
في هذا الصَّباح، إنَّه امتيازٌ لنا مَرَّةً أخرى أن نَعود إلى دراسة جديدة نقوم بها وهي دراسة رسالة بولس إلى أهل فيلبِّي. افتحوا كِتابكم المُقدَّس مِن فَضلكم على رسالة فيلبِّي والأصحاح الأوَّل إذْ إنَّنا سَنتفحَّصُ المقطع التَّالي مِن رسالة فيلبِّي والأصحاح الأوَّل، الأعداد مِن 3-8. واسمَحوا لي أن أَقرأ هذه الآيات لتَهيئة أذهاننا في هذا الصَّباح. رسالة فيلبِّي 1: 3: "أَشْكُرُ إِلهِي عِنْدَ كُلِّ ذِكْرِي إِيَّاكُمْ دَائِمًا فِي كُلِّ أَدْعِيَتِي، مُقَدِّمًا الطَّلْبَةَ لأَجْلِ جَمِيعِكُمْ بِفَرَحٍ، لِسَبَبِ مُشَارَكَتِكُمْ فِي الإِنْجِيلِ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ إِلَى الآنَ. وَاثِقًا بِهذَا عَيْنِهِ أَنَّ الَّذِي ابْتَدَأَ فِيكُمْ عَمَلاً صَالِحًا يُكَمِّلُ إِلَى يَوْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. كَمَا يَحِقُّ لِي أَنْ أَفْتَكِرَ هذَا مِنْ جِهَةِ جَمِيعِكُمْ، لأَنِّي حَافِظُكُمْ فِي قَلْبِي، فِي وُثُقِي، وَفِي الْمُحَامَاةِ عَنِ الإِنْجِيلِ وَتَثْبِيتِهِ، أَنْتُمُ الَّذِينَ جَمِيعُكُمْ شُرَكَائِي فِي النِّعْمَةِ. فَإِنَّ اللهَ شَاهِدٌ لِي كَيْفَ أَشْتَاقُ إِلَى جَمِيعِكُمْ فِي أَحْشَاءِ يَسُوعَ الْمَسِيح".
كانت الأسابيع القليلة الماضية، أو بالأحرى الأشهر القليلة الماضية، أوقاتًا عَصيبةً في حياتي الشَّخصيَّة. أنا شخصٌ إيجابيٌّ جدًّا، وقَنوعٌ جدًّا، وشخصٌ فَرِحٌ ومُتحمِّسٌ جدًّا. ولكن خلال الأشهر القليلة الأخيرة، وَضَعني الرَّبُّ في امتحانات صعبة حقًّا. فقد أعطاني الربُّ مسؤوليَّات كثيرة، بل مسؤوليَّات هائلة جدًّا: المسؤوليَّة في الكنيسة، ومسؤوليَّة البرنامج الإذاعيّ، والكُتب، وكُتب التَّفاسير، والمنشورات، والأشرطة السَّمعيَّة، وأشرطة الفيديو، والكُليَّة؛ أي كُليَّة اللاَّهوت... الكثير والكثير مِن الأشياء. ولكنَّ قلبي الرُّوحيّ، أوِ النَّبض الحقيقيَّ لحياتي هو الكنيسة. فكلُّ شيءٍ آخر يمكن أن يُوضَع جانبًا، ولكن ليس الكنيسة. إنَّها حُبُّ حياتي. وهي دَعوة الله لحياتي. لذلك، حتَّى لو كانت كلُّ الأمور الأخرى تسير على ما لا يُرام في حين أنَّ الكنيسة تَمُرُّ في ضيق، فإنِّي أُعاني. وأنا أُعاني منذ بضعة أشهر وبضعة أسابيع. ثُمَّ في الأسبوع الماضي تقريبًا، وَصلتُ إلى نُقطة شعرتُ فيها بصعوبة شديدة جدًّا في قلبي في التَّعامُل مع الأشياء.
ثُمَّ إنَّ الرَّبَّ قادني مباشرةً إلى رسالة فيلبِّي كما لو أنَّه يريد أن يقول: "والآن، سنَعمل على فَرَحِك الشَّخصيِّ يا ماك آرثر حيث إنَّكَ تَمُرُّ في هذه التَّجارب". وقد قَرَّرتُ أن أُخضِع نفسي للفحص فيما يَختصُّ بفرحي لا سِيَّما أنَّني كنتُ قد ابتدأتُ بدراسة رسالة فيلبِّي. لذا فقد عَثرتُ على كتابٍ يحوي اختبارًا نَفسيًّا يُظهِر ما إذا كنتُ مُكتئبًا. لِذا فقد خَضعتُ في الأسبوع الماضي لهذا الاختبار، وهو بعنوان: "اختبار كارول لقياس الاكتئاب" (The Carrol Rating Scale for Depression). وكانت الفِقرة التَّمهيديَّة لهذا الاختبار تقول إنَّ أغلبيَّة النَّاس يختبرون قدرًا مُعيَّنًا مِن الاكتئاب. لذا، لا تَهلَع عندما تخضع للاختبار. وكان الاختبار يحوي اثنين وخمسين سؤالاً؛ وهي أسئلة مثل: هل تَكره النُّهوض مِن السَّرير في الصَّباح؟ هل الحياة مُضجِرَة؟ هل فَكَّرتَ يومًا في الانتحار؟ هل أنت غير سعيد؟ هل لديك اضطراب في الأكل؟ وغيرها مِن الأسئلة المشابهة. والأسئلة مُصَمَّمَة لمعرفة ما إذا كان الإنسان يعاني اكتئابًا. وكانت أيُّ علامة مِن 10 فصاعدًا تعني أنَّك مُكتئب. وكلَّما زاد الرَّقْم، زاد الاكتئاب.
وقد خَضعتُ للاختبار بأكبر قدرٍ ممكن مِن الموضوعيَّة فكانت علامتي: صِفْر. فإن كان بمقدوركم أن تقيسوا الفَرح بالعلامات، مِن المؤكَّد أنَّني فَرِح. فقد حصلتُ على صِفْر؛ أي أنَّني لستُ مُكتئبًا البتَّة. والآن، قد لا أكون سعيدًا! ولكن تَذكَّروا أنَّ السَّعادة هي تعبيرٌ عن ظَرف؛ أمَّا الفرح فهو ثِقَة مَبنيَّة على علاقة. والآن، لا يمكن لذلك الاختبار أن يكون موضوعيًّا لمؤمنٍ مُمتلئ بالرُّوح لأنَّ المؤمن المُمتلئ بالرُّوح مُفعمٌ بالفَرح. وهل تَذكرون ما قُلته لكم عن معنى الفَرح؟ الفَرح هو هِبَة مِن الله للأشخاص الَّذين يؤمنون بإنجيلِ المسيح، وهو يَنشأُ فيهم بواسطة الرُّوح القُدُس لأنَّهم يُؤمنون بكلمة الله ويُطيعونها في الوقت الَّذي يَختبرون فيه التَّجارب؛ وهو فَرحٌ يُبقي رَجاءَهُم مُثَبَّتًا على المجدِ الآتي.
ولا شَكَّ في أنَّ بولس كان سيحصل على العلامة "صِفر" أيضًا في هذا الاختبار بالرَّغم مِن أنَّ الموقف الَّذي كان فيه أسوأ جدًّا مِن الموقف الَّذي أنا فيه. والحقيقة هي أنَّ فَرَح بولس الدَّائم الَّذي يَتعذَّر كَبحُه حتَّى في أقسى وأشَدِّ الآلام هو القلبُ النَّابضُ لهذه الرِّسالة الرَّائعة. والفَرح الَّذي يَختبره بولس أو أيُّ مؤمنٍ آخر هو ليس شعورًا عاطفيًّا عابِرًا يَجعلك تُحَلِّق لحظةً وتَهبط في اللَّحظة الَّتي تَليها وَفقًا للظُّروف، بل إنَّ الفرح الحقيقيَّ هو فَرح دائم لا يَتزعزع في الحياة المُمتلئة بالرُّوح. وهو لا يَنشأ بسبب ظَرف سعيد، أو طُمأنينة وسلام وراحة وشعور بالأمان، بل ينشأ بسبب حضور الله وروحِه حتَّى لو كنت تَقبع في السِّجن بانتظار أن تَسمع خبر إعدامِك (كما كانت حالُ بولس). فقد كان فَرِحًا. وقد كان فَرَحُه نابعًا مِن علاقته الأبديَّة باللهِ الحيِّ مِن خلال يسوعَ المسيح وعمل الرُّوح القُدُس فيه. ولأنَّه كان قريبًا جدًّا مِن الله، كان مُمتلئًا بالفرح. فالظُّروف ليست العامِل الحاسِم، بل إنَّ قُربَك مِن الله هو الَّذي يُقَرِّر مستوى فَرَحِك.
لِذا فقد اختبرَ بولس ذلك الفَرح الَّذي لا يُنطَق به ولا يمكن لأيِّ شيءٍ أن يُعَطِّلَه، والَّذي هو شعور دائم بالسَّلام والهدوء والطُّمأنينة والقناعة والسُّرور والرِّضا يَنبع مِن أعماق الإنسان لأنَّ حُضورَ الله مَطبوع في النَّفس، ولأنَّ الضَّمير مُرتاح مِن أيِّ إساءة إلى الله. فقد كان بولس مُمتلئًا بالفرح بالرَّغم مِن أحواله. وأنا أَفهم مَعنى ذلك. فأنا أَفهم معنى كيف يمكن أن تكون غير سعيدٍ بأحوالك مِن دون أن تُعاني إحباطًا البتَّة لأنَّ قلبك مُمتلئ بالفرح بسبب علاقتك بالله، ولأنَّك تَعلم أنَّه حاضِر، وأنَّه يُحبُّك، وأنَّه وَهَبَكَ فَرَحَه، ولأنَّك لا تَشعر بعذابِ الضَّمير أمامَه.
والآن، يَكتُب بولس المُمتلئ بالفَرح هذه الرِّسالة إلى الأحبَّاء في فيلبِّي. وعندما يُفكِّر فيهم، يَتدفَّقُ فَرحُه. لِذا فإنَّه يقول في العدد الرَّابع إنَّه في كُلِّ مَرَّة يَتذكَّرهم فيها يَفرح. فالفَرح الموجود في قلبه بسبب علاقته بالله الحَيِّ يَتدفَّق عندما يُفكِّر في مؤمني فيلبِّي. فقد كانت رَعيَّة مُميَّزة. ولم تكن هناك مشاكل حقيقيَّة بين مؤمني فيلبِّي. فهو يقول في العدد الثَّالث: "أَشْكُرُ إِلهِي عِنْدَ كُلِّ ذِكْرِي إِيَّاكُمْ". فلا توجد لديَّ عنكم أيَّة ذِكريات سَلبيَّة. "دَائِمًا فِي كُلِّ أَدْعِيَتِي، مُقَدِّمًا الطَّلْبَةَ لأَجْلِ جَمِيعِكُمْ بِفَرَحٍ". فكلُّ صَلواتي مُمتلئة بالفرح...كلُّ صلاةٍ أُصلِّيها لأجلكم جميعًا. فكلُّ ذكرياتي، وكلُّ صلواتي، وكلُّ شيءٍ يَخُصُّكم يَجعلني أفرح. فلا يبدو أنَّه لم يكن يعاني أيَّة مشاكل جَسيمة معهم. فهو يقول في العدد 8: "أَشْتَاقُ إِلَى جَمِيعِكُمْ فِي أَحْشَاءِ يَسُوعَ الْمَسِيح". فهي رَعيَّة مُمَيَّزة. وفي العدد 25: "أَعْلَمُ أَنِّي أَمْكُثُ وَأَبْقَى مَعَ جَمِيعِكُمْ لأَجْلِ تَقَدُّمِكُمْ وَفَرَحِكُمْ فِي الإِيمَان". فقد كان كلُّ شيءٍ يَختصُّ بمؤمني فيلبِّي يَجعله فَرِحًا.
ولا يبدو أنَّه لم تكن لديهم حاجات. فقد كانت لديهم حاجات. فَهُوَ يقول في العدد 27: "عِيشُوا كَمَا يَحِقُّ لإِنْجِيلِ الْمَسِيح". وَهُوَ يقول في الأصحاح الثَّاني: "فَتَمِّمُوا فَرَحِي [في العدد الثَّاني] حَتَّى تَفْتَكِرُوا فِكْرًا وَاحِدًا وَلَكُمْ مَحَبَّةٌ وَاحِدَةٌ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، مُفْتَكِرِينَ شَيْئًا وَاحِدًا، لاَ شَيْئًا بِتَحَزُّبٍ أَوْ بِعُجْبٍ، بَلْ بِتَوَاضُعٍ"، وهَلُمَّ جَرَّا. فقد كانت لديهم احتياجات. وفي الأصحاح الرَّابع، يَتحدَّث عن امرأتين كانت لديهما حاجات: "أَطْلُبُ إِلَى أَفُودِيَةَ وَأَطْلُبُ إِلَى سِنْتِيخِي [في العدد الثَّاني] أَنْ تَفْتَكِرَا فِكْرًا وَاحِدًا فِي الرَّبِّ". ويجب على شخصٍ ما أن يُساعد هاتين السَّيدتين على تَقويم سُلوكهما. فهُما بحاجة إلى المساعدة. فبولس لم يكن يَجهل احتياجاتهم، بل كان فَرِحًا بمستوى تكريسهم الرُّوحيّ. فقد كانوا يُحبُّون الرَّبَّ. وكانوا يُحبُّون بولس. وكانوا يَعتنون ببولس بحماسة غير عاديَّة، بل أكثر مِن أيَّة كنيسة أخرى. وكانوا يرسلون إليه دائمًا عطايا ماليَّة لِسَدِّ حاجاته ودَعمِه. وقد كانوا أَسخياء في عطاياهُم. ومع أنَّهم لم يكونوا أغنياء حقًّا، فقد أعطوا بسخاء لِسَدِّ حاجة بولس في مناسبات عديدة. والحقيقة هي أنَّه يقول لهم في هذه الرِّسالة: "لقد أرسلتُم إليَّ أكثر مِن حاجتي"، ولكنَّ هذه هي الطَّريقة الَّتي أحبُّوه فيها واعتنوا به مِن خلالها.
وصَدِّقوني أنَّهم كانوا رَعيَّةً تَجعل قلب أيِّ راعٍ فَرِحًا. وفي كلِّ مَرَّة تَذَكَّرهم، فَرِح. فقد كانوا أصحابَ شَهامةٍ، وكانوا أسخياء. وكلُّ شيءٍ فَعلوه أَظهر مَحبَّتهم. وعندما كَتَبَ هذه الرِّسالة، كان مسجونًا في روما. فهو مُقيَّدٌ بالسَّلاسل. وقد سمعوا بذلك. وبسبب حُبِّهم له، أرادوا أن يُرسلوا إليه تَقدمةَ مَحبَّة؛ أي: مالاً. وكان مِن حَمَلَ التَّقدمة هو شخصٌ مِن الرَّعيَّة اسمُه "أَبَفْرُودِتُس". فقد أَرسلوا أَبَفْرُودِتُس وقالوا له: "أَعْطِ بولس هذا المال لِسَدِّ احتياجه، وامكُث معه المُدَّة الَّتي يحتاج إليها لكي تخدمه". لذا فقد أرسلوا واحدًا مِن نُخبة رِجالهم ليكون خادمًا شخصيًّا لبولس، ولكي يَحمل إليه تَقدمة المَحبَّة، وليكون المَثَل الحيَّ على محبَّتهم له.
وعندما تَسَلَّم بولس تلك التَّقدمة مِن مؤمني فيلبِّي، وعندما استقبلَ بولسُ أَبَفْرُودِتُس، كان شعوره بمحبَّتهم وعنايتهم وسخائهم معه هو الَّذي فَتَحَ بَوَّابات الفرح على مَصاريعِها في قلبه. وهو يَكتب هذه الرِّسالة إليهم ويقول: "أنا فَرِحٌ جدًّا. لا تقلقوا عَليَّ. فمعَ أنِّي مسجون فإنَّ ذلك لا يَمَسُّ فَرحي... البتَّة". فهو مُمتلئ فَرحًا. وهذا دَرسٌ رائعٌ ينبغي لنا أن نَتعلَّمه. فالتَّجارب لا تَمَسُّ الفرح إن كان فَرح الرُّوح في حياةٍ مُمتلئة بالرُّوح، بل إنَّ التَّجارب، في الحقيقة، قد تصير مناسبات لفرحٍ أعمق لأنَّها تَنقل المؤمن تمامًا مِن ظروفه إلى حضرة الله. وفي تلك العلاقة العميقة، يُوجَد ذلك الفرح الحقيقيّ. وقد كَتب "وليام كيلي" (William Kelly): "فَكِّروا فيه وهو مسجونٌ سنواتٍ عديدة، ومُقيَّد بالسَّلاسل بين جُنديَّيْن، وممنوع مِن العمل الَّذي كان يُحِبُّه فيما كان آخرون يَستغلُّون غيابَه لإحزانه إذ كانوا يَكرزون بإنجيلٍ آخر بدافع التَّحَزُّب والخِصام. ولكنَّ قلبَه كان يَفيض بالفرح حتَّى إنَّه كان يَملأ الآخرين به" [نهاية الاقتباس].
والآن، إذْ نأتي إلى الأعداد 3-8، نَرى أنَّ فَرَحَهُ يَتَدَفَّق. وإذْ يَتدفَّق، نَرى عناصر فرحه. فهناك أجزاء في ذلك الفرح يمكننا أن نُمَيِّزها ... أو سِمات أو عناصر. فقد كان هناك فَرح الذِّكريات، وفَرح الصَّلاة، وفَرح المشاركة، وفَرح التَّرقُّب، وفَرح المحبَّة. وسوف نَتحدَّث عنها في يوم الرَّبِّ هذا، وبكلِّ تأكيد في يوم الرَّبِّ القادِم أيضًا. واسمحوا لي أن أُعَنون هذه بأنَّها عناصر الفَرح الَّذي يُنشئه الرُّوح... عناصر الفَرح الَّذي يُنشئه الرُّوح مِن جهة الآخرين... مِن جهة الآخرين.
والآن، قبل أن نَنظر إلى هذه العناصر، لا بُدَّ أن أقول ما يلي: لا يوجد شخص... والآن لاحظوا هذا... لا يوجد شخص أو شيء بالمُطلَق يستطيع أن يُنشِئ هذا النَّوع مِن الفرح سوى الرُّوح القُدُس. حسنًا؟ فالرُّوحُ القُدُس فقط هو الَّذي يستطيع أن يُنشئ هذا الفَرح. واسمحوا لي أن أُقدِّم لكم مَثلاً إيضاحيًّا. في يوم الأربعاء، وَجدتُ على مَكتبي كِتابًا. فالنَّاشرون يُرسلون إليَّ كُتُبًا؛ لا فقط النَّاشرون المسيحيُّون يُرسلونها إليَّ لمراجعتها، بل إنَّ دُور النَّشر العِلمانيَّة تفعل ذلك أيضًا. وقد أرسلت إليَّ دار "راندوم هاوس بَبليشرز" (Random House Publishers) هذا الكتاب بعنوان: "الصُّعودُ إلى القِمَّة مِن الحَضيض" (The Way Up from Down) ... "الصُّعود إلى القِمَّة مِن الحَضيض"، تأليف "الطَّبيبة سليغل" (Slagle, M.D.). واسمحوا لي أن أقول لكم شيئًا عن هذا الكتاب.
إنَّ موضوعَ الكتاب هو "كيف تَتغلَّب على الاكتئاب". فهذا هو المقصود بالصُّعود إلى القِمَّة مِن الحَضيض. وهو يُوصي بأنَّ الطَّريقة الفعَّالة للتغلُّب على الكآبة [بحسب رأي هذه الطَّبيبة]، بنسبة نجاح تتراوح بين 70 و80 بالمئة، هي مِن خلال استخدام الأحماض الأمينيَّة والمُكملاَّت الغذائيَّة الَّتي تُوفِّر الفيتامينات والمعادن. وقد وَجدتُ نفسي مُنجذبًا إلى هذا الكتاب؛ لذا فقد قرأته. ونَظرية المؤلِّفة هي كالتَّالي: الاكتئاب يَرجع في الأصل إلى نقصٍ في مواد كيمياويَّة مُعيَّنة: الدَّمّ، وسائل النُّخاع الشَّوكي، والبول. والشَّخص المصاب بالاكتئاب يمكن أن يُفحَص بهذه الطُّرق مِن خلال فَحص هذه السَّوائل. والاكتئاب يَظهَر مِن خلال وجودِ نَقصٍ في بضعة عناصر كيمياويَّة. وتُعرَف هذه العناصر بأنَّها مؤشِّرات كيمياويَّة للاكتئاب. فنقص العناصر الكيمياويَّة يؤدِّي إلى اختلال في الوظائف.
ففي العقل، كَما تُوَضِّح الطَّبيبة، هناك ناقلات عَصبيَّة. والنَّاقلات العَصبيَّة هي الَّتي تَنقل النَّبضات مِن خليَّة إلى أخرى. فهذا تفاعُل كيمياويّ. وإن كان هناك نقص في العناصر الكيمياويَّة، فإنَّ الموادَّ الموجودة في خليَّة لا يمكن أن تنتقل إلى الخليَّة الأخرى. وهذا يُؤدِّي إلى الاكتئاب بطريقةٍ ما. فهذه النَّاقلات العصبيَّة هي المواد الكيمياويَّة الَّتي تُطلَق عند الأطراف العَصبيَّة في الدِّماغ عندما تكون الخليَّة قريبة مِن خليَّة أخرى. وهي ضروريَّة للمُخّ كي يَنقل رسائله وبياناته. والعُنصران المعروفان لدينا هُما السِّيروتونين (serotonin) والنُّوريبينيفرين" (norepinephrine). والآن، عندما يَقِلُّ مستوى هاتان المادَّتان فإنَّه يؤدِّي إلى الاكتئاب. لذا، بحسب قول الطَّبيبة سليغل، يمكن التَّخفيف مِن الاكتئاب مِن خلال تعويض السِّيروتونين والنُّوريبينيفرين مِن خلال الأحماض الأمينيَّة والمُكمِّلات الَّتي تُوفِّر الفيتامينات والمعادن.
لِذا فقد قرأتُ هذين الفَصليَن اللَّذين يَشرحان كلَّ ذلك، ثُمَّ وجدتُ مئة صفحة عن البرنامج؛ وهو برنامج أحيائي-كيمياوي مُكَثَّف. فيجب عليك أن تأخذ فيتامين "ب1"، و "ب2"، و "ب3"، و "ب4"، و "ب5"، و "ب6"، و "ب12"... كلَّ هذه. ويجب عليك أن تأخذ... فهناك لائحة طويلة مِن الأشياء المُدوَّنة الواحدة تلو الأخرى. فيجب عليك أن تأخذها جميعَها، ويجب عليك أن تَلتحق بهذا البرنامج، وأن تَفعل كلَّ ذلك وتَقرأ فصلاً تلو الآخر تلو الآخر عن كيفيَّة القيام بكلِّ هذه الأمور. ثُمَّ يأتي الفصل الأخير فتقول الطَّبيبة "سليغل" [وأنا أَقتبسُ كلامَها]: "بالرَّغم مِن ذلك، إن استمرَّيتَ في أنماط التَّفكير السَّلبيِّ المُعتادة ستَهدم تمامًا العلاجَ كُلَّه". "إن استمرَّيتَ في أنماط التَّفكير السَّلبيِّ المُعتادة ستَهدم تمامًا العلاجَ كُلَّه". وقد لَفتت هذه الجُملة انتباهي.
والجُملة الَّتي تليها تقول [وأنا أَقتبس هُنا]: "المواقف السَّلبيَّة الدَّائمة قد تؤدِّي إلى الكَبتِ والعُبوديَّة؛ في حين أنَّ الأفكار والتَّوقُّعات الإيجابيَّة دائمًا تُؤدِّي إلى الانشراحِ والحُريَّة. وقد قال أحدُهم إنَّنا نُعاني لأنَّنا لا نَرى الأشياء كما هي عليه، بل كما نحن عليه" [نهاية الاقتباس]. وهي تقول: "ولا يُمكننا أن نَتعلَّم أن نَرى بطريقة مُختلفة إلاَّ إن أردنا أن نَرى بطريقة مُختلفة" [نهاية الاقتباس]. والآن، يا أصدقائي، هذا مُدهش جدًّا. فما تقولُه هو أنَّ كلَّ ما يَفعله العلاج هو أنَّه يساعد الأشخاص غير المُكتئبين. هل تَفهمون ذلك؟ فكلُّ ما يَفعله ذلك العِلاج هو أنَّه يساعد الأشخاص الَّذينَ لا يُفكِّرون تفكيرًا سَلبيًّا. يا صَديقي، إن لم تكن تُفكِّر تفكيرًا سلبيًّا فإنَّك لا تحتاج إلى ذلك العلاج. وهذا يُلغي الكتابَ كُلَّه.
والحقيقة هي أنَّها حَشَرت نفسَها في زاوية. لذا فإنَّ الكتاب يَنتهي بفصلٍ آخر: "كيف تُبرمِج عقلك الواعي على التَّخلُّص مِن التَّفكير السَّلبيّ". وإليكم ما تَقترحه. الاقتراحُ الأوَّل: في كلِّ مَرَّة تُفكِّر فيها تفكيرًا سلبيًّا اصرخ قائلاً: "إلغاء" (Cancel). هذا هو المبدأُ الأوَّل. إذًا، إن وَجدتَ في الأشهر القادمة أُناسًا في مَكتبك يَصرخون: "إلغاء"، اعلَم أنَّهم قرأوا هذا الكتاب. ثانيًا: نَمِّ لديكَ فَنَّ التَّصَوُّر الإبداعيِّ بأن تَتخيَّل نفسك كما لو كنتَ "أليس في بلاد العجائب" (Alice in Wonderland). بَرمِج نفسك وأنت نائم بأن تُحضر شريطًا مُسَجَّلاً يحوي كلامًا إيجابيًّا وتجعله يَدور طَوال اللَّيل في أثناء نومك. استمع إلى الكثير مِن الموسيقا المَرِحة الإيجابيَّة. مارس التَّمرينات الرِّياضيَّة. توقَّف عن التَّركيز على المستقبل. اقرأ هذا الكتاب: "عِشْ هُنا الآن" للمؤلِّف "بابا رامِ داس" (Baba Ram Dass). فهذا الكتاب "عِشْ هُنا الآن" لِبابا رامِ داس سيُعلِّمُك كيف تُركِّز على اللَّحظة. ويجب عليك أن تَتعلَّم أن تَتجاهَل المستقبل. أَطلِق كلَّ غضبك. وهذا اقتراحٌ آخر. ثُمَّ هذا: تَبَنَّى فلسفة روحيَّة ذات مَغزى. اعثُر على عقيدة مناسبة لك. فأيَّة عقيدة تُلائمك إن كانت تعمل. تَجنَّب الكلام عن الخطيَّة والذَّنب. والنُّقطة الأخيرة هي: اعثر على النُّور في ذاتِك.
ثُمَّ إنَّ الطَّبيبة تُلَخِّص الأمر في شِعْرٍ حُرٍّ يقول: "تَذَكَّر أنَّنا لسنا هنا لكي نَختبر العبوديَّة الذِّهنيَّة والوجوديَّة، بل نحن هناك لكي نَفرح – لكي نُعطي الفَرح ونَأخذه، ولكي نَرى ونَختبر الجوهر الحقيقيّ، لا المَظاهر السَّطحيَّة؛ ولكي نَرى الجمال والنِّظام والانسجام؛ لا البشاعة والفوضى والخصام، ولكي نرى الألوان ونَتحرَّك ونَسير بانسيابٍ مع إيقاع الحياة، ولكي نُزهِر ونُثمر ثُمَّ في النِّهاية نَموت، ولكي نُبتَلَعَ ثُمَّ نُلْفَظَ مِن نَهر الحياة التَّالي فنحصل على طاقة جديدة وشكلٍ جديد يَفوق قدرتنا الحاليَّة على الاستيعاب، ونحصل على قدرة تدريجيَّة لا تَتزعزع على عُبور أُفُق الزَّمن، وتبادُل الأبعاد، والتَّوسُّع، والاتِّحاد. رِحلة مَيمونَة".
إنَّه كتابٌ يَبعثُ على الاكتئاب. لديَّ فكرة أفضل: اتبَع يسوعَ المسيح. وسوف يَهَبُكَ رُوحَهُ القُدُّوس. وسوف تكون مُفعمًا بالفرح. ووَفِّر خمسةَ عشر دولارًا وخمسةً وتسعين سِنتًا. فالعالَم بكلُّ قدرته لا يستطيع أن يُنشئ فَرحًا. ويا لها مِن محاولة مُلتوية للحصول على الفرح. ولكنَّها محاولة فاشلة...محاولة فاشلة. وقد كان بولس مُمتلئًا بذلك الفرح. فكلُّ ما ينبغي لنا أن نَفعله هو أن نَلتجئ إلى كلمة الله. فما الَّذي يَجعلنا نَظُنُّ أنَّ العالَم لديه ما يقوله بأيِّ حال مِن الأحوال؟ فقد كان مُمتلئًا بذلك الفرح. وكما يَكتُب لأولئك المؤمنين الأحبَّاء، فإنَّه يُشير إلى عناصر فرحه. فلننظر إليها، أو على الأقلِّ إلى بضعة عناصر منها:
أوَّلاً، هناك فَرَح نابع مِن الذِّكريات إذ نقرأ في العدد الثَّالث: "أَشْكُرُ إِلهِي عِنْدَ كُلِّ ذِكْرِي إِيَّاكُمْ". فالفكرة هي أنَّ مُؤمني فيلبِّي كانوا يَجلبون إليه الفرح عندما يَتذكَّرهم. وقد كَتَبَ "بول ريس" (Paul Reese): "لقد كانت نفسُه كُلُّها مَجموعة أجراس. وأوَّلُ جرس يَدُقُّ لديه هو جَرس الشُّكر" [نهاية الاقتباس]. فكما تَرون، كان بولس يَحتفظ بِسِجِلٍّ للذِّكريات. ومِن خلال قُوَّة الرُّوح القُدُس فيه، كان يُرَكِّز على الذِّكريات الإيجابيَّة. فهو يقول: "أَشْكُرُ إِلهِي عِنْدَ كُلِّ ذِكْرِي إِيَّاكُمْ". فكلُّ ما كان يُفكِّر فيه بشأن أهل فيلبِّي كان يَمنحه فَرحًا. فقد كانوا سَببًا في شعوره بالامتنان. وكان قَلبُه مُمتلئًا بالشُّكر المُفعم بالفَرح لله على أجمل ذكرياتٍ له مع هؤلاءِ المؤمنين. فهو يقول: "شكرًا" ويَستخدم الفِعل "إفخاريستو" (eucharisteo). وهناك كلمة مُشتقَّة منها في اللُّغة الإنجليزيَّة وهي: "يوكارست" (eucharist). فهي خِدمة شُكر.
"إلهي" – وكم أُحِبُّ حقيقة أنَّه يقول "إلهي" مُعبِّرًا عن سعادته بالعلاقة الحميمة، والعلاقة الشَّخصيَّة، والشُّعور القويُّ بالشَّركة الشَّخصيَّة الحميمة الَّتي كان يتمتَّع بها مع القديرِ نفسِه! وهو يَستخدم تلك العبارة مَرَّات عديدة في رسائله (في رسالة كورنثوس الأولى 1: 4، وكولوسي 1: 3، ورسالة تسالونيكي الأولى 1: 2، ورسالة تيموثاوس الثَّانية 1: 3، وفليمون والعدد 4). فهو يُحبُّ أن يَتكلَّم عن الله مُستخدمًا الكلمة "إلهي"... "إلهي". ولا يوجد خطأ في ذلك، بل يجب علينا أن نفعل الشَّيء نفسه. "أَشْكُرُ إِلهِي عِنْدَ كُلِّ ذِكْرِي إِيَّاكُمْ". والآن، لا يوجد أحد كامل. فمؤمنو فيلبِّي لم يكونوا كامِلين. والكنيسة لم تكن كاملة. والكنيسة لم تكن خالية مِن المشاكل. فلا بُدَّ أنَّه كانت توجد هناك خصومات؛ وإلاَّ لما اضطُرَّ إلى التحدُّث عن ذلك في الأصحاح الأوَّل والعدد 27: "أَنَّكُمْ تَثْبُتُونَ فِي رُوحٍ وَاحِدٍ، مُجَاهِدِينَ مَعًا"، أو في الأصحاح الثَّاني والأعداد 1-4: "حَتَّى تَفْتَكِرُوا فِكْرًا وَاحِدًا وَلَكُمْ مَحَبَّةٌ وَاحِدَةٌ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، مُفْتَكِرِينَ شَيْئًا وَاحِدًا"، أو في الأصحاح الرَّابع عندما تَحدَّث عن السَّيِّدتين اللَّتين لم تكونا على وِفاق. فلا بُدَّ أنَّه كان يوجد خِلاف. ولكنَّ تلك الكنيسة ما زالت تُفَرِّحُ قَلبَه.
فجميعُ الكنائس مُقَصِّرة. وجميعُ الكنائس تُخَيِّبُ أَمل رُعاتِها وقادتها. فالنَّاس يَفعلون ذلك. فنحن بشر. ومع ذلك، كان هؤلاء الأشخاص يُحبُّون الرَّبَّ، ويُحبُّون الرَّسول، ونجحوا تمامًا في مَسح شريط الذِّكريات السَّلبيَّة فلم يَفتكر بهم سوى بالأفكار المُفرحة. فقد كانت كلُّ ذِكرى تُدخِلُ السُّرور إلى نفسه. ويا لها مِن ذِكرياتٍ مُبارَكة! هل تَذكرونها؟ فلا بُدَّ أنَّه تَذكَّر ذلك السَّبت الَّذي ذهب فيه إلى ضَفَّة النَّهر فوجد نساءً يهوديَّات لأنَّه لم يكن يوجد مَجمعٌ يهوديٌّ هناك بسبب عدم وجود عددٍ كافٍ مِن الرِّجال لتأسيس مَجمَع. وقد التقى مجموعةً مِن النِّساء اليهوديَّات اللَّواتي كُنَّ يَجلسن عند ضَفَّة النَّهر بالقرب من فيلبِّي ويَتعبَّدن لله الحقيقيِّ بحسب تَقليد أجدادهم اليهود. وهناك فَتحَ الرَّبُّ قلب سَيِّدة اسمُها لِيديَّة فخَلصت هي وكلُّ أهلِ بيتها ليكونوا أوَّل مُهتَدين في أوروبَّا.
وقد كانت تلك السيِّدة الفاضلة هِبَة مِن الله إلى بولس، وبداية الكِرازة في قَارَّة جديدة؛ وهي بداية رائعة وذِكرى حُلوة. وقد صارت قِدِّيسة عَزيزة تَجتمع في بيتها الكنيسة. وهي امرأة أَظهرت حُسن ضِيافتها لبولس وسيلا بعد خُروجهما مِن السِّجن. ثُمَّ إنَّ هناك ذِكرى تلك الفتاة الَّتي يَسكُنها رُوحٌ نَجِس والَّتي عمل بولس بقوَّة رُوحِ الله على تحريرها مِن تلك الأرواح النَّجسة. ولعلَّها وُلدت مِن جديد وانضمَّت هي الأخرى إلى الكنيسة. وسوف نَعرف الجواب في السَّماء. ثُمَّ إنَّ هناك ذِكرى السِّجن؛ أي الذِّكرى العَطِرَة لوضع رِجليه في المِقْطَرة بعد أن مَزَّقوا ثِيابَهُ وعَرُّوا ظَهرَهُ وجَلدوه حتَّى تَمَزَّق لَحمُه. وأنت تَقبعُ في ظُلمة زِنزانة داخليَّة ورِجلاكَ في المِقطَرة وتُرَنِّمُ وتُسَبِّحُ الله.
واللهُ يُحدِثُ في الظُّلمة الَّتي تَسبق الفَجر زِلزالاً، ويَفتحُ أبواب السِّجن، ويَفتحُ المِقطَرة، ويَفُكُّ كلَّ القيود. وبسبب ذلك كُلِّه يَهتدي السَّجَّانُ إلى المسيح هو وكلُّ أهلِ بيته فيُظهرون مَحبَّةً رقيقةً لبولس وسيلا مِن خلال الاعتناء بجراحاتهما. وَتُقامُ هناك خِدمة مَعموديَّة. ثُمَّ إنَّهُم يُطلقون سراحُهما فتَجتمعُ الكنيسة في بيت لِيديَّة. إنَّها ذِكرياتٌ حُلوة... ذِكرياتٌ حُلوة.
ثُمَّ إنَّ هناك ذِكرى تلك الأوقات عندما أَرسلَ مؤمنو فيلبِّي مالاً إليه... مالاً لمساعدته. تلك الأوقات الَّتي قاموا فيها (بصفتهم جُزءًا مِن القدِّيسين في مَكِدونيَّة - كما هو مذكور في رسالة كورنثوس الثَّانية والأصحاح الثَّامن)، بإرسال المال بِسخاء بالرَّغم مِن فَقرهم الشَّديد. فقد كانوا أُناسًا أَسخياء ومُحبِّين. وقد كانت عَطايا مُقدَّمة مِن قلوبهم المُحِبَّة، وعطايا تَفوق حتَّى احتياج بولس. وهو يقول لهم في الأصحاح الرَّابع: "انظروا! أنا لا أحتاجُ هذا كُلَّه، ولكنِّي مسرورٌ لأنَّكم أعطيتم ذلك لأنَّكم قَدَّمتموه عَطيَّةً للرَّبِّ. وهذا يُخبرني أين هو قلبُكم. وسوف يُكافئكم اللهُ ويُبارككم". "فَيَمْلأُ إِلهِي كُلَّ احْتِيَاجِكُمْ بِحَسَبِ غِنَاهُ فِي الْمَجْدِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوع".
ثُمَّ إنَّ هناك آخر عَطيَّة، أي العطيَّة الَّتي جاء بها "أَبَفْرُودِتُس"، أو الَّتي جَلَبها أَبَفْرُودِتُس معه فأعادَ مِن خلالها الذِّكريات الجميلة بمؤمني فيلبِّي. ومع أنَّ أحواله الحاليَّة كانت قاسية، ومع أنَّ أحواله الحاليَّة كانت مؤلمة جسديًّا، وغير عادلة قانونيًّا، وغير قابلة للتَّفسير روحيًّا مِن جهة، فإنَّ قلبَه لم يتأثَّر، بل كان مُمتلئًا بالذِّكريات الحُلوة.
وهل يمكنني أن أقول لكم إنَّ ذلك الأمر هو واحدٌ مِن مَفاتيح الفَرح المَسيحيّ؟ فهو مِفتاحٌ حقيقيٌّ – أن تَتمكَّن مِن تَذكُّر صَلاح النَّاس، وأن تَتمكَّن مِن تَذَكُّر أفضل ما في شخصٍ ما، وأن تَتمكَّن مِن التَّغاضي عن بعض مُنَغِّصاتِ الحياةِ وأن تَتذكَّر فقط الذِّكريات الجميلة. فالقلب الَّذي يَسكن فيه فرح الرُّوح القُدُس، كما هي الحال في بولس، هو قلبٌ يُلامس الأشياء الحُلوة في الحياة؛ لا الأشياء المُرَّة. فهو يَتذكَّر صَلاحَ الآخرين، ولُطفَ الآخرين، ومحبَّة الآخرين، وعَطف الآخرين، ورِقَّة الآخرين، وتضحية الآخرين، وعناية الآخرين، ويَنسى البَاقي. فهو يَنساها حقًّا. فهو يَنسى الباقي.
ويمكنني أن أُميِّز بسهولة (إن أُتيحَ لي الوقتُ الكافي) القلبَ الَّذي لا يُهيمِنُ فيه رُوحُ اللهِ لأنَّه لا يوجد فيه فَرح. فهو يَميلُ دائمًا إلى التَّركيز على عدم لُطفِ الجميع، وعدمِ امتنانِهم، وأخطائِهم، والجروحِ الَّتي سَبَّبوها لنا. إنَّها عَطيَّة مَيِّتة لأنَّها تُرَكِّز على الأمور غير السَّويَّة في الجميع والأشياء الَّتي لا نرغب في أن يفعلها الآخرون.
تَعَلَّموا أن تَسلكوا في الرُّوح، وتَعلَّموا أن تَخضَعوا للرُّوح. وروحُ الله لديه طريقته الخاصَّة في مَحو شريط الأشياء السَّلبيَّة. وأنا أَشكر اللهَ لأجل ذلك. فأنا أشكر اللهَ لأنِّي لا أتذكَّر الإساءات غالبًا. وأنا أطلب مِن روح الله أن يَمحي تلك الأشياء، وأن يُنشِئَ فِيَّ فَرحًا يُرَكِّز على الذِّكريات المُفرحة. فهذا هو عمل الرُّوح في قلب المؤمن. فالمرارةُ وعدمُ الغُفران يَتذكَّران دائمًا الشَّرَّ. وهذا هو عمل الجسد؛ فضلاً عن مشاعر الضَّغينة. وكما قال "توماس هاردي" (Thomas Hardy): "هناك أشخاص يستطيعون أن يَعثروا على كَومَةِ الرَّوْثِ في أيِّ حَقل". هل تريد أن تعيش هكذا؟ هل تريد أن تَتعثَّر بسبب تلك الأشياء طَوال حياتك؟ أنا لا أريد ذلك. وقد كان فَرح بولس يَنبُع مِن الذِّكريات المُبهِجة. وهذا عُنصرٌ أساسيٌّ للفرح. إنَّه فَرحُ الذِّكريات.
ولننظر إلى فَرَحٍ آخر. وكم كنتُ أَتمنَّى أن أقول المزيد عن ذلك. الفَرح الثَّاني: فَرح الصَّلاة. وهذا عُنصر آخر للفرح. العدد 4: "دَائِمًا فِي كُلِّ أَدْعِيَتِي، مُقَدِّمًا الطَّلْبَةَ لأَجْلِ جَمِيعِكُمْ بِفَرَحٍ". والآن، نجد هنا عُنصرًا للفَرح لا تُريدون أن تُفَوِّتوه: فَرح الصَّلاة لأجل الآخرين. فعندما يكون روحُ الله مُهيمنًا على حياتك، وتعيش في طاعةٍ لكلمة الله، وتكون تحت هَيمنة الرُّوح، سوف تَفرح في الصَّلاة لأجل الآخرين. وبولس يقول: "في كُلِّ مَرَّة أُصلِّي فيها لأجلكم أَمتلئ فَرحًا". والآن، لقد كان ذلك الفرحُ مُرتبطًا بذكرياته. وقد كان ذلك الفَرح مُقترنًا بذكرياته. وهذا هو فَرح أن تَتمتَّع بامتياز الصَّلاة. والكلمة المُستخدمة للصَّلاة هنا تُشيرُ إلى التَّضَرُّع "ديئيسز" (deesis)، وهي تُستخدَم مَرَّتين في الآية وتَحمل فِكرة طَلَب شيءٍ مِن الله لأجل شخصٍ آخر. وهذا تَعبيرٌ عن الفَرح. فَفرحُ الرُّوح القُدُس لا يُشترَط فيه أن يكون مَقرونًا بشيءٍ أَملِكُه أنا، بل هو مَقرونٌ بامتياز الصَّلاة إلى الله لكي يُغدِقَ بَركتَه على الآخرين. فالفَرح الحقيقيُّ يُعَبَّر عنه مِن خلال حقيقة أنَّني أستطيع أن أرى الله يَعمل في حياة أشخاصٍ آخرين؛ أي بانشغالي بهم أكثر مِن انشغالي بنفسي.
ونحن نَرى هنا بولس المَسجون الَّذي يَعيش في ظُروفٍ سَلبيَّة لا فقط جسديًّا، بل حتَّى مِن جهة خدمته. فسوف تقرأون في جُزءٍ لاحقٍ في الأصحاح عن أشخاصٍ كانوا عاكِفينَ حقًّا حقًّا على انتقادِه مِن دون رحمة ومِن دون شفقة. وهو لم يكن يَستحقُّ ذلك البتَّة. لِذا فقد كان يَحتملُ كلَّ تلك المَرارة مِن كَارِزينَ مُنافِسينَ وأشخاصٍ يُعادونه. ولكنَّ ظُروفَه الخاصَّة تلك لم تؤثِّر سلبيًّا في فرحه. والدَّليل على أنَّه كان فَرَحًا نابعًا مِن الرُّوح يَكمُن في حقيقة أنَّه كان فَرِحًا جدًّا في الصَّلاة لأجل حاجات أُناسٍ آخرين بالرَّغم أنَّه هو نفسُه كانت لديه حاجات أعظم مِن حاجاتهم مِن بضعة أَوجُه. فالصَّلاةُ إلى الله لأجل الآخرين هو عُنصُر فَرح.
ويمكنك أن تَعلم إن كنتَ تُختبر فَرح الرُّوح القُدُس. فهل تَجِد فَرَحًا في الصَّلاة لأجل شخصٍ آخر؟ فعندما تُصلِّي، هل تَفرح حين تُصلِّي لأجل الخير الرُّوحيِّ والبَركة والنُّموِّ في حياة أُناسٍ آخرين؟ أَم أنَّك تُصلِّي دائمًا وأبدًا لأجلك أنت فقط؟ والآن، صحيحٌ أنَّ صلواتنا لأجل الآخرين تَنطوي أحيانًا على الألم. فهذا مُؤكَّد. فحتَّى في الأصحاح الثَّالث، أَلا لاحظتُم العدد 18؟ فبولس يقول في العدد 17: "كُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِي مَعًا أَيُّهَا الإِخْوَةُ، وَلاَحِظُوا الَّذِينَ يَسِيرُونَ هكَذَا كَمَا نَحْنُ عِنْدَكُمْ قُدْوَةٌ. لأَنَّ كَثِيرِينَ يَسِيرُونَ مِمَّنْ كُنْتُ أَذْكُرُهُمْ لَكُمْ مِرَارًا، وَالآنَ أَذْكُرُهُمْ أَيْضًا بَاكِيًا، وَهُمْ أَعْدَاءُ صَلِيبِ الْمَسِيح". فقد كان يوجد أشخاص صَلَّى لأجلهم بدموع، وَهُم أعداءُ المسيح.
أمَّا بخصوص مؤمني فيلبِّي، فقد كانت صلواتُه خالية مِن الألم ومُمتلئة بالبَهجة والسُرور. فقد كان يُحبُّهم، وكانوا يُحبُّونه. وقد كان مُمتلئًا فرحًا لِذِكرِهِ إيَّاهم. وكان ذلك الفَرح يُعبِّر عن نفسه مِن خلال الصَّلاة بسرور لأجلهم. وكما تَرون فإنَّ المحبَّة تُبالي بالآخرين. والفرح يَكمُن في التَّعبير عن المحبَّة مِن خلال الحِرص على سَدِّ حاجات الآخرين. فالفَرح يَبتهج في التَّضَرُّع إلى الله مِن أجل حاجات الآخرين. وَهُوَ لا يَشغل نفسه بنفسه حتَّى في وسط الألم، وحتَّى في وسط الظُّروف الصَّعبة، بل إنَّه يَطلب بفرح لأجل أن يَحصل الآخرون على البَركة. فهو يَهتمُّ بألم الآخرين أكثر مِن ألمه هو. وهذا هو ما يتحدَّث عنه الأصحاح الثَّاني: "لاَ تَنْظُرُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لِنَفْسِهِ، بَلْ... حَاسِبِينَ بَعْضُكُمُ الْبَعْضَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ".
وأعتقد أنَّه كان فَرَحًا خاصًّا في هذه الحالة عندما عَلِمَ بولس أنَّ الحالة الرُّوحيَّة للأشخاص الَّذينَ صَلَّى لأجلهم كانت جيِّدة. فقد كان يَشعر بفرحٍ خاصٍّ في ذلك. ومع أنَّ المرأتين المَذكورتين في الأصحاح الرَّابع أَحدَثَتا مُشكلةً فإنَّ ذلك لم يَسلبه فَرَحه. فهُما لم تَتمكَّنا مِن أن تَسلباه فَرَحه. فبعد أن تحدَّث عنهم في العدد 10 قائلاً: "ثُمَّ إِنِّي فَرِحْتُ بِالرَّبِّ جِدًّا" فإنَّه يقول: "اِفْرَحُوا فِي الرَّبِّ كُلَّ حِينٍ، وَأَقُولُ أَيْضًا: افْرَحُوا". وأعتقد أنَّه لا بُدَّ لي مِن الاعتراف لكم بأنِّي أخشى مِن وجود عددٍ ضئيلٍ جدًّا مِن المؤمنين الَّذينَ يَعرفون الفَرح الحقيقيَّ الَّذي يَهَبُه الرُّوح القُدُس للمؤمن المُطيع تمامًا. وهذا يَظهر بهاتين الطَّريقتين: أفكارهم السَّلبيَّة تُجاه الآخرين، وعدم اهتمامهم أو ابتهاجهم أو فَرحهم في الصَّلاة لأجل الآخرين.
فَهُم لا يُفكِّرون سوى بأنفسهم. وَهُم أنانيُّون. لِذا، عندما يُسيءُ إليهم شخصٌ آخر فإنَّهم يَشعرون بالضَّغينة نحوه. وهذا غرور. وهذه كبرياء. فَهُم لا يجدون أيَّة بهجة في الصَّلاة لأجل الآخرين. وهُم لا يُبالون بهم كما يُبالون بأنفسهم. وهذا يَظهر مِن خلال عدم وجود فرحٍ في الرُّوح. وهذا يَظهر مِن خلال السُّلوك بالجسد أو في الجسد. أمَّا المحبَّة فتُعبِّر عن نفسها مِن خلال الابتهاج بخير الآخرين. وهذا عُنصرٌ مِن عناصر الفرح. وهناك رَجُل اسمُه "جورج ريندروب"؛ وهو اسمٌ مُدهش! وقد كَتب كِتابًا بعنوان: "ليست مهمَّة عاديَّة" (No Common Task). وهو يَذكر فيه حادثةً جميلةً أَوَدُّ أن أذكرها لكم. فهو يتحدَّث في الكتاب عن مُمرِّضة، وكيف أنَّ هذه المُمرِّضة عَلَّمت رَجُلاً أن يُصلِّي، وغَيَّرت حَرفيًّا حياة هذا الرَّجُل بمُجملها. وتقول القصَّة إنَّه بعد أن كان رَجُلاً مُكتئبًا وساخِطًا ومُغتَمًّا، صار رَجُلاً فَرِحًا.
وإليكم ما يقولُه الكاتب: "لقد كانت تقوم بالكثير مِن أعمال التَّمريض بيديها. وقد كانت تَستخدم يديها، في الحقيقة، كخُطَّة للصَّلاة. فقد كانت تُخَصِّصُ كلَّ إصبعٍ مِن أصابعها لشخصٍ ما. ولأنَّ إصبع الإبهام كان الأقرب إليها، كان يُذكِّرها بأن تُصلِّي لأجل الأشخاص الأقرب والأعَزّ والأحَبّ إلى قلبها. وكان الإصبع الثَّاني يُستخدَم للإشارة إذ إنَّ الأشخاص الَّذينَ يُعَلِّمونَنا يُشيرون إلينا به عندما يَسألوننا سؤالاً. لذا فقد كان إصبعُها الثَّاني يُذكِّرها بجميع مُعلِّميها فتُصلِّي لأجلهم. وكان الإصبع الثَّالث هو الأطول، وهو يُشيرُ إلى الأشخاص المُهِمِّين؛ أي إلى القادة في جميع مجالات الحياة. والإصبع الرَّابع هو الأضعف كَما يَعلم كلُّ عازف بيانو. وقد كان يُذكِّرها بالأشخاص الضُّعفاء، أو الَّذينَ لديهم مشاكل، أو يتألَّمون. وكان الإصبع الصَّغير هو الأصغر والأقلُّ أهميَّةً. لذا فقد كان في نظر المُمرِّضة الإصبع الَّذي يُشيرُ إليها". وهذه خُطَّة رائعة للصَّلاة. وسوف يكون هناك دائمًا شعورٌ عميقٌ بالفرح في قلب الشَّخص الَّذي يَتعلَّم أن يُصلِّي بحسب تلك الخُطَّة الصَّغيرة مُبتدئًا بالآخرين ومُنتهيًا بالأقلِّ شأنًا؛ أي بنفسك. وهذا هو فَرح الصَّلاة أو فَرح التَّضرُّع.
وهناك فكرة أخرى وهي: فَرح المشاركة...فَرح المشاركة. فهو عُنصر آخر للفرح. فالعُنصر الأوَّل يَتأتَّى مِن فكرة أنَّنا نستطيع أن نَتذكَّر بصورة رائعة الأشياء الجيِّدة، والعنصر الثَّاني هو أن نَملِك امتيازَ الصَّلاة لأجل الأشخاص الَّذينَ نُحبُّهم. فكلاهما عُنصرٌ للامتلاء بفَرح الرُّوح.
وهناك عُنصر ثالث وهو فَرح المُشاركة. فالعدد الخامس يقول: "لِسَبَبِ مُشَارَكَتِكُمْ". والكلمة المُستخدمة هنا هي "كوينونيا" (koinonia). " مُشَارَكَتِكُمْ فِي الإِنْجِيل مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ إِلَى الآنَ". فبولس فَرِحَ بسبب شَراكَتِهم. فهذا هو معنى تلك الكلمة – لسببِ اشتراكِكُم، أو شَركتكُم، أو مُشاركتكُم. فقد كان شكورًا بسبب مشاركتهم في الإنجيل؛ أي لأجل خلاصُهم. فَهُوَ مُمْتَنٌّ لأنَّهم كانوا مُؤمِنين. ثُمَّ إنَّه يُضيف قائلاً: "مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ [لاهتدائِكم] إِلَى الآنَ". فهو شَكورٌ لأجل شركتهم في الخلاص. ولكن مِن لحظة خلاصهم، وطَوال السَّنوات الماضية، كانوا شُركاء ومُشاركين ومُشتركين.
والآن، يجب أن نَعلم أنَّ الكلمة "كوينونيا" (والَّتي تعني: شركة، أو مشاركة، أو اشتراك) تُستخدم في العهد الجديد أحيانًا للإشارة إلى المساهمة الماليَّة أو التَّبرُّع بالمال. فهي تَحمل هذا المعنى الصَّريح في العديد مِن آيات العهد الجديد. والحقيقة هي أنَّنا نقرأ في رسالة رومية 12: 13: "مُشْتَرِكِينَ فِي احْتِيَاجَاتِ الْقِدِّيسِين" إذ إنَّ الكلمة المستخدمة هناك هي "كوينونيا" إشارة إلى الشَّراكة. وهي مساهمة تحدث غالبًا. وهي تعبير عن الشَّراكة والشَّركة والمحبَّة عندما تُعطي مِن مالك لدعم الخدمة. ففي رسالة رومية 15: 26، تَمَّت الإشارة إلى المساهمة الَّتي حدثت لإعانة القدِّيسين الفُقراء في أورُشليم باستخدام الكلمة "توزيع". وفي رسالة كورنثوس الثَّانية 8: 4 و 9: 13، ورسالة تيموثاوس الأولى 6: 18، والرِّسالة إلى العِبرانِيِّين 13: 16، استُخدمت الكلمة "كوينونيا" إشارة إلى المساهمة الماليَّة. فهذا هو نوع المشاركة.
لذا فإنَّه يقول (رُبَّما بالمَعنى الفَضفاض): "أنا فَرِحٌ لأنَّكم خَلصتم، ولأنَّكم شركاء معي في الإنجيل، وأيضًا لأنَّكم شركاء معي في نَشر الإنجيل مِن خلال عَطاياكُم وعطائكم. كذلك، أنَّكم شُركاء معي في نشر الإنجيل مِن خلال نَشركم للإنجيل". فقد كان فَرِحًا وحسب بشَركة القدِّيسين. فقد أعطوه الكثير إذ نقرأ في العددين 15 و 16 مِن الأصحاح الرَّابع: "وَأَنْتُمْ أَيْضًا تَعْلَمُونَ أَيُّهَا الْفِيلِبِّيُّونَ أَنَّهُ فِي بَدَاءَةِ الإِنْجِيلِ، لَمَّا خَرَجْتُ مِنْ مَكِدُونِيَّةَ، لَمْ تُشَارِكْنِي كَنِيسَةٌ وَاحِدَةٌ فِي حِسَابِ الْعَطَاءِ وَالأَخْذِ إِلاَّ أَنْتُمْ وَحْدَكُمْ. فَإِنَّكُمْ فِي تَسَالُونِيكِي أَيْضًا أَرْسَلْتُمْ إِلَيَّ مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ لِحَاجَتِي". فقد شاركوا بكلِّ تأكيد في الجانب الماليّ.
ولكن هناك ما هو أكثر مِن ذلك. فهو يقول إنَّ الأمر يَكمُن في مشاركتكم... لا في المال، بل في الإنجيل. فهو لا يكمن وحسب في مشاركتهم مِن جهة الخلاص، مع أنَّ ذلك هو بلا أَدنى شَكٍّ جُزءٌ مِن الأمر، ولكنَّه يَكمُن في التَّعاون مِن أجل تَقَدُّمِ ونُمُوِّ ودعمِ انتشار الإنجيل. فهو يقول ببساطة: "أنا مُمْتَنٌّ جدًّا وحسب لأنَّكم شاركتم مِن البداية إلى الآن في نَشر الإنجيل، ولأنَّكم وقفتم بجانبي كشُركاء".
والآن، كما تَعلمون، هذا عُنصرٌ آخر مِن عناصر الفَرح. فالشَّخص الَّذي يَعمل فيه روح الله بحُريَّة على إنشاء الفرح سيَفرح في شركة المؤمنين. وهو سيُحبُّ أن يكون مع المؤمنين. وهو سيُحبُّ أن يَمتلِكَ قَلبًا يَدفعه إلى النُّهوضِ والقول: "أنا أُباركُكم على مشاركتكم". وأنا أشعر حقًّا بذلك في قلبي. فطوال نحو عشرين سنة، اشتركتم معي في الإنجيل. فقد دَعمتم عائلتي. وقد وَقفتم مع أبنائي وزوجتي. وقد شاركتم في سَدِّ حاجاتِ بيتي، وملابسي، وتعليم أبنائي. وقد فعلتم أمورًا لا تُقَدَّر بثمن مِن جهة الاشتراك في الإنجيل مِن خلال تَمكيني مِن الاستمرار في الخدمة.
وعَدا عن الالتزامِ الماليِّ الَّذي أَظهرتموه مِن نَحوي، شاركتم، ووقفتم معي، وشَجَّعتموني، ودَعمتموني، وعملتم، وكنتم وما تزالون أعضاء في الفريق في الخدمة هنا. فقد شاركتم، وأنا أبتهجُ بذلك. وأنا مَديونٌ بالفَضل لكم. وفَرحي يَتدفَّق عندما أُفكِّر في مشاركتكم في الإنجيل. لا فقط أنَّكم خَلصتم؛ وهو أمر أفرح به. ولكنِّي أفرح أنَّه مِن أوَّل يومٍ خلصتم فيه فصاعدًا، شاركتم واشتركتم وساهمتم في نجاح الخدمة. وهذا كَنزٌ لا يُقدَّر بثمن. ويا لها مِن شَركة رائعة! يا لها مِن شَركة رائعة!
وقد عَلَّق "وليام هندريكسِن" (William Hendriksen) تَعليقًا استثنائيًّا على هذه الفكرة في تفسيره لرسالة فيلبِّي. وما زلتُ أذكُر ما قالَهُ، وأضفتُ إليه القليل. ولكن عندما أُفكِّر في الشَّركة الَّتي نَتمتَّع بها، وفي الشَّراكة، هل عَرَّفتُم يومًا ماهيَّة شَركتنا؟ إنَّها شركة نِعمة في المقام الأوَّل... نِعمة. فهي ليست شَراكة عاديَّة. وهي ليست شَراكة أفلاطونيَّة. وهي ليست شَراكة مِن صُنع بَشر. فنحن لسنا ناديًا أو جَمعيَّةً مِثل الإيلكس (Elks) أو الرُّوتاري (Rotary) أو الرُّويال أوردر (Royal Order) أو الغوتس (Goats) أو أيّة جمعيَّة أخرى. ونحن لسنا مُنظَّمة مِن صُنع البَشر، بل إنَّ هذه شَركة إلهيَّة أَسَّسَها اللهُ في المسيح مِن خلال الرُّوح بالنِّعمة. فهي شَرِكة بالنِّعمة. وبمعزِلٍ عن الثَّالوث، لن يكون لها وجود، ولا يمكن أن تَتشكَّل على مستوى البشر. فهي تَتخطَّى الزَّمان والمكان. وهي تدوم إلى الأبد.
وهي أيضًا شركة حياة. فنحن جميعًا نشترك في نفس الحياة الأبديَّة المشتركة الَّتي وُهِبَت لنا في المسيح. فهو يَهَبُنا جميعًا حياةً. ونحن جميعًا واحدٌ معه، وواحدٌ مع الآب، وواحدٌ مع الرُّوح القُدس، وواحدٌ بعضُنا مع بعض. فهي شركة حياة. ويا لهُ مِن سَببٍ يَدعو إلى الفَرح. وهي شركة إيمان. فكما أنَّ يسوعَ يَدنو مِن الخاطئ شخصيًّا، فإنَّ الخاطئ يَدنو مِن الله بإيمانٍ حَيٍّ. فهي شركة إيمان. فنحن جميعًا نؤمن. فنحن جميعًا نؤمن بنفس الإله. ونحن جميعًا نؤمن بنفس الحقِّ المُختصِّ بكلمة الله. وهي شركة صلاة. فهي شركة نأتي فيها معًا أمام الله لنُصَلِّي بعضُنا لأجل بعض. وهي شركة تسبيح، وشركة شُكر، وشركة محبَّة. فنحن نَضع المؤمنين الآخرين في قلوبنا ونَتوق إليهم بدافع المحبَّة. وهي شركة خدمة إذ إنَّنا نَحمل معًا الثِّقْلَ ونقوم بالخدمة. وهي شركة مشاركة في سَدِّ حاجات الآخرين. وهي شركة نَشر الإنجيل مِن خلال الكِرازة والتَّعليم والشَّهادة.
وهي شركة انفصال عن العالَم والتصاق بالمسيح. فنحن مُنفصلون عن العالَم. وهي شركة حرب أو جِهاد. فنحن نَشُنُّ حربًا جنبًا إلى جنب [أليس كذلك؟] ضِدَّ عَدوٍّ مُشترك. شركة! فالشَّخص المُمتلئ بفرح الرُّوح القُدس يَفرح بالشَّركة. فهل يوجد شيء في العالَم أروع مِن هذا؟ وأريد أن أقول لكم شيئًا يا أحبَّائي: هناك أشخاص يَصُولونَ ويَجولونَ مُحاولين أن يَنتقدوا كلَّ الأشياء الصَّغيرة، وأن يَنتقدوا كلَّ الأشياء التَّافهة الَّتي لا تَسير كما يُحبُّون. وكلُّ ما يفعله ذلك هو أنَّه يُظهِر عدم وجود فَرح الرُّوح القُدُس. فأنتم لا تَدرون روعة الحصول عليه. انظروا إلى الشَّركة الَّتي تَتمتَّعون بها. انظروا إلى الأشخاص الَّذينَ يُصَلُّون لأجلكم، ويقفون إلى جانبكم لكي يُتيحوا لكم أن تَخدموا المسيح. انظروا إلى الأشخاص المُتاحين لكم والَّذين يَعتنون بكم، والَّذين يرغبون في سَدِّ حاجاتكم، ويَرغبون في مُساندة أبنائكم وعائلتكم، وفي دَعمكم، والَّذين هُم مُتاحون لكم كي يَخدموكم ويَستخدمون مواهبكم الروحيَّة. انظروا إلى الأشخاص الَّذينَ يخدمونكم. فإن لم تكن قادرًا على الابتهاج بذلك فإنَّ المشكلة ليست في الخارج، بل هي في الدَّاخل.
فالفَرحُ الحقيقيُّ الَّذي يُنشئه الرُّوح القُدس يَسترجِع الذِّكريات الطيِّبة والحُلوة، ويُحبُّ أن يُصلِّي لأجل احتياجات الآخرين، ولا يَنظر إليهم بسلبيَّة، بل يَحسَبه فَرحًا أن يُصلِّي لأجل الآخرين، ويَفرح في الشَّركة. ولا توجد البتَّة شركة كاملة، ولكن شركة خارقة للطَّبيعة أَنشأها الله. فهي شركة ذاتُ تصميمٍ إلهيّ. وبولس يقول: "مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ إِلَى الآن". فَمِن ليديَّة فصاعدًا [كما يَقول]، أي مِن أوَّل يومٍ عند ضَفَّة النَّهر، لا توجد لحظة لم أتمتَّع فيها بالفرح عندما أتذكَّركم. وبالمناسبة، كانت عشرُ سنواتٍ تقريبًا قد مَضَت... عشرُ سنوات. وقد كان اشتراكُهم في نشر الإنجيل فَريدًا جدًّا إذْ لم توجد كنيسة أخرى أعطت بهذا السَّخاء. فقد كانوا مُضَحِّين. وقد وقفوا بجانبه. وقد كَرزوا بكلِّ أمانة بالإنجيل. وقد خَدموا بعضُهم بعضًا في تلك الكنيسة. وكانت قُلوبهم تَخفُق مع بولس. وكانت قُلوبهم تَخفُق بإنجيلِ المسيح. وكانت قلوبهم تَخفُق بعضهم لأجل بعض.
والحقيقة هي أنَّه عندما جاء أَبَفْرُودِتُس لرؤية بولس، كانوا يشعرون بالحزن الشَّديد لأنَّه لم يكن موجودًا بينهم لأنَّهم كانوا يُحبُّونه حُبًّا جَمًّا. وكان هو حَزينا جدًّا لأنَّه ليس هناك لأنَّه كان يُحبُّهم حُبًّا جَمًّا حتَّى إن بولس أرسلَه إليهم. فقد كانوا يَتمتَّعون بالشَّركة. وكانوا فَرِحينَ فَرحًا عميقًا... فَرحًا عميقًا. عندما مُسِحَ شاوُل في العهد القديم مَلِكًا، نَقرأ الكلماتِ التَّالية: "وَذَهَبَ مَعَهُ الْجَمَاعَةُ الَّتِي مَسَّ اللهُ قَلْبَهَا". وأنا أُحِبُّ ذلك. ثُمَّ نقرأ في الأصحاح الَّذي يَليه أنَّه عندما انتشر النَّبأ بأنَّ نَاحاشَ يُنَكِّلُ بشعبِ اللهِ، حَلَّ روحُ اللهِ بقوَّة على شاوُل إذْ نقرأ: "فَحَلَّ رُوحُ اللهِ [بقوَّة] عَلَى شَاوُلَ... فَخَرَجُوا كَرَجُل وَاحِدٍ". فقد لَمسَ اللهُ قلوبَهم. وعندما جاءَ العَدوُّ، خرجوا كرجُلٍ واحد. وقد كان مؤمنو فيلبِّي وبولس هكذا. فقد لَمسَ اللهُ قلوبهم جميعًا مِن اليوم الأوَّل فظَلُّوا طَوال تلك السَّنوات العشر تقريبًا رَجُلاً واحدًا مِن جهة القلب. وهُنا يَكمُن فَرح بولس: كنيسة فيلبِّي تلك، والذِّكريات الحُلوة، وامتياز الصَّلاة بفرح لأجلهم، وفَرح مُشاركتهم المستمرَّة.
كيف هو فَرَحُك؟ كيف هي حالُ الفَرح في قلبك اليوم؟ قد تقول: "الحقيقة، مَن أين أبدأ؟" سوف أقول لك مِن أين تبدأ. فهو يَنشأ مِن قِبَل مَن؟ الرُّوح القُدُس. ابدأ بالتَّوبة عن الخطيَّة في حياتك. اعترِف بها للرَّبِّ، واخضَع لروحِ الله، واسمح للرُّوحِ أن يُنشئ فَرحًا. واسمحوا لي أن أقول لكم شيئًا: إنَّ حقيقة أنَّ الله اختاركَ للخلاص قبل تأسيس العالَم، وحقيقة أنَّه أعطاك حياة مجيدة رائعة في المسيح، وحقيقة أنَّه وُضَعَكَ في هذه الكنيسة بجانب هؤلاء الأشخاص، وحقيقة أنَّك مُنِحتَ الامتياز بأن تُصلِّي صلواتٍ تَشفُّعيَّة وأن تقف في حضرة الله في أيِّ وقت، وحقيقة أنَّ الله قد ملأ حياتَك ببركاتٍ كثيرة جدًّا ينبغي أن تَجعلك مُمتلئًا دائمًا بماذا؟ بالفرح. أمَّا إن لم يكن الفرح موجودًا لا تَلُم ظُروفَك، بل انظر إلى الفَرح مِن الزَّاوية الَّتي ينبغي أن تنظر فيها إليه. فهو يَنبُع مِن الدَّاخل. دَعونا نَحني رؤوسَنا معًا كي نُصلِّي:
دَعونا جميعًا، بقلوبٍ مُنسجمة مع الرَّبِّ في لحظة صمتٍ في خِتام خدمتنا، دعونا نَسأل روح الله أن يُنشئ ذلك الفرح فينا، وأن يُسَلِّط الضَّوء على الخطيَّة، ويكشفها، ويُطهِّرها. يا أحبَّائي، يجب أن تكون هذه الكنيسة أكثر كنيسة فَرِحَة في العالَم. فنحن أغنياء جدًّا... أغنياء جدًّا. اسأل روح الله أن يُنشئ فَرح الذِّكريات كي تَرى النَّاس وتتذكَّر الأشياءَ الطيِّبة والذِّكريات الحُلوة. لِمَ تجعل الحياة ثِقْلاً في حين أنَّه لا يجدر بك ذلك؟ لِمَ لا تَستمتع بها؟ لِم لا تُحِبُّها؟ اسأل روح الله أن يُنشئ فينا فَرح الصَّلاة لكي نَفرح بمُجرَّد الصَّلاة لأجل سَدِّ حاجات الآخرين عوضًا عن تَذَكُّرهم بذكرياتٍ سلبيَّة. اسأل روح الله أن يجعلنا نَفرح بسبب المشاركة الَّتي نشترك فيها جميعًا. فهذه الكنيسة بأسرِها قائمة نتيجة مشاركة أشخاص كثيرين. والبناء الجديد، بسبب مشاركتكم، سيُستخدَم في تدريب الأطفال والشَّباب أن يعيشوا لأجل المسيح، وأن يَكرزوا كلمتَه ويُعلِّموها. فنحن جميعًا نشترك. وهُنا يَكمُن الفرح. اسأل روح الله أن يُجَدِّد ذلك الفَرح في قلبك.
يا أبانا، نسألُك أن تَجعلنا مُمْتَنِّين وفَرِحين. املأنا بروحك. باسم يسوع. آمين!

This article is also available and sold as a booklet.