد كانَ يسوعُ يَعلمُ أنَّ ساعَتَهُ قد جاءت. وكانَ يَعلمُ أنَّهُ ذاهبٌ إلى الآب. وقد قالَ ذلك مَرَّةً أخرى في العددِ الثَّالث. فمَجْدُهُ يَلوحُ في الأُفُق. أجل، بِكُلِّ تأكيد. فموتُهُ صارَ وَشيكًا وقريبًا جدًّا. ولكن بعدَ مَوتِهِ سيقومُ مِنَ القَبرِ ويَرجِعُ إلى مَجدِهِ مِن خلالِ صُعودِهِ. وقد كانَ يَعلمُ كُلَّ هذا.
وقد كانَ يَسوعُ الشَّخصَ الَّذي يَستحقُّ كُلَّ التَّكريمِ، والرِّفْعَةِ، والسُّموِّ، والمُعاملةِ اللاَّئقة؛ ولكنَّهُ لم يَحصل عليها... لم يَحصل عليها. لِذا فقد أَظهرَ مَحبَّتَهُ لتلاميذٍ... اسمعوني: لتلاميذٍ لا يَستحقُّونَ محبَّتَه، وضُعفاءَ، وأنانيِّين، ولا يُفَكِّرونَ إلاَّ في أنفسِهم، ولا يُبالونَ إلاَّ بأنفسَهم؛ أي لتلاميذَ لن يُسهِموا مِن خلالِ موقفهم هذا في أيِّ شيءٍ يُقَدِّمُ شَهادةً قويَّةً عنِ الكنيسة. فهذا لن يُساعِد. فإن كانَ المِعيارُ هو: "بِهذَا يَعْرِفُ الْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تَلاَمِيذِي: إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْضًا لِبَعْضٍ"، ما الَّذي سيقولُهُ النَّاسُ عنكم إن كُنتُم تَتصرَّفونَ بهذه الطَّريقة؟ وقد كَتَبَ الرُّسُل عن ذلك لاحقًا؛ أي عن غَيرَتِهم وحَسَدِهم بعضُهم لبعض، وعن عَدمِ تَفضيلِهم وحُبِّهم بَعضُهم لبعض.
فإن كانَ هذا هو ما سيحدُثُ في كنيستِكم، وإن كانت هناك خُصوماتٌ ونِزاعاتٌ وانقسامات، نحنُ نَعلمُ أنَّ الرُّسُلَ ذَكروا كلَّ ذلك في الرَّسائل. وإن كانَ هذا هو ما يَراهُ العالَم، ما الَّذي سيَستنتِجونَهُ؟ لن يَستنتِجوا أنَّنا تَغيَّرنا وأنَّنا سنُظهِرُ مَحبَّةً مِن النَّوعِ الإلهيِّ تَختلفُ عن أيَّة محبَّة أخرى يَعرفُها العالَم. ورُبَّما كانَ هذا الوقتُ هو الوقتُ المُناسبُ لتوبيخِهم وتَمزيقِهم كما فَعلَ بالفَرِّيسيِّينَ في ذلك الأسبوع؛ ولكنَّهُ لا يَفعلُ ذلك، بل يُحبُّهم وَحَسْب. وهو يُقدِّمُ لهم نَموذجًا لكيفَ ينبغي أن يُحبُّوا. وهو يَحميهم.
فقد كانت آخرُ أعمالٍ عَمِلَها يسوعُ هي أعمالٌ تَفيضُ بالمحبَّة إلى نِهايةِ الأصحاحِ السَّابع عشر. "مَحَبَّتُهُ لا نِهايةَ لها، ولا يُمكن لأيِّ شيءٍ أن يُغَيِّرَها. فهي تَفيضُ إلى الأبد مِن نَبْعٍ واحدٍ أزَليٍّ". فقد أحبَّهُم مَحبَّةً أبديَّة، وأحبَّهم حَتَّى قبلَ أن يُولَدوا. فقد أحبَّهُم مِنَ الأزَل إلى الأبَد. وقد أحبَّهُم محبَّةً أبديَّة. "مَحبَّة أبديَّة أحبَّنا... [كما يَقولُ كاتِبُ التَّرنيمة] ... مَحبَّةً تَفيضُ بالنِّعمة". فبالنِّعمةِ... بالنِّعمةِ أحبَّهُم. وهو يُقدِّمُ أكملَ تَعبيرٍ عن هذه المحبَّة. لِذا فإنَّنا نَجِدُ هنا تَعبيرًا عن تلك المحبَّة.
والنُّقطةُ الثَّانيةُ هي أنَّ المحبَّة رُفِضَت. فالمحبَّة قد رُفِضَت في العددِ الثَّاني. وقد تقول: "ولماذا يَتِمُّ ذِكْرُ هَذا هُنا؟" فقد قرأنا هذه الآيةَ الرَّائعةَ عنِ المحبَّة؛ وهي الآيةُ الَّتي تأمَّلنا فيها في الأسبوعِ الماضي. ولكنَّنا نَقرأُ الآنَ: "فَحِينَ كَانَ الْعَشَاءُ، وَقَدْ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي قَلْبِ يَهُوذَا سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ أَنْ يُسَلِّمَهُ". هل نحنُ بحاجة حَقًّا إلى ذلك؟ فقد ابتدأنا في التَّعمُّقِ في هذا التَّعبيرِ عنِ المحبَّة. فما الَّذي يَحدُث هنا؟ فهذا أمرٌ بَشِع. وهذا أمرٌ كَارِثيٌّ بالنِّسبةِ إلى يهوذا. وهو أمرٌ يَدينُهُ إلى الأبد.
وحتَّى إنَّنا لا نَفهمُ يَهوذا. أليسَ مِنَ الصَّعبِ على المؤمنينَ أن يَفهموه؟ فكيفَ يَعيشُ معَ يسوعَ ثلاث سِنين، ويَرى كلَّ شيء، ويَسمعُ كلَّ شيء، ويُراقبُ كلَّ عملٍ عَمِلَهُ يسوعُ، ويَعرِفُ الكَمالَ المُطلَقَ لحياتِه، ثُمَّ يَبيعُ نَفسَهُ للشَّيطان؟ فقد فعلَ ذلك. فقد باعَ نَفسَهُ للشَّيطان. وقد وَضَعَ نَفسَهُ بينَ يَديِّ الشَّيطان. ونَقرأُ في العدد 27 أنَّ الشَّيطانَ دَخَلَهُ.
ففي نفسِ اللَّيلة؛ أي يوم الخميس مساءً، في وقتِ العَشاء، دَخَلَهُ الشَّيطانُ. وكانَ يَسوعُ يَعلمُ مَتى يَظهرُ الشَّيطان. وكانَ يَعلمُ ما في قلبِ الإنسان. وكانَ بمقدورِهِ أن يَقرأَ الأفكار. ولا شَكَّ في أنَّهُ كانَ يَعلمُ مَتى يَظهَرُ الشَّيطانُ (المُفتَري غير المَنظور). فقد ظَهَرَ الشَّيطانُ في الوقت المُناسب، وفي اللَّحظةِ المُناسبة. وقد قالَ يسوعُ ليهوذا: "مَا أَنْتَ تَعْمَلُهُ فَاعْمَلْهُ بِأَكْثَرِ سُرْعَةٍ". اذهب وافعل ذلك. اذهب ودَبِّر تفاصيلَ الخِيانة لأنَّ الوقتَ يَمضي الآن. فالوقتُ يَمضي كي يَتِمَّ قَتلي في الوقتِ الَّذي تُذبَحُ فيهِ حُملانُ الفِصحِ غَدًا. دَعِ الأمورَ تأخُذ مَجراها.
نحنُ هُنا أمامَ رَجُلٍ باعَ نَفسَهُ للشَّيطان. وقد قالَ يسوعُ عنهُ في إنجيل يوحنَّا 6: 70 إنَّهُ كانَ شَيطانًا. فقد كانَ شَيطانًا. ولماذا يَذكُرُ هذا هُنا؟ لماذا؟ لأنَّ التَّبايُنَ صَارِخٌ. ولأنَّ التَّبايُنَ يُطلِعَنا على شَيءٍ مَا. فالتَّبايُنُ يُسْدِلُ سِتارةً سَوداءَ وراءَ المَشهد. وهو يَجعلُ كُلَّ شيءٍ يُعبِّرُ عنِ المحبَّة واضحًا تمامً الوُضوح. فأبشعُ كَراهيةٍ تَظهَرُ بوضوحٍ تامٍّ مُقابِلَ أطهر مَحبَّة. فيهوذا شخصٌ مُبْغِضٌ. يهوذا شخصٌ مُبْغِضٌ. وكُلَّما زادَ إخفاقُ يسوعَ في تَحقيقِ طُموحاتِ يَهوذا وجَشَعِه، زادت كَراهِيَةُ يهوذا ليسوع.
فقد كانَ يهوذا يَهتمُّ بنفسه، ومَدفوعًا بالجَشَع، ومَدفوعًا بالطُّموح، ومَدفوعًا بإرضاءِ ذاتِه، ولا يَقدِرُ أن يُحِبّ. فالكبرياءُ لا تَقدِرُ أن تُحِبَّ. والمَصلحةُ الذَّاتيَّةُ لا تَقدرُ أن تُحِبَّ. ويَهوذا لا يَقدِرُ أن يُحِبَّ، بل يَقدرُ فقط أن يَكرَهَ أيَّ شيءٍ يَقِفُ في طَريقِ طُموحِه. لِذا، يجب عليكم أن تَعلموا وَحَسْب ما يَكمُنُ خَلفَ الصُّورةِ هنا: كَراهِيَة يَهوذا.
إنَّ كلماتِ المحبَّة الَّتي يُقدِّمُها يسوعُ في هذه الآياتِ ويُؤكِّدُها مِن خلالِ قُدوتِه تأسُرُ قُلوبَنا، وتُدَفِّئُ قُلوبَنا، وتَدفعُنا إلى أن نُحِبَّهُ أكثر؛ في حين أنَّها تَجعلُ يهوذا يُبغِضُهُ أكثر. وقد قالَ أحدُ الكُتَّابِ: "كنتُ أتمنَّى أن تكونَ قُبلةُ الخائنِ الَّتي صَدَرَت عن يهوذا هي القُبلة الوحيدة؛ ولكن بالمَعنى الروحيِّ ما يَزالُ يسوعُ يَحتَمِلُ ذلكَ آلافَ المرَّاتِ حَتَّى هذه السَّاعة. فإن كُنَّا نَعترِفُ به بأفواهِنا بكُلِّ رِياءٍ ونَخونُهُ بِسُلوكِنا، وإن كُنَّا نَرفَعُهُ إلى أمجادِ السَّماواتِ في نَاسوتِهِ ولكنَّنا نُجَرِّدُهُ مِن مَجدِهِ الإلهيِّ ونَنزِعُ تاجَ الجَلالِ الكَونيِّ عن رأسِهِ، وإن كُنَّا نُرَنِّمُ تَرنيماتٍ حَماسيَّة ولكنَّنا نَدوسُ إنجيلَهُ بكلامِنا وأفعالِنا، فإنَّ ذلك لا يَختلفُ في شيءٍ عن قُبلةِ يَهوذا".
فما يَزالُ هناكَ أشخاصٌ كثيرونَ مِثلَ يَهوذا. لِذا فإنَّ المَحبَّة تُذكَرُ في العددِ الأوَّل، والمحبَّةُ تُرفَضُ في حياةِ يَهوذا. وسوفَ نَقولُ المَزيدَ عنهُ في الأسبوعِ القادِم.
ثالثًا وأخيرًا: إظهارُ المحبَّة... إظهارُ المَحبَّة. فكيفَ أَحَبَّ؟ وكيفَ أَظْهَرَ تلك المحبَّة؟ لقد قلتُ لكم إنَّ طَبيعةَ هذه المحبَّة هي إنكارُ الذَّات. فطبيعةُ هذه المحبَّة هي إنكارُ الذَّات. فهي تُرَكِّزُ تمامًا على المَحبوب، وتَتواضَع. وهذا هو تمامًا ما يَفعلُهُ يسوع. فهو يُقدِّمُ مِثالاً هنا على كيفيَّة تقديم ذبيحة رائعة غير الموت مِن خلالِ حُبِّ الآخرينَ بطريقة يُمكنُنا القيامُ بها طَوالَ حياتِنا.
"يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ الآبَ قَدْ دَفَعَ كُلَّ شَيْءٍ إِلَى يَدَيْهِ". فقد كانَ يَعلَمُ مَن هُو. فنحنُ لا نُريدُ أن يَظُنَّ أيُّ شخصٍ أنَّهُ لأنَّ يسوعَ فَعلَ ذلك فإنَّهُ مُجرَّدُ إنسانٍ، وأنَّهُ تَواضَعَ لأنَّهُ إنسانٌ، وأنَّهُ يُريدُ أن يُوَضِّحَ أنَّهُ لا بُدَّ لهُ أن يَتَّضِع. لا! فيوحنَّا واضحٌ جدًّا إذْ يَقول: "وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَرَجَ، وَإِلَى اللهِ يَمْضِي". فهذه جُملة عن طَبيعتِهِ ولاهوتِهِ الأزليَّيْنِ المُطْلَقَيْن. وهذه هي النُّقطةُ الجَوهريَّةُ لاتِّضاعِهِ. فقد جاءَ مِنَ المَجدِ ونَزَلَ. فقد تَواضَعَ في مساءِ الخميس في تلك العِلِّيَّة.
"قَامَ عَنِ الْعَشَاءِ، وَخَلَعَ ثِيَابَهُ، وَأَخَذَ مِنْشَفَةً وَاتَّزَرَ بِهَا، ثُمَّ صَبَّ مَاءً فِي مِغْسَل، وَابْتَدَأَ يَغْسِلُ أَرْجُلَ التَّلاَمِيذِ وَيَمْسَحُهَا بِالْمِنْشَفَةِ الَّتِي كَانَ مُتَّزِرًا بِهَا". والآن، تَذكَّروا أنَّ العددَ الثَّاني يقول: "فَحِينَ كَانَ الْعَشَاءُ". فقد كانوا يَتَعَشُّون. فَقد كانوا يأكُلونَ وَليمةَ الفِصح. ولم يَكُن أيُّ شخصٍ قد تَطَوَّعَ لِغَسلِ الأرجُل... لا أحد.
وبالمُناسبة، نَقرأُ في رسالة يوحنَّا الأولى 3: 18 ما يَلي إذ إنَّ يوحنَّا يُذَكِّرُنا قائلاً: "لاَ نُحِبَّ بِالْكَلاَمِ وَلاَ بِاللِّسَانِ، بَلْ [بماذا؟] بِالْعَمَل...". فما تَفعلُهُ هو الَّذي يُظهِرُ تلك المحبَّة. ويسوعُ يَفعلُ ما لا يَفعلُهُ أيُّ شخصٍ آخر، ويَقومُ بِما لا يَقومُ به أيُّ شخصٍ آخر. فهو يَقومُ عنِ العَشاءِ، ويَخلَعُ ثَوبَهُ الخارجيَّ، ويَبقى في ثَوبِهِ الدَّاخليَّ (الَّذي كانَ يُلبَسُ عادَةً)، ويأخُذُ مِنشفةً، ويَتَّزِرُ بها، ثُمَّ يأخُذُ ماءً مِنَ الوعاءِ الموجودِ عندَ بابِ كُلِّ بيتٍ لِغَسلِ الأرجُل، ويَصُبُّ الماءَ في مِغسَل ويَبتدئُ يَغسِلُ أرجُلَ التَّلاميذ ويَمسَحُها بالمِنشفةِ الَّتي كانَ مُتَّزِرًا بها. فقد خَلَعَ ثَوبَهُ الخارجيَّ لحمايتِهِ مِنَ الاتِّساخِ والبَلَلِ والطِّين. وكانَ هذا العملُ وَضيعًا جدًّا.
فإن غَسَلَ صَيَّادُ سَمَكٍ رِجْلَيِّ صَيَّادِ سَمَكٍ آخر فإنَّهُ تَنازُلٌ صغير، وتَواضُعٌ صغير. أمَّا أن يَغسِلَ الخالِقُ أرجُلَ رِجالٍ مُتَكَبِّرينَ وخُطاةً بسببِ كِبريائِهم فهذا تَنازُلٌ كبيرٌ جدًّا حَقًّا. وقد تَظُنُّونَ أنَّ ذلكَ... أنَّ ذلكَ كانَ تَنازُلاً صغيرًا، ولكنَّ ذلكَ قد يكونُ صَحيحًا إن غَسَلَ أرجُلَ أشخاصٍ قِدِّيسينَ جِدًّا أو قِدِّيسينَ إلى حَدٍّ مَا. ولكنَّهُ لم يَفعل ذلك، بل غَسَلَ أرجُلَ أشخاصٍ مُتكبِّرينَ وأنانيِّينَ، ولا يَهتمُّونَ سِوى بأنفسهم وطُموحِهم. لِذا، هذا هو وَحَسْب ما يَفعلُه.
كانَ التَّلاميذُ قد مَشَوْا للوصولِ إلى العِليَّةِ في شوارِعِ أورُشليم المُتَّسِخَة والمُوْحِلَة مِن بيت عَنْيا. فقد كانت طُرُقُ مَدينة بيت عَنْيا تُرابيَّة. وكانَ كُلُّ مِنهُم يُفكِّرُ تَفكيرًا مُستقلًّا. فقد أرادَ كُلٌّ مِنهم أن يَحرِصَ على أَلاَّ يَصيرَ وَضيعًا في عَينيِّ يسوعَ مِن خلالِ القيامِ بشيءٍ قد يَحُطُّ مِن كَرامَتِه. لِذا، لم يَفعل أيٌّ منهم أيَّ شيء... لم يَفعل أيٌّ منهم أيَّ شيء. لِذلك، ذَهَبَ يسوعُ إلى البابِ، واستعدَّ، وغَسَلَ أرجُلَهُم.
لقد كانت ذاكِرَتُهم سَيِّئة. فقد قالَ لَهُم في ذلك الأسبوع: "مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِيكُمْ عَظِيمًا فَلْيَكُنْ لَكُمْ [ماذا؟] خَادِمًا" أو عَبْدًا. ولكنَّ كَلامَهُ لم يَلْقَ آذانًا مُصْغِيَة... لم يَلْقَ آذانًا مُصغية. لِذا فقد نَهَضَ بوَقارٍ وجَلالٍ، وخَلَعَ ثَوبَهُ الخارجيَّ واتَّزَرَ بهذه المِنشَفة، وابتدأَ يَغسِل أرجُلَهُم. ولا أريدُ أن أُخَمِّن. فأنتُم تَعلمونَ أنَّني لا أُحِبُّ التَّخمين، ولكنِّي أَعلمُ أنَّ هذا الأمرَ حَطَّمَ هؤلاءِ الرِّجال. ويجب أن تُصَدِّقوا أنَّ هذهِ اللَّحظةَ كانت صَاعِقَةً جدًّا جدًّا جدًّا وأنَّهُم لم يُصَدِّقوا ما يَرَونَهُ. وهذه هي المَشاعِرُ الَّتي عَبَّرَ عنها في نِهايةِ المَطافِ بُطرُس قَائِلاً: "هذا لا يَجوز!"
لقد صُعِقوا، وحَزِنوا، ونَدِموا، وشَعروا بالتَّبكيتِ لأنَّ الرَّبَّ فَعَلَ ما لم يُبْدِ أحدٌ مِنهم الاستعداد للقيامِ به. اسمعوني: لقد كانوا يَعلمونَ أنَّ غَسْلَ الأرجُلِ هو أَحطُّ عَمَلٍ يُمكِنُ القيامُ بهِ في المُجتمَع. ولا شَكَّ في أنَّ ذلكَ آلَمَهُم جدًّا. فقد كانَ دَرسًا عميقًا عنِ الكِبرياءِ لأنَّهم تَصَرَّفوا بكبرياء حَقًّا. لِذا فقد ابتدأَ يسوعُ يَغسِلُ أرجُلَهُم. وعندما حانَ دَورُ بُطرس، مِن المؤكَّدِ أنَّ تلكَ المشاعِر اجتاحَت بُطرسَ وأنَّهُ أَحَسَّ بذلكَ أيضًا. لِذا فقد قالَ لَهُ: "يا سَيِّدُ! يا سَيِّدُ!" وقد كانَ يُحاولُ أن يُعَبِّرَ عن مَشاعِرِهِ المُشَوَّشة: "يَا سَيِّدُ، أَنْتَ تَغْسِلُ رِجْلَيَّ! هذا غيرُ مَعقول!"
والآن اسمعوني: كانَ بُطرسُ يَعلمُ مَن هو يسوع. فقد كانَ يَعلمُ ذلك لأنَّهُ قال: "أنتَ هُوَ القُدُّوس. إِلَى مَنْ نَذْهَبُ؟ كَلاَمُ الْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ عِنْدَكَ، وَنَحْنُ قَدْ آمَنَّا وَعَرَفْنَا أَنَّكَ أَنْتَ هُوَ القُدُّوس". وقد قال: "أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ الْحَيِّ". فقد كانَ يَعلمُ مَن هو يسوع. وكانَ بَقيَّةُ التَّلاميذِ يَعلمونَ مَن هو. فلم يَكُن هناكَ أيُّ شَكٍّ في ذلك. وكانَ يَعرِفُ نَفسَهُ أيضًا. فهو نَفسُ الشَّخصِ الَّذي قال: "اخْرُجْ مِنْ سَفِينَتِي يَا رَبُّ، لأَنِّي رَجُلٌ خَاطِئٌ!" وكانَ الرَّبُّ قد ذَكَّرَهُ مِرارًا بخطيئته.
والحقيقةُ هي أنَّ الأمرَ زادَ سُوءًا عندما قالَ لهُ الرَّبُّ قبلَ وقتٍ ليسَ طويلاً جدًّا مِن هذه الحادثة: "اذْهَبْ يَا [مَن؟] يا شَيْطَان!" لِذا فقد كانَ بُطرسُ يُحاولُ أن يَنظرَ إلى الأمرِ بطريقةٍ يَستوعِبُها عَقلُه. "يا سَيِّدُ، أنتَ تَغسِلُ رِجْلَيَّ! أنا رَجُلٌ خاطِئ". وهو يَتحدَّثُ نِيابةً عنِ التَّلاميذِ الآخرينَ أيضًا. فقد كانَ مَصدومًا. ولا يُمكِنُهُ أن يَسمحَ بحدوثِ ذلك. فلا يُمكِنُهُ أن يَسمَحَ بحدوثِ ذلك.
وقد رَدَّ يَسوعُ وقالَ لهُ في العددِ السَّابع: "لَسْتَ تَعْلَمُ أَنْتَ الآنَ مَا أَنَا أَصْنَعُ، وَلكِنَّكَ سَتَفْهَمُ فِيمَا بَعْدُ". وهو لا يَتحدَّثُ هنا عن غَسلِ الأرجُل. فهو يَترُكُ الرَّمزَ ويَتحدَّثُ عنِ الواقِع. فهو يقول: "بُطرس! أنتَ لم تَفهم بَعد اتِّضاعي. أنتَ لم تَفهم ذلك". والآن تَذكَّروا أنَّ نَظرتَهم إلى المسيَّا كانت هي أنَّه سيأتي مُنتصرًا. فقد كانوا يَنظرونَ إلى المَسيَّا على أنَّه مُنتَصِر. فهو سيأتي، ويُؤسِّس مَملكةً، ويَهزِمُ الأعداءَ، ويَملِك ويَسود على أورُشليم، وعلى إسرائيل، وعلى العالَم، وعلى كُلِّ الأشياءِ الَّتي تَحدَّثَ عنها الأنبياء، وعلى كُلِّ الأشياءِ الَّتي وُعِدَ بها داوُد، وعلى كُلِّ الأشياءِ الَّتي وُعِدَ بها إبراهيمُ والَّتي ذُكِرَت في الأسفارِ النَّبويَّة.
فقد كانوا ما زالوا يَعتقدونَ أنَّ المسيَّا سيأتي مُنتصرًا. وحتَّى بعدَ القيامة (في سِفْر أعمال الرُّسُل 1: 6)، نَقرأُ أنَّهم يقولون: "هَلْ فِي هذَا الْوَقْتِ تَرُدُّ الْمُلْكَ إِلَى إِسْرَائِيل؟" فقد كانوا يَترقَّبونَ مَلكوتًا كهذا. لِذا فإنَّهم لم يَحتَمِلوا اتِّضاعَ يَسوع. وهذا هو ما جَعَلَ رَبَّنا يَقولُ لَهُ: "أنتَ لا تَفهم يا بُطرس، ولكنَّكَ ستَفهمُ فيما بَعد. ولكنَّ هذا الأمرَ جُزءٌ مِنَ اتِّضاعي. فَمِن جِهَة، هذا نَموذَجٌ لكم لكي تَتعلَّموا كيفَ تُحِبُّون. وهو أيضًا يَرمِزُ إلى تَجَسُّدي، واتِّضاعي، وتَنازُلي. أنتَ لا تَرَى كُلَّ ذلك، ولكنَّكَ ستَراهُ فيما بعد". وقد رآهُ. فإن قَرأتُم رسالةَ بُطرس الأولى ستجدونَ أنَّهُ فَهِمَ تَمامًا اتِّضاعَ المسيح: "عَالِمِينَ أَنَّكُمُ افْتُدِيتُمْ لاَ بِأَشْيَاءَ تَفْنَى، بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ، ...بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَل بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ الْمَسِيح". فقد فَهِمَ التَّجسُّد. وقد فَهِمَ الاتِّضاع. وقد فَهِمَ إعدام يَسوع.
وَهُوَ يَكتُبُ عن ذلك في الأصحاحِ الأوَّل. وَهُوَ يَقول في الأصحاحِ الثَّاني: "الَّذِي حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جَسَدِهِ عَلَى الْخَشَبَة". فقد فَهِمَ ذلك في النِّهاية، وكَتَبَ عن ذلك. وقد فَهِمَ يوحنَّا ذلكَ وكَتَبَ عن ذلك أيضًا. وكذلكَ فَعَلَ الرُّسُل الآخَرون. ولكنَّهُم لم يكونوا قد فَهِموا بعد هذا الاتِّضاعَ حَتَّى الصَّليب. لِذا فإنَّهُ يقول: "بُطرس! أنتَ لا تَفهم بعد هذا الاتِّضاع، ولكنَّكَ ستَفهمُ فيما بَعد". وقد أكَّدَ بُطرسُ حقيقةَ أنَّهُ لا يَفهمُ ذلك لأنَّهُ قال: "لَنْ تَغْسِلَ رِجْلَيَّ أَبَدًا!" والتَّركيزُ هو على الضَّمائِر. "لن تَغسِلَ [يا رَبُّ] رِجليَّ [أنا الخاطِئ] أبدًا".
وكأنَّهُ قالَ ذلكَ بالعاميَّةِ: "تَوَقَّف عن ذلك! تَوقَّف! لن تَفعلَ هذا". وقد كانَ هذا الشَّخصُ وَقِحًا حَقًّا. فهو يُخاطِبُ الخالِقَ ويَعترِفُ بحالتِه. فهو يَدعو يسوعَ رَبًّا ويَتصرَّفُ كما لو أنَّهُ هو الرَّبّ. واللُّغة هُنا شَديدة. والرَّفضُ القاطِعُ المُتَمَثِّلُ في الكلمة "أبدًا" هو أقوى رَفضٍ مُمكِن. فكأنَّكَ تقول: "مِنَ الآن إلى الأبد، وطَوالَ الدَّهر، وطَوالَ الوقت، وتحتَ أيِّ ظَرفٍ كَان، لن تَغسِلَ رِجليَّ أبدًا". فهذه مسألة مَحسومة، وتَمَّ البَتُّ بها تَمامًا. فهذا لن يَحدُثَ أبدًا.
قالَ لَهُ يَسوع: "إِنْ كُنْتُ لاَ أَغْسِلُكَ فَلَيْسَ لَكَ مَعِي نَصِيبٌ". هذا مُدهِش! قَالَ لَهُ بُطْرُسُ في العدد 9: "يَا سَيِّدُ، لَيْسَ رِجْلَيَّ فَقَطْ بَلْ أَيْضًا يَدَيَّ وَرَأسِي". فقد انتقلَ مِنَ النَّقيضِ إلى النَّقيض. مِن "لَنْ تَغْسِلَ رِجْلَيَّ أَبَدًا" إلى "اغسِل كلَّ شيء!" وما الَّذي غَيَّرَهُ بهذا القَدرِ وبهذه السُّرعة؟ لقد أرادَ أكثرَ مِن أيِّ شيءٍ آخرَ علاقةً بيسوعَ المسيح. هل تَذكرونَ ما قالَهُ في الأصحاحِ السَّادس؟ "إلى مَن نَذهب؟" فقد قالَ يسوعُ: "هل ستَذهبونَ أنتُم أيضًا؟" "إلى مَن نَذهب؟ كَلاَمُ الْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ عِنْدَكَ. أنا أريدُ علاقةً بكَ. يا رَبُّ، إن كانت هذه هي الطَّريقةُ الَّتي أُحافِظُ بها على علاقتي بك، اغسلني. اغسلني".
ما الَّذي قَصَدَهُ يسوعُ حينَ قال: "إِنْ كُنْتُ لاَ أَغْسِلُكَ فَلَيْسَ لَكَ مَعِي نَصِيبٌ"؟ كانَ الآنَ قد انتهى مِنَ التَّحدُّثِ عنِ المَثَلِ التَّوضيحيِّ وراحَ يَتحدَّثُ عنِ الواقع. فقد كانَ يَتحدَّثُ عن حاجةِ بُطرسَ إلى التَّطهيرِ الرُّوحيّ، وعن حاجتهِ إلى ما قيلَ في سِفْر حِزْقيال إنَّهُ سيَحدُثُ في العهدِ الجديد: الاغتسال، الاغتسال. وقد كانَ بحاجةٍ إلى ما كَتَبَ بولسُ عنهُ لتيطُس: غَسْل الميلاد الثَّاني. فقد كانَ بحاجةٍ إلى التَّطهيرِ الروحيِّ. وقد كانَ المسيحُ يَتَّضِعُ ويَتواضَعُ ويَمضي كُلَّ الطَّريقِ إلى الصَّليبِ لكي يُوفِّرَ وسيلةً تُتيحُ ذلكَ التَّطهيرَ الرُّوحيَّ.
بُطرُس! لا يُمكنكَ أن تُوقِفَ هذا الاتِّضاعَ. فأنا مَاضٍ في الطَّريقِ إلى النِّهاية، إلى ما هو أَهَمُّ مِن غَسْلِ الأرجُلِ... إلى ما هو أَهَمُّ بكثير مِن غَسْلِ الأرجُلِ... إلى الصَّليب. يجب عليكَ أن تَقبلَ ذلك. يجب عليكَ أن تَقبلَ اتِضاعي طُولَ الطَّريقِ إلى الصَّليبِ لأنَّ هذه هي الطَّريقة الوحيدة الَّتي يُمكنكَ أن تَتَطَهَّرَ مِن خلالِها. فهذه هي وَسيلةُ تَطهيرِكُم. وكانَ بُطرسُ قد نَالَ الخلاصَ أصلاً مِن خلالِ ما لم يَفعلهُ المسيحُ بعد ولن يَفعلهُ إلاَّ بعدَ يَومَين. ولكنَّ ذلكَ كانَ يَسري عليه وعلى كُلِّ المؤمنينَ في العهدِ القديم.
لِذا فإنَّ يسوعَ يَقول: "لا يُمكنُ لأيِّ شخصٍ أن يَتمتَّعَ بعلاقةٍ سليمةٍ باللهِ ما لم يَتَطَهَّر ذلك الشَّخصُ مِن قِبَل يَسوع. فإن لم أغسلكُم... إن لم أغسلكُم، لن يكونَ لكم نَصيبٌ مَعي". واسمَحوا لي أن أُفَسِّرَ هذا قليلاً: لا يوجد خلاصٌ بأيِّ اسمٍ آخر سِوى اسم يسوعَ المسيح. ولا يُوجدُ غُفرانٌ، ولا اغتِسالٌ مِن الخطيَّة، ولا فِداء إلاَّ مِن خلالِ المَسيح. "لا أحدَ يأتي إلى الآبِ إلاَّ بِي". "أنا هو الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة".
"هل تريدونَ علاقةً بالله؟" إنَّها مِن خلالي. إِنْ كُنْتُ لاَ أَغْسِلُكَ، لن تكونَ طاهِرًا، ولن يكونَ لَكَ مَعِي نَصِيب". فالخلاصُ الوحيدُ هو بيسوعَ المسيح. لِذا فإنَّ رَبَّنا يَستخدِمُ هذا العملَ البسيطَ ويَستخلِص منهُ حَقًّا رُوحيًّا ويُرَسِّخَهُ لكُلِّ الأجيالِ بِمَن في ذلك نحن. وعندما قالَ ذلك، مِن الواضحِ أنَّ بُطرسَ أرادَ عِلاجًا كاملاً. ويُتابِعُ يسوعُ تَوضيحَ هذا الحقِّ الرُّوحيِّ في العددِ العاشِر: "قَالَ لَهُ يَسُوعُ: الَّذِي قَدِ اغْتَسَلَ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إِلاَّ إِلَى غَسْلِ رِجْلَيْهِ، بَلْ هُوَ طَاهِرٌ كُلُّهُ. وَأَنْتُمْ طَاهِرُون".
أنتم لستم بحاجة إلى الاغتسالِ مَرَّةً أخرى. فَقد اغتسلوا في صَباحِ ذلك اليوم عندما غادروا على الأرجح بيت عَنيا إذْ إنَّهُم رُبَّما بَاتوا تلكَ اللَّيلة في بيتِ مَرثا ولِعازَر ومَريم. وقد غادَروا في الصَّباح ومَشوا كُلَّ الطَّريقِ وفَعَلوا كُلَّ ما فَعلوهُ في ذلك اليوم إلى أن وَصلوا أخيرًا إلى العِلِّيَّة. وَهُم لم يكونوا بحاجةٍ إلى الاغتسال، بل كانوا بحاجةٍ فقط إلى غَسْلِ أرجُلِهم. وهذا رائعٌ جدًّا. فهو يقول: "بُطرس، أنتُم لستم بحاجة إلى الخلاص، بل بحاجة فقط إلى غَسْلِ أرجُلِكُم. أنتُم طاهِرون". وأريدُ منكم أن تَنظروا إلى هذا النَّصّ.
فهو يقول: "بُطرس، أنتُم طاهِرون". أنتُم طاهِرون. وفي فِكْرِ بُطرس، كانت تلك أعظم جُملةٍ قِيلت لَهُ طَوالَ حياتِه لأنَّ يسوعَ قالَ لَهُ للتَّوّ: "أنتَ مُخَلَّص". فقد قالَ لَهُ للتَّوّ: "أنتَ مُخَلَّص". كم واحدٍ منكم يَوَدُّ أن يَأتي يسوع، ويَقترب منهُ ويقول: "بالمُناسبة، أريدُ أن تَعلمَ أنَّكَ مُخَلَّص"؟ هل سيكونُ ذلكَ الكلامُ مُهمًّا بالنِّسبةِ إليك؟ يا للعَجَب! هل تَمزَح؟ اسمعوني: أنا لا أَشُكُّ البتَّة في خلاصي، ولكنَّ ذلكَ سيُعطيني سعادةً لا مَثيلَ لها. وما أعنيه هو أنَّ الشَّيطانَ قد يُجَرِّب أيَّ شخصٍ مِنَّا مِن خلالِ شُكوكٍ خَبيثة. ولكنَّ يسوعَ يقول: "كُلُّكُم طاهِرون. لقد نِلتُم جميعًا الخلاص. وقد وُلِدتُم ثانيةً. وقد افتُديتُم. وقد أُعطيتُم حياةً جديدة. وَلكِنْ لَيْسَ كُلُّكُمْ". ثُمَّ نَقرأُ في العددِ الحادي عَشر: "لأَنَّهُ عَرَفَ مُسَلِّمَهُ، لِذلِكَ قَالَ: «لَسْتُمْ كُلُّكُمْ طَاهِرِينَ»".
فقد كان يوجدُ شخصٌ واحدٌ غير مُخَلَّص هُناك. وقد حَرَصَ رَبُّنا على تَوضيحِ ذلك. "أَنْتُمْ طَاهِرُونَ وَلكِنْ لَيْسَ كُلُّكُمْ". ويا لها مِن لَحظةٍ مُدهشةٍ أن تَسمعَ أنَّ خَلاصَكَ حَقيقيّ. وقد تقول: وكيفَ أَعلمُ أنَّ خلاصي حَقيقيّ؟" لقد قَرأتُ ذلكَ لكم مِن رسالة يوحنَّا الأولى: لأنَّكم اعترفتُم بأنَّ يَسوعَ هو المسيح، ولأنَّكُم تُحِبُّونَ اللهَ، ولأنَّكم تُطيعُونَ وَصاياه، ولأنَّكُم تُحبُّونَ بَعضُكم بعضًا. فهذا هو الدَّليل. هذا هو الدَّليل. لقد اغتسلتُم. وأنتُم طاهرون. وأنتُم لستُم بحاجة إلى الاغتسالِ مَرَّةً أخرى، بل بحاجة فقط إلى غَسْلِ أرجُلِكُم بِصورة دَوريَّة. وما مَعنى ذلك؟
بِصفتِنا مُؤمِنين، ماذا ينبغي أن نَفعل؟ وكيفَ ينبغي أن نَعيشَ حياتَنا؟ رسالة يوحنَّا الأولى: يجب علينا أن نَستمرَّ في الاعترافِ بخطايانا لأنَّهُ حينئذٍ سيَستمرُّ في تَطهيرِنا مِن كُلِّ إثْم (رسالة يوحنَّا الأولى 1: 9). وهذا يَصِفُ المُؤمِن. فالمُؤمِنُ شخصٌ اغتسلَ، وتَبرَّرَ، ووُلِدَ ثانيةً؛ ولكنَّهُ ما زالَ يَلتقطُ أتربَةَ العالَم. لِذا، يجب عليه أن يَستمرَّ في الاعترافِ والحُصولِ على التَّطهير مِن ذلك.
لِذا، إليكَ هذا الخَبَر السَّارّ يا بُطرس: أنتَ مُخَلَّص. وقد كانت هناكَ جوانبُ ضُعفٍ كثيرة جدًّا لدى بُطرس. أليسَ كذلك؟ هل هذا مُشَجِّعٌ لكم؟ وما أعنيه هو: إذا كنتَ تَرى أنَّكَ تُشبِهُ بُطرس، وكنتَ تَشُكُّ في خَلاصِك، فإنَّ الربَّ يقولُ لكَ: أنتَ طَاهِر. وكيفَ يَسَعُهُ أن يَعلمَ أنَّهُ طاهِر؟ لأنَّهُ مُغَطَّى بِبِرِّ اللهِ مِن خلالِ إيمانِهِ بالمسيح. ولكن ليسَ كُلُّكم... ليسَ كُلُّكم.
وهناكَ نُقطةٌ أخيرة: فقد تَمَّ التَّعبيرُ عنِ المحبَّة. وقد تَمَّ رَفضُ المَحبَّة. وقد أُظهِرَت المحبَّة مِن خلالِ هذا العملِ المُذهلِ الَّذي عَمِلَهُ رَبُّنا. فقد رأينا أنَّ المحبَّة يُمكِنُ أن تَنزِلَ إلى أدنى مُستوى مُمكِن، وأن تَقومُ بأكثرِ الأعمالِ اتِّضاعًا، وأن تَهتمَّ بأبسطِ الحاجات بطريقة مُضَحِّيَة وخالية مِنَ الأنانيَّة. وأخيرًا، المَحبَّة شَيءٌ يُطلَب مِنَّا. ويُمكنني أن أُنهي هذه النُّقطة في خمس دقائق. الآيات الأخيرة. راقبوني وَحَسْب:
المحبَّة شَيءٌ يُطلَب مِنَّا هُنا، أي أنَّ اللهَ يُوصينا بها [بِمَعنى آخر]. "فَلَمَّا كَانَ قَدْ غَسَلَ أَرْجُلَهُمْ [أيِ انتهى مِن ذلك] وَأَخَذَ ثِيَابَهُ [أيِ ارتَداها] وَاتَّكَأَ أَيْضًا، قَالَ لَهُمْ: أَتَفْهَمُونَ مَا قَدْ صَنَعْتُ بِكُمْ؟" وهو يَعودُ مِنَ الحقائقِ اللاَّهوتيَّة المَاثِلَة في كُلِّ ذلك الحَدث إلى التَّطبيقِ العمليِّ للمحبَّة. "أَتَفْهَمُونَ مَا قَدْ صَنَعْتُ بِكُمْ؟" بِكُلِّ تأكيد يَفهمون. بِكُلِّ تأكيدٍ يَعرفون. "أَنْتُمْ تَدْعُونَنِي مُعَلِّمًا وَسَيِّدًا، وَحَسَنًا تَقُولُون". فكيفَ يُمكِنُ لأيِّ شخصٍ أن يُنكِرَ رُبوبيَّةَ المسيح؟ ويُمكنني أن آخُذَ تلك الآية وأن أُقدِّمَ عَشْرَ عِظاتٍ عليها. أنتُم تَدعونني "رَبًّا". أنتُم تَدعونَني "مُعلِّمًا". وأنا كذلك. أنتُم مُحِقُّون.
"فَإِنْ كُنْتُ وَأَنَا السَّيِّدُ وَالْمُعَلِّمُ قَدْ غَسَلْتُ أَرْجُلَكُمْ، فَأَنْتُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَرْجُلَ بَعْضٍ، لأَنِّي أَعْطَيْتُكُمْ مِثَالاً، حَتَّى كَمَا صَنَعْتُ أَنَا بِكُمْ تَصْنَعُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا". هذا هو الدَّرس. أحبُّوا هكذا. أحبُّوا مَحبَّةً غير أنانيَّة، وبتواضع، وبأكثرِ الطُّرُقِ اتِّضاعًا وبساطةً في الحياة. ابتدِئوا مِن هُناكَ، وكُلُّ الأشياءِ الرَّائعةِ الأخرى ستَحدُث. أحبُّوا عندَ وُجودِ أدنى حاجة إلى ذلك. "لأَنِّي أَعْطَيْتُكُمْ مِثَالاً". فهذا مِثالٌ. "حَتَّى كَمَا صَنَعْتُ أَنَا بِكُمْ تَصْنَعُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا". فهذه دَعوةٌ مِن الرَّبِّ إلى أتباعِه. "فَإِنْ كُنْتُ وَأَنَا السَّيِّدُ...". وَهُوَ هُنا يَستخدِمُ الحُجَّةَ مِنَ الأصغَر إلى الأكبر. "وإن كُنتُ وأنا الْمُعَلِّمُ قَدْ فَعلتُ ذلك". "فإنْ كُنتُ وَأنا..." [في العدد 16] "...السَّيِّدُ"، وإنْ كُنْتُ وأنا الَّذي أرسلتُكَ قد فَعلتُ ذلك، أَلاَ يَنبغي لكَ، وأنتَ تِلميذٌ، وعَبْدٌ، وشخصٌ مُرسَل، أن تَفعلَ ذلك؟ وإن كُنتُ وأنا الشَّخصُ الأكثر عَظَمَةً وسُمُوًّا في الكَون قد تَواضَعتُ، ألا يُمكنكم [وأنتُم أقَلُّ مِنِّي بكثير] أن تَتواضَعوا؟"
فهذا الدَّرسُ بمُجملِه مَبْنِيٌّ على ما تَقولُهُ الآية لوقا 22: 24. فقد كانوا يَتجادَلونَ بشأنِ مَن مِنهُم الأعظَم. ورُبَّما كانَ يَكفي أن يُقدِّمَ لَهُم مُحاضرةً؛ ولكنَّهُ فَعَلَ ذلكَ في وقتٍ سابق. أمَّا هذا المِثالُ فَمِنَ المُؤكَّدِ أنَّهُ هَزَّ أعماقَ كِيانِهم. إذًا، كيفَ تُعَلِّم النَّاسَ أن يُحِبُّوا؟ مِن خلالِ المحبَّة. فيجب عليهم أن يُعلِّموا الكنيسةَ أن تُحِبَّ. وكيفَ سيفعلونَ ذلك؟ مِن خلالِ مُحاضرةٍ أَم مِن خلالِ الحُبّ؟
لِذا فإنَّ العدد 17 يقول [بحسبِ التَّرجمةِ الأمريكيَّةِ المِعياريَّة الجديدة]: "إِنْ عَلِمْتُمْ هذَا"؛ ولكن يَنبغي أن تُترجَمَ: "حيثُ إنَّكُم" لأنَّ الكلمة اليونانيَّة هي "إي" (ei) يَتبَعُها "إنَّ". وعندَ استخدام الكلمة "إي" (ei) المَتبوعة بـ "إنَّ" فإنَّها تُشيرُ إلى حَقيقة: "حيثُ إنَّكُم تَعلمونَ هذا". ومِنَ المؤكَّدِ أنَّهُم كانوا يَعلمونَ ذلك لأنَّه عَلَّمَهُم إيَّاه. "حيثُ إنَّكُم تَعلمونَ هذَا فَطُوبَاكُمْ إِنْ عَمِلْتُمُوهُ". أمَّا في حالِ استخدامِ الكلمة "إنْ" فإنَّها كلمة أخرى مُختلفة تمامًا. فهي الكلمة اليونانيَّة "إيه أون" (ein)... "إيه أون" (ein)، وهي صيغة أخرى تمامًا... صيغة أخرى تمامًا. فالكلمة "إيه أون" (ein) تَستهلُّ العبارةَ للإشارة إلى شيءٍ أقلّ يَقينًا. فالجُملةُ الأولى مُؤكَّدة: "حيثُ إنَّكُم تَعلمونَ هذا". أمَّا الجُملةُ الثَّانية فهي أقلُّ يَقينًا: "إنْ عَلِمتُم هذا".
وهذا هو المَطلوبُ مِنَّا. أليسَ كذلك؟ فنحنُ نَعلمُ أنَّهُ ينبغي لنا أن نُحِبَّ بعضُنا بعضًا هكذا. فإن فَعلنا ذلك، حيثُ إنَّنا نَعلَمُ ذلك... إن فَعلنا ذلك، ما هي المُكافأة؟ طُوباكُم. هل يَرغبُ أحدٌ مِنكُم في الحصولِ على ذلك الوَعد؟ هل يَرغبُ أيٌّ منكم في أن يَنالَ البَرَكة؟ وهل يَرغبُ أيٌّ منكم في أن يَفتحُ اللهُ كُوَى السَّماءِ وأن يُبارِكَهُ؟ كيفَ تَتبارَكونَ في حياتِكُم؟ وكيفَ تُطلِقونَ بَرَكَةَ السَّماء؟ بأن تُحبُّوا مَحبَّةً مُضحِّيَةً وغير أنانيَّة؛ أي مَحبَّةً باذلةً ومُتواضعةً مِن دونِ أيِّ تَفكيرٍ في الرِّبحِ الشَّخصيِّ أوِ الإنجازِ الشَّخصيِّ، أوِ الشِّبَعِ الشَّخصيِّ، بل فقط لأجلِ خَيرِ الآخرينَ، وفَرَحِهم، وشِبَعِهم، وإنجازِهم، وسَدِّ حاجاتِهم.
فالكِتابُ المُقدَّسُ يَقول: طُوبى لِلَّذينَ يَسلُكونَ في طَريقِ الرَّبّ. طُوبى للذَّينَ يَتَّكِلونَ على الرَّبّ. طُوبى للَّذينَ يَسمعونَ كلامَ الرَّبِّ ويُطيعونَهُ. إن فَعلتُم هذا، طُوباكُم. وواحدة مِن هذه البَرَكاتِ هي أنَّكَ ستَعلمُ أنَّكَ مُخَلَّص. وهناكَ بَرَكة أخرى وهي أنَّ العالَمَ سيَعلمُ أنَّكَ مُخَلَّص. وبهذا فإنَّكَ تَشهَدُ للإنجيل وتُعَلِّي اسمَ المَسيح.
يا رَبّ، نَشكُرُكَ على وقتِنا الرَّائعِ معًا في هذا الصَّباحِ الَّذي تأمَّلنا فيهِ في هذا المَقطَع. فهذا مِثالٌ يَسهُلُ تَذَكُّرُهُ ويَصعُبُ نِسيانُهُ ينبغي أن نَحتفظَ بهِ في أذهانِنا [إنْ لم يَكُن أمامَ أعيُنِنا] طَوالَ الوقت. لَيتَنا نكونُ أُمناءَ... أُمناءَ في أن نُحِبَّ كما تُحِبُّ أنتَ. فالأمرُ ليسَ تَصَوُّفًا، والأمرُ ليسَ عاطفيًّا؛ بل يَعني أن نُحِبَّ مِن خِلالِ الخِدمةِ المُتواضعةِ قدرَ الإمكان، ومِن خلالِ الاهتمامِ بالآخرين؛ لا لأنَّهُم يَستحقُّونَ ذلكَ أو لأنَّهُم جَديرونَ بذلك، بل أن نُحبَّ كما أحببتَ أنتَ أولئكَ التَّلاميذَ الَّذينَ كانوا مُتكبِّرينَ وأنانيِّينَ ويَتجادلونَ مَن هو الأعظم.
يا رَبُّ، ساعِدنا على أن نُحِبَّ. وليتَنا نَتواضَعُ ونكونُ وَديعينَ ومُتواضِعينَ مِثلَ المُخَلِّصِ لكي تَسمو مَحبَّتُنا. ونحنُ نَطلُبُ هذا كُلَّهُ فقط لأجلِ مَجدِكَ، ولأجلِ مَجدِكَ في الكنيسة. باسمِ المسيح. آمين!

This article is also available and sold as a booklet.