Grace to You Resources
Grace to You - Resource

في هذا الصَّباح، نَعودُ إلى دِراسَتِنا للرِّسالةِ الثَّانيةِ إلى أهلِ كورِنثوسَ والأصحاحِ الثَّامن، مَعَ الاعتِذارِ مِن ضُيوفِنا الَّذي يَزورونَنا ولم يَحضُروا هذهِ السِّلسلةِ لأنَّكُم جِئتُم في نِهايةِ سِلسلَتِنا هَذِهِ عَن نَموذَجِ العَطاءِ المَسيحيّ. ولكنِّي أعتقدُ أنَّكُم ستَتَمَكَّنونَ مِن سَماعِ مَا يَقولُهُ رُوحُ الرَّبِّ لَنا في هذا المَقطَعِ العَظيم.

نَحنُ نَدرُسُ الرِّسالةَ الثَّانيةَ إلى أهلِ كورِنثوس. وَقد وَصَلنا إلى الأصحاحِ الثامِن. والأعدادُ الثَّمانِيَةُ الأولى مِنها تَتحدَّثُ عَن مَوضوعِ العَطاءِ المَسيحِيِّ؛ أيْ كَيفَ نُعطي للرَّبّ. ولا شَكَّ في أنَّ هَذا المَوضوعَ مُهِمٌّ في هذا الوقتِ مِنَ السَّنةِ إذْ إنَّنا نَكونُ على الأرجَحِ أكثرَ إدراكًا للعَطاءِ مِن أيِّ وَقتٍ آخر. فالعَطاءُ مَوجودٌ في فِكْرِ كُلِّ شَخص. وَنَحنُ نَصرِفُ وَقتَنا في التَّجَوُّلِ في جَميعِ المَتاجِرِ بَحثًا عنِ الهَدِيَّةِ المُناسِبَةِ الَّتي نُريدُ أن نُقَدِّمَها لِشَخصٍ مَا، أو نَصرِفُ وَقتَنا في التَّلميحِ للآخرينَ عَنِ الهَدِيَّةِ الَّتي نَرغَبُ في أنْ يُحضِروهَا لَنا عَالِمينَ أنَّهُم سيَفعَلونَ ذلكَ على الأرجَح. فالعَطاءُ امتِيازٌ نَابِعٌ مِنَ المَحبَّةِ [مِنْ جِهَة]، وَواجِبٌ مُتَوقَّعٌ [مِن جِهَةٍ أخرى]؛ وَرُبَّما أيضًا تَبادُل. على الرَّغمِ مِن ذلك، نَحنُ جَميعًا نُرَكِّزُ على العَطاءِ ونُفَكِّرُ في العَطاءِ في هذا الوقتِ مِنَ السَّنة.

ولكِنْ يَنبغي أنْ يَكونَ صَاحِبُ عِيدِ المِيلادِ أكثرَ شَخصٍ يَحصُلُ على الهَدايا؛ أيِ الربُّ يَسوعَ المَسيح. لِذا، يَنبغي أن يَكونَ العَطاءُ المُقَدَّمُ لَهُ الشُّغلَ الشَّاغِلَ للمَسيحيِّينَ حَتَّى في هذا الوقتِ مِنَ السَّنة. في ضَوْءِ ذلك، مِنَ اللاَّئِقِ أنْ نَجِدَ أنفسَنَا نَدرُسَ كَيفَ يَنبغي لنا أن نُعطي، أوِ الطَّريقةَ الَّتي يَنبغي لنا فيها، نَحنُ المَسيحيِّينَ، أن نُعطي للرَّبِّ حَسَبَ قَصْدِهِ. فَهُوَ مَوضوعٌ وَثيقُ الصِّلَةِ جدًّا. وَسَوفَ يَتحدَّثُ بُولُسُ عَن هذا المَوضوعِ في أصحاحَيْنِ هُما الأصحاح الثَّامِن والأصحاح التَّاسِع. وَسَوفَ نَكونُ قَد دَرَسْنا أمورًا كَثيرةً قَبْلَ أنْ نُنْهي هذا المَوضوع.

ولكِنَّهُ يَبتَدِئُ في الآياتِ الثَّماني الأولى مِنَ الأصحاحِ الثَّامِنِ بالمبدأِ الأوَّلِ الَّذي يُريدُ أن يُعَلِّمَنا إيَّاه. والمَبدأُ الأوَّلُ هُوَ ببساطَةٍ مَا يَلي: العَطاءُ هُوَ سُلوكُ المُؤمِنينَ الأتقياء. فحيثُما وُجِدَ مَسيحيُّونَ أتقياء، وُجِدَ أشخاصٌ يُعْطُون. وَكُلُّ ما يُريدونَهُ هُوَ أنْ تُتاحَ لَهُمْ فُرصَةٌ كَيْ يَتجاوبوا مَعَها. فالتَّكريسُ المَسيحيُّ، والتَّخصيصُ المَسيحيُّ، والتَّعَهُّدُ المَسيحيُّ تُفْضِي كُلُّها إلى العَطاءِ المَسيحيِّ والسَّخاء.

لِذا فإنَّ بُولُسَ يَدعو الكُورِنثِيِّينَ في هذا الأصحاحِ إلى العَطاء. وَالمَسألةُ المُحَدَّدَةُ هُنا هِيَ أنَّ القِدِّيسينَ في الكَنيسةِ في أورُشليم كانُوا فُقراءَ جدًّا جدًّا، وأنَّهُ لم تَكُن تُوجَدُ لَديهم أيَّةُ مَوارِد، وَأنَّ حَاجاتِهِم كانَت كَبيرةً جدًّا. لِذا فإنَّ بُولُسَ يُريدُ مِنَ الكورِنثيِّينَ أن يُعطوا للقِدِّيسينَ في أورُشليم. والآن، تَذَكَّروا أنَّهُ ليسَ عَطاءً مَرَّةً واحِدَةً، بَل عَطاءً أسبوعِيًّا مُنتَظَمًا. فَهُوَ يَقولُ في الأصحاحِ السَّادس عَشَر والعَددِ الثَّاني إنَّ تِلكَ التَّبَرُّعاتِ ستُجْمَعُ كُلَّ أسبوع. وَهُوَ يَقولُ إنَّهُ يَنبغي لِكُلِّ واحِدٍ مِنهُم أن يُعطي كُلَّ أسبوع.

وكَانُوا قَد سَمِعُوا على مَدى فَترةٍ تَزيدُ عَنِ السَّنَةِ على أقَلِّ تَقدير عَن هَذا العَطاء. وَقد أرادَ بُولسُ مِنهُم أن يُعطُوا بانتِظامٍ وكُلَّ أسبوعٍ لكي يَتِمَّ جَمْعُ مَبلغٍ كَبيرٍ مِنَ المال حَتَّى يأخُذُهُ عِندَ عَودَتِهِ إلى القِدِّيسينَ المُحتاجينَ في أورُشَليم. وَهُوَ يُوصيهِم هُنا (أيْ في الأصحاحِ الثَّامِنِ) بِخُصوصِ أمرِ جَمْعِ التَّبَرُّعاتِ هَذا؛ أيْ بِخُصوصِ عَطائِهِم المُنتَظَمِ الأسبوعِيّ.

وفي البِداية، يَستخدِمُ بُولسُ هذا المَبدأَ الرَّئيسيَّ القائِلَ إنَّ العَطاءَ هُوَ سُلوكُ المَسيحيِّينَ الأتقياء لكي يُرَسِّخَ دَافِعَهُ. ولكي يُوَضِّحَ قَصْدَهُ فإنَّهُ يَستخدِمُ مِثَالاً. والمِثالُ هُوَ كَنائِسُ مَكِدونِيَّة المَذكورة هُنا في نِهايةِ العَددِ الأوَّل. وكانت كَنائسُ مَكِدونِيَّة في الأصلِ ثَلاث كَنائِس: الكَنيسة في فيلبِّي، والكَنيسة في تَسالونيكي، والكَنيسة في بيريَّة. وَكانَت جَميعُها مِعطاءَة.

فقد كانوا مَسيحيِّينَ أتقياء. وقَد تَصَرَّفوا بِسَخاءٍ في مَوضوعِ عَطائِهم. لِذا فقد صَاروا مِثالاً أو نَموذَجًا. وَهُوَ يُريدُ أن يُعَلِّمَ الكُورِنثيِّينَ وجَميعَ المَسيحيِّينَ على مَرِّ العُصورِ أنْ نُعطي اقتِداءً بالمَكِدونِيِّين. لِذا، في أثناءِ تَأمُّلِنا في هذهِ الآياتِ الثَّماني، تَوَخَّيْنا الدِّقَّةَ في التَّأمُّلِ في عَناصِرِ عَطائِهم. فَما الَّذي جَعَلَهُم قُدوة؟ وَكيفَ أَعْطَوْا؟ وَما الرُّوحُ الَّتي أعطوا بها؟ وبأيَّةِ طَريقَةٍ أعطوا؟ وَكُلُّ هَذا مُبَيَّنٌ في هَذا النَّصِّ إلى نِهايةِ العَددِ الثَّامِن.

واسمَحُوا لي أن أُذَكِّرَكُم بما قُلناه. أولاً، لَقد قُلنا إنَّ العَطاءَ يَنبُعُ مِن نِعمَةِ الله. فالعَددُ الأوَّلُ ذَكَّرَنا بأنَّ نِعمَةَ اللهِ المُعطاة للمَكِدونِيِّينَ هِيَ الَّتي غَيَّرَتْ حَياتَهُم تَمامًا وجَعلتُهم مِعطائِين. فَالأمرُ لم يَكُن عَمَلاً بَشريًّا مَحْضًا، ولم يَكُن شَيئًا يَفعلُهُ النُّبَلاءُ. فَنحنُ نَتحدَّثُ عَن مُستوًى فَريدٍ مِنَ العَطاءِ، وَعَن مُستوًى فَريدٍ مِنَ التَّضحِيَةِ الَّتي لا يُقَدِّمُها سِوى أولئكَ الَّذين تَغَيَّروا بِنعمةِ اللهِ وخَلَصُوا وتَقَدَّسُوا بِقوَّةِ اللهِ وعَمَلهِ المُنعِم.

ثَانيًا، لَقد قُلنا إنَّ عَطاءَهُم سَمَا على ظُروفِهِم الصَّعبَة. فَلا يُمكِنُ لأحدٍ أن يُصَدِّقَ أنَّ الوَقتَ آنذاكَ كَانَ وَقتًا مُناسِبًا أو فُرصَةً مُلائِمَةً يُمكِنُهم فيها أن يُعطوا وذلكَ بسببِ صُعوبَةِ ظُروفِهم؛ وَتَحديدًا بسببِ الاضطِهادِ والحِرمانِ الاقتصادِيّ. وعلى الرَّغمِ مِن ذلك، نَقرأُ في العَددِ الثَّاني أنَّهُم أعْطَوْا "فِي اخْتِبَارِ ضِيقَةٍ شَدِيدَة".

ثَالثًا، لَقد قُلنا إنَّ العَطاءَ كَانَ عَطاءً فَرِحًا. فَالعَددُ الثَّاني يَتحدَّثُ أيضًا عَن "وُفورِ فَرَحِهم". رَابعًا، لَقد كَانَ عَطاءً لا يُعَرْقِلُهُ الفَقْر. فَهُوَ يَذكُرُ في العَددِ الثَّاني فَقرَهُم العَميق. خَامِسًا، لَقد قُلنا إنَّ عَطاءَهُم كَانَ سَخِيًّا إذْ إنَّهُ فَاضَ لِغِنَى كَرَمِهم أو سَخائِهم.

لِذا فقد نَظَرنا إلى حَقيقةِ أنَّ هَذا العَطاءَ كَانَ نَابِعًا مِنَ النِّعمَةِ، وَأنَّهُ سَمَا على الظُّروفِ الصَّعبَة، وَأنَّهُ كانَ بِفَرَح، وأنَّهُ لم يُعَرْقَل بِسببِ الفَقر، وَأنَّهُ كَانَ سَخِيًّا. ثُمَّ إنَّنا تَأمَّلنا في العَددِ الثَّالِث إنْ كُنتُم تَذكُرونَ ذلك. وَقد رأينا في العَددِ الثَّالِثِ ثَلاثَةَ عَناصِرَ أخرى لِعطائِهم. فَقد كانَ عَطاؤُهُم حَسَبَ الطَّاقَةِ؛ أيْ أنَّهُم أعْطُوْا حَسَبَ قُدرَتِهم، أو حَسَبَ استِطاعَتِهم على العَطاءِ بِما يَتَوافَقُ مَعَ مَا كانَ لَديهِم.

النُّقطةُ الثَّانيةُ في هذهِ اللَّائِحَةِ الصَّغيرةِ هِيَ أنَّ عَطاءَهُم كانَ مُضَحِّيًا. فَهُوَ يَقولُ إنَّهُ كانَ فَوقَ طَاقَتِهم. وَهذا يَعني أنَّهُم أعطوا أكثرَ مِن قُدرتِهم على العَطاء. ثُمَّ إنَّهُ يَقولُ إنَّهُ كانَ عَطاءً طَوعِيًّا. فَقد أعطوا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِم. لِذا فَقد رأينا ثَمانية مَبادِئ لِعَطاءِ المَكَدونِيِّين. والمَبادِئُ الثَّلاثَةُ الأخيرةُ هِيَ أنَّ عَطاءَهُم كانَ حَسَبَ الطَّاقَة، وَمُضَحِّيًا، وطَوعِيًّا. ومِنَ المُهِمِّ جدًّا أنَّنا حِدْنا عَنِ المَوضوعِ قَليلاً كي نَتحدَّثَ عن هذهِ المَبادِئ. فَهِيُ تُلَخِّصُ حَقًّا فِكرةَ العَطاءِ الطَّوعِيّ. فأنتَ تُعطي مَا تُريد حَسَبَ طَاقَتِكَ، وَتُعطي بِتَضحِيَة، وتُعطي طَوْعًا [أو مِن تِلقاءِ نَفسِك].

فأنتَ تُعطي بِطريقةٍ تُمارِسُ فيها حُريَّتَكَ تَجاوُبًا مَعَ الله. لِذا فإنَّ هذهِ العَناصِرَ الثَّلاثَةَ مُهِمَّةٌ جدًّا: فالعَطاءُ حَسَبَ الطَّاقَةِ، والمُضَحِّي، ومِن تِلقاءِ النَّفسِ يُلَخِّصُ فِكرةَ العَطاءِ الطَّوعِيّ، أوِ العَطاءِ مِنَ القَلب. ولَعَلَّكُم تَذكُرونَ أنِّي قُلتُ لَكُم إنَّهُ لا يُوجَدُ ذِكْرٌ في الكتابِ المقدَّسِ للنِّسبةِ المِئويَّةِ الَّتي يَنبغي لنا أن نُعطيها، وَلا يُوجَدُ ذِكْرٌ في الكتابِ المقدَّسِ لِمَبلَغِ مُحَدَّدٍ يَنبغي لنا أن نُعطيه؛ بَل يَجِبُ علينا أن نُعطي حَسَبَ مَا لَدينا، وأنْ نُعطي بِقَدْرٍ مِنَ التَّضحية، وأن نُعطي طَوعًا. فَهَذا هُوَ مَا نُسَمِّيهِ "العَطاء الطَّوعِيّ".

بَعدَ أن قُلنا ذلك، انتقلنا إلى العهدِ القديمِ في المَرَّةِ السَّابقةِ لأنَّ العهدَ القديمَ يُوَضِّحُ نَوعَيْنِ مِنَ العَطاء: الأوَّلُ هُوَ العَطاءُ الإلزامِيُّ، والثَّاني هُوَ العَطاءُ الطَّوعِيّ. العَطاءُ الإلزامِيُّ، والعَطاءُ الطَّوعِيّ. والعَطاءُ الإلزامِيُّ هُوَ بِبَساطَة: ضَريبَة. فَقبلَ عَهْدِ مُوسَى، تَمَّ فَرْضُ العَطاءِ الإلزامِيِّ في مِصْر لِتَمويلِ الحُكومَةِ المَحليَّةِ استِعدادً لِمَجاعَةٍ قَادِمَة. وَكانتِ النِّسبَةُ هِيَ عِشرونَ بالمِئَة.

وفي عَهْدِ مُوسَى، أَوْصَى اللهُ بِدَفْعِ العُشور. وَكانَ أوَّلُ عُشْرٍ يُدْفَعُ للاَّوِيِّينَ لإدارَةِ شُؤونِ الأُمَّة. فَقد كانَ نِظامُ الحُكْمِ دِينيًّا، وَكانُوا هُم المُوَظَّفينَ الحُكومِيينَ إنْ صَحَّ التَّعبير. فَقد كانوا الأشخاصَ الَّذينَ يَقودونَ الأُمَّة. لِذا، كانَ أوَّلُ عُشْرٍ يُعطَى لِتَمويلِ اللاَّوِيِّين، أوْ لِدَفعِ رَواتِبِهم وتَأمينِ مَعيشَتِهم.

ثَانيًا، كانَ هُناكَ عُشْرٌ آخَر يُدفَعُ كُلَّ سَنة ويَنبغي لكُلِّ يَهودِيٍّ أن يَدفَعَهُ وَهُوَ عُشْرُ الأعياد. وَكانَ هَذا العُشْرُ يُعطَى لِتَمويلِ الاحتفالاتِ القَومِيَّةِ، والأعيادِ القَومِيَّةِ، والمُناسَباتِ والأعيادِ والاحتفالاتِ الدِّينيَّة الكبيرة. وفي كُلِّ سَنَةٍ ثَالِثَة، كَانَ هُناكَ ثُلْثٌ يَنبغي أن يُعطَى، وَهُوَ عُشْرُ الإعانَةِ الاجتِماعيَّةِ إذْ إنَّهُ كانَ مُخَصَّصًا للفُقراءِ والأرامِلِ واليَتامَى وَغَيرِهم.

لِذا، إنْ قَسَّمْتُم ذلكَ الثُّلْثَ إلى ثَلاثةِ أجزاء سيَكونُ حَاصِلُ القِسْمَةِ ثَلاثة وَثُلْث بالمِئَة كُلَّ سَنة تَقريبًا. إذًا، هُناكَ عَشْرَة بالمِئَة، ثُمَّ عَشْرَة بالمِئَة، ثُمَّ ثَلاثة بالمِئَة؛ أيْ ثَلاثة وعشرون بالمِئَة. وَكانُوا لا يَحْصُدونَ زَوايا الحَقْلِ، بَلْ يَتركونَهُ دُونَ حَصاد كَنوعٍ مِنَ المُشارَكَةِ في الأرباح. وَكانُوا أيضًا يَدفعونَ ضَريبةَ الهَيكلِ كُلَّ سَنة. لِذا فقد كانَ نَحوُ 25 بالمِئَة مِن دَخْلِ اليَهودِيِّ يُدفَعُ لِتَمويلِ الحُكومَةِ المَحليَّة. وَهَذا كُلُّهُ مُختصٌّ بالعُشور.

فَلَمْ يَكُن أيُّ يَهوديِّ يَدفَعُ 10 بالمِئَة، بَلْ كانَ يَدفَعُ 10 بالمِئَة، ثُمَّ 10 بالمِئَة، ثُمَّ 10 بالمِئَة كُلَّ ثَلاث سِنين. إذًا، إنْ أردتُم أن تَتحدَّثوا عَنِ العُشورِ فإنَّكُم تَتحدَّثونَ عَن تِلكَ النِّسبة، وتَتحدَّثونَ عَنْ تَمويلِ الحُكومَةِ المَحليَّة. أيْ أنَّكُم تَتحدَّثونَ عَن دَعْمِ الحُكْمِ الدِّينيّ. وَهذا كُلُّهُ ضَريبَة. والآن، عندما تَنظُرونَ إلى العهدِ القديمِ تَقرأونَ أيضًا عَنِ العَطاءِ الطَّوعِيّ؛ وَهُوَ عَطاءٌ مُختلِفٌ تَمامًا. فالعَطاءُ الطَّوعِيُّ كَانَ عَطاءً مِنَ القَلب، وطَوعِيًّا، واختيارِيًّا، وعَطاءً مُضَحِّيًا قَدْرَ مَا تَرغَبُ في إعطائِهِ وَوَقتَما تَرغبُ في إعطائِهِ. وَهُوَ عَطاءٌ سَخِيٌّ نَابِعٍ مِنَ امتِنانِكَ وَمَحَبَّتِكَ لله. وأنتَ تُعطي دَائِمًا الأفضَل، والبَاكُورَة، وتُعطي مِن كُلِّ قَلبِك. هَذا هُوَ مَا يُسَمِّيهِ العَهدُ القَديمُ عَطاءً طَوعِيًّا.

إذًا، لَقد رأينا في العهدِ القديمِ أنَّ العَطاءَ الإلزامِيَّ يَختصُّ بِتَمويلِ الحُكومَةِ المَحليَّةِ إذْ إنَّ الحُكومَةَ كَانَتْ مُعَيَّنَةً مِنَ اللهِ بِهَدَفِ الحِفاظِ على المُجتَمَع، وَلِمُكافأةِ مَن يَصنَعُ الخَيرَ ومُعاقَبَةِ مَن يَصنَعُ الشَّرّ. فاللهُ يُريدُ مِنَّا أن نَدعَمَ الحُكومَة. فَهِيَ تُدْعَمُ مِن قِبَلِ الشَّعب. وَنَحنُ مَا زِلنا نُطَبِّقُ هذا النِّظامَ المُختصَّ بالضَّريبَةِ اليَوم. أمَّا النَّوعُ الثَّاني مِنَ العَطاءِ فَكانَ عَطاءً طَوعِيًّا، وَهُوَ لله. لِذا فقد كانَ العَطاءُ للهِ عَطاءً طَوعِيًّا. هَذا هُوَ نَموذَجُ العهدِ القديم. وَقد تَحَدَّثنا عَنهُ بالتَّفصيل في المَرَّةِ السَّابِقَة.

والآن، لِنَطرَح السُّؤالَ التَّالي في هَذا الصَّباح: هَلْ نَموذَجُ العَطاءِ في العهدِ الجديدِ هُوَ نَفسُه؟ الجَواب: أجل. فَفي العهدِ الجديدِ، نَقرأُ مَرَّةً أخرى عَن نَوعَيْنِ مِنَ العَطاء، أو عَن طَريقَتَيْنِ نُعطِي فيها أموالَنا. النَّوعُ الأوَّلُ هُوَ أنْ نَدفَعَ ضَرائِبَنا، والنَّوعُ الثَّاني هُوَ أن نُعطي لله. والحَقيقةُ هِيَ أنَّ العهدَ الجديدَ واضِحٌ وَمُحَدَّدٌ إذا مَا قُورِنَ بالعَهدِ القَديم. فَلا يُوجَد فَرقٌ البَتَّة. فالتَّعليمُ عَن هَذينِ النَّوعينِ مِنَ العَطاءِ (أيِ العَطاءِ الإلزامِيِّ والعَطاءِ الطَّوعِيِّ) وَاضِحٌ في العهدِ الجديد.

والآن، اسمَحُوا لي أن أقولَ المُلاحَظَةَ التَّالية: أنا أعلَمُ أنَّ هذا المَوضوعَ جَديدٌ بالنِّسبةِ إلى بَعضٍ مِنكُم؛ وَلا سِيَّما أولئكَ الَّذينَ نَشأوا في كَنيسةٍ تُلِحُّ كَثيرًا في مَوضوعِ العُشورِ وتَقولُ إنَّهُ يَنبغي للمَسيحيِّينَ أن يُعطُوا 10 بالمِئَة لأنَّ هَذا هُوَ مَا كانَ اليَهودُ يُعطونَهُ. وأنا أَعلَمُ أنَّ هَذا هُوَ مَا يُعَلَّمُ غَالِبًا. ولكِنَّ الكتابَ المقدَّسَ لا يُعَلِّمُ ذلك. فالكِتابُ المُقَدَّسُ لا يُعَلِّمُ أنَّ اليَهودَ كانُوا يُعطونَ 10 بالمِئَة. وَكَما أَشَرْتُ، فإنَّهُ يُعَلِّمُ أنَّهُم كانُوا يُعطُونَ نَحوَ 25 بالمِئَة. وَهُمْ لم يَكونوا يَعطُونَ هذهِ النِّسبَةَ للهِ، بَل كانوا يُعطونَها للنِّظامِ الدِّينِيِّ أو للحُكومَة.

وكانَ يَنبغي إحضارُ المالِ إلى خِزانَةِ الهَيكَل. وكانَ عَدَمُ إحضارِها سَلْبًا لله (بِحَسَبِ مَا جَاءَ في سِفْر مَلاخي 3: 8)؛ أيْ سَلْبَهُ حَقَّهُ في العُشورِ والتَّقدِمات. وَكانَت تِلكَ ضَريبَة. وأنا أَعلمُ أنَّ هذا التَّعليمَ قَد يَكونُ جَديدًا على بَعضٍ مِنكُم، ولكنَّ هَذا هُوَ ما يُعَلِّمُهُ الكتابُ المقدَّسُ بِوضوح. وَهَذا هُوَ مَا عَلَّمْتُهُ على مَدى سَنواتٍ طَويلة جدًّا جدًّا جدًّا. وكُلُّ مَا في الأمر هُوَ أنَّنا لم نَتمكَّن مِن تَغطيةِ المَوضوعِ مُؤخَّرًا. ولكِنَّهُ مَا يُعَلِّمُهُ الكتابُ المقدَّسُ بِوضوحٍ (كَما رأيتُم في المَرَّةِ السَّابِقَة). وإن لم تَكونوا حَاضِرينَ في المَرَّةِ السَّابِقَة، احصُلوا على نُسخَةٍ مِنَ العِظَةِ المُسَجَّلَة لأنَّها سَتُساعِدُكم.

إذًا، لِنُتابِع ونَرى إنْ كانَ هَذا التَّعليمُ مَوجودًا في العهدِ الجديد. عِندما نَأتي إلى العهدِ الجديدِ نَجِدُ نَوعَيْنِ مِنَ العَطاء... نَوعَيْنِ فقط. فَهُناكَ العَطاءُ الإلزامِيُّ والعَطاءُ الطَّوعِيّ. وَما الَّذي يَقولُهُ العهدُ الجديدُ عنِ العَطاءِ الإلزامِيِّ أوَّلاً؟ مَا الَّذي يَقولُهُ العهدُ الجَديدُ عَن دَفعِ الضَّرائِب؟ وَهَل هذهِ مَسألةٌ يَتحدَّثُ عَنها العهدُ الجديد؟ الجَوابُ هُوَ أَجل - بِكُلِّ تَأكيد. وعندما تَأتونَ إلى العهدِ الجديدِ وتَأتونَ إلى الأناجيلِ، وتَقرأونَ عَن حَياةِ يَسوع، تُدرِكونَ أنَّ اليَهودَ كَانُوا ما زَالُوا يَعيشونَ في ظِلِّ نِظامٍ ثِيوقراطِيٍّ (أيْ دِينيّ).

فَقد كانَ لَديهم هَيكَل. وكانَ اللاَّوِيُّونَ يُديرونَ شُؤونَ الأُمَّةِ بِصورةٍ رَئيسيَّة. وكانَ الأشخاصُ الَّذينَ يَملِكونَ سُلطانًا سِياسِيًّا هُمْ رِجالُ الدِّين؛ أيِ الفَرِّيسيُّونَ وَالصَّدُّوقيُّون. وَكانَ هَؤلاءِ يُديرونَ جَميعَ مَجالاتِ الحَياةِ. لِذا فقد كانُوا يَحصُلونَ على الدَّعْمِ المَالِيِّ مِنْ نِظامِ الضَّرائِبِ الاعتيادِيِّ الَّذي كانَ مَا زَالَ قَائِمًا والَّذي جَاءَ بهِ مُوسَى. وَقد تَحدَّثنا عَن ذلك. فَقد كانَ يَنبغي للشَّعبِ أن يَدفعَ ضَرائِبَهُ مِن أجلِ إدارَةِ شُؤونِ الأُمَّة.

وكانَت أرضُ الهَيكَلِ نَفسِها مُحاطَةً بِساحَة. وَحَوْلَ سُورِ تِلكَ السَّاحَةِ، كانَ يُوجَدُ ثَلاثُ عَشْرَ وِعاءً على شَكْلِ أبواقٍ يَضَعُ فيها الشَّعبُ ضَرائِبَهُم. وَكانُوا حَريصينَ على القِيامِ بذلكَ بِحُكْمِ واجِبِهِم ومَسؤوليَّتِهم تُجاهَ الحُكومَة. لِذا فقد كانُوا يَدفعونَ الضَّرائِب. وَكانَ نِظامُ الضَّرائِبِ الَّذي جَاءَ بِهِ نُاموسُ مُوسَى مَا زَالَ قَائِمًا.

فَضلاً عَن ذلك، كَانُوا مُلْزَمينَ بِدَفعِ ضَرائِبَ أكثر لأنَّهُم كانُوا تَحتَ الاحتِلالِ الرُّومانيّ. فَقد جاءَ الرُّومانُ، كَما تَعلمونَ، واحتَلُّوا أرضَ إسرائيل، وَفَرَضُوا ضَرائبَ إضافيَّة على اليَهود؛ وَهِيَ ضَرائِب بَاهِظَة. وَكانَ اليَهودُ يَحتَقِرونَ تِلكَ الضَّريبَةَ ويَكرَهونَها. ولا شَكَّ في أنَّ هَذا كانَ سَبَبًا مِن أسبابِ عَداوَتِهم للرُّومان. وَقد أدَّى ذلكَ إلى ظُهورِ فِرْقَةٍ تُدعَى "الغَيورين" رَاحُوا يَطعَنونَ الرُّومانَ سِرًّا. فَقد كَانُوا [إنْ صَحَّ القَولُ] إرهَابِيِّين. لِذا فقد كانوا يَكرهونَ الضَّرائِبَ ويَحتقرونَها أكثرَ مِن أيِّ شَيءٍ آخر.

وَكانَ الرُّومانُ قد عَيَّنُوا أيضًا عَشَّارينَ مِنَ اليَهودِ لِجَبْيِ ضَرائِبِهم. وَكانَ هَؤلاءِ العَشَّارونَ يَجْبُونَ مَا فَرَضَتْهُ رُوما ويَحتفِظونَ أيَّ أموالٍ أخرى لأنفسِهم ويَضَعونَها في جُيوبِهم. لِذا فقد صَارُوا فَاسِدينَ لأنَّهُم كَانُوا يَأخُذونَ مِنَ الشَّعبِ مَا لَيسَ مِن حَقِّهم. لِذا، كانَ الشَّعبُ تَحتَ عِبْءٍ ثَقيلٍ بِسَببِ الضَّرائِبِ في أرضِ فِلَسطين.

وَكانَ هُناكَ مَن يَتوقَّعُ أن يَأتي يَسوعُ ويَقول: "يَجبُ عليكُم أن تَثورُوا على الضَّرائِب. ويَنبغي أن تَطعَنُوا كُلَّ هؤلاءِ العَشَّارينَ وأنْ تُطيحُوا بِنِيْرِ الضَّرائِبِ الرُّومانِيَّة"، إلخ، إلخ. ولكِنَّ يَسوعَ لم يَقُل يَومًا شَيئًا كَهذا لا مِن بَعيدٍ وَلا مِن قَريب، ولم يُعَلِّقِ البَتَّة على مَا إذا كانتِ الضَّرائِبُ شَيئًا عَادِلاً أَم ظَالِمًا، ولم يَتَدَخَّل البَتَّة في هذا الأمر. فَكُلُّ مَا عَلَّمَهُ هُوَ: "ادفَعُوا ضَرائِبَكُم". فَقد أَبْقَى على مَطْلَبِ العهدِ القديم.

فَمثلاً، استَمِعُوا إلى الكلماتِ التَّالية: "وَلَمَّا جَاءُوا إِلَى كَفْرَنَاحُومَ تَقَدَّمَ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ الدِّرْهَمَيْنِ إِلَى بُطْرُسَ وَقَالُوا: «أَمَا يُوفِي مُعَلِّمُكُمُ الدِّرْهَمَيْنِ؟»" – وَهُمْ يُشيرونَ هُنا إلى يَسوع. فَقد سَألوا بُطرس: "أَمَا يَدفَعُ يَسوعُ ضَرائِبَهُ؟" "قَالَ: «بَلَى»". وَهَذا مُهِمٌّ جدًّا. فَقد كانَ يَسوعُ يَدفَعُ ضَرائِبَهُ. وعنِدما دَخَلوا البيتَ في وَقتٍ لاحِقٍ، ابتدأَ يَسوعُ يُكَلِّم بُطرس. وَهُوَ يَقولُ لَهُ: "مِمَّنْ يَأْخُذُ مُلُوكُ الأَرْضِ الْجِبَايَةَ أَوِ الْجِزْيَةَ، أَمِنْ بَنِيهِمْ أَمْ مِنَ الأَجَانِبِ؟"

وَلا شَكَّ في أنَّ بُطرسَ أجابَ: "مِنَ الأَجَانِب" لأنَّ الجَميعَ كانُوا يَعرِفونَ أنَّهُ لا يُوجَد مَلِك يَفرِضُ الضَّرائِبَ على أبنائِه. فَهُم يَتَهَرَّبونَ مِن ذلكَ بِطريقةٍ مَا. فَلا يُوجَد مَلِكٌ يَفرِضُ الضَّرائِبَ على أبنائِه، بَل يَفرِضُها على مَن هُمْ خَارِجَ نِطاقِ عَائِلَتِه. وَما قَصَدَهُ يَسوعُ مِن زَاوِيَة هُوَ: "لا يَتَوَجَّبُ عَلَيَّ أن أدفعَ الضَّرائِبَ لأنَّ المَلِكَ الَّذي فَرَضَها هُوَ أبي. فَحيثُ إنِّي ابْنُ المَلِك، وبِصَراحَة يا بُطرس، أنتَ أيضًا ابنُ المَلِك، وَجَميعُ هَؤلاءِ التَّلاميذِ هُم أبناءُ المَلِك، لا يَتَوَجَّبُ علينا أن نَدفَعَ الضَّرائبَ الَّتي فَرَضَها المَلِك". وَهذا تَذكيرٌ جَيِّدٌ بأنَّ اللهَ هُوَ مَنْ فَرَضَ نِظامَ الضَّريبَة.

هَذا هُوَ تَمامًا مَا يُشيرُ إليهِ يَسوعُ هُنا. وَهُوَ يَقولُ نَظريًّا: بالمِعيارِ البَشريِّ، أنتُم لا تَتوقَّعونَ أنْ نَدفَعَ الضَّرائِبَ لأبينا الَّذي هُوَ رَأسُ كُلِّ حُكومَةٍ بَشريَّة. فَنحنُ نَقرأُ في رِسالةِ رُومية والأصحاح 13 أنَّ الحُكومَةَ مُعَيَّنَة مِنَ الله. ولكِنَّ يَسوعَ قَال: "وَلكِنْ لِئَلاَّ نُعْثِرَهُمُ..." - وَلكِنْ لِئَلاَّ نُعْثِرَهُمُ، يَنبغي لَنا أن نَدفعَ ضَرائِبَنا. وأنا أُحِبُّ كَيفَ فَعلَ ذلك. فَقد قَال: "اذْهَبْ إِلَى الْبَحْرِ وَأَلْقِ صِنَّارَةً، وَالسَّمَكَةُ الَّتِي تَطْلُعُ أَوَّلاً خُذْهَا، وَمَتَى فَتَحْتَ فَاهَا تَجِدْ إِسْتَارًا..." [في إنجيل مَتَّى 17: 24-27]، "...فَخُذْهُ وَأَعْطِهِمْ عَنِّي وَعَنْكَ". فَهَذا كَفيلٌ بِدَفْعِ ضَرائِبِنا يا بُطرس.

لَقد قالَ يَسوعُ إنَّهُ يَنبغي لَنا أن نَدفَعَ ضَرائِبَنا. ولكِنَّهُ كَانَ خَلاَّقًا في الحُصولِ على مَا يُريد. وَلو كانت هذهِ هي الطَّريقةُ الَّتي مَا زِلْنا نَدفَعُ مِن خِلالِها ضَرائِبَنا لَكانَتْ شَواطِئُ كاليفورنيا في الأوَّلِ مِن نَيْسان/إبريل مُكْتَظَّةً جدًّا. ولكِنَّ الأمرَ لا يَجري هَكذا الآن. والنُّقطةُ الجَوهريَّةُ هِيَ أنَّ يَسوعَ دَفَعَ ضَرائِبَهُ وَجَعَلَ بُطرسَ يَدفَعها أيضًا.

والمَغزَى مِن هذا المَقطعِ هُوَ ببساطَةٍ أنَّ يَسوعَ دَفَعَ ضَرائِبَهُ. وَهُناكَ مَقطعٌ آخر في إنجيل مَتَّى والأصحاحِ الثَّاني والعِشرين؛ وَهُوَ مَقطَعٌ مُدهِشٌ أيضًا في نَظري. فنحنُ نَقرأُ في الأعداد 15-22 مِن إنجيل مَتَّى والأصحاحِ الثَّاني والعِشرين: "حِينَئِذٍ ذَهَبَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَتَشَاوَرُوا لِكَيْ يَصْطَادُوهُ بِكَلِمَةٍ". فَقد كَانُوا يَحاولونَ دائمًا أن يَفعلوا ذلك؛ أيْ أن يَصْطادُوا يَسوعَ مِن خِلالِ كَلامِه. وَكانُوا يُحاولونَ دائِمًا أن يَفعلوا ذلكَ في مَكانٍ عَامٍّ لكي يَدينَ يَسوعُ نَفْسَهُ أمامَ النَّاس، ولكي يَسمَعَ النَّاسُ ذلكَ فَتَصدُرُ عَنهُم رَدَّةُ فِعْل تُؤدِّي إلى التَّخلُّصِ مِنه. وَقَد صَرَفُوا سَاعاتٍ كَثيرةً جدًّا في مُحاولةِ صِياغَةِ أسئلةٍ تُحَقِّقُ تِلكَ الغَايَة؛ ولكِنَّهُم لَم يَنجَحُوا قَطّ في ذلك. لِذا فقد جَاءوا وَحاوَلوا أن يَصْطَادُوه بِكَلِمَة.

"فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ تَلاَمِيذَهُمْ مَعَ الْهِيرُودُسِيِّين". إذًا، فَقد جَاءَ الفَرِّيسيُّون والهيرودُسِيُّون. وَهؤلاءِ هُمُ القَادَةُ الدِّينيُّون والقادَةُ السِّياسِيُّون. وَقَالوا لَهُ... وَهَذا تَنازُلٌ كَبيرٌ جدًّا مِنهُم: "يَا مُعَلِّمُ، نَعْلَمُ أَنَّكَ صَادِقٌ وَتُعَلِّمُ طَرِيقَ اللهِ بِالْحَقِّ، وَلاَ تُبَالِي بِأَحَدٍ". ويَنبغي أن تَعلَموا أنَّ هَذا الكَلامَ هُوَ رِياءٌ وَحَسْب وليس مِنَ القَلبِ البَتَّة. فَقد قَالوا: "نَحنُ نَعلمُ أنَّكَ تَعرِفُ كُلَّ الإجابات. "فَقُلْ لَنَا: مَاذَا تَظُنُّ؟ أَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ أَمْ لاَ؟" هَل يَجوزُ لَنا أن نَدفعَ ضَرائِبَنا الرُّومَانِيَّة أَم لا؟

والآن، إنْ قالَ يَسوعُ: "ادفَعُوا ضَرائِبَكُم الرُّومانِيَّة"، سَيَنْقَضُّ اليَهودُ عَليهِ حَالاً بِتُهمَةِ أنَّهُ عَميلٌ للرُّومان. وإنْ قَالَ "لا تَدفَعُوا ضَرائِبَكُم"، سَيُلاحِقُهُ الرُّومانُ بِتُهْمَةِ إثارَةِ الفِتَنِ وَخَرْقِ القَانون. لِذا، كانَ اليَهودُ وَاثِقينَ مِن أنَّهُم وَضَعوهُ بَينَ المِطرَقَةِ والسَّنْدَان. ويَقولُ النَّصُّ في إنجيل مَتَّى والأصحاحِ الثَّاني والعِشرينَ إنَّ يَسوعَ عَلِمَ خُبْثَهُمْ [أو شَرَّهُم] وَقَال: "لِمَاذَا تُجَرِّبُونَنِي يَا مُرَائينَ؟ أَرُونِي مُعَامَلَةَ الْجِزْيَة".

"فَقَدَّمُوا لَهُ دِينَارًا". وَهِيَ العِمْلَةُ الَّتي كَانَ الرُّومانُ يَستخدِمونَها لِتَحصيلِ الجِزْيَة؛ وَهِيَ ضَريبَةٌ يَنبغي لكُلِّ فَردٍ أن يَدفَعَها كُلَّ سَنَة. "فَقَالَ لَهُمْ: «لِمَنْ هذِهِ الصُّورَةُ وَالْكِتَابَةُ؟» قَالُوا لَهُ: «لِقَيْصَرَ»". فَقد كَانَ وَجْهُ قَيصَر مَطبوعًا على الّدِينار. "فَقَالَ لَهُمْ: «أَعْطُوا إِذًا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا للهِ للهِ»". وَهذهِ جُملةٌ مُهِمَّةٌ جدًّا. وَما قَصَدَهُ يَسوعُ هُوَ: ادفَعُوا ضَرائِبَكُم وَأعطُوا الله. فَقد كَانَ يَحُثُّهُم على الأمْرَيْنِ نَفسَيْهِما: أعْطُوا العَطاءَ الإلزامِيَّ [أيْ أعطوا قَيصرَ مَا يَطلُبُهُ قَيصَر]، وأعطُوا اللهَ مَا يَطلُبُهُ الله. "أَعْطُوا إِذًا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا للهِ للهِ. فَلَمَّا سَمِعُوا تَعَجَّبُوا وَتَرَكُوهُ وَمَضَوْا".

والآن، في إنجيل مَتَّى والأصحاحِ الثالثِ والعِشرين، نَجِدُ إشارةً أخرى إلى مَوضوعِ الضَّريبَةِ هَذا؛ أيْ مَوضوعِ العَطاءِ الإلزامِيّ. وبالمُناسَبَة، لَقَد وَصَفَ يَسوعُ الفَرِّيسيِّينَ بأنَّهُم مُراؤون خَامِسَ مَرَّةٍ في إنجيل مَتَّى 23: 23. وَهُوَ سَيَصِفُهُم بذلكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ أخرى. ولكِنْ في العَدد 23، قَالَ لَهُم: "لأَنَّكُمْ تُعَشِّرُونَ النَّعْنَعَ وَالشِّبِثَّ وَالْكَمُّونَ". وَهُوَ يَتحدَّثُ هُنا عَن أشياءٍ صَغيرةٍ كالبُذور. وَلَعَلَّكُم تَذكُرونَ أنَّهُم كَانُوا مُطالَبينَ في نَاموسِ مُوسَى أن يُعطُوا عُشْرَ كُلِّ حُبوبِهم؟ أَتَذكُرونَ ذلك؟

وَهُوَ يَقول: "أنتُم تَفعَلونَ ذلك. فأنتُم تُعطونَ عُشْرَ كُلِّ حُبوبِكُم. وأنتُم تُعطُونَ عُشْرًا للاَّوِيِّين، وللكَهَنَة. أنتُم تَفعلونَ ذلك". ثُمَّ إنَّهُ يَقول: "وَلَكِنَّكُم "تَرَكْتُمْ أَثْقَلَ النَّامُوسِ: الْحَقَّ وَالرَّحْمَةَ وَالإِيمَان". والآن، لاحِظُوا مَا يَلي: إنَّ يَسوعَ لَم يَنتَقِدهُم على إعطاءِ ذلكَ العُشْر، بَلِ الحَقيقة هِيَ أنَّهُ قَالَ ببساطَةٍ أنَّهُم كانُوا يَفعلونَ ذلك؛ أيْ أنَّهُ مَدَحَهُم على ذلك. "أنتُم تَفعلونَ ذلكَ بِالطَّريقةِ الصَّحيحَة؛ ولكِنَّ الشَّيءَ الَّذي لا تَفعلونَهُ بِالطَّريقةِ الصَّحيحَةِ أَهَمُّ بِكَثير". فَقد أَقَرَّ يَسوعُ بأنَّهُ مِنَ الصَّوابِ أن يَدفَعُوا الضَّريبَةَ على حُبوبِهم، ولكِنَّهُم كانُوا يَتجاهَلونَ الأشياءَ المُهِمَّةَ حَقًّا. وَهَذا هُوَ مَا جَعَلَهُ يَصِفُهم بأنَّهُم مُراؤون.

وَهُناكَ إشارَةٌ واحِدٌ أخرى للعُشورِ في الأناجيل... إشارة واحِدَة أخرى في إنجيل لُوقا والأصحاح 18. وَقَد كَانَ الفَرِّيسيُّونَ المُراؤونَ يَتَباهون. وَلَعَلَّكُم تَذكُرونَ أنَّ العَشَّارَ قَرَعَ عَلَى صَدْرِهِ قَائِلاً: "اللّهُمَّ ارْحَمْنِي، أَنَا الْخَاطِئَ". أمَّا الفَرِّيسِيُّ المُرائي فَكانَ يَتَباهَى قَائِلاً: "أَصُومُ مَرَّتَيْنِ فِي الأُسْبُوعِ، وَأُعَشِّرُ كُلَّ مَا أَقْتَنِيه". ولكِنَّ دَفعَ الضَّرائِبِ ليسَ شَيئًا تَتَباهَى بِهِ؛ بَلْ هُوَ شَيءٍ يَنبغي أن تَقومَ بِه. ولكِنَّهُ كانَ يُؤّكِّدُ أنَّهُ ما زَالَ يُعطي عُشورَهُ، أو يَدفَعَ ضَرائِبَهُ. ولا خَطأَ في ذلك. فلا يُوجَدُ أيُّ خَطأٍ في ذلك.

فَلا خَطأَ في الصَّوم. فالصَّومُ شَيءٌ صَائِبٌ أيضًا. والصَّلاةُ شَيءٌ صَائِب. ولكِنَّ الخَطأَ بشأنِ ذلكَ الرَّجُل هُوَ أنَّهُ كانَ يَفتَرِضُ أنَّهُ مِن خِلالِ قِيامِهِ بتلكَ الأشياءِ فإنَّهُ نَالَ الخَلاص. والآن اسمَعوني: بَعدَ الأناجيلِ الَّتي تُشيرُ إلى الضَّريبةِ في إسرائيلَ وَتَحتَ الاحتلالِ الرُّومانِيِّ، لا يُوجَد أيُّ ذِكْرٍ للعُشورِ باستثناءِ الآيةِ المَذكورةِ في الرِّسالةِ إلى العِبرانِيِّينَ والأصحاحِ السَّابع. وَلا حَاجَةَ إلى أنْ تَفتَحُوا عليها. ففي الرِّسالةِ إلى العِبرانِيِّينَ والأصحاحِ السَّابعِ، نَقرأُ جُملةً تَقولُ إنَّ إبراهيمَ أَعْطَى عُشْرًا لِمَلْكي صَادَق.

هَل تَذكُرونَ تِلكَ القِصَّة؟ أيْ كيفَ التَقى إبراهيمُ مَلْكِي صَادَق الَّذي كَانَ كَاهِنًا للهِ العَلِيِّ، وَكيفَ أنَّ إبراهيمَ رَجَعَ بَعدَ أنْ هَزَمَ المُلوكَ الخَمسةَ وأخذَ كُلَّ تِلكَ الغَنائِمِ والأشياءِ الَّتي حَصَلَ عَليها مِن تِلكَ المَعركةِ، وكيفَ أنَّ اللهَ نَصَرَهُ. وقد أرادَ أن يُعَبِّرَ عَن شُكرِهِ للهِ فَأعطَى عُشْرَ رَأسِ الغَنائِمِ [أيْ عُشْرَ أفضلِ شَيء] لِمَلْكي صَادَق؟

ففي الرِّسالةِ إلى العِبرانِيِّينَ والأصحاحِ السَّابع، هُناكَ إشارَةٌ خَاطِفَةٌ وَحَسْب إلى تِلكَ الحادِثَةِ التَّاريخيَّة. وَهيَ ليسَت وَصِيَّة، وليسَت أمرًا، وليسَت وَصايا للكَنيسة، بَل هِيَ بِبساطَةٍ سَرْدٌ لِشيءٍ حَدَثَ في العهدِ القديم. والكَاتِبُ يَستخدِمُها لِتَوضيحِ نُقطةٍ مُهِمَّةٍ جدًّا بِخُصوصِ كَهَنوتِ يَسوعَ المَسيح. فَالآيةُ لا صِلَةَ لَها بالعُشور، بَل إنَّ النُّقطةَ الَّتي يُوَضِّحُها تَختصُّ بِكَهنوتِ المَسيحِ الَّذي هُوَ كَاهِنٌ على رُتْبَةِ مَلْكي صَادَق.

لِذا، مَا بينَ ذِكْرِ الأناجيلِ للعُشورِ إشارةً إلى أنَّ اليَهودَ كَانُوا يُعطونَ جُزءًا مِن حُبوبِهم وكُلِّ تِلكَ الأشياء، وَذِكْرِ العُشْرِ في الرِّسالةِ إلى العِبرانِيِّينَ استِرجاعًا لِحادِثَةٍ تَاريخيَّةِ وَحَسْب، لا تُوجَد تَعليماتٌ بخصوصِ العُشور. فالكَنيسةُ لَم تُؤْمَرْ قَطّ بأنْ تُعطي عُشورًا. والمَسيحيُّونَ لم يُؤمَرُوا قَطَّ بأن يُعطُوا عُشورًا. لماذا؟ لأنَّ العُشورَ ليستَ عَطاءً لله، بَل هِيَ دَائِمًا مَاذا؟ ضَريبَة.

وَقد تَقول: "وَهل يَقولُ العهدُ الجديدُ أيَّ شَيءٍ عَنِ الضَّريبَة؟" أجل. فنحنُ نَقرأُ في رِسالة رُومية والأصحاح 13: "لِتَخْضَعْ كُلُّ نَفْسٍ لِلسَّلاَطِينِ الْفَائِقَةِ، لأَنَّهُ لَيْسَ سُلْطَانٌ إِلاَّ مِنَ اللهِ، وَالسَّلاَطِينُ الْكَائِنَةُ هِيَ مُرَتَّبَةٌ مِنَ اللهِ، حَتَّى إِنَّ مَنْ يُقَاوِمُ السُّلْطَانَ يُقَاوِمُ تَرْتِيبَ الله..." [أيِ الحُكومَة] "...فَإِنَّكُمْ لأَجْلِ هذَا تُوفُونَ الْجِزْيَةَ أَيْضًا، إِذْ هُمْ خُدَّامُ الله". أو كَما جَاءَ في التَّرجمةِ الأمريكيَّةِ القِياسيَّةِ الجَديدة: "ادفَعُوا الضَّرائِبَ لأنَّ الحُكَّامَ هُمْ خُدَّامُ الله".

فَاللهُ هُوَ الَّذي رَتَّبَ الحُكومات. لِذا، ادفَعُوا ضَرائِبَكُم لِدَعْمِ الحُكومَةِ المُرَتَّبَةِ مِنَ الله. "فَأَعْطُوا الْجَمِيعَ حُقُوقَهُمُ: الْجِزْيَةَ لِمَنْ لَهُ الْجِزْيَةُ. الْجِبَايَةَ لِمَنْ لَهُ الْجِبَايَةُ. وَالْخَوْفَ لِمَنْ لَهُ الْخَوْفُ. وَالإِكْرَامَ لِمَنْ لَهُ الإِكْرَامُ". ادفَعُوا ضَرائِبَكُم... ادفَعُوا ضَرائِبَكُم. هذا هُوَ العَطاءُ الإلزامِيّ. والعَهدُ الجَديدُ يُطالِبُ بذلك.

"فَاخْضَعُوا..." [في رِسالةِ بُطرسَ الأوَّلى 2: 13] "...لِكُلِّ تَرْتِيبٍ بَشَرِيٍّ مِنْ أَجْلِ الرَّبِّ. إِنْ كَانَ لِلْمَلِكِ فَكَمَنْ هُوَ فَوْقَ الْكُلِّ، أَوْ لِلْوُلاَةِ فَكَمُرْسَلِينَ مِنْهُ لِلانْتِقَامِ مِنْ فَاعِلِي الشَّرِّ، وَلِلْمَدْحِ لِفَاعِلِي الْخَيْر". ادفَعُوا ضَرائِبَكُم: ضَريبَةَ الوِلايَة، والضَّريبَةَ الفِدراليَّة، وضَريبَةَ المَبيعات، وضَريبَةَ المِيراث، وضَريبَةَ الأرباحِ الاستِثماريَّة، وأيَّ ضَريبَةٍ أخرى. ادفَعُوا ضَرائِبَكُم. هَذا هُوَ العَطاءُ الإلزامِيّ. وَيَجبُ عَلينا نَحنُ المَسيحيِّينَ أن نَكونَ أكثرَ أُناسٍ مُتَعاوِنينَ في هذا الأمر لأنَّنا لا نَخضَعُ فَقط للتَّعليماتِ الحُكوميَّة، بَل نَخضَعُ أيضًا للوَصَايا الإلهيَّة. هَذا هُوَ العَطاءُ الإلزامِيّ: ادفَعُوا ضَرائِبَكُم.

والآن، مَاذا عَنِ العَطاءِ الطَّوعِيّ؟ وَما الَّذي يَقولُهُ العهدُ الجديدُ عَنِ العَطاءِ الطَّوعِيّ؟ نّقرأُ إنَّ مِقدارَ العَطاءِ هُوَ أمرٌ يُقَرِّرُهُ كُلُّ فَردٍ بِنَفسِه. أَعْطِ قَدْرَ مَا تَشاء. انظروا إلى الأصحاحِ التَّاسعِ والعَددِ السَّادِسِ مِنَ الرِّسالةِ الثانيةِ إلى أهلِ كورِنثوس. فَإليكُم مَا ذُكِرَ عَنِ العَطاء: "هذَا وَإِنَّ مَنْ يَزْرَعُ بِالشُّحِّ فَبِالشُّحِّ أَيْضًا يَحْصُدُ، وَمَنْ يَزْرَعُ بِالْبَرَكَاتِ فَبِالْبَرَكَاتِ أَيْضًا يَحْصُدُ. كُلُّ وَاحِدٍ كَمَا يَنْوِي بِقَلْبِهِ". فأنتَ تُعطِي قَدْرَ مَا تَشاء عَالِمًا أنَّ مَا تَزْرَعْهُ إيَّاهُ تَحصُد. "أَعْطُوا تُعْطَوْا". ولا يُمكِنُكَ أن تَتفوَّقَ على اللهِ في العَطاء. وهذهِ كُلُّها مَبادِئ ذَكَرناها.

وَلا شَكَّ في أنَّ القِصَّةَ المَذكورةَ في إنجيل لُوقا والأصحاح 19 هِيَ أكثرُ قِصَّةٍ مُضحِكَةٍ في الكتابِ المقدَّس. وَهِيَ قِصَّةٌ عَن زَكَّا. وَهُوَ رَجُلٌ قَصيرُ القَامَةِ كَانَ رَئيسًا للعَشَّارين. فَهُوَ لم يَكُن مُجَرَّدَ عَشَّارٍ مَحَلِّيٍّ مِن أريحا، بَلْ كَانَ رَئيسًا للعَشَّارين. وإنْ كُنْتَ عَشَّارًا فإنَّها قُبْلَةُ المَوت. وَإنْ كُنتَ عَشَّارًا فإنَّكَ تَكونُ مَنبوذًا مِن شَعبِكَ، وَخائِنًا مِن أسوأِ نَوعٍ مِمكِن، ومُبْغَضًا مِن أبناءِ بَلَدِك لأنَّكَ تَجْبي الضَّرائِبَ للرُّومانِ وَتَزيد عَليها، ولأنَّكَ تَستَخدِمُ كُلَّ القُوَّةِ الرُّومانيَّةِ والسَّيفَ الرُّومانيَّ (إنِ اقتَضى الأمرُ ذلك) لِكَيْ تَسْلِبَ شَعبَك. وَقد جَمَعَ زَكَّا ثَروةً مِن خِلالِ جِبايَةِ ضَرائِبَ أكثرَ مِمَّا يَنبغي مِن شَعبِه.

وَكانَ زَكَّا فُضولِيًّا بِشأنِ يَسوع. وَقد سَمِعَ أنَّ يَسوعَ سَيَجتازُ البَلدةَ في أحدِ الأيَّام وأرادَ أن يَراه. لِذا فقد وَقَفَ في الطَّريقِ كَيْ يَراه، ولكِنَّ الحَشْدَ كَانَ كَبيرًا جدًّا، وَهُوَ قَصيرُ القَامَة. لِذا فقد صَعِدَ إلى شَجَرة. وَهَذا هَدْرٌ لِلكَرامَةِ والهَيْبَة؛ أيْ أن تَتَسَلَّقَ شَجرةً على الرَّغمِ مِن أنَّكَ رَئيسٌ للعَشَّارينَ، وأنْ تُحاوِلَ أنْ تُخفي نَفسَكَ عَن أعيُنِ النَّاسِ لِئَلاَّ يَراكَ الجَميع. لِذا، رُبَّما كَانَ يَختَبِئُ وَراءَ أوراقِ الشَّجَرةِ إنْ كانَ ذلكَ بِمَقدورِه.

"فَلَمَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى الْمَكَانِ، نَظَرَ إِلَى فَوْقُ فَرَآهُ، وَقَالَ لَهُ: «يَا زَكَّا، أَسْرِعْ وَانْزِلْ، لأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَمْكُثَ الْيَوْمَ فِي بَيْتِكَ»". يا لَها مِن صَدمَة! فَكُلُّ مَا أرادَهُ بِدافِعِ الفُضولِ هُوَ أن يَرى يَسوع. لِذا، فقد ذَهَبَ يَسوعُ إلى بيتِ زَكَّا. وَلَعَلَّكُم تَذكُرونَ أنَّهُم صَرَفُوا وَقتًا رَائِعًا. وَقد سَلَّمَ زَكَّا حَياتَهُ ليسوعَ المَسيحَ وَقَبِلَهُ رَبًّا وَمُخَلِّصًا. وَبعدَ ذلكَ مُباشَرةً، قَالَ مَا يَلي: "هَا أَنَا يَا رَبُّ أُعْطِي نِصْفَ أَمْوَالِي لِلْمَسَاكِين".

فَفي الحَال، أعطَى هَذا الرَّجُلُ المُؤمِنُ 50 بالمِئَة. وَهَذا هُوَ النَّوعُ المُفَضَّلُ لَدَيَّ مِنَ الأشخاصِ الَّذينَ يُعطُون. فَقد أعطَى 50 بالمِئَة بِسُرعة وفي اليَومِ نَفسِه. وأعتقدُ أنَّهُ كَانَ بإمكانِ يَسوعَ أن يَقول: "لا أعتقدُ أنَّكَ تَفهَم! نَحنُ مُطالَبونَ بِعَشرة بالمِئة فقط". ولكِنَّ يَسوعَ لم يَقُل ذلك. فَيسوعُ لم يُعطِهِ نِسبَةً مُعَيَّنةً، ولم يُقَيِّدْهُ البَتَّة، ولم يَقُل: "تَمَسَّك بالأربَعين بالمِئَة يا زَكَّا. فَهذا غَيرُ ضَرورِيّ". ولكِنَّ زَكَّا أعطَى 50 بالمِئَة مِن كُلِّ أموالِهِ. وَكانَ باستِطاعَةِ يَسوعَ أن يُوقِفَهُ؛ ولكِنَّهُ لم يَفعل لأنَّهُ إنْ فَعَلَ ذلكَ يَكونُ قَد حَرَمَ زَكَّا مِنَ الحُصولِ على البَرَكَةِ المَذكورةِ في المَبدأِ الَّذي يَقول: "مَنْ يَزْرَعُ بِالْبَرَكَاتِ فَبِالْبَرَكَاتِ أَيْضًا يَحْصُدُ".

ثُمَّ إنَّهُ يَتقدَّمُ خُطوةً أخرى فيقول: "وَإِنْ كُنْتُ قَدْ وَشَيْتُ بِأَحَدٍ أَرُدُّ أَرْبَعَةَ أَضْعَافٍ"؛ أيْ 400 بالمِئَة. فَسوفَ أرُدُّ ذلكَ أربعةَ أضعاف. والنُّقطةُ الجَوهريَّةُ هُنا هِيَ أنَّ العَطاءَ شَيءٌ طَوعِيّ. فَيُمكِنُكَ أن تُعطي مَا يَحِثُّكَ عليهِ قَلبُك. فَهُوَ عَطاءٌ نَابِعٌ مِنَ المَحبَّةِ والامتِنانِ لا مِنَ النَّاموس. وَهُوَ لا صِلَةَ لَهُ بالعُشورِ أو نِظامِ الضَّرائِب. والحَقيقةُ هِيَ أنَّ يَسوعَ هُوَ قُدوَتُنا في العَطاءِ في العهدِ الجديد إذْ نَقرأُ في العَددِ التَّاسِعِ مِن نَصِّنا (وَهُوَ النَّصُّ الَّذي سنَتأمَّلُ فيهِ في دَرْسِنا القَادِم): "فَإِنَّكُمْ تَعْرِفُونَ نِعْمَةَ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، أَنَّهُ مِنْ أَجْلِكُمُ افْتَقَرَ وَهُوَ غَنِيٌّ، لِكَيْ تَسْتَغْنُوا أَنْتُمْ بِفَقْرِه".

والآن، أريدُ أن أقولَ لَكُم شَيئًا: إن كُنتَ غَنِيًّا وصِرتَ فَقيرًا فإنَّكَ تُعطي أكثر مِن 10 بالمِئَة. فَقد أعطَى يَسوعُ كُلَّ شَيء لِكَي تَستَغنُوا بِفَقرِه. فَقد كانَ غَنِيًّا... لَقد كانَ غَنِيًّا. وَقدِ افْتَقَرَ لِكَيْ تَسْتَغْنُوا أَنْتُمْ بِفَقْرِه. ثُمَّ إنَّ الآبَ أعطاهُ كُلَّ شَيء. لِذا فقد صَارَ غَنِيًّا مَرَّةً أخرى. فَهذهِ هي الطَّريقةُ الَّتي يَعمَلُ بها الله. وَهذا هُوَ النَّموذَج. وَسوفَ نَتحدَّثُ أكثر عَن ذلكَ عندما نَتأمَّلُ في تِلكَ الآية.

لِذا فإنَّ تَحديدَ المَبلَغِ هُوَ أمرٌ يَخُصُّكَ أنتَ كَما تَنوي بِقلبِك، وَقَدْرَ مَا تُريدُ أن تُعطي، وَبِحَسَبِ مَا تُريدُ أن تُعطي مِن تِلقاءِ نَفسِكَ، وَبِسَخاء، وبِتَضحِيَة، وبِحَسَبِ طَاقَتِكَ. فهكذا يَنبغي لكَ أن تُعطي. والآن، لِنُلَخِّص ذَلِك: لَقد كانَ عَطاءُ المَكَدونِيِّينَ نَابِعًا مِنَ النِّعمَةِ، وَكانَ عَطاءً تَغَلَّبَ على ظُروفِهم الصَّعبة، وعَطاءً بِفَرَح، ولم يُعَرْقِلْهُ الفَقْر، وَعَطاءً سَخِيًّا، وبِحَسَبِ طَاقَتِهم، وَمُضَحِّيًا، وطَوعِيًّا. وَهكذا يَنبغي لَنا أن نُعطي.

والآن، أنا لم أُكمِل حَديثي بَعد، ولكِنَّنا سَنُنهي هَذا سَريعًا. اسمَعوني جيِّدًا: نَأتي إلى النُّقطةِ التَّاسِعَة: لَقد كانُوا يَنظُرونَ إلى العَطاءِ بِوَصْفِهِ امتِيازًا لا التِزامًا. لَقد كانُوا يَنظُرونَ إلى العَطاءِ بِوَصْفِهِ امتِيازًا لا التِزامًا. انظُروا إلى العَددِ الرَّابع. وَهذهِ حَقيقةٌ رَائِعَة. فَهُوَ يَقولُ عَنِ المَكَدونِيِّين: "مُلْتَمِسِينَ مِنَّا، بِطِلْبَةٍ كَثِيرَةٍ، أَنْ نَقْبَلَ النِّعْمَةَ وَشَرِكَةَ الْخِدْمَةِ الَّتِي لِلْقِدِّيسِين". وَهُناكَ بِضْعُ كَلِماتٍ رَائِعَة في تِلكَ الآيةِ تُوَضِّحُ لَنا النُّقطةَ الجَوهريَّة. "مُلْتَمِسينَ" – وَهِيَ كلمةٌ قَويَّةٌ جدًّا، وَكَلِمَةٌ تُشيرُ إلى التَّضَرُّعِ الشَّديد. وَهِيَ تُستخدَمُ في إنجيل لُوقا 8: 28 لِوَصْفِ الرَّجُلِ الَّذي فيهِ شَياطين إذْ إنَّهُ رَاحَ يَتَوَسَّلُ إلى يَسوع. وَهِيَ تُذْكَرُ مَرَّتَيْنِ هُناك إشارةً إليه.

وَهِيَ تُستخدَمُ في مَواضِع أخرى مِنَ العهد الجديد للتَّعبيرِ عَنِ التَّوَسُّلِ الشَّديد. لِذا فقد رَاحَ المَكَدونِيُّون يَرْجُونَ وَيَتَوسَّلون. وَكَما لو أنَّ ذلكَ لَم يَكُن كَافِيًا فإنَّهُ يُضيفُ قَائِلاً: "بِطِلْبَةٍ كَثِيرَةٍ"؛ وَهِيَ كَلِمَةُ تُشيرُ إلى الالتِماسِ؛ أيْ: "بإلحَاحٍ شَديد"، أو "بِإصرارٍ شَديد"، أو "بِتَضَرُّعٍ شَديد". وَهِيَ تَعني حَرفِيًّا أنَّهُم جَاءوا بِحَماسَةٍ وَرَاحُوا يَتَوَسَّلُونَ أنْ تُتاحَ لَهُم الفُرصة. وَمَا الَّذي تَوَسَّلُوا مِن أجلِه؟ "أَنْ نَقْبَلَ النِّعْمَةَ". والكلمةُ المُستخدَمَةُ هُنا هِيَ "كاريس" (charis) ومَعناها: "نِعْمَة". "أَنْ نَقْبَلَ النِّعْمَةَ وَشَرِكَةَ الْخِدْمَة". والكلمة "شَرِكَة" هُنا هِيَ "كوينونيا" (koinonia) ومَعناها: "شَرِكَة".

لِذا فقد رَاحَ هؤلاءِ المَكَدونِيِّينَ يَلتَمِسونَ مِنَ الرَّسولِ بولُس أن يُتِيْحَ لَهُم نِعْمَةَ المُشارَكَةِ مِن خِلالِ مُساعَدَةِ القِدِّيسين. هَل تَعلَمونَ مَا الَّذي فَعَلوه؟ لَقد رَاحُوا يَتَوَسَّلونَ لكي يُتاحَ لَهُم امْتيازَ العَطاءِ ("كاريس" – "charis")، ولكي يَنالُوا بَرَكَةً وَنِعمةً وَإحسانًا مِن خِلالِ مُشارَكَتِهم في مساعَدَةِ القِدِّيسين. والكلمة "مُساعَدَة" هِيَ "دياكونيا" (diakonia)؛ أيْ: خِدمَة القِدِّيسين.

فَقَد كانُوا يَنظُرونَ إلى العَطاءِ بِوَصفِهِ امتِيازًا، لا التِزامًا. وَكانُوا يَنظرونَ إلى العَطاءِ بِوَصفِهِ طَريقةً للتَّعبيرِ عَن سَخائِهم نَحوَ الشَّرِكَةِ، ومَحَبَّتِهم للإخوةِ والأخواتِ الَّذينَ لم يَلتَقوهُم يَومًا. وَكانُوا يَنظرونَ إلى العَطاءِ بِوَصفِهِ طَريقةً للاشتراكِ في الحَياةِ المُشتركَة. وَكانُوا يَنظرونَ إلى العَطاءِ بِوَصفِهِ طَريقةً للتَّعبيرِ عَنِ النِّعمَةِ والبَرَكَةِ والحُصولِ عليهما بالمُقابِلِ مِنَ الله. فالعطاءُ كَانَ طَريقةً لِدَعمِ الخِدمَة. لِذا فقد كانُوا يَلْتَمِسونَ أنْ تُتاحَ لَهُم الفُرصةُ للحُصولِ على تِلكَ البَرَكَةِ الشَّخصيَّةِ المُمَثَّلَةِ في سَدِّ حَاجاتِ القِدِّيسينَ الَّذينَ لم يَلتقوهُم يَومًا. وَقد فَعلوا ذلكَ لا لِشَيءٍ سِوى أنَّ قُلوبَهُم كانَت سَخِيَّة.

فَقد كَانُوا هَكَذا وَحَسْب. فَقد كانوا مَسيحيِّينَ أتقياء. والعَطاءُ هُوَ سُلوكُ المَسيحيِّينَ الأتقياء. فلا يُوجَد تَرَدُّد، وَلا تُوجَد مُقاوَمَة، ولا يُوجَد افتِقارٌ للفَرَح. فَقد كانوا مُستعدِّينَ للعَطاء، ومُتَحَمِّسينَ للعَطاء، وَقد أعطَوْا بِسُرور (كَما جَاءَ في الأصحاحِ التَّاسعِ والعَددِ السَّابِع) إذْ نَقرأُ أنَّ اللهَ يُحِبُّ المُعطِيَ المَسرورَ أوِ المُبتَهِج. ويُمكِنُكَ أن تَعلَمَ أنَّ قَلبَكَ مُستقيمٌ حينَ تُعطي عندما تَبَحَثُ عَن فُرَصٍ للعَطاء، وعندما تَكونُ مُتَشَوِّقًا للعَطاء، وعندما تَرى أنَّ العَطاءَ امتيازٌ، وعندما تَلْتَمِسُ فُرصَةً كَيْ تُعطي. هَذا هُوَ نَوعُ العَطاءِ النَّموذَجِيّ.

عَاشِرًا، كَانَ عَطاؤُهُم عَمَلَ عِبادَة. فَقد كانَ عَطاؤُهم جُزءًا مِن عِبادَتِهم إذْ نَقرأُ في العَددِ الخَامِس: "وَلَيْسَ..." – فَهُوَ يَقولُ: اسمَحُوا لي أن أقولَ لَكُم المَزيد. فأنا لَم أفرُغ بَعد. فَهُناكَ المَزيد بِخُصوصِ قُدوَتِهم. وَهَذا أمرٌ آخر. فهذهِ حَقيقةٌ أخرى عَن عَطائِهم: فَضْلاً عَن أيِّ شَيءٍ آخر، اعلَمُوا أنَّنا لم نَكُن نَتوقَّعُ مَا فَعَلوه: "وَلَيْسَ كَمَا رَجَوْنَا، بَلْ أَعْطَوْا أَنْفُسَهُمْ أَوَّلاً لِلرَّبِّ". سَوفَ نَتوقَّفُ هُنا قَليلاً. فَهُوَ يَقولُ: لم يَكُن بِمَقدورِنا أن نَطلُبَ هَذا. فَقد فَاقَ عَطاؤُهم مَا رَجَوْناهُ، وَفاقَ تَوقُّعَنا، وَفاقَ مَا انتَظرناهُ مِنهم. لماذا؟ لأنَّهُم "أَعْطَوْا أَنْفُسَهُمْ أَوَّلاً".

بِعبارةٍ أخرى، لَقد كانَ تَكريسًا كَامِلاً. فَقد كُنَّا نَرجُو عَطاءً، ولكِنَّهُم أعْطَوْا أنفسَهُم. اسمَعوني: عندما أعْطَوْا أنفسَهُم، أعطَوْا كُلَّ شَيءٍ لَديهم. فَقد جَعَلُوا كُلَّ شَيءٍ تَحتَ التَّصَرُّف، وَجَعَلوا كُلَّ شَيءٍ مُتوفِّرًا، وجَعلُوا كُلَّ شَيءٍ مُتاحًا لأنَّهُ عندما تُعطي نَفسَكَ فإنَّ كُلَّ شَيءٍ لَديكَ يَأتي مَعَ العَطاء. "بَلْ أَعْطَوْا أَنْفُسَهُمْ أَوَّلاً". والكلمة "أوَّلاً" لا تَعني الأوَّلَ زَمَنِيًّا، بَلِ الأوَّلَ مِن جِهَةِ الأولويَّات. فالكلمةُ "بروتون" (proton) المُتَرجَمَة "أولاً" تَعني: "الأَهَمّ". فَقد كانَت أولويَّتُهم الأولى، أو المَسألةُ الأهَمُّ لَديهم هِيَ أن يُعطُوا أنفسَهُم للرَّبّ.

وَيا أحبَّائي، هَذهِ هِيَ أَسْمَى عِبادَة. أليسَ كذلك؟ فهذهِ أَسْمَى عِبادَة: أنْ تُعطي نَفسَك. افتَحُوا مَعي على رِسالة رُومية والأصحاحِ الثَّاني عَشَر لأنَّهُ يُوجَدُ هُناكَ نَصٌّ مُهِمٌّ جدًّا يُعَلِّمُ مَا يَلي. فَنحنُ نَقرأُ في رِسالة رُومية 12: 1-2: "فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ بِرَأْفَةِ اللهِ أَنْ تُقَدِّمُوا أَجْسَادَكُمْ ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً...". والكلمة "أجسادَكُم" تُشيرُ إلى كُلِّ كِيانِكُم بِكُلِّ تَأكيد. "أَنْ تُقَدِّمُوا أَجْسَادَكُمْ ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ، عِبَادَتَكُمُ الْعَقْلِيَّة".

صَحيحٌ أنَّنا نَعبُدُ اللهَ يَومَ الأحَد، وَأنَّ اللهَ يُسَرُّ بذلك. وَصَحيحٌ أنَّنا نَعبُدُهُ عندما نُسَبِّحُهُ، وأنَّ اللهُ يُسَرُّ بذلك. ولكِنَّنا نَعْبُدُ اللهَ في المَقامِ الأوَّلِ عِندما نُقَدِّمُ أنفسَنا ذَبيحَةً... عِندَما نُقَدِّمُ أنفسَنا [أيْ كُلَّ كِيانِنا، وَكُلِّ مَا نَملِك، وكُلَّ مَا نَصْبُوا إليه، دُونَ قَيْدٍ أو شَرْطٍ] إليه. وَهَذا هُوَ مَا فَعَلَهُ المَكَدونِيُّون. وَهَذا هُوَ مَا تَدعونا إليهِ الآية رُومية 12: 1: أنْ نُقَدِّمَ أنفُسَنا ذَبيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً".

بِعبارةٍ أخرى، يَجِبُ علينا أن نَضَعَ أنفسَنا على المَذبَحِ ونَقول: "يا رَبّ، أنا أُعطي الكُلَّ لَك. فأنا أُعطي كُلَّ كِياني، وكُلَّ مَا أَمْلِك، وكُلَّ مَا أَصْبُو إليه". فهذهِ هِيَ الذَّبيحَة. وَهَذِهِ هِيَ عِبادَتُنا العَقليَّة. وَمِن هُنا تَبتَدِئُ العِبادَة. وَحالَما تُقَدِّمُ نَفسَكَ ذَبيحَةً، وتُقَدِّمُ كُلَّ كِيانِكَ وَكُلَّ مَا تَمْلِك ذَبيحَةً، سَتُعطي كُلَّ شَيءٍ آخر. وعندما تَقولُ: "يا رَبّ، أنا مِلْكُكَ. يا رَبّ، أنا كُلِّي لَكَ. أنا لَكَ بِجُملَتي. وَكُلُّ مَا أَمْلِكُ هُوَ لَك"، حِينئذٍ تَصيرُ مُشابِهًا للمَكِدونِيِّين. فَعندما تَفعلُ ذلكَ تَكونُ قَد عَبَدْتَ اللهَ حَقًّا.

وأنا أَرى أنَّ هَذا الأمرَ في حَياتي ليسَ شَيئًا أفعُلُهُ مَرَّةً فقط. فَأنتَ تَفعلُ ذلكَ المَرَّةَ تِلوَ المَرَّةِ تِلوَ المَرَّة لأنَّهُ كَما قَالَ أحدُ الأشخاص: "مَا إنْ تَضَعَ نَفسَكَ على المَذبَحِ حَتَّى تَضَعَ نَفسَكَ عليهِ مَرَّةً أخرى". وَقَد أعطى هَؤلاءِ المَكَدونِيِّين أنفُسَهُم أوَّلاً، ثُمَّ أعْطَوْا كُلَّ شَيءٍ آخر. وَهَذا أَسْمَى شَكْلٍ مِن أشكالِ العِبادَة. وَنَقرأُ في العَددِ الثَّاني أنَّهُم لَمْ يُشاكِلُوا هَذا الدَّهْر. فَلا يُمكِنُكَ أن تَكونَ غَارِقًا في العَالَمِ المَادِّيِّ وَتَفعل هَذا، وَلا يُمكِنُكَ أن تَكونَ مُنْهَمِكًا في شَهْوَةِ الجَسَدِ وَشَهْوَةِ العَيْنِ وَتَعَظُّمِ المَعيشةِ وَتَفعل هَذا؛ بَل يَنبغي أن تَتَغَيَّرَ بِتَجديدِ ذِهنِك.

فَيَنبغي أن تُفَكِّرَ بطريقةٍ أخرى في العَالَم. ويَنبغي أنْ تَتَمَثَّلَ بِذِهْنِ المَسيح. ويَنبغي أنْ تَهْتَمَّ بِمَا فَوْقُ لاَ بِمَا عَلَى الأَرْض. فَحينئذٍ فقط يُمكِنُكَ أن تَعرِفَ مَشيئةِ اللهِ وأنْ يَكونُ مَا تَفعلُهُ حَسَنًا وَمُسِرًّا وَكامِلاً. فَالشَّيءُ الَّذي يُرضِي اللهَ هُوَ أن تُقَدِّمَ نَفسَكَ ذَبيحَةً لَهُ بالكامِل. فَنَحنُ كَهَنوتٌ مُلوكِيٌّ (كَما جَاءَ في رِسالةِ بُطرسَ الأولى والأصحاحِ الثَّاني) وَنُقَدِّمُ ذَبائِحَ مُقَدَّسَة. وَأوَّلُ ذَبيحَةٍ هِيَ أنفُسُنا وَكُلُّ مَا نَملِك. وَقد فَعَلوا ذلك.

وَقد تَطَلَّبَ ذلكَ أَلاَّ يُشاكِلُوا العَالَم. وَقد تَطَلَّبَ ذلكَ أنْ يُغَيِّرُوا ذِهْنَهُم وَيُفَكِّروا تَفكيرًا إلهيًّا تَقِيًّا، وَأنْ يَرفُضُوا العَالَمَ، وَأنْ يَقبَلُوا فِكْرَ المَسيحِ، وَأن يُكَرِّسُوا أنفسَهُم لِعَمَلِ مَشيئَتِهِ، وتَتْميمِ خُطَطِهِ ومَقاصِدِهِ وَمَا يَسُرُّهُ. وَهَذا هُوَ تَمامًا مَا فَعَلَهُ المَكَدونِيُّون. فَقد أعْطَوْا الكُلَّ. فَالكُلُّ للرَّبِّ، وَهُمْ وُكلاء على كُلِّ شَيءٍ يَمْلِكونَهُ وَيَقْتَنونَهُ. وَقد أدَّى ذلكَ إلى عَطاءٍ سَخِيٍّ وَمُضَحٍّ.

النُّقطَةُ الحَادِيَةَ عَشْرَة: كانَ عَطاؤُهم مُنْسَجِمًا مَعَ خُضوعِهِم لِرُعاتِهِم. فَسوفَ تُلاحِظونَ أنَّهُ تُوجَدُ في نِهايةِ الآيَةِ عِبارَةٌ مُهِمَّةٌ جدًّا. إنَّها تِلكَ العِبارَة الَّتي تَقول: "بِمَشِيئَةِ الله" (في نِهايةِ العَددِ الخَامِس). فَمَشيئَةُ اللهِ هِيَ الَّتي دَفَعتهُم إلى إعطاءِ أنفسِهم للرَّبِّ أوَّلاً، وَلَنا "بِمَشيئةِ الله". فَقد أعْطَوْا أنفسَهُم لا للرَّبِّ فَقَط، بَلْ إنَّ بُولسَ يَقولُ إنَّهُم أعْطَوْا أنفسَهُم لَنا؛ أيْ للرَّسولِ بولُس، وَتيطُس، وتِيموثاوس؛ أيْ لِرُعاتِهم وَقادَتِهم الرُّوحيِّين. فَقد كَانُوا خَاضِعينَ لَهُم.

والحَقيقةُ هِيَ أنَّ تَكريسَهُم للرَّبِّ (أيْ تَكريسَ هَؤلاءِ المَكَدونِيِّين) قَادَهُمْ... لَقد قَادَهُمْ تَكريسُهُم للرَّبِّ إلى الخُضوعِ بِيُسْرٍ وَحَماسَةٍ لقِيادَةِ رُعاتِهم. فَقد أدرَكُوا أنَّ هؤلاءِ الرِّجالَ كانوا تَحتَ رِعايَةِ المَسيح، وَأنَّهُم يُمَثِّلونَ المَسيحَ في تَقديمِ الإرشادِ والقِيادَةِ للكَنيسة. لِذا فقد تَجاوَبُوا مَعَ قَادَتِهم. فاللهُ يُريدُ مِن شَعبِهِ أن يَتجاوَبَ لا مَعَهُ فَقَط، بَل مَعَ قَادَتِهِ أيضًا. وَهَذا وَاضِحٌ جدًّا. أليسَ كذلك؟

فَنحنُ نَقرأُ في رِسالةِ بُطرسَ الأولى 5: 5: "اخْضَعُوا لِرُعاتِكُم [أو لِلشُّيُوخ]". وَنَقرأُ الكلماتِ نَفسِها تَقريبًا في نِهايةِ الرِّسالةِ إلى العِبرانِيِّين 13: 17: "أَطِيعُوا مُرْشِدِيكُمْ وَاخْضَعُوا [لَهُم]". وَنَقرأُ الكَلماتِ نَفسِها تَقريبًا في الرِّسالةِ الأولى إلى أهلِ تَسالونيكي 5: 12-13؛ أيْ أنَّهُ يَنبغي لكُم "أَنْ تَعْرِفُوا الَّذِينَ يَتْعَبُونَ بَيْنَكُمْ وَيُدَبِّرُونَكُمْ فِي الرَّبّ". وَقد كانَ المَكَدونِيُّونَ هَكذا.

فَعندما أَخبرَهُم الرَّسولُ بولُس عن هذهِ المَسألة، تَجاوَبُوا. وَلا يَهُمُّنا مِن أينَ سَمِعُوا عَن ذلك... فأنا لا أدري مِن أينَ سَمِعُوا عَن ذلك، ولا أدري إنْ كَانُوا قَد سَمِعُوا عَن ذلكَ مِن بُولُس، أو مِن تيموثاوس، أو مِن تِيطُس! ولكِنَّهُم تَجاوَبُوا. وعندما سَمِعُوا المَزيدَ تَجاوَبُوا مَرَّةً أخرى. فَقد كانُوا خَاضِعينَ لِقادَتِهم. وَهَذِهِ هِيَ مَشيئةُ الله.

وَحَولَ نَفسِ هَذِهِ النُّقطة، انظُروا إلى العَددِ السَّادِس: "حَتَّى إِنَّنَا طَلَبْنَا..." – أيْ: استِنادًا إلى مِثالِ المَكَدونِيِّين. استِنادًا إلى المِثالِ الرَّائِعِ للمَكدونِيِّينَ وَخُضوعِهم، "طَلَبْنا مِنْ تِيطُسَ أَنَّهُ كَمَا سَبَقَ فَابْتَدَأَ، كَذلِكَ يُتَمِّمُ لَكُمْ هذِهِ النِّعْمَةَ أَيْضًا". فَفي وَقتٍ مَا في المَاضي، كَانَ تِيطُس قَد زَارَ كورِنثوس. وَقد شَجَّعَهُم تِيطُس مَبدئيًّا على الابتِداءِ بِجَمْعِ التَّبَرُّعات. وَقد حَدَثَ ذلكَ قَبلَ أكثر مِنْ سَنَة؛ أيْ قَبلَ كِتابَةِ هذهِ الرِّسالة.

إذًا، لَقد مَضَى أكثر مِن سَنَة على إخبارِهم بخصوصِ هذا الأمر، وقدِ ابتدأوا في ذلك. وَلَعَلَّكُم تَذكُرونَ الآنَ أنَّ تِيْطُس كانَ قد عَادَ مُؤخَّرًا لزيارَتِهم مَرَّةً ثَانِيَة وَحَمَلَ مَعَهُ تِلكَ الرِّسالةَ الصَّارِمَةَ [وَهِيَ رِسالة غَير مَوجودَة في أسفارِ العهدِ الجديد] لِمُواجَهَتِهم. وَفي تِلكَ الزِّيارةِ الثَّانية، كانتِ التَّعليماتُ المُعطاةُ لِتيطُس [بِحَسَبِ مَا جَاءَ في هذه الآية] تَنُصُّ على إخبارِهِم بإكمالِ العَملِ الَّذي ابتدأوهُ في مَسألةِ العَطاء. لِذا فَقَد سَمِعوا ذلكَ مَرَّةً مِن تِيطُس. ثُمَّ إنَّ بُولسَ كَتَبَ [رُبَّما بَعدَ زِيارةِ تِيطُس الأولى] رِسالَتَهُ الأولى إلى أهلِ كورِنثوس وأشارَ فيها إلى العَطاءِ في الأصحاحِ السَّادس عَشَر.

ثُمَّ بعدَ رِسالَتِهِ الأولى إلى أهلِ كورِنثوس، أرسَلَ تِيطُس حَامِلاً رِسالةً أخرى. وَقد ذَكَرَ تِيطُس مَوضوعَ العَطاءِ مَرَّةً أخرى. وَقد عادَ تِيطُس وَقَدَّمَ تَقريرًا جَيِّدًا. والآن، هَا هُوَ بولُسُ يَكتُبُ إليهِم رِسالَتَهُ الثَّانيةَ إلى أهلِ كورِنثوس ويَذكُرُ فيها مَرَّةً أخرى مَوضوعَ العَطاءِ، ويُشَجِّعُهم على إتمامِ ذلك. وَكُلُّ هَذا يُشيرُ بِبَساطَةٍ إلى حَقيقةِ أنَّ هَؤلاءِ الرُّعاةَ، الَّذينَ كَانُوا قَادَتَهُم ومَسئولينَ عَن إرشادِهم، كَانُوا يُخبِروهُم عَمَّا يَنبغي لَهُم أن يَفعَلوه. وَكانَ اللهُ يَتوقَّعُ مِنهُم أن يَتجاوَبُوا. وَكذلكَ هِيَ حَالُ هؤلاءِ الرِّجالِ أيضًا.

وَلَعَلَّكُم تَذكُرونَ أنِّي قُلتُ لَكُم أنَّهُ يَقولُ في رِسالَتِهِ الأولى إلى أهلِ كورِنثوسَ والأصحاحِ السادِس عَشَر: "وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْجَمْعِ... فِي كُلِّ أَوَّلِ أُسْبُوعٍ، لِيَضَعْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عِنْدَهُ، خَازِنًا مَا تَيَسَّرَ"؛ أيْ: أريدُ مِنكُم أن تَضَعُوا ذلكَ المَالَ جَانِبًا حَتَّى لا تَنهَمِكُوا في جَمْعِ مَبلَغٍ كَبيرٍ عندما آتي إلى هُناك. وَقدِ ابتدأوا في العَطاء. وَقد مَرَّتْ سَنَة تَقريبًا على تِلكَ التَّعليماتِ الأصليَّةِ وعلى ابتِداءِ عَطائِهم. ثُمَّ إنَّ العَطاءَ تَوقَّف. وَلَعَلَّكُم تَذكُرونَ أنِّي قُلتُ لَكُم ذلك. فَقدِ ابتدأوا في العَطاءِ ثُمَّ تَوقَّفَ العَطاءُ بِسَببِ تَمَرُّدِهم وعِصيانِهم، وَبِسَببِ المُعَلِّمينَ الكَذَبَةِ، والتَّمَرُّدِ على بُولُسَ، وكُلِّ تِلكَ الأمور. فَقد تَمَزَّقَتِ الكَنيسةُ وَتَوقَّفَ العَطاء.

أمَّا الآن فَقد عَادَ تِيطُس. وَقد حَمَلَ مَعَهُ تِلكَ الرِّسالةَ الصَّارِمَة. وَقد حَثَّهُم على إصلاحِ عَلاقَتِهم بِالرَّسول. وَقد أخبرَهُم أن يَبتَدِئوا في العَطاء. وَقد تَمَّ إصلاحُ العَلاقَةِ الآن. وَبُولُسُ يُريدُ أن يُرَكِّزَ مِن جَديد على العَطاء. فَبِسَبَبِ المُصالَحَةِ وإصلاحِ العَلاقَة، يَشعُرُ بُولُسُ بالحُريَّةِ الآن. وَمَعَ أنَّ العَلاقَةَ مَا تَزالُ [بِصَراحَة] هَشَّة، كَما سَنَرى في أصحاحاتٍ لاحِقَة، فإنَّهُ يُريدُ أن يُؤكِّدَ سُلطانَهُ الرَّسولِيَّ عَليهِم، وَضَرورةَ أن يَحْذُوا حَذْوَ المَكَدونِيِّينَ ويَستَمِرُّوا في العَطاء. ارجِعُوا إلى المَسارِ الصَّحيحِ في عَطائِكُم.

وَهُناكَ مُلاحَظةٌ هُنا: عندما يُصابُ المُؤمِنونَ في الكَنيسةِ بِخَيبَةِ أَمَلٍ تُجاهَ قَادَتِهم فإنَّ عَطاءَهُم يَتراجَع. وَقد حَدَثَ ذلكَ في كورِنثوس، وَهُوَ يَحدُثُ اليَوم. وَهُوَ يَحدُثُ دَائِمًا. وَقد حَدَثَ ذلكَ في كَنيسَتِنا عندما نَشَرَ أُناسٌ أكاذيبَ وإشاعاتٍ وأمورًا غَيرَ صَحيحَة عَنِ القَادَةِ في هذهِ الكَنيسة. وَقد أثَّرَ هَذا الأمرُ تَأثيرًا مُباشِرًا في عَطاءِ النَّاسِ لأنَّهُ عِندما يَشعُرونَ بالتَّشويشِ والارتِباكِ، أو الفَوضَى، أوِ القَلَقِ، أوْ عَدَمِ الثِّقَة في القَادَةِ فإنَّهُم يَتوقَّفونَ عَنِ السَّخاء.

وَالنَّاسُ المَوجودونَ في كَنائِسَ مِن هَذا النَّوعِ الَّذي يَفْتَقِرُ فيهِ القَادَةُ إلى الأمانَة، هُمْ أُناسٌ يُلاقُونَ صُعوبَةً كَبيرةً في العَطاءِ كَما يَنبغي. ونَحنُ نَشكُرُ الرَّبَّ على القَادَةِ الأُمناء في هذهِ الكنيسة، وعلى النَّاسِ الجَديرينَ بالثِّقَة، وعلى ثِقَتِكُم الوَاضِحَةِ مِن خِلالِ نِعْمَةِ العَطاءِ الَّتي نَراها ظَاهِرَةً دَائِمًا فيكُم.

إذًا، لِنَعُد إلى العَددِ السَّادس: "حَتَّى إِنَّنَا طَلَبْنَا مِنْ تِيطُسَ أَنَّهُ كَمَا سَبَقَ فَابْتَدَأَ، كَذلِكَ يُتَمِّمُ لَكُمْ هذِهِ النِّعْمَةَ أَيْضًا". فَقد كانَ الأمرُ كُلُّهُ قَائِمًا على النِّعمَة. وأنا أُحِبُّ حَقيقةَ أنَّهُ يُسَمِّي ذلكَ عَمَلَ نِعْمَة. فَنِعمةُ اللهِ هِيَ الَّتي أعطتهُم امتيازَ العَطاءِ بِسَخاء. فَهذا عَمَلُ نِعمَة. وأنتُم تُظْهِرونَ نِعمَةً تُجاهَ هؤلاءِ القِدِّيسينَ الفُقراء. وَسَوفَ يَملأُ اللهُ كَأسَ نِعمَتِكُم الفَارِغ. وَسوفَ يُعطيكُمُ اللهُ نِعمَةً فَوقَ نِعمَة فَوقَ نِعمَة.

وَأودُّ أن أقولَ إنَّ أي رَاعي كَنيسة يَقودُ رَعِيَّتَهُ إلى العَطاءِ إنَّما يَقودُهُم إلى اختبارِ النِّعمَة. فَنِعمَةُ اللهِ هِيَ الَّتي تَحْفِزُهُم على العَطاء. فَنِعْمَةُ اللهِ هِيَ السَّبَبُ في العَطاء. واللهُ هُوَ الَّذي يُدَبِّرُ كُلَّ شَيءٍ بِنِعمَتِه. وَأنتُم إنَّما تَحصُلونَ على نِعمَةٍ فَوقَ نِعمَة فَوقَ نِعمَة. فعندما تُعَلِّمونَ النَّاسَ أن يُعطُوا فإنَّكُم لا تُفْقِروهُم، بَل تُغنُوهُم بِنَعْمَةٍ فَوقَ نِعمَة. لِذا فإنَّهُ يَقول: "لَقد أرسَلْنا تِيطُسَ لِكَيْ يُكْمِلَ فيكُم عَملَ النِّعمَةِ هَذا أيضًا عَلى غِرارِ ذلكَ العَمَلِ الَّذي اكتَمَلَ بينَ المَكَدونِيِّين. وَقد تَجاوَبُوا. فَقد تَبِعَ المَكَدونِيُّونَ قادَتَهُم. وَهَذا هُوَ المِثالُ الَّذي أريدُ مِنكُم أن تَتبَعوه".

النُّقطةُ الثَّانية عَشْرَة: كَانَ العَطاءُ مُنسَجِمًا مَعَ فَضائِلِهمِ المَسيحيَّةِ الأخرى. كَانَ العَطاءُ مُنسَجِمًا مَعَ فَضائِلِهمِ المَسيحيَّةِ الأخرى. فَهُوَ يَقولُ في العَددِ السَّابع: "لكِنْ كَمَا تَزْدَادُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ: فِي الإِيمَانِ وَالْكَلاَمِ وَالْعِلْمِ وَكُلِّ اجْتِهَادٍ وَمَحَبَّتِكُمْ لَنَا، لَيْتَكُمْ تَزْدَادُونَ فِي هذِهِ النِّعْمَةِ أَيْضًا". فَهُوَ لَيسَ عَطاءً في الفَراغ. وَهُوَ ليسَ عَطاءً في عُزلَة. وَهُوَ ليسَ عَطاءً مُناقِضًا لِما تَشعُرونَ بِهِ في قُلوبِكُم. بَلْ إنَّ هَذا النَّوعَ مِنَ العَطاءِ مُنسَجِمٌ تَمامًا مَعَ الفَضائِلِ المَسيحيَّةِ الأخرى. فَإنْ أرَيتُموني قَلبًا مُمتلئًا بالإيمانِ والكَلامِ والعِلمِ والاجتِهادِ والمَحبَّةِ، أُريكُم قَلبًا سَخِيًّا. فَالأمرانِ وِثيقا الصِّلَةِ أَحَدُهُما بالآخر. وَهُما غَيرُ مُنفَصِلَيْن.

وَهُوَ يَقولُ: "لكِنْ كَمَا تَزْدَادُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ" – وَهذهِ عِبارَةٌ تَنْطَوي على مَدْحٍ كَبيرٍ لهؤلاءِ الكورِنثيِّينَ المُتَذبذِبين. ولكِنَّهُ كَانَ قَد قالَ في الأصحاحِ الأوَّلِ والعَددِ الرَّابع... كَانَ قَد قالَ في الأصحاحِ الأوَّلِ مِن رِسالَتِهِ الأولى إلى أهلِ كورِنثوس والعَددِ الرَّابع: "أَشْكُرُ إِلهِي فِي كُلِّ حِينٍ مِنْ جِهَتِكُمْ عَلَى نِعْمَةِ اللهِ الْمُعْطَاةِ لَكُمْ فِي يَسُوعَ الْمَسِيحِ، أَنَّكُمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ اسْتَغْنَيْتُمْ فِيه". فَهُوَ يَقولُ: "مُنذُ البِدايَة، حَصَلتُم على كُلِّ شَيءٍ يُمكِنُ لِنعمةِ اللهِ أن تُعطيه. فَقد حَصلتُم على كُلِّ شَيء. فقد أعطاكُمُ اللهُ كُلَّ شَيء".

وَهُوَ يَقولُ هُنا: "أنا أرى أنَّ النِّعْمَةَ تَزدادُ فيكُم كَما أنَّكُم تَزدادونَ في كُلِّ شَيء: في الإيمان...". مَا مَعنى ذلك؟ أيِ الثِّقَة القَويَّة في الله، أوِ الثِّقَة المُخَلِّصَة والضَّامِنَة والمُقَدِّسَة في الرَّبّ. "والكَلام". مَا مَعنى ذلك؟ إنَّها الكلمة اليونانيَّة "لوغوس" (logos). وَهِيَ تَعني في الحَقيقة: العَقيدة. وَهِيَ تُستخدَمُ بِمَعنى الحَقّ، أو كَلام البِرّ، أو كَلام المَسيح، أو كَلِمَة الحَقّ. فأنتُم لَديكُم عَقيدة، أو لَديكُم إيمان. ثُمَّ هُناكَ المَعرفة. فأنتُم تَفهمونَ كَيفيَّةَ تَطبيقِ العَقيدة، أو كَيفيَّةَ تَطبيقِ الحَقِّ الإلهِيّ. ثُمَّ إنَّهُ يَذكُرُ الاجتِهادَ. وَهِيَ تِرجمة للكلمة "سبودي" (spoude). وَقد رأينا هذهِ الكلمة سَابقًا في الأصحاحِ السَّابع. وَهِيَ تَعني: حَماسَة، أو تَعني: طَاقَة، أو جُهْد، أوِ اجتِهاد، أو شَغَفًا رُوحِيًّا.

وَهُوَ يُضيفُ قَائِلاً: "أنتُم تَزدادونَ في المَحبَّة"؛ أوِ "الأغابي"؛ وَهِيَ المَحَبَّةُ الَّتي زَرعناها فيكُم. وَكيفَ زَرَعَها فيهم؟ عَن طَريقِ القُدوةِ والتَّعليمِ والوَعظ. "لكِنْ كَمَا تَزْدَادُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ: فِي الإِيمَانِ وَالْكَلاَمِ وَالْعِلْمِ وَكُلِّ اجْتِهَادٍ وَمَحَبَّتِكُمْ لَنَا، لَيْتَكُمْ تَزْدَادُونَ فِي هذِهِ النِّعْمَةِ أَيْضًا". أيِ احرِصُوا على أن يَكونَ عَطاءَكُم مُنسَجِمًا تَمامًا مَعَ هذهِ الفَضائِلِ المَسيحيَّةِ الأخرى. فأنتُم تَفيضونَ في تِلكَ الفَضائِلِ الأخرى. لِذا، فِيضُوا في هذهِ أيضًا. فَينبغي أن يَكونَ العَطاءُ مُنسَجِمًا مَعَ كُلِّ الفَضائِلِ الأخرى.

أمَّا النُّقطَةُ الأخيرةُ الَّتي جَعَلَتْ عَطاءَ المَكَدونِيِّينَ مِثالاً، وَهِيَ النُّقطةُ الثَّالثة عشر: كَانَ عَطاؤُهم دَليلاً على المَحبَّة. فالعَطاءُ يُبَرهِنُ على المَحبَّة (في العَدد 8). وَهذهِ نُقطةٌ مُهِمَّةٌ جدًّا. فَهُوَ يَقولُ هُنا: "لَسْتُ أَقُولُ عَلَى سَبِيلِ الأَمْر". أليسَت هذهِ الآيةُ رَائِعَة؟ فَبَعدَ كُلِّ هَذا الكَلامِ الَّذي تَطَلَّبَ سَبْعَ آيات، واستَغرَقَ مِنَّا أربعةَ أسابيع، بَعدَ هَذا كُلِّهِ فإنَّهُ يَقول: "لَسْتُ أَقُولُ عَلَى سَبِيلِ الأَمْر". ماذا؟ ولكِنْ تَذَكَّرُوا مَرَّةً أخرى أنَّهُ يَقولُ هَذا في ضَوْءِ حَقيقَةِ أنَّ العَطاءَ الطَّوعِيَّ لَم يَكُن يَومًا شَيئًا نَاموسِيًّا، ولم يَكُن يَومًا شَيئًا إلزامِيًّا، ولم يَكُن يَومًا شَيئًا بِوَصِيَّة.

فَهُوَ يَقولُ: أنا لَستُ آمُرُكم، بَل أُخبِرُكُم بأنْ تُبَرهِنُوا على مَحبَّتِكُم. "لَسْتُ أَقُولُ عَلَى سَبِيلِ الأَمْرِ [لأنَّهُ أمْرٌ طَوعِيٌّ]، بَلْ بِاجْتِهَادِ آخَرِين". وَهُوَ يُشيرُ هُنا إلى المَكَدونِيِّين. فَهُوَ يُقارِنُهم بالمَكِدونِيِّين. "بَلْ بِاجْتِهَادِ آخَرِينَ [مِن خِلالِ اتِّباعِ مِثالِهم والحَذْوِ حَذْوَهُم]، مُخْتَبِرًا إِخْلاَصَ مَحَبَّتِكُمْ أَيْضًا".

أريدُ أن أقولَ لَكُم شَيئًا واحِدًا عَنِ العَطاء: إنَّهُ يُؤكِّدُ مُستوى مَحَبَّتِك. فيُمكنكَ أن تُعطي دُونَ أن تُحِبَّ لأنَّ هذا يَتطلَّبُ عَطاءً فقط. ولكِنْ لا يُمكِنُكَ أن تُحِبَّ دُونَ أن تُعطي. وَمِقدارُ عَطائِكَ يُعَبِّرُ عَن مُستوى مَحبَّتِك. "مُخْتَبِرًا" – وَهِيَ تَرجمة للكلمة "دوكيماتزو" (dokimazo) الَّتي تُشيرُ إلى فَحْصِ شَيءٍ لاختبارِ صِحَّتِه.

"بَلْ بِاجْتِهَادِ آخَرِين"؛ أيْ بِحَماسَةِ المَكَدونِيِّينَ في العَطاء. فَمِن خِلالِ مُقارَنَةِ أنفُسِكُم بِهِم، يُمكِنُكم أن تَرَوْا صِدْقَ مَحبَّتِكُم. فأنا أريدُ أن تَكونَ مُشابِهَة... أريدُ أن تَكونَ مُشابِهَة لِمَحبَّتِهم. فأنا أريدُ مِنكُم أن تَحذُو حَذوَهُم وتُبَرهِنُوا على أنَّ مَحبَّتَكُم ("أغابي" – "agape") صَادِقَة، أو حَقيقيَّة، أو أصلِيَّة، أو غَير مَغشوشَة، أو صَحيحَة. وَكما يَقولُ يُوحَنَّا: "كَيفَ تَقولُ إنَّ مَحَبَّةَ اللهِ ثَابِتَةٌ فيكَ إنْ لم تَكُن تُحِبُّ الإخوَة؟ وَكَيفَ تَقولُ إنَّ مَحَبَّةَ اللهِ ثَابِتَةٌ فيكَ إنْ كُنتَ تُغلِقُ أحشاءَكَ على شَخصٍ مُحتاج؟" أحِبُّوا بَعضُكُم بَعضًا بِشِدَّة.

فَنحنُ نَقرأُ في رِسالةِ بُطرسَ الأولى 1: 22: "طَهِّرُوا نُفُوسَكُمْ فِي طَاعَةِ الْحَقِّ بِالرُّوحِ لِلْمَحَبَّةِ الأَخَوِيَّةِ الْعَدِيمَةِ الرِّيَاءِ، فَأَحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا مِنْ قَلْبٍ طَاهِرٍ بِشِدَّةٍ". فَسواءَ كُنتَ تُحِبُّ الرَّبَّ، أو تُحِبُّ كَنيسَتَهُ، أو تُحِبُّ المُحتاجينَ فإنَّ ذلكَ يَظْهَرُ جَلِيًّا مِن خِلالِ عَطائِك. فالفَحصُ الحَقيقيُّ لِصِدْقِ المَحبَّة هُوَ ليسَ عَواطِفُكَ، وليسَ مَشاعِرُكَ، بَل فِعْلُك.

فَهُناكَ أشخاصٌ كَثيرونَ يَتَوَهَّمونَ بأنَّهُم يُحِبُّون لِمُجَرَّدِ أنَّهُم يَشعرونَ بِمَشاعِرَ مُعَيَّنة. ولكِنَّ مَحبَّتَكَ لا تُقاسُ بِما تَشعُرُ به، بَل تُقاسُ بأفعالِك. وَأفعالُكَ قَد تَنْقُضُ مَا تَقولُ أنَّكَ تَشعُرُ بِه. لِذا فإنَّ العَطاءَ يَختبِرُ دَائِمًا المَحبَّة. وَهَذِهِ هِيَ الخُلاصَةُ أوِ النُّقطةُ الجَوهريَّة.

لِذا فإنَّ المَكَدونِيِّينَ قُدوَتُنا. فَهُم يُرونَنا أنَّ العَطاءَ يَنبُعُ مِنَ النِّعمَة؛ أيْ أنَّهُ يَنبغي أن يَكونَ عَطاءً خَارِقًا للطَّبيعَة. وَهُوَ عَطاءُ يَتَغَلَّبُ على الظُّروف، ويَنبغي أن يَتِمَّ بِفَرح. وَهُوَ لا يُعَرْقَلُ بِسببِ الفَقر. وَيَنبغي أن يَكونَ سَخِيًّا، وَحَسَبَ الطَّاقَةِ، ومُضَحِّيًا، وَطَوعِيًّا. ويَنبغي أنْ نَقومَ بِهِ بِوصفِهِ امتيازًا لا التِزامًا. وَهُوَ جُزءٌ مِنَ العِبادَة.

وَهُوَ شَيءٌ يَنبغي أن نَفعلَهُ في خُضوعٍ للرُّعاةِ والقَادَة. ويَنبغي أن نَفعلَهُ بِطريقةٍ تَتَّفِقُ وَتَنسَجِمُ مَعَ الفَضائِلِ المَسيحيَّةِ الأخرى. وَهُوَ شَيءٌ يَنبغي أن يُبَرهِنَ على مَحَبَّتِنا للهِ وكَنيسَتِهِ وشَعبِه. هَذا هُوَ عَطاءُ المَكَدونِيِّينَ أو عَطاءُ المُؤمِنينَ الأتقياء. وَمِثْلُ هَذا العَطاءِ، كَما قُلنا مِرارًا، هُوَ طَريقُ البَرَكة. وَهُوَ طَريقٌ أرجو أن تَكونوا مُتَحَمِّسينَ لِسُلوكِه. دَعونا نُصَلِّي:

يا أبانا، يا لَها مِن فَائِدَةٍ عَظيمةٍ حَصَلنا عَليها مِن خِلالِ هذهِ المَقاطِعِ الكِتابِيَّةِ الَّتي تَقودُنا إلى طَريقِ البَرَكَةِ والنِّعمَةِ فَوقَ نِعمَة فَوقَ نِعمَة! اغفِر لنا أوَّلاً يا رَبّ تَقصيرَنا الشَّديدَ، وساعِدنا على أنْ نَرتَقي إلى مُستوى هَؤلاءِ المَكَدونِيِّينَ الأعِزَّاء لأنَّ هَذا هُوَ ما تَطلُبُهُ، وَهَذا هُوَ مَا تُريدُهُ مِنَّا. نَشكُرُكَ على امتيازِ العَطاءِ وحُريَّةِ العَطاء.

نَحنُ نَعلَمُ أنَّكَ لو أعطيتَنا نِسبَةً مُحَدَّدَةً للعَطاءِ لَما كَانَت مِقياسًا لأيِّ شَيءٍ، ولكِنْ عندما تَترُكُها لَنا فإنَّها تَكشِفُ الكَثيرَ عَن قُلوبِنا. لِذا يا أبانا، نَحنُ نُريدُ أن نُعطي لكي نُبَرهِنَ على مَحبَّتِنا لَكَ، ومَحَبَّتِنا لِقادَتِنا الَّذينَ يُدَبِّرونَنا في الرَّبّ، وَمَحَبَّتِنا للرَّعيَّة، وَمَحَبَّتِنا للخِدمَة، وَمحَبَّتِنا لانتشارِ المَلكوت.

لَيْتَنا نَهْتَمّ حَقًّا بالسَّماوِيَّات، وليتَنا نُكَرِّس أنفسَنا تَمامًا لأنْ نَكونَ ذَبيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً، ونَخْتار طَوْعًا أنْ نَفْتَقِرَ لكي يَغْتَني آخَرون. يا أبانا، نَشكُرُكَ على إرشادِكَ وَقيادَتِكَ لَنا في هَذا الجانِبِ مِن حَياتِنا يَومًا بَعدَ يَومٍ وأسبوعًا بَعدَ أسبوع. وَلَيتَنا نَكونُ أُمناءَ وَنَتجاوَب. باسْمِ المَسيح. آمين!

This sermon series includes the following messages:

Please contact the publisher to obtain copies of this resource.

Publisher Information
Unleashing God’s Truth, One Verse at a Time
Since 1969

Welcome!

Enter your email address and we will send you instructions on how to reset your password.

Back to Log In

Unleashing God’s Truth, One Verse at a Time
Since 1969
Minimize
View Wishlist

Cart

Cart is empty.

Subject to Import Tax

Please be aware that these items are sent out from our office in the UK. Since the UK is now no longer a member of the EU, you may be charged an import tax on this item by the customs authorities in your country of residence, which is beyond our control.

Because we don’t want you to incur expenditure for which you are not prepared, could you please confirm whether you are willing to pay this charge, if necessary?

ECFA Accredited
Unleashing God’s Truth, One Verse at a Time
Since 1969
Back to Cart

Checkout as:

Not ? Log out

Log in to speed up the checkout process.

Unleashing God’s Truth, One Verse at a Time
Since 1969
Minimize