Grace to You Resources
Grace to You - Resource

لِنَفتَح كُتُبَنا المُقدَّسَةَ فيما نَأتي إلى كلمةِ اللهِ في هذا الصَّباح. فنحنُ في مُنتصفِ سِلسلةٍ مُلائمةٍ جدًّا لِمَوسِمِ عيدِ الميلادِ المَجيد؛ وَهِيَ سِلسِلَةٌ عنِ العَطاء. فإن كانَ هُناكَ وَقتٌ في السَّنة نُفَكِّرُ فيهِ في تَقديمِ الهَدايا، مِنَ المؤكَّدِ أنَّهُ مَوسِمُ عِيدِ المِيلادِ المَجيد. وَها نَحنُ في الدَّرسِ الثَّاني مِن هذهِ السِّلسِلَةِ عنِ نَموذَجِ العَطاءِ المَسيحيّ. وَنَحنُ لا نَتحدَّثُ عَن كَيفَ يُعطي بَعضُنا بَعضًا، بَل عَن كَيفَ نُعطي لِسَدِّ حَاجاتِ الكنيسةِ ونَشْرِ المَلكوتِ فيما يَحُضُّنا رُوحُ اللهِ على أنْ نَكنِزَ كُنوزًا في السَّماء.

وَواحِدٌ مِن أكثرِ الوُعودِ المألوفةِ لَدينا وأكثرِ الوُعودِ المُشَجِّعَةِ لَنا في كُلِّ الكتابِ المقدَّسِ هُوَ ذاكَ الوَعدُ المَذكور في رِسالةِ فِيلبِّي 4: 19 إذْ نَقرأُ: "فَيَمْلأُ إِلهِي كُلَّ احْتِيَاجِكُمْ بِحَسَبِ غِنَاهُ فِي الْمَجْدِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوع". يَا لَهُ مِن وَعد! "فَيَمْلأُ إِلهِي كُلَّ احْتِيَاجِكُمْ". وَهَذا أساسٌ رَئيسيٌّ للثِّقَةِ يَنبغي أن يَترُكَ تَأثيرًا رَائِعًا على عَطائِنا. واسمَحُوا لي أن أُقَدِّمَ لَكُم مَثَلاً إيضاحيًّا على ذلك. في الحَربِ العَالميَّةِ الثَّانية، مَاتَ مَلايينُ النَّاسِ كَما تَذكُرون. وَقد مَاتَ المَلايينُ مِنهُم في أوروبَّا. وَقَد ظَهَرَتْ حَالاً مُشكلةٌ مُريعةٌ بشأنِ الأيتامِ في كُلِّ المُدُنِ الأوروبيَّة.

وفي نِهايةِ الحَربِ العَالميَّةِ الثَّانية، فيما كانَ الحُلَفاءُ يُحاولونَ أن يُعيدوا بِناءَ أوروبَّا، كانَ يَنبغي لَهُم أن يَضْطَلِعُوا بِمسؤوليَّةِ التَّعامُلِ مَعَ جَميعِ الأطفالِ الأيتام. لِذا فقد بَنوا مُخيَّماتٍ لإيوائِهم والاعتناءِ بِهِم وإطعامِهم. كَما أنَّهُم ابتدأوا في تَعميرِ المُدُن وبِناءِ المُخَيَّمات، وَرَاحُوا يُحضِرونَ الأطفالَ إلى تِلكَ المُخَيَّماتِ ويُراقِبونَ سِعَةَ المُخَيَّمات. وَقدِ اضطُرُّوا إلى تَوسيعِ المُخَيَّماتِ لاحتواءِ كُلِّ هؤلاءِ الأطفالِ الأيتام. وَقد حَصَلُوا على أفضلِ رِعايةٍ يُمكِنُ إعطاؤُها لَهُم، وعلى أفضلِ طَعامٍ صِحِّيٍّ يُمكِنُ أن يُقَدَّمَ لَهُم.

ولكِنْ في أَحَدِ المُخَيَّماتِ تَحديدًا، انزعجَ القائِمونَ على المُخَيِّمِ جدًّا جدًّا لأنَّهُ بعدَ أن مَضَى على وُجودِ الأطفالِ هُناكَ بِضعَة أسابيع، لم يَكونوا يَنامُون. فَقد كانُوا يُقَدِّمونَ لَهُم ثَلاثَ وَجباتٍ في اليوم، وَكانُوا يُوفِّرونَ لَهُم حَاجاتِهم، وَكانُوا يُحافِظونَ على نَظافَتِهم، وكانُوا يُوفِّرونَ لَهُم أماكِنَ مُلائِمَةً للنَّوم؛ ولكِنَّ الأطفالَ كَانُوا يَبْقون مُستيقِظينَ طَوالَ اللَّيل. ولم يَفهمِ القَائِمونَ على المُخَيَّمِ المُشكلة. لِذا فقد أَجْرَوْا دِراسَةً وتَحدَّثُوا إلى الأطفالِ واكتشفُوا المُشكلة. ففي النِّهاية، عَرَفُوا المُشكلة.

لِذا، في كُلِّ لَيلة، عندما يَذهبُ الأطفالُ للنَّوم في تِلكَ المَهاجِعِ الطَّويلةِ الَّتي تُشبِهُ سَكَنَ الطَّلَبَة، كانَ آخِرُ شَيءٍ يَحدُثُ قَبلَ أن يَنامُوا هُوَ أنَّ سَيِّدَةً تَأتي إلى المَمَرِّ بينَ الأسِرَّةِ وَهِيَ تَجُرُّ عَرَبَةً كَبيرةً مُمتلئةً بأرغفةِ الخُبْزِ الصَّغيرة. وكانَت تَضَعُ في يَدِ كُلِّ طِفلٍ صَغيرٍ رَغيفَ خُبْز. وكانَ آخِرُ شَيءٍ يَفعلُهُ الطِّفلُ في اللَّيلِ هُوَ أنَّهُ يُغْلِقُ يَدَهُ الصَّغيرةَ (أو تُغلِقُ يَدَها الصَّغيرةَ) على رَغيفِ الخُبزِ ذَاك.

وَفي غُضونِ أيَّام، صَارُوا يَنامُونَ طُولَ اللَّيل. وَقد أدركَ المَسؤولونَ أنَّهُ على الرَّغمِ مِن أنَّهُم كَانُوا يُطعِمونَهم جَيِّدًا خِلالَ اليوم فإنَّ الخِبرَةَ عَلَّمَتْهُم أنَّ الحُصولَ على الطَّعامِ اليومَ لا يَعني الحُصولَ على أيِّ شَيءٍ غَدًا. وَكانَ القَلَقُ والخَوفُ مِن أنَّهُم لَن يَأكُلوا في اليومِ التَّالي هُوَ الَّذي يُبقيهِم مُستَيقِظين. أمَّا عندما صَاروا يَنامونَ وَهُمْ يُمْسِكونَ رَغيفَ الخُبْزِ في أيديهم، زَالَ الخَوف. فَقد صَارَ بِمقدورِهم أن يَستمتِعوا بما لَديهم لأنَّهُم يَشعرونَ بالأمانِ في وَعْدِ الغَدّ.

وأعتقدُ حَقًّا أنَّ رَغيفَ الخُبزِ الصَّغير الَّذي يَضَعُهُ اللهُ في يَدِ كُلِّ مُؤمِنٍ هُوَ الآية فيلبِّي 4: 19 الَّتي تَقول: "فَيَمْلأُ إِلهِي كُلَّ احْتِيَاجِكُمْ بِحَسَبِ غِنَاهُ فِي الْمَجْدِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوع". فَلا يُوجَد مَا يُخيفُنا بشأنِ المُستقبَل. فَاللهُ وَعَدَنا بأنَّهُ سيَملأُ كُلَّ احتياجِنا. وهَذا لَهُ تأثيرٌ هَائِلٌ على عَطائِنا. فَنَحنُ لَسنا مَتروكينَ لِنَهتَمَّ بمُستقبلِنا بأنفسِنا. صَحيحٌ أنَّنا بِحاجَةٍ إلى الحِكمَة، وصَحيحٌ أنَّنا بِحاجَةٍ إلى التَّخطيط، وصَحيحٌ أنَّهُ يَنبغي لنا أن نَدَّخِرَ إنْ أَمكَنَ ذلك، وصَحيحٌ أنَّهُ يَنبغي لنا أن نَكونَ وُكلاءَ أُمناءَ على ما أعطانا اللهُ إيَّاه، وأنْ نَدَّخِرَ جُزءًا مِنهُ للمُستقبَلِ كَما تَعَلَّمنا في دِراسَتِنا؛ ولكِنْ في الوقتِ نَفسِه، يُمكِنُنا أن نَفعلَ ذلك بِثِقَةٍ كَامِلَةٍ بأنَّهُ إنْ جَاءَ اللهَ وَطَلَبَ مِنَّا أن نأخُذَ الأموالَ الَّتي ادَّخَرْناها للمُستقبل ونَستثمِرَها في مَلَكوتِه، فإنَّهُ سيُعَوِّضُها لَنا. ويُمكِنُنا أن نَنامَ كُلَّ لَيلةٍ مِن لَيالي حَياتِنا وَنَحنُ نُمسِكُ بِيَدِنا رَغيفَ الخُبزِ الصَّغيرِ ذاك: "فَيَمْلأُ إِلهِي كُلَّ احْتِيَاجِكُمْ" لأنَّ هَذا هُوَ وَعدهُ. وَهَذا وَعْدُ كَفيلٌ بِتحريرِنا مِن كُلِّ قَلقٍ وخَوف.

وفيما نَأتي إلى الرِّسالةِ الثَّانيةِ إلى أهلِ كورِنثوسَ والأصحاحِ الثَّامن، نَلتَقي عَددًا مِنَ المُؤمِنينَ الَّذينَ عَاشُوا هكذا. فلأنَّهُم كَانُوا يَفهَمونَ وُعودَ اللهِ، وَيَشعُرونَ بالأمانِ التَّامِّ بخصوصِ مُستقبلِهم، تَمَكَّنُوا مِن أن يُعطُوا بِسَخاءٍ في الحَاضِر. إنَّهُم المَكِدونِيُّون. فكَنائِسُ مَكِدونِيَّة مَذكورةٌ هُنا في العَددِ الأوَّل. فَهُم يُقَدِّمونَ لَنا نَموذَجَ العَطاءِ المَسيحيّ... نَموذَجَ العَطاءِ المَسيحيّ.

والأصحاحانِ اللَّذانِ سنَدرُسُهُما [وَهُما الأصحاحانِ الثَّامنِ والتَّاسِع] يُوَضِّحان لَنا نَموذَجَ العَطاء. فَهُما يُخبرانا كُلَّ مَا يَلزَمُنا أن نَعرِفَهُ عَنِ العَطاء، والمَبادِئَ المُختصَّةَ بالعَطاء. وسوفَ نَتعلَّمُ الكَثيرَ مِن هذهِ المَبادِئ. ولكِنَّ مُقَدِّمَةَ هَذَيْنِ الأصحاحَيْنِ تَتحدَّثُ عن هَذهِ المَجموعةِ النَّموذَجِيَّةِ مِنَ المُؤمِنينَ في مَكِدونِيَّة وكيفَ أَعْطَوْا. وَهَذا يَضَعُ أمامَنا نَموذَجَ العَطاءِ المَسيحيّ. والآن، اسمَحُوا لي أن أَذكُرَ لَكُم الخَلفيَّةَ بإيجاز. فَبولسُ يُشَجِّعُ الكورِنثيِّينَ على العَطاء. والحَقيقةُ هِيَ أنَّهُ يَحُضُّهم على العَطاءِ لأجلِ مَشروعٍ مُحَدَّدٍ وَهُوَ حَاجَةُ الكَنيسةِ في أورُشليم.

وَماذا كانتِ الحَاجَة؟ لقد كانتِ الكنيسةُ كَبيرةً جدًّا إذْ كانَت تَضُمُّ آلافَ النَّاسِ فيها. ولا شَكَّ في أنَّها أوَّلُ كَنيسةٍ وُلِدَتْ في يَومِ الخَمسين، وأنَّها كانت فَقيرةً جدًّا. والحَقيقةُ هِيَ أنَّ الكَنيسةَ في أورُشَليمَ كانَت مُعْدَمَة. وَعلى مَدى سَنَةٍ تَقريبًا، كانَ الرَّسولُ بولُسُ يَجمَعُ المَالَ في رِحلتِهِ التَّبشيريَّةِ الثَّالثةِ إلى العَالَمِ الأُمَمِيّ. فَقد كانَ يَجمَعُ المَالَ مِنَ كَنائسِ الأمَمِ لكي يَأخُذَهُ إلى القِدِّيسينَ الفُقراء في أورُشَليم لتوفيرِ الطَّعامِ والمَلابس وضَروريَّاتِ الحَياةِ لَهُم.

والآن، تَذَكَّروا أنَّ أسبابَ فَقرِهِم كانت تَرجِعُ في الأصلِ إلى ثَلاثةِ أُمور. أوَّلاً، كانَتْ أغلبيَّةُ الكنيسةِ هِيَ مِنَ الحُجَّاجِ الَّذينَ جاءُوا لزيارةِ أورُشليم وَحُضورِ الأعيادِ الدِّينيَّةِ فيها فَسَمِعوا الإنجيلَ، وخَلُصوا، ولَم يَعودوا إلى دِيارِهم. لِذا فقد كانُوا بِلا عَمَلٍ، وَلا مَنازِل، وَلا قُوْت. وبهذا صَارُوا مَسؤولينَ مِنَ الكنيسةِ الموجودةِ هُناكَ في الأصل. فقد اضْطُرَّ الأشخاصُ الَّذينَ كانوا يَعيشونَ في أورُشليم إلى الاعتِناءِ بِهم.

وَكانَت هُناكَ مُشكلةٌ أخرى أيضًا. فقد كَانُوا يَهودًا آمَنُوا بالمَسيح. لِذا فقد تَعرَّضُوا للاضطِهاد. وهذهِ مُشكلةٌ أخرى. فقد كانَ الحُجَّاجُ أوَّلَ شَيءٍ يَستنزِفُ مَوارِدَهُم. وكانَ الاضطهادُ الشَّيءَ الثَّاني. فَما إنْ يُؤمِنَ اليَهودُ بيسوعَ المسيحِ ويَقبلونَهُ مُخَلِّصًا وَرَبًّا [وَهُوَ نَفسُ يَسوعَ الَّذي صَلَبَهُ اليَهودُ مُنذُ وَقتٍ قَصير ورَفَضوهُ تَمامًا]، كانُوا يَتعرَّضونَ للاضطِهادِ بسببِ إيمانِهم بالمَسيح. فقد خَسِرُوا أعمالَهُم، وخَسِروا مَكانَتَهُم الاجتِماعِيَّة، وخَسِروا وَظائِفَهُم، وخَسِروا عَائلاتِهم، وخَسِرُوا كُلَّ شَيء. لِذا فقد جاءَ الفَقْرُ نَتيجَةَ ذلكَ الاضطِهاد.

ثَالثًا، كان للاقتصادِ الرُّومانيِّ خِلالَ احتلال فِلَسطين تأثيرٌ مُفْقِرٌ على الأرض. لهذهِ الأسبابِ... لهذهِ الأسبابِ مُجتَمِعَةً، كانتِ الكنيسةُ فَقيرةً جدًّا. وفي الأصل، كانَ النَّاسُ المَوجودونَ في الكنيسةِ ويَملِكونَ حُقولاً وبُيوتًا وأموالاً وكُنوزًا ومُقتَنَياتٍ [كَما هُوَ مُدَوَّنٌ في سِفْرِ أعمالِ الرُّسُل والأصحاحَيْنِ الثَّاني والرَّابعِ] قدِ رَاحُوا يَبيعونَها ويأخُذونَ المالَ ويُوَزِّعونَهُ على الأشخاصِ المُحتاجين.

لِذا، كانتِ الكنيسةُ مُنذُ وِلادَتِها سَخِيَّةً جدًّا. وكانُوا يَبذُلونَ جُهدًا عَظيمًا في سَدِّ احتياجاتِهم كَما لم تَفعل أيُّ كَنيسةٍ أخرى في التَّاريخ. ولكِنْ سُرعانَ ما استَنزَفُوا كُلَّ شَيءٍ لَديهم. وقدِ استمرَّتِ الكنيسةُ في النُّموِّ، وكانَ هُناكَ أُناسٌ جُدُدٌ يَنضَمُّونَ إليها كُلَّ يَوم. وكانتِ الكنيسةُ تَزدادُ في العَددِ أكثر فأكثر. وكانَ الاضطِهادُ يَسوءُ أكثر فأكثر. وكانتِ المَوارِدُ المُتوفِّرَةُ آنذاكَ قد استُنزِفَت بِسَببِ الحاجاتِ الكَثيرة. وَهذا هُوَ مَا دَفَعُ بُولسَ إلى مُحاولةِ جَمعِ التَّبرُّعاتِ مِن كَنائسِ الأُمَمِ لكي يَأخُذَهَا ويُقَدِّمَها إلى الكنيسةِ في أورُشليم.

وتَذَكَّرُوا أيضًا أنَّهُ كانَ هُناكَ قَصْدٌ رُوحِيٌّ لَديه حَيثُ إنَّ اليَهودَ والأُمَمَ كَانُوا قَد صَاروا آنذاكَ وَاحِدًا في المَسيح؛ وَهُوَ أمرٌ لم يَكُن مَوجودًا قبلَ مَجيءِ المَسيح. فَقد كانَ اليَهودُ والأُمَمُ أعداءً بَعضُهُم مَعَ بَعض. ولكِنْ في المَسيح، صَارُوا وَاحِدًا. فَقد هُدِمَ الحَائِطُ المُتَوَسِّط وَصارُوا واحِدًا في المَسيح. وَقد أرادَ بُولسُ أنْ يُؤكِّدَ ذلكَ ويُعَزِّزَ ذلكَ مِن خِلالِ أخذِ التَّبرُّعاتِ المَاليَّةِ مِنْ كَنائسِ الأُمَمِ، وَجَعْلِها تَقْدِمَةَ مَحَبَّة إلى اليَهودِ إذْ إنَّ ذلكَ سَيُسهِمُ كَثيرًا في تَحقيقِ تِلكَ الوَحدةِ الرُّوحيَّةِ وجَعلِها وَحْدَةً عَمليَّة.

لِذا فقد كانَ مَشروعُ بُولسً حَيَوِيًّا لتقديمِ المُساعَدةِ إلى الكَنيسةِ وَتَعزيزِ الوَحدةِ في الكَنيسة. وَهكذا، في رِحلتِهِ التَّبشيريَّةِ الثَّالثةِ، رَكَّزَ كَثيرًا على هذا الجَمْع. وقد أخبرَ الكُورِنثيِّينَ عَنه. وَكانُوا قدِ ابتَدأوا في العَطاء. ومِنَ الواضِحِ أنَّهُم تَوقَّفُوا عنِ العَطاءِ – رُبَّما بِسَببِ التَّمرُّدِ الَّذي حَصَلَ هُناكَ ضِدَّ بُولُس. فقد تَوقَّفَ عَطاؤُهم. وقد كَتَبَ بولسُ عَن ذلكَ في الرِّسالةِ الأولى إلى أهلِ كورِنثوسَ والأصحاحِ السادِس عَشَر وأخبرَهُم أن يَجمَعُوا التَّبرُّعاتِ، وأنْ يَجمَعُوا المَالَ لكي يَكونَ جَاهِزًا عِنْدَ وُصولِه. ولكِنْ يبدو أنَّهُم لم يَتْبَعُوا تَعليماتِهِ تَمامًا آنذاك. لِذا فإنَّهُ يَعمَلُ هُنا (في رِسالَتِهِ الثَّانيةِ إلى أهلِ كورِنثوس) على تَشجيعِهم على إنهاءِ مَا ابتدأوه.

انظروا إلى العَددِ العَاشِر. فَهُوَ يَقولُ في العَددِ العَاشِر [في مُنتصفِ الآية] إنَّ الكُورِنثيِّينَ كَانُوا أوَّلَ مَنِ ابتدأَ في ذلكَ قَبلَ سَنَة؛ أيْ في العَطاء. ثُمَّ إنَّهُ يَقولُ في العَددِ الحَادي عَشَر: "وَلكِنِ الآنَ تَمِّمُوا الْعَمَلَ أَيْضًا". وَلَعَلَّكُم تَذكرونَ أنَّهُ كَانَ يُوجَدُ تَمَرُّدٌ آنذاكَ ضِدَّ بُولُس. ولكِنْ تَمَّتْ تَسْوِيَةُ ذلكَ الخِلاف؟ وَقد عَادَ بُولسُ والكُورِنثيِّونَ الآنَ إلى عَلاقَتِهِما السَّابِقَة. فَقد تَرَسَّخَتْ مَحَبَّتُهم مَرَّةً أخرى. وَقد تَمَّ إصلاحُ العَلاقَةِ وَبِناؤُها مِن جَديد. والآن، يُريدُ بولُسُ أن يُشَجِّعَهُم على العَودةِ وَتَتْميمِ العَطاءِ لأجلِ القِدِّيسينَ الفُقراء في أورُشَليم.

هَذهِ هِيَ خَلفيَّةُ هَذَيْنِ الأصحاحَيْن. فَهُوَ يَحُضُّهُم على العَطاء. وَقد صَارَ هَذا العَطاءُ نَمَطًا لِتَعليمِنا جَميعًا كيفَ نُعطي. وَهُوَ يَبتدِئُ بالإشارةِ إلى المَكِدونِيِّينَ وَاستِخدامِهِم نَموذَجًا للعَطاءِ السَّخِيّ. والحَقيقةُ هِيَ أنَّ هَذِهِ هِيَ أوَّل نُقطَةٍ يَذكُرُها. وسَوفَ نَرى عَددًا مِنَ النُّقاطِ في الأصحاحِ الثَّامن. وَقد ذَكَرْتُها لَكُم في الأسبوعِ المَاضي. والنُّقطةُ الأولى الَّتي يَذكُرُها في الآياتِ الثَّماني الأولى هيَ ببساطَةٍ مَا يَلي: "العَطاءُ هُوَ سُلوكُ المُؤمِنينَ الأتقياء". العَطاءُ هُوَ سُلوكُ المُؤمِنينَ الأتقياء. وَفي العَددِ التَّاسِعِ على سَبيلِ المِثال، يَذكُرُ بُولسُ نُقطةً أخرى وَهِيَ أنَّ العَطاءَ تَمَثُّلٌ بالمَسيحِ الَّذي بَذَلَ نَفسَهُ لأجلِنا أيضًا.

لِذا فإنَّهُ يُريدُ أن يَذكُرَ العَديدَ مِنَ النِّقاط. والنُّقطةُ الأولى هِيَ أنَّ العَطاءَ هُوَ سُلوكُ المُؤمِنينَ الأتقياء. فالمُؤمِنونَ الأتقياءُ يُعطونَ بِسَخاء. والمَسيحيُّونَ الأتقياءُ الَّذي يَستخدِمُهم بِوَصْفِهِمْ نَموذَجًا هُمُ كَنائِسُ مَكِدونِيَّة. وكانت هُناكَ ثَلاثُ كَنائِس فيها: الكَنيسةُ في فِيلبِّي، والكَنيسةُ في بِيريَّة، والكَنيسةُ في تَسالونيكي. وَكانت مَكِدونِيَّة الجُزءَ الشَّمالِيَّ مِنَ اليُونان. وكانت كورِنثوسُ الجُزءَ الجَنوبيَّ مِنَ اليُونان. لِذا، لم تَكُن هُناكَ مَسافَةٌ كَبيرةٌ بينَهُما، ولكِنْ كانَت تُوجَدُ ظُروفٌ مُختلفَةٌ جدًّا.

فقد كانت مَكِدونِيَّة فَقيرةً جدًّا. فقد بَقِيَت مُقاطَعةً رُومانيَّةً على مَدى مِئَتَي سَنة. وكانُوا يُعامَلونَ بقَسوةٍ مِن قِبَلِ الرُّومان. وكانَ يُنظَرُ إليهم على أنَّهُم عَبيدٌ لِرُوما. وَقد صَادَرُوا مَوارِدَهُم وسَلَبوهُم أموالَهُم تَحتَ تَهديدِ السِّلاح. كَذلكَ، على مَدى سَنواتٍ عَديدةٍ قَبلَ هذهِ الفَترةِ الزَّمنيَّة، نَشَبَتْ حُروبٌ أهليَّةٌ هُناكَ اشتركَ فيها القَياصِرَةُ وشَخصيَّاتُ عَسكريَّةٌ مَعروفةٌ مِثلَ "بروتوس" (Brutus)، وَ "كاسِيُوس" (Cassius)، وَ "أنطونيوس" (Antonios)، وآخرون. وَكانَ لِتلكَ الحُروبِ الَّتي خَاضُوها في مَكِدونِيَّة تَأثيرٌ مُفْقِرٌ أيضًا.

وَكانتِ الكَنائِسُ في مَكِدونِيَّة تَحتَ الاضطِهاد. وكانَ الاضطِهادُ شَديدًا والفَقرُ مُدْقِعًا حَتَّى إنَّهُم كَانُوا فُقراءَ على غِرارِ أيَّة كَنيسة أخرى في كُلِّ العَالَمِ الأُمَمِيّ. وَهَذا هُوَ مَا جَعَلَهُم أفضَلَ نَموذَجٍ على السَّخاءِ على الرَّغمِ مِنْ أَقسَى أشكالِ الفَقْرِ المُدقِع. لِذا فإنَّ بُولُسَ الَّذي يَرغَبُ في تَشجيعِ الكورِنثيِّينَ يَكتُبُ في العَددِ الأوَّل: "ثُمَّ نُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ نِعْمَةَ اللهِ الْمُعْطَاةَ فِي كَنَائِسِ مَكِدُونِيَّة". فَهُم الكَنائِسُ النَّموذَجِيَّة. وَيُشارُ إلى سَخَائِهم تَحديدًا في جُزءٍ لاحِقٍ مِن هذهِ الرِّسالة؛ وتَحديدًا في الأصحاحِ الحادي عَشَر والعَددِ التَّاسِع. وَيُشارُ إليهِ أيضًا في رِسالةِ فِيلبِّي 2: 25 و 4: 15-18 إذْ إنَّ بُولسَ يَتَحدَّثُ عن سَخاءِ الكَنيسةِ في فيلبِّي في عَطائِها لواحِدَةٍ مِن تِلكَ الكَنائِسِ في مَكدونِيَّة.

لِذا فإنَّ بُولُسَ يَقول: "أريدُ أن ألفِتَ انتباهَكُم إلى عَطاءِ الكَنائسِ في مَكِدونِيَّة. وَهُوَ يُشيرُ تَحديدًا إلى عَطائِهم في الآياتِ الثَّماني القَادِمَة. والآن، فيما نَدرُسُ هذهِ الآياتِ الثَّماني، سنَجِدُ لائِحَةً بِسِماتِ عَطاءِ المُؤمِنينَ الأتقياء. فَهَكذا يُعطي المُؤمنونَ الأتقياء. وَهَكذا يُعطي المُؤمِنونَ المُكَرَّسونَ، والمُخَصَّصُونَ، وغَيْرُ الأنانِيِّين. وَسوفَ أُطْلِعُكُم على تِلكَ اللاَّئِحَة. وسَنَتأمَّلُ في العَددِ الثَّاني فَقط في هَذا الصَّباح لأنَّ هُناكَ نِقاطًا كَثيرةً في العَدَدَيْنِ الأوَّلِ والثَّاني. فَهُناكَ نِقاطٌ كَثيرةٌ مِنها هُنا. إذًا هَذِهِ هِيَ سِماتُ عَطاءِ المُؤمِنينَ الأتقياء:

أوَّلاً، كَانَ عَطاؤُهم قَائِمًا على نِعمَةِ الله. كَانَ عَطاؤُهم قَائِمًا على [أو مُستَنِدًا إلى] نِعمَةِ الله. فنحنُ نَقرأُ في العَددِ الأوَّل: "ثُمَّ نُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ نِعْمَةَ اللهِ الْمُعْطَاةَ فِي كَنَائِسِ مَكِدُونِيَّة". فَحَتَّى إنَّهُ لا يَذكُرُ عَطاءَهُم في الحَقيقة، بَل يُلَمِّحُ إليهِ تَلميحًا في هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ، ثُمَّ يُشيرُ إليهِ في العَددِ الثَّالثِ قَائِلاً إنَّهُم: "أَعْطَوْا... مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ". فَهُوَ لا يَستخدِمُ أيَّةَ كلمةٍ مُباشرةٍ تُشيرُ إلى عَطائِهم، بَل يُلَمِّحُ تَلميحًا إلى عَطائِهم في هَاتينِ الآيَتَيْن مُبتَدِئًا بِوَصْفِهِ أنَّهُ عَمَلٌ نَابِعٌ مِن نِعمةِ اللهِ المُعطاة للكنائسِ في مَكِدونِيَّة. وهذهِ نُقطةُ بِدايةٍ مُهمَّةٌ جدًّا جدًّا.

فَلَم يَكُنِ الدَّافِعُ الحَقيقيُّ لِسخائِهم هُوَ اللُّطْفُ البَشريُّ. وَلَم يَكُنِ الدَّافِعُ الحَقيقيُّ لِسخائِهم هُوَ الإحسانُ البَشريُّ، وَلا الرَّغبة في تَسكينِ ضَميرِهم، ولا الرَّغبة في أن يَعمَلُوا عَملاً حَسَنًا، ولا أن يُشارِكُوا حَليبَ اللُّطفِ البَشريّ. بَلْ إنَّ الشَّيءَ الَّذي حَفَزَهُم هُوَ نِعمَةُ اللهِ العامِلَةُ في قُلوبِهم وَأثْمَرَتْ هَذا السَّخاء. واسمَعوني: إنَّ هَذا النَّوعَ مِنَ العَطاءِ الَّذي سنَرى أنَّ المَكِدونِيِّينَ قَدَّموهُ ليسَ عَادِيًّا. فَهُوَ ليسَ عَطاءَ بَشريًّا وَحَسْب.

بَلْ إنَّهُ كَانَ مَدفوعًا بِشيءٍ أقوى مِن أيِّ شَيءٍ قَد تَجِدونَهُ في القَلبِ البَشريِّ النَّبيلِ المَخلوقِ على صُورةِ الله. وأنا أُوْمِنُ بأنَّهُ على الرَّغمِ مِن سُقوطِ الإنسانِ فإنَّهُ مَا تَزالُ تُوجَدُ آثارٌ مِن صُورةِ اللهِ فيه، وَما تَزالُ تُوجَدُ مَعرفةُ الحَقِّ والبَاطِلِ فيه، وما يَزالُ يُوجَدُ ضَميرٌ يُريحُهُ أو يُؤنِّبُه. فَما زالَ بإمكانِ الإنسانِ أن يَصنَعَ خَيرًا بَشريًّا؛ ولكِنْ الصَّلاحَ البَشَرِيَّ في أعلى مُستوياتِهِ لا يَستطيعُ أن يَبلُغُ المَدى الَّذي يَصِلُ إليهِ الصَّلاحُ والبِرُّ النَّابِعُ مِن نِعمةِ اللهِ المُغَيِّرَة. وَهَذا يَصِحُّ على العَطاءِ أيضًا.

وهُناكَ مَثَلٌ إيضاحِيٌّ أعرِفُهُ وَتَعرِفونَهُ أنتُم أيضًا. فإنْ كُنتُم تُشاهِدونَ بَرامِجَ التَّبَرُّعاتِ سَتَرَوْنَ أنَّ النَّاسَ يُرسِلونَ تَعَهُّداتٍ تِلْوَ التَّعَهُّداتِ تِلْوَ التَّعَهُّدات. وأحيانًا، يُرسِلُ شَخصٌ مَشهورٌ تَعَهُّدًا بِخَمسِمِئَة دُولار، أو بألفِ دُولار، أو بِخَمسَةِ آلافِ دُولار. وأنتُم تَعلَمونَ أنَّ هَؤلاءِ هُمْ مِن أصحابِ المَلايين، وَأنَّهُم يَمْلِكونَ مَلايينَ وَملايينَ الدُّولارات. لِذا فإنَّهُم بَعيدونُ كُلَّ البُعدِ عَنْ أيَّة تَضحِيَة. فَهَذا ليسَ عَطاءً مُضَحِّيًا في الأصل، وليسَ عَطاءً بَشريًّا عَادِيًّا.

فأحيانًا، عندما تَكونُ رَابِطَةُ المَحَبَّةِ قَويَّة، وعندما يَكونُ هُناكَ فَردٌ في العَائلةِ أو شَخصٌ عَزيزٌ علينا، يَكونُ هُناكَ قَدرٌ مِنَ العَطاءِ في تِلكَ النُّقطَة. وَهُناكَ أوقاتٌ يُضَحِّي فيها النَّاسُ لأهدافٍ نَبيلَة. ولكِنْ بِصورةٍ عَامَّةٍ، هُناكَ مُستوى مِنَ العَطاءِ البَشريِّ لا يَصِلُ البَتَّةَ إلى نُقطَةِ تَغييرِ مُستوى الحَياةِ الَّذي اختارَهُ ذلكَ الشَّخصُ لِنَفسِه. لِذا فإنَّ مُستَوى سَخاءهُم يُمكِنُ أنْ يُحْسَبَ عَطاءً على المُستوى البَشريّ. أمَّا مَا تَقرأونَ عَنهُ هُنا فَهُوَ يَفوقُ ذلك. فَهُوَ عَطاءٌ قَائِمٌ على عَمَلِ نِعمةِ اللهِ في قَلبِ شَخصٍ اختبرَ التَّجديد.

فَهُناكَ رَهافَةُ حِسٍّ تُجاهَ الحَياةِ الجَديدة، وتَوْقٌ إلى الأشياءِ المُقَدَّسَة، ومَحبَّةٌ للسَّماءِ أكثرَ مِنَ الأرض، ورَغبةٌ في تَحقيقِ مَقاصِدِ المَلكوت. هَذِهِ هِيَ الأشياءُ الكَامِنَةُ وَراءَ هَذا العَطاء: النِّعمَةُ المُخَلِّصَة، والنِّعمَةُ المُقَدِّسَة. فعلى سَبيلِ المِثالِ، إنَّهُ التَّغييرَ الَّذي يَحدُثُ للمُؤمِنينَ ويَجعلُهم يَطلُبونَ أوَّلاً المَلكوتَ ولا شَيءَ سِواه. وَهُوَ التَّغييرُ الَّذي يَجعلُ المُؤمِنينَ يَهتَمُّونَ بِما فَوق لا بِمَا على الأرض. وَهُوَ التَّغييرُ الَّذي يَدفَعُنا إلى أن نُحِبَّ اللهَ لا العَالَم. وَهُوَ التَّغييرُ الَّذي يَجعلُنا نَجوعُ وَنَعطَشُ إلى البِرِّ والصَّلاح. وَهُوَ التَّغييرُ الَّذي يَجعلُنا نَتوقُ إلى كَلِمَةِ اللهِ والطَّاعَةِ، وإلى أنْ نَتبَعَ إرشادَ الرُّوح.

هَذهِ كُلُّها هِيَ تأثيراتُ النِّعمَة. وواحِدٌ مِنها هُوَ التَّوقُ إلى العَطاءِ بسَخاءٍ وتَضحِيَة. وَهَذا كُلُّهُ جُزءٌ مِن عَمَلِ الخَلاصِ الَّذي يَعمَلُهُ اللهُ فيكُم. فاللهُ "هُوَ الْعَامِلُ فِيكُمْ أَنْ تُرِيدُوا وَأَنْ تَعْمَلُوا مِنْ أَجْلِ الْمَسَرَّة". ولكِنْ يَنبغي لَكُم أن "تُتَمِّمُوا خَلاصَكُم" (كَما يَقولُ بولُسُ في رِسالةِ فِيلبِّي 2: 12 و13). نَحنُ لا نُعطي كالأغنياءِ غَيرِ المُخَلَّصين. والمَكدونِيِّينَ لم يُعطوا كالأغنياءِ غَيرِ المُخَلَّصين. وَهُم لم يُعطُوا جُزءًا لا يُذْكَرُ مِن ثَروَتِهم، ولم يُعطُوا مِن غِناهُم، ولم يُعطُوا دُونَ تَضحِيَة.

فَضلاً عَن ذلك، إنَّهُم لم يُعطُوا كَالمَسيحيِّينَ الأنانِيِّينَ الَّذينَ يُحِبُّون الأمورَ الأبديَّةَ بِقَدْرِ مَحَبَّتِهم للأمورِ الزَّمنيَّةِ حَتَّى إنَّ كُلَّ شَيءٍ هُوَ حَرْبٌ لأنَّهُم ما زَالُوا يَتمسَّكونَ بالعَالَم. فَهُم لَم يُعطُوا كالمَسيحيِّينَ الأنانِيِّينَ ولم يُعطُوا كالأغنياءِ غَيرِ المُخَلَّصين، بَل أعطُوا كَما يُعطي المُؤمِنونَ الأتقياءُ جدًّا، والمُكَرَّسونَ، والمُخَصَّصونَ، والمُضَحُّون. وَهَذا يَعني أنَّهُم أعْطوا بِوَفْرَةٍ وَسَخاءٍ تَجاوُبًا مَعَ عَمَلِ نِعمةِ اللهِ في قُلوبِهم.

فالعَطاءُ السَّخِيُّ هُوَ أَثَرٌ مِن آثارِ النِّعمَةِ المُخَلِّصَةِ والمُقَدِّسَةِ إذْ إنَّكَ تَنظُرُ إلى شَخصٍ وَتَرى ذلكَ السَّخاءَ المُضَحِّي فَتَعلَمُ أنَّ اللهَ يَعمَلُ في ذلكَ القَلب. فَنِعمَةُ اللهِ الَّتي تَعمَلُ مِن خِلالِ مَحَبَّةِ الحَقِّ وطَاعَةِ الرُّوحِ بِروحِ الشُّكرِ تُؤدِّي إلى العَطاء. وبُولُسُ هُنا يُشيدُ بالمُؤمِنينَ المَكِدونِيِّينَ لأنَّهُم مِثالٌ أو نَموذَجٌ للمَسيحيِّينَ الأتقياءِ الَّذينَ يُعطُونَ بِسَخاء. والآن، لاحِظُوا أنَّهُ يَفعلُ ذلكَ بِطريقةٍ يَصُونَ فيها كُلَّ مَوضوعِ النِّعمَة. واسمَحُوا لي أن أقولَ ذلكَ بطريقةٍ أخرى. إنَّهُ يلْفِتُ أنظارَنا إلى تِلكَ الصِّفَةِ الحَميدَةِ لَدى المَكَدونِيِّين.

فيُمكِنُنا أن نَنظُرَ إليهم بِوَصفِهِم نَموذَجًا، ولكِنَّ بُولُسَ يُغلِقُ كُلَّ أبوابِ الاستِحقاقِ البَشريِّ قَائِلاً إنَّهُم فَعَلوا مَا فَعلوهُ لأنَّهُم كَانُوا مَدفوعينَ بِماذا؟ بِنِعمَةِ اللهِ... بِنَعمَةِ الله. فَهذا هُوَ الدَّافِعُ الرَّئيسيُّ لاستِعدادِهم. لِذا فقد كَانَ عَطاؤُهُم، الَّذي هُوَ نَموذَجٌ يُحْتَذى، قَائِمًا على نِعمةِ الله. وبُولسُ يُريدُ مِنَ الكورِنثيِّينَ أن يَتجاوَبُوا مَعَ نَفسِ النِّعمَةِ المُخَلِّصَةِ، ومَعَ نَفسِ النِّعمَةِ المُقَدِّسَةِ، ومَعَ نَفسِ النِّعمَةِ الَّتي تُعطي القُوَّة. وَيُريدُنا نَحنُ أيضًا أن نَتجاوبَ هَكذا. فيجبُ علينا أن نُعطي لا كَما يُعطي العَالَم، بَل يَجِبُ علينا أن نُعطي أفضلَ مِن ذلكَ بِكثير لأنَّنا اختَبرنا نِعمَةَ اللهِ المُغَيِّرَة.

ثَانيًا، عَدا عَن أنَّ العَطاءَ يَقومُ على نِعمَةِ اللهِ، فإنَّ العَطاءَ يَسْمُو على الظُّروفِ الصَّعبَة. فالعَطاءُ يَسْمُو على الظُّروفِ الصَّعبَة. أَلاَ لاحظتُم الآنَ العَددَ الثَّاني؟ "أَنَّهُ فِي اخْتِبَارِ ضِيقَةٍ شَدِيدَةٍ فَاضَ وُفُورُ فَرَحِهِمْ وَفَقْرِهِمِ الْعَمِيقِ لِغِنَى سَخَائِهِمْ". لاحِظُوا أنَّ عَطاءَهُم جَاءَ في وَقْتٍ كَانُوا يَختَبِرونَ فيهِ ضِيقَةً شَديدَة. ولكِنَّ الظُّروفَ الصَّعبةَ لَم تُؤثِّر سَلبيًّا في عَطائِهم.

فَهُم لَم يَقولوا: "كَما تَعلَمُ، نَحنُ نَمُرُّ في أوقاتٍ عَصيبةٍ جدًّا. ونَحنُ لا نَدري مَاذا سيَكونُ مُستقبلُنا الاقتِصادِيُّ. ومَكِدونِيَّة تَنهارُ اقتِصادِيًّا. وَنَحنُ نُضْطَهَدُ بِلا رَحمَة. ولا نَدري إنْ كَانَ سيَكونُ لَدينا مَا يَكفينا لِيَومِ غَدٍ. نَحنُ مُتوتِّرونَ بِسَببِ كُلِّ هذهِ الأمور. فَنَحنُ لا نَدري مَا يُخَبِّئُهُ المُستقبلُ لَنا مُنذُ أنْ آمَنَّا بيسوعَ المسيح. وَهُناكَ العَداوَةُ مِنَ اليَهود".

وَإنْ رَجعتُم إلى سِفْرِ أعمالِ الرُّسُل والأصحاح 17 على سَبيلِ المِثال، تَقرأونَ عَنِ الكَنيسةِ في تَسالونيكي. ولَعَلَّكُم تَذكُرونَ أنَّهُ عندما آمَنُوا بالإنجيل، رَاحَ اليَهودُ يَضطَهِدونَهُم بِقَسوةٍ شَديدة. وَكانَ هُناكَ اضطِهادٌ مِنَ الأُمَمِ، بِكُلِّ تَأكيدٍ، في ذلكَ الجُزءِ مِنَ العَالَمِ للكَنيسَة. لِذا فإنَّهُم لم يَكونوا يَعلَمونَ مَا الَّذي يُخَبِّئُهُ المُستقبَلُ لَهُم. وبُولُسُ يَصِفُ ظُروفَهُم بأنَّها ضِيْقَةٌ شَديدة. وَهُوَ يُحِبُّ أنْ يَستخدِمَ كَلِماتٍ كَثيرةً لِتَتميمِ وَصْفِه.

"في اخْتِبارِ ضِيقَةٍ شَدِيدَة". لِنَأخُذِ الكلمة "شَديدة". فَهِيَ تَعني: قَاسِيَة، أو عَظيمَة، أو كَبيرة، أو ضَخمَة، أو هَائِلَة، أو مَهُولَة، أو عَنيفَة. والكلمة "اختبار" هِيَ تَرجمةٌ للكلمةِ اليُونانيَّةِ "دوكيمي" (dokime) ومَعناها: امتِحان. وَهِيَ تُستخدَمُ لوَصْفِ عَمليَّةِ وَضْعِ المَعادِنِ في أَتُونِ النَّارِ لِتَمحيصِها. لِذا فإنَّنا نَقرأُ هُنا عَنِ اختِبارٍ شَديدٍ بالنَّارِ والمُعاناةِ والألم. وتُشيرُ الآيتان 1تسالونيكي 2: 14 و15 إلى ذلكَ الألم. فَهُوَ يَقولُ: "لأَنَّكُمْ تَأَلَّمْتُمْ أَنْتُمْ أَيْضًا مِنْ أَهْلِ عَشِيرَتِكُمْ تِلْكَ الآلاَمَ عَيْنَهَا، كَمَا هُمْ أَيْضًا مِنَ الْيَهُودِ، الَّذِينَ قَتَلُوا الرَّبَّ يَسُوعَ وَأَنْبِيَاءَهُمْ، وَاضْطَهَدُونَا نَحْنُ".

فَهُوَ يُقِرُّ بأنَّ الكَنيسةَ في تَسالونيكي كانَت تَتألَّم. فنحنُ نَقرأُ في الأصحاحِ الأوَّلِ مِنَ الرِّسالةِ الأولى إلى أهلِ تَسالونيكي والعَددِ السَّادس: "إِذْ قَبِلْتُمُ الْكَلِمَةَ فِي ضِيق كَثِيرٍ". وَهُوَ يَتحدَّثُ في الأصحاحِ الثَّالثِ مِنَ الرِّسالةِ الأولى إلى أهلِ تَسالونيكي والأعداد 3-10 عَن ضِيقاتٍ وَتَجارِبَ وَصَبْرٍ وَألمٍ وَمَزيدٍ مِنَ الضِّيق. فَقد كانُوا يَمُرُّونَ بوقتٍ عَصيب. والآيةُ 2تسالونيكي 1: 4 تَتحدَّثُ عَن ذلك. والآيةُ فِيلبِّي 1: 29 تَتحدَّثُ عنِ الألمِ والاضطِهادِ في الكنيسةِ في فِيلبِّي. لِذا فقد كانوا يَمُرُّونَ في مِحنَةٍ شَديدة، ويَمُرُّونَ في وَقتٍ عَصيبٍ مِنَ الاختبارِ والألم. وكما هِيَ الحَالُ دَائِمًا، لا شَكَّ في أنَّ الامتِحانَ يَكشِفُ الشَّخصيَّةَ الرُّوحيَّة. وَقد خَرَجُوا مِنَ الامتحانِ وَهُم يَلْمَعونَ حَقًّا.

كانت مَكِدونِيَّة غَارقةً في فَقْرٍ مُدْقِع. فقد كَانُوا يَرْزَحُونَ تَحتَ عِبْءِ الضَّرائبِ الرُّومانيَّة. ولا شَكَّ في أنَّ تِلكَ الضَّرائِبَ تَرَكَتِ النَّاسَ في حَالَةٍ يُرْثَى لَها. والحَقيقةُ هِيَ أنَّ الحَالَ كَانَتْ سَيِّئَةً جدًّا حتَّى إنَّ رُوما ألْغَتِ الضَّرائِبَ في وَقتٍ مِنَ الأوقاتِ كي يَتمكَّنَ النَّاسُ مِنَ الخُروجِ مِنَ الجُحورِ الَّتي يَعيشونَ فيها وبُلوغِ مُستَوى النَّجاة. وَعَدا عَنْ ذلكَ الاضطهادِ، كانَتْ هُناك مِحْنَةٌ قَاسِيَة. وَهُوَ يَستخدِمُ كلمةً أخرى. "فِي اخْتِبَارِ ضِيقَةٍ شَدِيدَة". وَهُوَ يَستخدِمُ الكلمة "ثليبسيس" (thlipsis)؛ وهي كلمة مَألوفَة لأيِّ تِلميذٍ يَدرُسُ اللُّغَةَ اليُونانيَّة. وَهِيَ تَصِفُ عَصْرَ العِنَبِ عَن طَريقِ الضَّغْطِ وَالسَّحْقِ، أو تَصِفُ الضَّغْطَ السَّاحِقَ ذِهنيًّا أو جَسديًّا أو رُوحِيًّا بِسَببِ الفَقرِ أوِ الاضطِهاد.

ولكِنْ في خِضَمِّ ذلكَ فإنَّهُم لم يَقولوا: "نَحْنُ مَساكين!"، أو: "لِماذا تَطلُبُ مِنَّا أن نُعطي! فَمَشاكِلُنا تَكفينا!" بَلْ إنَّهُم في خِضَمِّ كُلِّ ذلكَ الألمِ والحِرمانِ الطَّويلِ أَعْطُوا. وَهَذا هُوَ مَا يَفعلُهُ المُؤمِنونَ الأتقياء. فالمُؤمِنونَ الأتقياء يَعيشونَ فَوقَ ظُروفِهم. وفي حَالةِ المَكِدونِيِّين، اجتازوا الامتحانَ وحَصَلُوا على تَقديرٍ مُمتازٍ جدًّا. فَضيقاتُهُم الشَّديدةُ لم تَترُك أثرًا سَلبيًّا في عَطائِهم؛ حَتَّى في خِضَمِّ تِلكَ الظُّروفِ القَاسِيَة. فَهُم لم يَكونوا يُفَكِّرونَ في أنفسِهم، بَل كانُوا يُفَكِّرونَ في مُؤمِنينَ آخرينَ لم يَلتَقوهُم مِن قَبل.

وَهَذا هُوَ الجُزءُ المُدهِش. فَهُم لَم يَلتَقُوا يَومًا القِدِّيسينَ في أورُشليم، ولم يَكونوا يَعرفونَهُم شَخصيًّا. وعلى الرَّغمِ مِن ضِيقَتِهمِ الشَّديدةِ أَظْهَرُوا كُلَّ استِعدادٍ للتَّضحيةِ مِن أجلِ أشخاصٍ لم يَلتَقوهُم يَومًا لأنَّهُم كانُوا جُزءًا مِن جَسَدِ المَسيحِ في مَكانٍ آخر. هَذا هُوَ مَا يَفعلُهُ المُؤمِنونَ الأتقياء. فالمُؤمِنونَ الأتقياءُ يُعطونَ لأنَّ نِعمةَ اللهِ هِيَ العامِلُ المُؤثِّرُ في حَياتِهم ويَحْفِزُهم. والمُؤمِنونَ الأتقياءُ يُعطونَ لأنَّ أسوأَ الظُّروفِ لا تَستطيعُ أن تُعيقَ تَكريسَهُم للمَسيح.

ثَالِثًا، وَهذا عُنصُرٌ آخر في عَطائِهم: العَطاءُ بِفَرَح... العَطاءُ بِفَرَح. وَقد تَقول: "لَقد أعْطَوْا بِدافِعِ الواجِبِ، وأعطَوْا تَحتَ الضَّغطِ، وأعْطَوْا لأنَّهُم شَعَرُوا أنَّهُم مُضطرُّونَ إلى العَطاء، وأعطَوْا لأنَّهُم كَانُوا يَعلَمونَ أنَّ اللهَ سَيُعاقِبُهم إن لَم يَفعلوا ذلك، أو أنَّهُ سَيُكافِئُهُم إنْ فَعَلوا". ولكِنَّ هذا غَير صَحيح. ففي حين أنَّ هذهِ الأمورَ كُلَّها قَد تَخطُرُ بالبال عِندَ العَطاء، فإنَّنا نَقرأُ في العَددِ الثَّاني: "أَنَّهُ فِي اخْتِبَارِ ضِيقَةٍ شَدِيدَةٍ فَاضَ وُفُورُ فَرَحِهِمْ".

فَهُم لم يَكتَفُوا بالعَطاءِ فقط، ولم يَتوقَّفوا عِندَ العَطاءِ فقط، ولَم يَكتَفوا بإبداءِ الاستِعدادِ للقِيامِ بذلك، بَل كانُوا فَرِحينَ للقيامِ بذلكَ، بَل فَرِحينَ جدًّا للقِيامِ بذلك. فَلم يَكُن هُناكَ تَرَدُّد. فنحنُ نَقرأُ في الأصحاحِ التَّاسعِ والعَددِ السَّابع: "كُلُّ وَاحِدٍ كَمَا يَنْوِي بِقَلْبِهِ، لَيْسَ عَنْ حُزْنٍ أَوِ اضْطِرَارٍ. لأَنَّ الْمُعْطِيَ الْمَسْرُورَ يُحِبُّهُ اللهُ". وَقد كَانُوا هَكذا. فَقد أعْطَوْا بِفَرَحٍ وَفير. والكلمة "وُفور" تَعني حَرفيًّا: "فَائِض"... "فَائِض". وَيَقولُ المُفَسِّر "لينسكي" (Lenski): "لَقد فَرِحُوا بِسَلْبِ أنفُسِهم".

فَقد فَرِحُوا بِسَلْبِ أنفُسِهم. فَقد كانُوا مُكَرَّسينَ إلى هَذا الحَدِّ للرَّبِّ، وللمَلكوتِ، وللكنيسةِ، ولإخوتِهم وأخواتِهم الَّذينَ لم يَلتَقوهُم مِن قَبل. وَقدِ سَمَا فَرَحُهُم على ألَمِهم، وسَمَا عَلى حُزنِهم، وسَمَا عَلى ظُروفِهم. فَقد كانَ فَرَحًا على الرَّغمِ مِن الظُّروفِ لا بِسَبَبِ ظُروفٍ مُريحَة. فَقد كانَ فَرَحُهُم عَميقًا. وكانَ فَرَحًا لم يَتأثَّر بمُعاناتِهم.

فقد تَمَكَّنُوا حَقًّا مِنَ القيامِ بِما شَجَّعَهُم بولسُ على القِيامِ بِهِ في رِسالَتِهِ إلى أهلِ فيلبِّي: "اِفْرَحُوا فِي الرَّبِّ كُلَّ حِينٍ، وَأَقُولُ أَيْضًا: افْرَحُوا". لا فقط أنْ يَفرَحُوا في ضِيقَةِ ظُروفِهم، بَلِ اسمَعوا: بَل حَتَى في جَعْلِ ضِيقَتِهِم أكثرَ صُعوبَةً مِن خِلالِ سَخائِهم. فَقد كانُوا فَرِحينَ بِأنْ يَحْرِمُوا أنفسِهم مِنَ القَليلِ الَّذي لَديهم. وَكانُوا فَرِحينَ في أنْ يَكنِزوا كُنوزًا في السَّماء، وفَرِحينَ في أن يَطلُبوا المَلكوت، وفَرِحينَ لأنَّ العَطاءَ مَغبوطٌ أكثر مِنَ الأخذ، وفَرِحينَ لأنَّهُم يَعلَمونَ أنَّ اللهَ سيُكافِئُهُم أضعافًا. لِذا فقد أعطَوْا. وَهذا هُوَ المَوقِفُ الَّذي يُريدُهُ الله.

السِّمَةُ الرَّابِعَةُ مِنْ سِمَاتِ عَطائِهم النَّموذَجِيِّ هِيَ أنَّ عَطاءَهُم لم يَتَعَطَّلْ بِسَببِ فَقرِهِم... أنَّ عَطاءَهُم لم يَتَعَطَّلْ بِسَببِ فَقرِهِم. وأرجو أن تُلاحِظُوا أنَّهُ يَقولُ إنَّهُ: "فِي اخْتِبَارِ ضِيقَةٍ شَدِيدَةٍ فَاضَ وُفُورُ فَرَحِهِمْ وَفَقْرِهِمِ الْعَمِيق". فَقد كانوا يَدفَعونَ ضَرائبَ بَاهِظَة، وإيجارًا باهِظًا، ويُعانونَ بِسَببِ العُبوديَّةِ والاضطهاد. وَقد تَحدَّثنا عَن كُلِّ ذلك. وَلم يَكُن لَديهم سِوى القَليل جدًّا. وبولُس يُريدُ مِنَّا أن نَعرفَ الفَقْرَ الشَّديدَ الَّذي كَانُوا فيه. لِذا فإنَّهُ يَستخدِمُ عِبارَةً مُدهشةً جدًّا جدًّا هُنا.

أوَّلاً، إنَّهُ يَقولُ مَا يُتَرْجَمُ هُنا بالكلمة "عَميق". وَهذهِ في الحَقيقةِ كَلِمَتان: "كاتا" (kata)، وَهِي حَرْفُ جَرّ، وَ "باثوس" (pathos)؛ أيْ: "كاتا باثوس" (kata bathous). وَهِيَ تَعني في اللُّغَةِ اليُونانِيَّةِ: "إلى الأعمَاقِ السَّحيقَة"... إلى الأعمَاقِ السَّحيقَة. بِعبارةٍ أخرى: فَقْرِهِمِ العَميقِ جدًّا". وَهُوَ يَعني بِذلكَ: "أَدنى مُستوىً مُمكِن" أو "الحَضيض". فَلا يُمكِنُكَ أن تَصِلَ إلى عُمْقٍ أكثرَ مِن "كاتا باثوس"؛ أيْ: "إلى الأعماق".

والإشارَةُ هُنا هِيَ إلى الفَقْرِ المُدقِع. والحَقيقةُ هِيَ أنَّ الكلمة "فَقْر" هُنا هِيَ تَرجَمَةٌ للكلمةِ اليُونانيَّةِ "بُوكِيَا" (potcheia)، وهِيَ كلمة تُعَبِّرُ حَرفيًّا عَن أقسَى نَوعٍ مِنَ الفَقر. وَهِيَ تُستخدَمُ في مَواضِعَ أخرى في الكتابِ المقدَّسِ بِمَعنى: "يَنكَمِش" أو "يَتَصاغَرَ" أو "يَنطوي على نَفسِهِ كالمُتَسَوِّلِ مِن شِدَّةِ الخَجَلِ والعَارِ لأنَّهُ مُعْدَم". وَهِيَ تُشيرُ إلى شَخصٍ صَارَ مُعْدَمًا إلى أقصَى حَدٍّ مُمكِن، أو إلى أن صَارَ مُتَسَوِّلاً. وَهِيَ ليسَت الكلمة المُعتادةَ للإشارةِ إلى الفَقْر وَهِيَ "بينيكروس" (penichros) الَّتي تُشيرُ إلى شَخصٍ لَديهِ القَليل وَحَسْب. فَهذا شَخصٌ ليسَ لَديهِ شَيء، وَلا بالكَادِ أساسِيَّات الحَياة. وَهِيَ تُستخدَمُ على سَبيلِ المِثالِ في إنجيل لُوقا 14: 21 للإشارةِ إلى المَشلولينَ، والعُميان، والعُرْج، والمُتَسَوِّلين.

وَهِيَ تُستخدَمُ في لُوقا 16 للإشارةِ إلى الرَّجُلِ المِسكين "لِعازَر" الَّذي كانَ جَسَدُهُ مَضْرُوبًا بالقُروح، وكَانَتِ الكِلاَبُ تَأتِي وَتَلْحَسُ قُرُوحَهُ، وَكانَ يَستعطِي وَيَشْتَهِي أَنْ يَشْبَعَ مِنَ الْفُتَاتِ السَّاقِطِ مِنْ مَائِدَةِ الْغَنِيِّ. فَقد كانَ فَقيرًا جدًّا. لقد كانَ فَقيرًا. ومِن فَقْرِهِم المُدْقِعِ، أَعْطُوا بِسَخاء. ولكِنْ كيفَ فَعَلُوا ذلك؟ فَهُم لم يَكونُوا يُمسِكونَ رَغيفَ خُبْزٍ صَغيرٍ في أيديهِم. بَلى! فَقد كانَ لَديهم الوَعدُ المَذكور في رِسالةِ فِيلبِّي 4: 19 أيضًا: "فَيَمْلأُ إِلهِي كُلَّ احْتِيَاجِكُمْ". فَقد آمَنُوا بِهِ. وَكانُوا يَعلَمونَ أيضًا أنَّ يَسوعَ قَال: "أَعْطُوا تُعْطَوْا". وَكانُوا يَعلَمونَ أنَّهُم لَن يَتفوَّقُوا على اللهِ في العَطاء. وَكانُوا يَعلَمونَ أيضًا أنَّ العَطاءَ مَغبوطٌ أكثر مِنَ الأخذ.

لَقد عَاشُوا بالإيمان، لا بالعِيان. وَكَانُوا يُمْسِكونَ في يَدِهم وَعْدَ اللهِ. وَقد صَدَّقُوا ذلكَ الوَعدَ واتَّكَلُوا على الرَّبِّ بِشأنِ مُستقبلِهم. والنَّاسُ يَقولون: "كُنتُ لأُعطي أكثر لو كانَ لَديَّ أكثر". ولكنِّي لا أُصَدِّقُ ذلك. فالعَطاءُ ليسَ مُرتَبِطًا بما لَديكَ، بَل هُوَ شَيءٌ يَنبُعُ مِنَ القَلب. والمُؤمِنونَ الأتقياء لا يَحتاجونَ إلى المَزيد، ولا يَنتظرونَ الحُصولَ على المَزيد، بَل يُعطونَ مِن إعوازِهم كَما فَعلتِ الأرملةُ الَّتي رَأى يَسوعُ أنَّها أعطَت كُلَّ شَيءٍ عندما أعْطَتْ فَلْسَيْن. وَفي إنجيل لُوقا 16: 10، عَبَّرَ يَسوعُ عَن ذلكَ بالكلماتِ التَّالية: "اَلأَمِينُ فِي الْقَلِيلِ أَمِينٌ أَيْضًا فِي الْكَثِيرِ، وَالظَّالِمُ فِي الْقَلِيلِ ظَالِمٌ أَيْضًا فِي الْكَثِير". فالمسألةُ ليسَت مَسألةَ كَمْ لَديكَ. فالمسألةُ ليسَت كذلك، بَل هِيَ مَسألةُ قَلب.

فإنْ كُنتَ أمينًا فإنَّكَ سَتَكونُ أمينًا. وإنْ كُنتَ أمينًا فَهذا يَعني أنَّكَ تُؤمِنُ باللهِ وَتَثِقُ بالله. وَإنْ كُنتَ تُمسِكُ بيَدِكَ رَغيفَ الخُبْزِ الصَّغير؛ أيْ أنَّكَ تَتَمَسَّكُ بالوَعدِ المَذكورِ في رِسالةِ فِيلبِّي 4: 19 فإنَّ هَذا كَفيلٌ بأنْ يَضمَنَ مُستقبَلَكَ، وَلَن تَتردَّدَ في إعطاءِ كُلِّ مَا يَضَعُ اللهُ على قَلبِكَ أن تُعطيه. أمَّا مِقدارُ مَا لَديكَ فإنَّها ليسَتِ النُّقطةُ الجَوهريَّة. فالسَّخاءُ أمرٌ مَنُوطٌ بالقَلبِ الَّذي يُعطي بِغَضِّ النَّظَرِ عَن قِلَّةِ مَا يَملِك. لِذا فقد أعْطَوْا. فَقد كَانُوا بالكَادِ يَمْلِكونَ قُوْتَ يَومِهم. ولكِنَّ الشَّيءَ القَليلَ الفَائِضَ عِندَهُم كَانُوا يُعطونَهُ. وَعَطاؤُهم هُوَ مِثالٌ للكورِنثيِّينَ وَلَنا. إذًا، العَطاءُ يَنبُعُ مِن نِعمَةِ اللهِ، ويَسمُو على الظُّروفِ الصَّعبة، ويُعطي بِفَرَحٍ، ولا صِلَةَ لَهُ بِمِقدارِ مَا لَديك، بَل هُوَ أمرٌ يَختصٌّ بالقَلب.

خَامِسًا، وَهذهِ هِيَ النُّقطةُ الأخيرةُ في هَذا اليوم. وَسوفَ نَتحدَّثُ عَنِ النُّقطةِ الأخيرةِ في المَرَّةِ القَادِمَة. كَانَ العَطاءُ سَخِيًّا... كَانَ العَطاءُ سَخِيًّا. فعلى الرَّغمِ مِن أحوالِهم فإنَّهُ يَقولُ إنَّ عَطاءَهُم: "فَاضَ... لِغِنَى سَخَائِهِم". وَهُوَ يَستخدِمُ كلماتٍ كَثيرةً هُنا مَرَّةً أخرى قَائِلاً إنَّ عَطاءَهُم "فَاض". وَهذهِ الكلمةُ تُستخدَمُ حَرفيًّا للإشارةِ إلى نَهْرٍ عِنْدَ فَيضانِهِ إذْ يَفيضُ على ضِفافِه. فَهُوَ شَيءٌ مُتَدَفِّقٌ كاليُنبوعِ، أو كالبِئرِ، أو شَيءٌ فَائِضٌ جدًّا وَوفيرٌ جدًّا.

فَقد كانَ فَقرُهُم حَقيقةً مُؤكَّدَة. وعلى الرَّغمِ مِن ذلكَ، كانَ عَطاؤُهم فَائِضًا حَقًّا. والآن، لاحِظُوا الكلمة "غِنَى". وَهَذا هُوَ مَا تَعنيه: "غِنَى". وَهِيَ تُتَرَجَم "غِنَى" مَرَّاتٍ عَديدةً في رِسالةِ أفسُس، وأيضًا في رِسالةِ فِيلبِّي ورِسالةِ كولوسي". فَقد كانُوا أغنياءَ؛ ولكِنَّ الآيةَ لا تَقولُ إنَّهُم كَانُوا أغنياءَ في المَال، ولا تَقولُ إنَّهُم كانُوا أغنياءَ في المَنازِل، ولا تَقولُ إنَّهُم كانُوا أغنياءَ في المُقتنيات؛ بَل تَقولُ إنَّهُم كانُوا أغنياءَ في العَطاء. وَهذا مَوقِفٌ. إنَّهُ مَوقِفٌ قَلبِيٌّ. فَغِناهُم كانَ يَختصُّ بِقُلوبِهم.

وَبالمُناسَبَة، إنَّ هذهِ الكلمةَ كلمةٌ رَائِعَة. وَسوفَ أُخَصِّصُ دَقيقةً لِشَرحِها لَكُم لأنَّكُم لا تُدركونَ مَغزى هذهِ الكلمةِ في عَددٍ مِنَ التَّرجَمات. فَرُبَّما كانَ مِنَ الأفضلِ أن تُتَرجَمَ "سَخَاء"... سَخاء. ولكِنَّ التَّرجمةَ الأخرى [وَهِيَ: "إخلاص"] مُرادِفٌ جَيِّدٌ للسَّخاء. وَهِيَ نَقيضُ النِّفاق، أو نَقيضُ الازدِواجِيَّة. وَهِيَ كَلِمَة تُتَرجَم في الكتابِ المقدَّسِ: "إخلاص"، أو "سَخاء"، أو حَتَّى "صِدْق". ولكِنَّها تَحْمِلُ مَعنى الثَّباتِ على فِكْرٍ واحِدٍ وَعَدَمِ الازدِواجِيَّة.

وَهذهِ طَريقةٌ رَائِعَةٌ لِرؤيةِ السَّخاءِ على حَقيقَتِهِ لأنَّ السَّخاءَ يَعني مَا يَلي: السَّخاءُ هُوَ مَوقِفٌ يَسْمُو على الرِّياء. فَلِسانُ حَالِ الرِّياءِ هُوَ: "أنا أَتَفَهَّمُ حَقًّا حَاجَتَكَ ولكنِّي مُضطَرٌّ إلى الاعتِناءِ بنفسي أيضًا. كَمْ كُنتُ أتَمَنَّى أن يَكونَ بِمقدوري أن أَسُدَّ حَاجاتِكَ، ولكِنْ لَدَيَّ حَاجاتٌ أنا أيضًا". وَهَذا رِياء. فَهَذا الكَلامُ يَدُلُّ على رِيائي. فأنا مُهتَمٌّ بنفسي، ومُهتَمٌّ بِكَ، ولكِنِّي مَشلولٌ في هذا المَوقِف. وسوفَ أُسَرُّ بإعطائِكَ القَليلَ مِمَّا لَديَّ، وبالاحتِفاظِ بالقَليلِ هُنا والقَليلِ هُنا.

ولكِنَّ المَكِدونِيِّينَ لم يَفعلوا ذلك. فَقد كانُوا أغنياءَ حَقًّا وعَاقِدي العَزْم. وَهذهِ هِيَ حَالُ المُؤمِنِ التَّقِيِّ الَّذي لا يُبالي البَتَّة بنفسِه. فَقد زَالَ كُلُّ رِياء. وَقدِ انتَهَتِ الحَربُ الَّتي تَقولُ: "قَليلٌ لَكَ وَقَليلٌ لي"، وأنتَ هُوَ الشَّخصُ الوَحيدُ الَّذي أَهتَمُّ لأمرِه. وَهَذا هُوَ مَا جَاءَ في رِسالةِ فيلبِّي والأصحاحِ الثَّاني: "...بَلْ بِتَوَاضُعٍ، حَاسِبِينَ بَعْضُكُمُ الْبَعْضَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. لاَ تَنْظُرُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لِنَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لآخَرِينَ أَيْضًا". وَقد كَانُوا أغنياءَ في ذلك.

فَهُم لم يَكونوا أغنياءَ في المَال، وَلا في المُقتَنيات، بَل كانُوا أغنياءَ في التَّكريسِ العَاقِدِ العَزمِ، وَالخالي مِنَ الأنانِيَّةِ، والمُتواضِعِ تُجاهَ الآخرينَ والله. وَقد نَبَعَ سَخاؤُهم مِن وُجودِ قَصْدٍ وَاحِدٍ لَديهم وَهُوَ: أنْ يَضَعُوا الآخرينَ أوَّلاً، وأنْ يَضَعُوا مَقاصِدَ اللهِ أوَّلاً، وأنْ يَضَعُوا أوَّلاً مَقاصِدَ الرَّسولِ بُولُس بِوَصفِهِ رَسولَ الله. ولم يَكُنِ المَبلَغُ غَنِيًّا جدًّا، بَل إنَّ الغِنَى كَانَ غِنَى قُلوبِهم. وَهَذا هُوَ الشَّيءُ الَّذي يُقَدِّرُهُ اللهُ. لِذا فقد قَالَ يَسوعُ إنَّ المَرأةَ الَّتي أعطَتْ فَلسَيْنِ نُحاسِيَّيْنِ صَغيرينِ أعْطَتْ أكثرَ مِن أيِّ شَخصٍ آخرَ لأنَّ القَلبَ كَانَ خَالِيًا مِنَ الرِّياء.

وبولسُ يُريدُ مِنَ الكُورِنثِيِّينَ الَّذينَ كانوا على الأرجَحِ أكثرَ غِنًى مِنَ المَكِدونِيِّينَ أنْ يَكونوا أغنياءَ في سَخائِهِم غَيرِ الأنانِيِّ والعَاقِدِ العَزْم. وَحَيثُ وُجِدَ قَلبٌ سَخِيٌّ فإنَّ المَبلَغَ ليسَ مُهِمًّا عِندَ الله. فَهُوَ يُريدُ وَحَسْب ذلكَ القَلبَ السَّخِيَّ. لِذا، على الرَّغمِ مِن الفَقْرِ المُدْقِعِ لِهؤلاءِ المَكِدونِيِّينَ الأعِزَّاءَ فإنَّهُم أعْطَوْا. فَقد أعطَوْا لأنَّ ذلكَ كَانَ نَابِعًا مِن نِعمَةِ اللهِ في حَياتِهم، وَلأنَّهُ كَانَ عَطاءً يَسمُو على الظُّروفِ الصَّعبة. وَقد أعْطَوْا بِفرح. وَلم يَتَعَطَّلْ عَطاؤُهم بِسَببِ فَقرِهم. وكانَ عَطاؤُهم يَعكِسُ سِعَةَ قُلوبِهم وَسَخائِها، وإخلاصِها. فَيا لَهُم مِن قُدوَة!

وَبالمُناسَبَة، هُناكَ المَزيد! وَسَوفَ نُرْجِئُ ذلكَ إلى المَرَّةِ القَادِمَة. ولكِنْ يا لَهُم مِن قُدوةٍ لَنا! فَقد كانَ لَديهم القَليل جدًّا؛ ولكِنَّهُم أعْطَوْا الكَثير جدًّا. ونَحنُ لَدينا الكَثير جدًّا؛ ولكِنَّنا نُعطي القَليل جدًّا. واللهُ لا يَطلُبُ مِنكَ أن تَعيشَ في فَقْرٍ مُدقِع. وَقد تَحَدَّثنا عَن ذلكَ في عِظاتٍ سَابِقَة. ولكِنَّهُ يَقولُ بِبَساطَة: "كُونوا أسخِياء إلى الحَدِّ المُضَحِّي، وثِقُوا بأنَّ اللهَ سيَسُدُّ حَاجاتِكُم في المُستقبَل".

مَا خُلاصَةُ هَذا كُلِّه؟ وَماذا ستَفعلُ بأموالِك؟ اهْتَمَّ بِسَدِّ حَاجاتِكَ الشَّخصيَّة. فاللهُ أعطاكَ هَذا المَالَ لكي تَسُدَّ حَاجاتِك. واهْتَمَّ بِالعائِلَةِ مِن حَولِكَ. فإنْ لم تَفعل ذلكَ فإنَّكَ أَشَرُّ مِن غَيرِ المُؤمِن. وادَّخِر جُزءًا مِن أموالِكَ وَخَطِّط للمُستقبَل. فَهذهِ أَمانَةٌ في الوَكالَة. ثُمَّ أَعْطِ. فَهذا كُلُّهُ مَذكورٌ بوضوح في الكتابِ المقدَّس. فاللهُ أعطانا كُلَّ الأشياءِ بِغِنَى للتَّمَتُع. وَهُوَ يُريدُ مِنكُم أن تَستمتِعوا بِجمَالِ عَاَلِمِهِ البَديع، وبِكُلِّ وَسَائِلِ الرَّاحَةِ الَّتي تُوفِّرُها لِجَعْلِ الحَياةِ رَائِعَةً وَغَنِيَّة.

وطَالَما أنَّكَ تَملِكُ قَلبًا كَقَلبِ المَكِدونِيِّينَ، سَتُحْسِنُ التَّصرُّفَ عندما يَحينُ وَقتُ العَطاء. وَكَمْ نُبارِكُ اللهَ لأنَّهُ كَانَ صَالِحًا مَعَنا حَتَّى إنَّهُ يُمكِنُنا أن نُعطي مِن غِنانا، لا مِن فَقْرِنا المُدْقِع. وَلا شَكَّ في أنَّ بَعضًا مِنَّا أفقَر مِن غَيرِهم. وَهُناكَ أشخاصٌ صَارُوا على تِلكَ الحَالِ بِسَببِ سُوءِ إدارَتِهم لأموالِهم.

لِذا، يَجِبُ علينا أن نُراجِعَ أنفُسَنا في ضَوْءِ نَموذَجِ العَطاء، وَفي ضَوْءِ هَذهِ الكَنائِسِ الرَّائِعَةِ الَّتي كانت مُضْطَهَدَةً، ومُحاصَرَةً، وَمَسحوقَةً، وفَقيرة؛ ولكِنَّها تُرينا كَيفَ يَنبغي لنا أن نَعيشَ وَنُمسِكَ في يَدِنا رَغيفَ خُبْزِ صَغيرٍ يَضْمَنُ مُستقبَلَك: "فَيَمْلأُ إِلهِي كُلَّ احْتِيَاجِكُمْ". هَل تُؤمِنونَ بذلك؟ إذًا، لا تَتَشَبَّثُوا بِشَيء. فالكُلُّ هُناك. وإنْ أرادَهُ الرَّبُّ، وإنْ كَانَت هُناكَ حَاجَة، يَنبغي لكَ أن تُعطي وَأنْ تَثِقَ بأنَّهُ سيُعطيكَ أكثر. فَهُوَ سَيَفعلُ ذلك. حسنًا! هُناكَ المَزيدُ في المَرَّةِ القَادِمَة. دَعُونا نُصَلِّي:

يَا أبانا، نَحنُ نَعلَمُ أنَّ كَثيرينَ مِنَّا يُمكِنُهم أن يُقَدِّمُوا شَهاداتٍ شَخصيَّةً تُؤكِّدُ حَقيقةَ أنَّنا أعطَيْنا وأعطَيْنا وأعطَيْنا في أوقاتِ الضِّيقِ وأوقاتِ الحَاجَةِ، ثُمَّ سُرعانَ مَا صِرْنا مُمتَلِئينَ إذْ إنَّكَ فِضْتَ بِبَرَكَتِكَ عَلينا. وَيا رَبّ، هُناكَ أشخاصٌ يُمكِنُ أن يَشهَدُوا أيضًا أنَّهُم لم يُعْطُوا، وَبأنَّهُم زَادُوا فَقْرًا، وبأنَّ الأمورَ زَادَتْ سُوءًا. "يُوْجَدُ... مَنْ يُمْسِكُ أَكْثَرَ مِنَ اللاَّئِقِ وَإِنَّمَا إِلَى الْفَقْر" [كَما يَقولُ الكتابُ المقدَّس]. وَ " يُوجَدُ مَنْ يُفَرِّقُ فَيَزْدَادُ أَيْضًا".

سَاعِدنا وَحَسْب على أن نَعيشَ بالإيمان، وعلى أنْ نَأخُذَ الخُبْزَ، والجَمالَ، والصَّلاحَ، والغِنَى، وأفراحَ اليَوم، وألاَّ نَتَمَسَّكَ بِها بِقُوَّة، بَل أنْ نُبدي الاستِعدادَ لِمُشارَكَتِها، وأنْ نُبدي الاستِعدادَ لِتَوزيعِها، وأن نُبدي الاستِعدادَ لِسَدِّ الحَاجاتِ، وأنْ نَكونَ مُستَعِدِّينَ ومُتَشَوِّقينَ لأنْ نُعطي لأجلِ مَلكوتِكَ أيَّ شَيءٍ تَطلُبُهُ مِنْ مُنطَلَقِ عِلْمِنا بأنَّ مُستقبَلَنا مَضمونٌ في وَعْدِك. فَنَحنُ لَن نَعيشَ يَومًا في حَاجَةٍ لأنَّكَ سَتَملأُ كُلَّ احتياج. يا لَها مِن ثِقَةٍ، ويا لَهُ مِن فَرَحٍ أن نَعيشَ بهذهِ الثِّقَةِ وَأنْ نَجعَلَها أساسَ عَطائِنا. نَشكُرُكَ، يا أبانا، على مَا عَلَّمتَنا إيَّاه في هذا الصَّباح. وليتَنا نُطَبِّق ذلكَ في حَياتِنا بطُرُقٍ تُمَجِّدُك. باسْمِ المَسيح. آمين!

This sermon series includes the following messages:

Please contact the publisher to obtain copies of this resource.

Publisher Information
Unleashing God’s Truth, One Verse at a Time
Since 1969

Welcome!

Enter your email address and we will send you instructions on how to reset your password.

Back to Log In

Unleashing God’s Truth, One Verse at a Time
Since 1969
Minimize
View Wishlist

Cart

Cart is empty.

Subject to Import Tax

Please be aware that these items are sent out from our office in the UK. Since the UK is now no longer a member of the EU, you may be charged an import tax on this item by the customs authorities in your country of residence, which is beyond our control.

Because we don’t want you to incur expenditure for which you are not prepared, could you please confirm whether you are willing to pay this charge, if necessary?

ECFA Accredited
Unleashing God’s Truth, One Verse at a Time
Since 1969
Back to Cart

Checkout as:

Not ? Log out

Log in to speed up the checkout process.

Unleashing God’s Truth, One Verse at a Time
Since 1969
Minimize