
عندما نَفتَحُ كَلِمةَ اللهِ معًا، لا بُدَّ أن يتَّضِحَ لنا جميعًا أنَّنا على وَشْكِ أن نَسمعَ الرَّبَّ يَتكلَّمُ إلينا. فهذهِ الكلماتُ الَّتي تأتينا مِن صَفَحاتِ الكتابِ المقدَّسِ هي كلمةُ اللهِ النَّقِيَّة مِن قَلبِهِ وصَوتِهِ إلينا. لِذا فإنَّها تَستدعي انتباهَنا.
نَصُّنا لهذا الصَّباحِ هو رسالة تسالونيكي الثَّانية 1: 11 و 12. رسالة تسالونيكي الثَّانية 1: 11 و 12: "الأَمْرُ الَّذِي لأَجْلِهِ نُصَلِّي أَيْضًا كُلَّ حِينٍ مِنْ جِهَتِكُمْ: أَنْ يُؤَهِّلَكُمْ إِلهُنَا لِلدَّعْوَةِ، وَيُكَمِّلَ كُلَّ مَسَرَّةِ الصَّلاَحِ وَعَمَلَ الإِيمَانِ بِقُوَّةٍ، لِكَيْ يَتَمَجَّدَ اسْمُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ فِيكُمْ، وَأَنْتُمْ فِيهِ، بِنِعْمَةِ إِلهِنَا وَالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيح".
هذا هو ما أُسَمِّيه: "تَقريرُ صَلاةٍ مِن بُولُس". فهو ليسَ صَلاةً؛ بالرَّغمِ مِن أنَّ رَسائِلَهُ تَحوي صَلواتٍ كثيرةً فيها؛ ولكنَّهُ تَقريرٌ عن كيفَ يُصَلِّي. فهو يُطْلِعُ مُؤمِني تسالونيكي على طبيعةِ صَلاتِهِ لأجلِهم. وعندما تَنظرونَ إلى تلكَ الصَّلاة وتتأمَّلونَ فيها، ستُدركونَ أنَّهُ يُصَلِّي لأجلِ الأشياءِ الصَّحيحَة. ومِنَ المُحزِنِ أنَّ صَلواتِ أغلبيَّة المسيحيِّينَ مُوَجَّهة إلى الأشياءِ الخَطأ.
ففي أغلبِ الأوقات، يُصَلِّي المسيحيُّونَ لأجلِ أنفسِهم وأحبَّائهم ويَطلبونَ أشياءً ضَحْلَة. فالصَّلواتُ في أغلبِ الأحيانِ يُساءُ تَوجيهُها، وهي قَصيرةُ النَّظَر. وهي، في الحقيقة، أنانِيَّة. فالمسيحيُّونَ يُصَلُّونَ عادةً لأجلِ الصِّحَّة والسَّعادة والنَّجاح. وَهُم يُصَلُّونَ لأجلِ مَصالِحِهِم الشَّخصيَّة، ويُصَلُّونَ لأجلِ الرَّاحة، ويُصَلُّونَ لأجلِ حُلولٍ لمُعالجةِ كُلِّ المشاكلِ الصَّغيرةِ في الحياة. وَهُم يُصَلُّونَ لأجلِ شِفاءِ جَسَدٍ، أو لأجلِ بَيتٍ، أو طَعامٍ، أو عَمَلٍ، أو سَيَّارة، أو زَوج، أو زَوجة، أو تَرقِيَة، أو مَزيدٍ مِنَ المال. ومعَ أنَّ هذهِ الأشياءَ هي بِكُلِّ تأكيدٍ جُزءٌ مِنَ الحياةِ، فإنَّها تَحتَلُّ مَكانَةً مُتدنِّيةً جدًّا في لائحةِ أولويَّاتِ بولُس. وهي تَحتلُّ مَكانةً مُتدنِّيةً جدًّا في لائحةِ أولويَّاتِ يَسوعَ الَّذي أَوصانا بِصورةٍ رئيسيَّة ألاَّ نَهتمَّ بما نأكُل أو نَشرب أو نَلبَسُ، بل ينبغي أن نَعلمَ يَقينًا أنَّ اللهَ يُدَبِّرُ كُلَّ تلكَ الأشياء. لِذا، يَنبغي لنا أن نَطلُبَ تلكَ الأشياءَ المُختصَّةَ بملكوتِ الله. وغالبًا فإنَّنا نَطلُب [كَما يَقولُ يَعقوب] ولا نأخُذ لأنَّنا نَطلُبُ رَدِيًّا لكي نُنفِقَ في لَذَّاتِنا. لِذا فإنَّنا في أغلبِ الأحيانِ نُصَلِّي لا فقط لأجلِ الأشياءِ الخَطأ، بل نُصَلِّي أيضًا للسَّببِ الخَطأ.
وعندما نَنظُر إلى هذه الفكرةِ في صَلاةِ بولُس، نَرى رَجُلاً صَلَّى لأجلِ الأشياءِ الصَّحيحَة والسَّببِ الصَّحيح. فالشَّيءُ الصَّحيحُ مَذكورٌ في العدد 11. والسَّببُ الصَّحيح مَذكور في العدد 12. وسوفَ نَتحدَّث عن كِلا هَذينِ الأمْرَيْن. إنَّهُ نَصٌّ قَصير، ولكنَّهُ يَزْخُرُ بالحَقِّ حتَّى إنَّهُ يُمكنُنا أن نَصرِفَ شُهورًا في دراستِه. وأنتُم تَتَوَهَّمونَ جدًّا إن كُنتُم تَظُنُّونَ أنَّنا سنُنهي هَاتينِ الآيتينِ اليوم.
وأعتقد في هذه اللَّحظة أنَّهُ يُمكنني أن أطرحَ عليكم السُّؤالَ التَّالي: ما الَّذي تُصَلُّونَ لأجله؟ فعندما يَختصُّ الأمرُ بِكَ، وبحياتِكَ، وعائلتِكَ، والنَّاسِ الموجودينَ في العالم، والأشخاصِ الَّذينَ تُحِبُّهم، وكنيستِكَ، ما الَّذي تُصَلِّي لأجلِه؟ وماذا تَطلُب لنفسِك؟ وماذا تَطلُب لشريكِ حَياتِك؟ وماذا تَطلُب لأبنائِك؟ وماذا تَطلُب للأشخاصِ الَّذينَ تُحِبُّهم؟ وماذا تَطلُب لأجلِ الأشخاصِ في كنيستِك؟ ما الَّذي تُريدُهُ حَقًّا؟
فإن ظَهَرَ اللهُ وقال: "أريدُ أن أُحَقِّقَ لكَ ثَلاثَ أُمنيات. وأيُّ شيءٍ تَطلُبُهُ سأفعلُه"، ماذا ستكونُ أُمنياتُك؟ وماذا ستَطلُبُ مِنَ الله؟ هل لَديكَ القِيَم الصَّحيحة؟ وهل لَديكَ لائحة بالأولويَّاتِ الصَّحيحة؟ فنحنُ نَعيشُ بلا أَدنى شَكٍّ في عَالَمٍ مُعْوَجٍّ، ومُنحَرِفٍ، وعالَمٍ لا يَعرِفُ إلاَّ القَليل عنِ القِيَمِ الصَّحيحة. ونحنُ نَعيشُ في عَالَمٍ يَلهَثُ فيهِ النَّاسُ وراءَ الأشياءِ الخَطأ. وذلكَ السَّعيُ الدَّؤوبِ جدًّا مِن حَولِنا يَتَسَلَّلُ إلى حَياتِنا ويوقِعُنا في نَفسِ فَخِّ السَّعيِ وراءَ أشياءٍ لا تَعني أيَّ شيءٍ أو لا يَنبغي أن تَعني أيَّ شيءٍ لنا.
أمَّا مَوقفُ أغلبيَّةِ أهلِ العالَمِ مِن جِهَةِ بَحثِهم هذا فقد تَمَّ التَّعبيرُ عنهُ باقتِدارٍ في تلكَ القِصَّةِ الكلاسيكيَّة القصيرة الَّتي كَتَبَها "أنطون تشيخوف" (Anton Chekhov) بعُنوان: "الرِّهان" (The Bet). وقد كانَ "تشيخوف" كاتِبًا رُوسيًّا كَتَبَ في القرنِ التَّاسع عشر. وهذه القصَّة تُطْلِعُنا على نِظامِ القِيَمِ لدى أغلبيَّةِ النَّاس. تَدورُ حَبْكَةُ القِصَّة حَولَ مُراهَنَة [أو رِهان] بينَ رَجُلَيْنِ مُثَقَّفَيْن. وقد كانَ رِهانًا على مَوضوعِ السِّجْنِ الانفرادِيّ. فقد كانَ المَصْرِفِيُّ الغَنِيُّ الَّذي في مُنتَصَفِ العُمرِ يَرى أنَّ حُكْمَ الإعدامِ هو عِقابٌ أكثرَ إنسانيَّةً مِنَ السِّجْنِ الانفراديِّ لأنَّ الإعدامَ يَقتُل حالاً؛ في حينِ أنَّ السِّجْنَ الانفِراديَّ يَقتُل تَدريجيًّا. ولكنَّ واحدًا مِن ضُيوفِهِ في الحَفلة، وَهُوَ مُحامٍ شَابّ في سِنِّ الخامسةِ والعِشرينَ، خَالَفَهُ الرَّأيَ وقالَ إنَّ: "العَيشَ في أيَّة ظُروف هو أفضل مِن عَدمِ العَيش". وقد غَضِبَ المَصْرِفِيُّ ورَدَّ بغضبٍ وعَرَضَ رِهانًا بقيمة مَليونيّ رُوبِل؛ وهو ثَروة. فقد راهَنَ على أنَّ الشَّابَّ لا يَستطيعُ أن يَقضي خمس سَنواتٍ في سِجْنٍ انفِراديٍّ. وكانَ المُحامي مُقتنعًا جدًّا بقُدرتِهِ على التَّحَمُّل ومُتَحَمِّسًا جدًّا للحُصولِ على مَليونيّ رُوبِل حَتَّى إنَّهُ أعلنَ أنَّهُ سيَقضي خمسَ عشرةَ سنة عِوَضًا عن خمس مِن أجلِ إثباتِ وُجهَة نَظرِه.
وقد اتَّفَقَ الطَّرَفان وتَمَّ نَقْلُ الشَّابِّ إلى مَبْنى مُنفصِل مُقام على أرضِ المَصْرِفِيّ. ولم يَكُن يُسمَحُ لَهُ بأيَّة زيارات أو جَرائِد. وكانَ يُسْمَحْ لهُ أن يَكتُبَ الرَّسائل؛ ولكن لم يُسمَح لَهُ أن يَتَسَلَّمَ الرَّسائل. وكانَ هُناكَ حُرَّاس يُراقبونَهُ لكي يَضمَنوا أنَّهُ لن يَنتَهِكَ الاتِّفاقَ؛ ولكنَّهُم كانوا يُراقبونَهُ مِن مَكانٍ بَعيدٍ لكي يَضْمَنوا أنَّهُ لا يَستطيعُ أن يَرى أيَّ إنسانٍ آخر. وكانَ يَحصُلُ على طَعامِهِ في صَمْتٍ مِن خِلالِ فُتحَة صَغيرة لا يَستطيعُ مِنها أن يَرى مَن يأتيهِ بالطَّعام. وكانَ كُلُّ ما يُريدُهُ (مِن كُتُبٍ، وأطعمة مُعيَّنة، وآلاتٍ مُوسيقيَّة) يُقَدَّم لَهُ إنْ تَقَدَّمَ بَطَلَبٍ خَاصٍّ خَطِّيًّا. وتُقَدِّمُ القِصَّةَ وَصْفًا للأشياءِ الَّتي طَلَبَها المُحامي عَبْرَ السِّنين، ولَمَحاتٍ عنِ الحُرَّاسِ الَّذينَ كانوا يُحضرونَ لهُ تلكَ الأشياءَ في أثناءِ نَومِه. في السَّنةِ الأولى، كانَ يُمكِنُ سَماعُ صَوتِ البيانو في أيَّة ساعة تقريبًا. وقد طَلَبَ كُتُبًا كثيرةً أغلَبُها رِوايات وقِراءات خَفيفة. وفي السَّنة الثَّانية، تَوقَّفَ صَوتُ المُوسيقا، وتَلَقَّى الحُرَّاسُ طَلَباتٍ لأعمالِ مُؤلِّفينَ كلاسيكيِّينَ عَديدين. وفي السَّنةِ السَّادسة مِن سَجْنِهِ الانفِرادِيِّ، ابتدأَ يَدرُسُ اللُّغات. وسُرعانَ ما كَتَبَ أنَّهُ أَتقَنَ سِتَّ لُغات. وبعدَ السَّنةِ العاشرةِ مِن سَجْنِه، كانَ السَّجينُ يَجلِسُ بلا حِراكٍ إلى المائدةِ ويَقرأُ العهدَ الجديد. وبعدَ أكثر مِن سنة مِنَ التَّشَبُّعِ بالكِتابِ المُقدَّس، ابتدأَ يَدرُسُ اللاَّهوت.
ويُرَكِّزُ النِّصفُ الثَّاني مِنَ القِصَّة على اللَّيلةِ الَّتي سَبَقَت ظُهْرَ اليومِ الأخيرِ الَّذي سيَكسَبُ فيهِ المُحامي الرِّهان. وكانَ المَصْرِفِيُّ آنذاكَ قد أوشَكَ على التَّقاعُد. وكانت مُجازَفاتُهُ المَاليَّة وطَيشُهُ قد جَعلاهُ يَخسَر تَدريجيًّا أموالاً كثيرة. لِذا فإنَّ ذلكَ المَصْرِفِيَّ الَّذي كانَ مَليونيرًا مُعْتَدًّا بنفسِهِ يَومًا صارَ الآنَ مَصْرِفيًّا مِنَ الدَّرجةِ الثَّانية. وكانَ دَفْعُ الرِّهانِ سيُدَمِّرُهُ. وقد غَضِبَ مِن حَماقَتِهِ وغَيْرَتِهِ مِنَ الرَّجُلِ الَّذي سُرعانَ ما سيَصيرُ رَجُلاً ثَريًّا في سِنِّ الأرْبَعينَ فقط، قَرَّرَ المَصرِفِيُّ أن يَقتُلَ خَصْمَهُ ويُلْصِقَ جَريمةَ القَتلِ بالحارِس.
لِذا فقد تَسَلَّلَ إلى غُرفةِ الرَّجُل فوَجدَهُ نائمًا على الطَّاولة. وقبلَ أن يَتمكَّنَ مِن قَتلِه لاحَظَ رِسالةً كَتَبَها المُحامي لَهُ. وعندما فَتَحَها قَرأَ فيها ما يَلي: "غَدًا في السَّاعةِ الثَّانية عشرة سأكونُ حُرًّا. ولكن قبلَ أن أُغادِرَ هذه الغُرفة، أعتقدُ أنَّهُ يجبُ عليَّ أن أقولَ لكَ بِضعَ كلمات. بِضَميرٍ طَاهِرٍ أمامَ اللهِ الَّذي يَراني، أُعلِنُ لكَ أنِّي أَحتَقِرُ الحُريَّةَ والحَياةَ والصِّحَّةَ وكُلَّ ما تُسَمِّيهِ كُتُبُكَ "مَسَرَّات هذا العالَم". أنا أَعرِفُ أنِّي أَحكَمُ مِنكُم جَميعًا. وأنا أَحتقِرُ جَميعَ كُتُبِكُم، وأحتَقِرُ كُلَّ البَرَكاتِ والحِكمةِ الأرضيَّة لأنَّ الكُلَّ باطِلٌ وزائِفٌ وأجوفٌ ومُخادِعٌ كالسَّراب. رُبَّما تَكونُ مُعْتَدًّا بنفسِكَ، وحَكيمًا، ووَسيمًا؛ ولكنَّ المَوتَ سيَمسَحُكَ عن وَجهِ الأرضِ كما يَفعلُ بالجُرْذِ الَّذي يَعيشُ أسفلَ بيتِك. ووَرَثَتُكَ وتاريخُكَ ونُبوغُكَ الخَالِدُ سيَحترِقُ معَ دَمارِ الأرض. لقد صِرْتَ مَسعورًا. وأنتَ لا تَسيرُ في الدَّربِ المُستقيم. فأنتَ تَقبَلُ البَاطِلَ على أنَّهُ حَقّ، وتَقبَلُ ما هُوَ بَشِعٌ على أنَّهُ جَميل. ولكي أُبَرهِنَ لكَ كم أَحتَقِرُ كُلَّ ما تُقَدِّرُه، أنا أتَنازَلُ عنِ المَليونينِ اللَّذَيْنِ نَظَرتُ إليهما ذاتَ مَرَّة كما لو أنَّهُما طَريقي إلى الفِردَوس؛ ولكنِّي الآنَ أحتقرهما. ولكي أَحْرِمَ نَفسي مِن حَقِّي في الحُصولِ على المَليونَيْن، سوفَ أُغادِرُ سِجني قبلَ خَمْسِ سَاعاتٍ مِنَ المَوعدِ المُحَدَّد. وبقيامي بذلك أكونُ قد أَخَلَّيْتُ بِشروطِ رِهانِنا". وقد وَقَّعَ اسمَهُ.
قرأَ المَصْرِفِيُّ الأسطُرَ ووَضَعَ الورقةَ على الطَّاولة، وقَبَّلَ الرَّجُلَ الغَريبَ النَّائمَ وغادَرَ البيتَ بهدوءٍ والدُّموعُ تَملأُ عَينيه. ويَكتُبُ "تشيخوف": "لم يَسبِق لَهُ، ولا حَتَّى بعدَ أن مُنِيَ بخسائرَ فادِحَة، أنِ احتَقَرَ نَفسَهُ كما فَعَلَ في تلكَ اللَّحظة". وقد أَبْقَتْهُ دُموعُهُ مُستيقظًا بَقيَّةَ اللَّيلة. وفي السَّاعةِ السَّابعةِ مِن صَباحِ اليومِ التالي عَلِمَ مِنَ الحُرَّاسِ أنَّهُم رأوا الرَّجُلَ يَتَسَلَّلُ مِن نَافذةٍ ويَذهبُ إلى البَوَّابةِ ويَختفي. وهناكَ أشخاصٌ يَتَعَلَّمونَ بالطَّريقةِ الصَّعبةِ ما هي الأشياءُ الصَّحيحة. وهُناكَ أشخاصٌ لا يَتعَلَّمونَ البَتَّة.
وقد كانَ بولُسُ يَعلَم. انظروا إلى العدد 11: "الأَمْرُ الَّذِي لأَجْلِهِ نُصَلِّي أَيْضًا كُلَّ حِينٍ مِنْ جِهَتِكُمْ: أَنْ يُؤَهِّلَكُمْ إِلهُنَا لِلدَّعْوَةِ، وَيُكَمِّلَ كُلَّ مَسَرَّةِ الصَّلاَحِ وَعَمَلَ الإِيمَانِ بِقُوَّةٍ". نَجِدُ هُنا ثَلاثَ طِلْبات: فنحنُ نُصَلِّي لأجلِ تأهيلِكُم، ونُصلِّي لأجلِ إكمالِكُم، ونُصَلِّي لأجلِ عَمَلِكُم [أو خِدمتِكُم]. فهناكَ الكثيرُ في تلكَ الطِّلْبات الثَّلاث يَجذِبُ انتباهَنا. وهناكَ عُمْقٌ في تلكَ الطِّلبات. ونحنُ على يَقينٍ بأنَّنا سنتمكَّنُ بِمَعونَةِ الرُّوحِ مِن مُساعَدَتِكُم على رُؤيةِ ذلك.
فالعالَمُ مُمتلئ بالأغبياء الَّذينَ يَتعلَّمونَ بالطَّريقةِ الصَّعبةِ الأشياءَ الصَّحيحَة، وبالأغبياءِ الَّذينَ لا يَتعلَّمونَ البَتَّةَ الأشياءَ الصَّحيحَة. أمَّا نحنُ الَّذينَ نَعرِفُ الرَّبَّ يسوعَ المسيحَ ولدينا كلمةُ اللهِ فلسنا بحاجة إلى أن نكونَ أغبياء. فلا يَجوزُ لنا أن نُهدِرَ وَقتَنا في مُحاولةِ الحصولِ على أشياءٍ هي في نِهايةِ المَطافِ عَديمة القيمة؛ بل يجب علينا أن نَصرِفَ وَقتَنا في الحُصولِ على الأشياءِ الَّتي لا تُقَدَّر بثَمَن. وقد كانَ بولسُ يُصَلِّي لأجلِهم ويَطلُبُ ثَلاثَ طِلبات: التَّأهيل، والكَمال، والخِدمة الفَعَّالة. وقبلَ أن نَنظُرَ إلى هذهِ الطِّلباتِ ومَفاعيلِها، أريدُ أن نَنظُرَ إلى النَّصِّ مِن زَاويةِ الصَّلاة. فبولسُ يَبتدئُ في العدد 11 بالقول: "الأَمْرُ الَّذِي لأَجْلِهِ نُصَلِّي... مِنْ جِهَتِكُمْ". وهو يَستعرِضُ لنا مَصادِرَهُ. فأيًّا كانَ ما يُريدُهُ لأهلِ تَسالونيكي فإنَّهُ يَعلمُ أنَّهُ لا يَستطيعُ الحُصولَ عليهِ إلاَّ مِن خلالِ الصَّلاة. فهو لم يَلتفِت إلى أيِّ مَصدَرٍ بَشريٍّ، ولم يَلتفِت إلى أيِّ بَرنامَج؛ بلِ التَفَتَ إلى الله.
وفيما نَتأمَّلُ في هذا النَّصِّ العَظيمِ، وقبلَ أن نَنظُرَ إلى الطِّلباتِ والأسبابِ الكامِنَةِ وَراءَ هذهِ الطِّلباتِ في العدد 12، نُريدُ أن نَنظُرَ إلى هذا الأمرِ المُختصِّ بالمَصدرِ وَهُوَ: الصَّلاة. "الأَمْرُ الَّذِي لأَجْلِهِ نُصَلِّي أَيْضًا كُلَّ حِينٍ مِنْ جِهَتِكُمْ". فهناكَ أمورٌ كثيرة في هذا النَّصّ: أوَّلاً، مِنَ الواضحِ أنَّهُ كانَ يُصَلِّي لأجلهم. ثانيًا، أنَّهُ كانَ يُصَلِّي لأجلهم كُلَّ حين ومِن دُونِ تَوقُّف. ولا شَكَّ في أنَّ هذا الأمرَ كانَ يَفعلُهُ بولسُ دائمًا. ثالثًا، في أثناءِ صَلاتِهِ لأجلِهم كُلَّ حين، كانَ لديهِ هَدَفٌ في ذِهنِه: "لهذا الأمر" أو "لهذا السَّبب" أو "لهذا القَصد". فقد كانت صَلواتُهُ مُحَدَّدة جدًّا. وقد كانت مُباشِرَة جدًّا. فهي لم تَكُن شُموليَّة، ولم تَكُن عَامَّة؛ بل كانت مُحَدَّدة. والأشياءُ الثَّلاثةُ الَّتي كانتِ الهَدَفَ أوِ الغايَةَ أوِ القَصدَ أوِ الوُجْهَةَ لِصَلاتِهِ هي: التَّأهيلُ، والكَمالُ، والخِدمةُ الفعَّالة. فقد كانَ هذا هو ما يُصَلِّي لأجلِه. فقد طَلَبَ لأجلِهم الأشياءَ الصَّحيحة.
وهو يَظهَرُ هُنا بِصِفَتِهِ رَاعِيًا أمينًا. ففي الأصحاحِ السَّادسِ مِن سِفْرِ أعمالِ الرُّسُل والعددِ الرَّابع، نَقرأُ أنَّهُ يَنبغي للأشخاصِ الَّذينَ يَرعونَ رَعيَّةَ اللهِ، أيِ القادةِ، أن يُواظِبوا على الصَّلاةِ وَخِدمَةِ الكَلِمة. فالطَّريقةُ الَّتي يُمكِنُكَ مِن خلالِها أن تَقومَ بدورِكَ في تَقديسِ شَعبِ اللهِ عندما تَكونُ قائدًا هي أن تُصَلِّي لأجلهم وتَطلُبَ مِنَ اللهِ أن يُقَدِّسَهُم ويُعَلِّمَهُم. لِذا فإنَّكَ تُقَدِّمُ لهُمُ الحَقَّ الَّذي يُقَدِّس. فَنَموذَجُ صَلاةِ رَاعي الكنيسةِ هو الصَّلاةُ لأجلِ تَقديسِ شَعبِه، ونُضْجِ شَعبِه، ونُمُوِّ شَعبِه، وازدِهارِ شَعبِهِ رُوحيًّا. وهذا هو ما كانَ بولُسُ يُصَلِّيه. وهو لم يَكُن يُصَلِّي فقط مِن أجلهم، بل كانَ أيضًا يُعَلِّمُهم كلمةَ الله. فهذه مسؤوليَّة مُزدوَجَة.
ومِثلُ هذهِ الصَّلواتِ مألوفة في رسائلِ بولُس. ولا حاجةَ إلى السَّعيِ إلى إثباتِ ذلكَ مِن خلالِ البحثِ في كُلِّ رسائِلِهِ والعُثورِ على صَلواتِهِ، بل يَكفي أن نُذَكِّرَكُم أنَّهُ لا يُمكنكُم أن تَقرأوا رسالةً مِن رسائلِ بولُس دونَ أن تَقرأوا فيها صَلاةً مُباشِرَةً أو تَقريرًا عن كيفَ يُصَلِّي. فإن رَجعتُم وخَصَّصتُم وقتًا لقراءةِ رسالة تسالونيكي الأولى مَرَّةً أخرى، ستَجدونَ في الأصحاحِ الأوَّل أنَّهُ يَفتَتِحُ الأصحاحَ بإخبارِهم أنَّهُ يُصَلِّي لأجلهم ويُقَدِّمُ لهُم تَقريرًا عن صَلاتِه. وتَجِدونَ عندَ وُصولِكم إلى الأصحاحِ الثالثِ والأعداد 11-13 أنَّهُ يتوقَّفُ ويُصلِّي فِعليًّا لأجلهم. وتَجِدونَ عند وُصولِكُم إلى الأصحاحِ الخامسِ والعدد 23 أنَّهُ يتوقَّف ويُصَلِّي لأجلِهم مَرَّةً أخرى. لِذا فإنَّنا لا نَتَعَجَّبُ هُنا في الأصحاحِ الأوَّلِ مِن هذهِ الرسالةِ القصيرة [الَّتي هي رِسالَتُهُ الثَّانية إلى أحبَّائِهِ في تسالونيكي] أنَّهُ يتوقَّفُ قبلَ أن يَختِمَ هذا الأصحاحَ الأوَّلَ ويُضَمِّنُ صَلاةً أو تَقريرَ صَلاةٍ [في الحقيقةِ] عن كيفَ كانَ يُصَلِّي لأجلهم.
ويُمكنُنا أن نُلاحِظَ بسهولة [بكُلِّ تأكيد] أنَّ الرِّسالة نَفسَها تَحوي ثلاثَ أصحاحاتٍ فقط. لِذا فإنَّ قِراءتَها تَستغرقُ دقائقَ مَعدودة فقط، ولَعَلَّ كِتابَتَها لم تَستغرِق وقتًا طويلاً جدًّا؛ لا سِيَّما أنَّهُ كانَ يَكتُب بوحيٍ مِنَ الرُّوحِ القُدُس. فرُبَّما كَتَبَ كُلَّ الرِّسالة في وقتٍ قصيرٍ جدًّا. لِذا فإنَّ الوقتَ كانَ قَصيرًا فيما يَخُصُّ الجُزءَ التَّعليمِيَّ، ورُبَّما كانَ أطول بكثير فيما يَخُصُّ جُزءَ الصَّلاةِ لأنَّهُ لا يَقول: "نحنُ نَكتُبُ إليكُم كُلَّ حين"؛ بل يقول: "نحنُ [ماذا؟] نُصَلِّي لأجلكم كُلَّ حِين".
فهناكَ أوقاتٌ قَصيرةٌ يُمكِنُنا فيها أن نُعَلِّمَ؛ في حين أنَّهُ تُوجَدُ أوقاتٌ لا حَصْرَ لها يُمكِنُنا فيها أن نُصَلِّي. وحياةُ الصَّلاةِ لدى راعي الكنيسة هي شيءٌ مُستمرّ. صَحيحٌ أنَّهُ قد لا يَكونُ دائمًا جَاثِيًا على رُكبَتَيه، وصَحيحٌ أنَّهُ قد لا يكونُ دائمًا رافعَ اليَدَيْنِ أو مُغمِضَ العَيْنَيْن؛ ولكن نادرًا ما تَكونُ هُناكَ لَحظةُ يَقَظَةٍ لا يَضَعُ الرَّاعي فيها الخِرافَ في قلبِه. وحيثُ إنَّها في قلبِه فإنَّها في قلبِ اللهِ. وصَلاةُ التَّقديسِ هي نَهْجُ حَياة. لِذا فإنَّنا لا نَتَعَجَّبُ عندما يتوقَّفُ بولسُ في أثناءِ كِتابَتِهِ لرسائلِهِ ليُصَلِّي أو يُقَدِّمَ تَقريرًا عن كيفَ كانَ يُصَلِّي وكيفَ أنَّهُ سيَستمرُّ في الصَّلاةِ لأجلهم. لِذا فإنَّهُ يَقولُ هُنا: "أنا أَعلمُ هذا: أنَّني أريدُ أن تَتَقَدَّسوا، وأريدُ أن تكونوا مُؤهَّلينَ، وأريدُ أن تَكونوا كامِلينَ، وأريدُ أن تَخدِموا بقوَّة. والمَصدرُ الَّذي ألتَجِئُ إليهِ للحُصولِ على هذهِ الطِّلْباتِ هو الله. فأنا أَلتجِئُ إلى الله". ونحنُ نَرى هُنا تَوازُنًا رائعًا. فنحنُ نَعلمُ أنَّهُ يجبُ علينا أن نُعَلِّمَ النَّاسَ لأنَّهُ يجبُ عليهم أن يُطيعوا الكلمةَ لكي يَتقدَّسوا. ولكنَّنا نَعلمُ أيضًا أنَّ اللهَ هو الوحيدُ الَّذي يَستطيعُ أن يَحُثَّهُم على تلكَ الطَّاعة. لِذا، عندما يَحدُثُ أيُّ شيءٍ صَالحٍ في حياتِنا، مَنِ الَّذي يَحصُلُ على المَدْح؟ الله. لأنَّنا في جَسَدِنا لا نَستطيعُ أن نَفعلَ أيَّ شيءٍ صَالِح.
لِذا، هناكَ تَناقُضُ ظَاهِرِيٌّ رائعٌ يَنبغي لنا أن نُبقيهِ في قُلوبِنا وأذهانِنا؛ وهو يَقولُ بصورةٍ رئيسيَّة إنَهُ إن أردتُ أن أكونَ مُؤمِنًا مُقَدَّسًا يَسيرُ في دَربِ التَّمَثُّلِ بالمسيح، وإن أردتُ أن أستمرَّ في النُّموِّ في النِّعمةِ ومَعرفةِ الرَّبِّ، وإن أردتُ أن أكونَ قِدِّيسًا أكثر فأكثر، وأن أنتقلَ مِن مُستوى مِنَ المَجدِ إلى المُستوى الَّذي يَليهِ مِنَ المَجد، وأن أتغيَّرَ بواسطةِ الرُّوحِ القُدُسِ لكي أصيرَ أكثرَ فأكثرَ شَبَهًا بالمسيح؛ إن كانت تلكَ العمليَّة تَجري في حياتي فإنَّها تَتَطَلَّبُ طَاعَتي. فيجب عليَّ أن أُطيعَ الكلمةَ والرُّوح. ولكنِّي أعلمُ أيضًا أنَّ الطَّريقةَ الوحيدةَ لحدوثِ ذلك هي أن يُعطينا اللهُ القُوَّةَ للقيامِ بذلك. لِذا فإنَّني عَالِقٌ في دَوَّامَةِ نَفسِ ذلكَ التَّناقُضِ الظَّاهِرِيِّ الموجودِ في مَواضِع كثيرة جدًّا في كلمةِ اللهِ والحَقِّ المُختصِّ بالإيمانِ المسيحيّ.
ولكنِّي أريدُ أن أتحدَّثَ عن ذلك في هذا الصَّباح لأنِّي أعتقدُ أنَّهُ مُهمٌّ. فهناكَ تَجاوُبٌ مُتصاعِد في وَسْطِ المؤمنينَ معَ الحَقِّ المُختصِّ بالسِّيادةِ الإلهيَّة. وأنا أشكُرُ اللهَ مِن أجلِ ذلك. فقد أَدْرَكَتِ الكنيسةُ أخيرًا حقيقةَ أنَّ اللهَ هُوَ صَاحِبُ السِّيادة الكاملة والمُطلَقة، وأنَّ اللهَ يُسيطِر على كُلِّ شيءٍ بكلمةِ قُدرتِه، وأنَّ اللهَ سيَعملُ ما يُريدُ أن يَعملَهُ في الوقتِ الَّذي يَشاء وبالطَّريقةِ الَّتي يَشاء لأنَّهُ شَاءَ ذلكَ، ولأنَّهُ المَسؤولُ المُطلَقُ، ولأنَّ لديهِ السُّلطانَ للقيامِ بذلك. فقد حَدَّدَ اللهُ قَصدَهُ الكامِلَ مِن قبلِ بَدْءِ العالَم. فكُلُّ شيءٍ مُقَرَّر ومُحَدَّد في فِكرِهِ الأزليِّ وسيَعملُ حَسَبَ سُلطانِهِ المُطلَقَ ومَشيئتِهِ الأزليَّة. وأنا مَسرورٌ لأنَّ الكنيسةَ أكَّدَت ذلك. ولكنِّي أخشى أيضًا مِن أن يأتي هذا التَّأكيدُ لسيادةِ اللهِ المُطلقةِ مَصحوبًا بتَراجُعٍ في الإحساسِ بالمسؤوليَّةِ مِن قِبَلِ المؤمنِ سَواءَ مِن جِهَةِ الصَّلاةِ أوِ الطَّاعة.
فقد خُضْتُ مُؤخَّرًا نِقاشًا سَارَ على النَّحو التَّالي: "في النِّهاية، اللهُ هو المُسيطِرُ على كلِّ شيء. لِذا، إن سَمَحَ لي أن أُخطِئ فإنَّ هذِهِ ليست مُشكلتي". أو قد تَخوضُ نِقاشًا كهذا: "اللهُ سيَفعلُ ما يَشاء بأيَّةِ حَال. لِذا، مَا المُبَرِّرُ للصَّلاة؟" وما يُريدونَ أن يَفعلوهُ هو أنَّهُم يُريدونَ أن يُزيلوا كُلَّ تَناقُضٍ ظَاهِرِيٍّ مِنَ الواقعِ الرُّوحيِّ وأن يُلَخِّصوا المسألةَ كُلَّها في الاستيعابِ البَشريِّ بأن يَقولوا: "إن لم أتمكَّن مِن فَهمِ هذا الرَّابِط، سأَصيغُ عَقيدتي الشَّخصيَّة". ولكنَّ الصَّلاةَ واقِعٌ مُهِمٌّ. والإيمانُ الكِتابيُّ القويُّ والرَّاسِخُ بسِيادةِ اللهِ لا يَستثني الصَّلاة. فكما أنَّ الطَّاعةَ عُنْصُرٌ يَعملُ اللهُ مِن خِلالِهِ على تَتميمِ مَقاصِدِهِ المَحتومَةِ للخلاصِ والتَّقديس، فإنَّ الصَّلاةَ عُنصُرٌ بَشريٌّ يَتِمُّ مِن خِلالِها تَتميمُ ذلكَ القصد. فهذا سِرٌّ لا نَفهَمُهُ فَهْمًا، بل نُؤمِنُ به إيمانًا.
لِذا فإنَّ بولسَ يَعلَمُ أنَّ اللهَ هو الوحيدُ الَّذي يَستطيعُ أن يُعطي الأشياءَ الصَّحيحة؛ ولكنَّهُ يَحُضُّ أيضًا أهلَ تسالونيكي المرَّة تلو الأخرى على الصَّلاةِ لأجلِ الأشياءِ الصَّحيحة. ففي رسالتِهِ الأولى، رُبَّما تَذكرونَ أنَّهُ ابتدأَ في الأصحاحِ الأوَّل بالقول: "أنا أَعلَمُ عَمَلَ إِيمَانِكُمْ، وَأعلَمُ تَعَبَ مَحَبَّتِكُمْ". وقد قالَ: "أنا أَعلَمُ صَبْرَ رَجَائِكُمْ". وقد قالَ: "أنا أَعلمُ أنَّ اللهَ هُوَ الذي اختارَكُم، وأعلمُ أنَّكُم سَمِعتُم الكلمةَ على أنَّها كلمةُ الرَّبِّ وآمنتُم بها، وأَعلمُ أنَّكُم صِرتُم قُدوةً للكنائسِ الأخرى، وأَعلمُ أنَّ الكلمة انتشرَت مِن خِلالِكُم، وأَعلمُ أنَّكم تُبْتُم وتَحَوَّلتُم إلى اللهِ مِن عِبادةِ الأوثانِ، وأَعلمُ أنَّكُم تَنتَظرونَ المَجيءَ الثَّاني، وأعلمُ أنَّكُم تُحبُّونَ بعضُكم بعضًا وأنَّكم لستُم بحاجة إلى مَن يُعَلِّمُكم أن تَفعلوا ذلك". ثُمَّ إنَّهُ يَقولُ لهم في الأصحاحِ الرَّابعِ والعددِ الأوَّل: "أنا أَعلمُ أنَّ كُلَّ هذا صحيح؛ ولكنِّي أطلُبُ منكُم أن تَزدادوا أكثر". وهو يُحَمِّلُهُم المسؤوليَّة.
ثُمَّ في نهايةِ الرسالةِ الأولى إليهم، وتَحديدًا في الأصحاحِ الخامسِ، يُقَدِّمُ لهم سِلسلةٍ مُتواليةً وسَريعةً مِنَ الوَصايا الَّتي يَقولُ لهم مِن خِلالها أن يَفرحوا دائمًا، وأن يُصَلُّوا بلا انقطاع، وأن يَشكُروا، وألاَّ يُطفِئوا الرُّوحَ، وألاَّ يَسَتخِفُّوا بإعلانِ اللهِ، وأن يَفحصوا كلَّ شيءٍ بتَدقيق، وأن يُتَمَسَّكوا بما هو حَسَن ويَبتعدوا قدرَ استطاعتِهم عمَّا هو شِرِّير. وهو يُعطيهم الوصيَّة تلو الوصيَّة تلو الوصيَّة. فهو يُدركُ أنَّ هُناكَ دَورًا لمَشيئةِ الإنسانِ في تَتميمِ مَقاصِدِ اللهِ في التَّقديس. لِذا فإنَّهُ يُدركُ أيضًا مِن جِهَةِ التَّقديسِ وَدَورِ الصَّلاةِ فيهِ أنَّ صَلواتِنا هي جُزءٌ مِنَ الخُطَّةِ الَّتي يُتَمِّمُ اللهُ مِن خِلالِها مَقاصِدَهُ الأزليَّة. لِذا، يجبُ علينا أن نَتذكَّرَ هُنا هذهِ النُّقطةَ المُهمَّةَ جدًّا وهي أنَّهُ بالرَّغمِ مِن أنَّنا نُؤمِنُ بكُلِّ قُلوبِنا بسيادةِ اللهِ، إن كانَ ذلكَ يَقودُنا إلى إهمالِ الصَّلاةِ فإنَّ ذلكَ اللاَّهوتَ سَيّء لأنَّهُ يُنادي بمسيحيَّةٍ عَاصِيَة. فاللهُ هو صاحِبُ السِّيادة. ولا شَكَّ البَتَّة في سِيادةِ الله.
فنحنُ نَقرأُ في سِفْر أيُّوب 42: 2: "قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ، وَلاَ يَعْسُرُ عَلَيْكَ أَمْرٌ". وفي سِفْر الأمثال 16: 33 يَقولُ الكاتِبُ: "الْقُرْعَةُ تُلْقَى فِي الْحِضْنِ، وَمِنَ الرَّبِّ كُلُّ حُكْمِهَا". وفي سِفْر دانيال، لَعَلَّكُم تَذكرونَ المَلِكَ الَّذي عَادَ أخيرًا إلى رُشدِهِ وَهُوَ نَبوخَذنَصَّر. فبعدَ أن عاشَ في الحَقْلِ واستمرَّ في أكْلِ العُشْبَ سَبعَ سِنين، رَجَعَ إليهِ عَقلُه أخيرًا فقالَ عنِ الله: "هُوَ يَفْعَلُ كَمَا يَشَاءُ فِي جُنْدِ السَّمَاءِ وَسُكَّانِ الأَرْضِ، وَلاَ يُوجَدُ مَنْ يَمْنَعُ يَدَهُ أَوْ يَقُولُ لَهُ: ’مَاذَا تَفْعَلُ؟‘" فاللهُ يَعملُ باستقلالٍ تَامٍّ عنِ الإنسان. ولا شَكَّ في أنَّ إشعياء النَّبيّ قالَ ذلكَ بكلماتٍ رائعةٍ جدًّا في الأصحاح 46 والعدد 9: "لأَنِّي أَنَا اللهُ وَلَيْسَ آخَرُ. الإِلهُ وَلَيْسَ مِثْلِي. مُخْبِرٌ مُنْذُ الْبَدْءِ بِالأَخِيرِ، وَمُنْذُ الْقَدِيمِ بِمَا لَمْ يُفْعَلْ، قَائِلاً: رَأيِي يَقُومُ وَأَفْعَلُ كُلَّ مَسَرَّتِي". ثُمَّ في نِهايةِ العدد 11: "قَدْ تَكَلَّمْتُ فَأُجْرِيهِ. قَضَيْتُ فَأَفْعَلُهُ".
صَحيحٌ إنَّ اللهَ هو صَاحِبُ السِّيادة. صَحيحٌ أنَّهُ صَاحِبُ السِّيادة؛ ولكنَّ هذا لا يَمنَعُنا مِن أن نُصَلِّي. وبولسُ هُنا يَعلمُ أنَّهُ توجدُ لدى اللهِ خُطَّة مُحْكَمَة؛ ولكنَّهُ يَستمرُّ في الصَّلاةِ لأجلهم. فهو يَسكُبُ قَلبَهُ للهِ ويُصَلِّي لأجلهم أن يكونوا مُؤهَّلينَ، وكامِلينَ، وفَعَّالينَ في خِدمتِهم لكي يَتَمَجَّدَ اللهُ. وأقولُ مَرَّةً أخرى: صَحيحٌ أنَّنا نَحُضُّ المُؤمنينَ، وصَحيحٌ أنَّنا نُؤمِنُ بسيادةِ اللهِ؛ ولكنَّنا نُدركُ أيضًا مَكانةَ الصَّلاةِ ونَعلمُ أنَّ كُلَّ الأشياءِ الصَّالحةِ الَّتي تَحدُثُ إنَّما تَحدُثُ بقوَّة الله.
ولتوضيحِ ذلكَ لكم، اسمَحوا لي أن أُريكُم بِضعة أمثلة كِتابيَّة. ففي سِفْر صموئيل الأوَّل والأصحاحِ الثَّاني عشر، نَجِدُ المَثَلَ الإيضاحِيَّ المُدهشَ التَّالي. فقد كانَ الشَّعبُ قد أخطأَ بطُرُقٍ شَنيعةٍ ثُمَّ أخطأوا لاحقًا بأن طَلبوا مَلِكًا كَسائِرِ الأُمَم. ونَقرأُ ابتداءً مِن سِفْر صموئيلَ الأولى 12: 19: "وَقَالَ جَمِيعُ الشَّعْبِ لِصَمُوئِيلَ: صَلِّ عَنْ عَبِيدِكَ إِلَى الرَّبِّ إِلهِكَ". فقد قالوا: "صَموئيل! ألاَ صَلَّيتَ مِن فَضلِكَ وتَشَفَّعتَ فينا! نَرجوكَ أن تُصَلِّي لأجلِنا حَتَّى لاَ نَمُوتَ، لأَنَّنَا قَدْ أَضَفْنَا إِلَى جَمِيعِ خَطَايَانَا شَرًّا بِطَلَبِنَا لأَنْفُسِنَا مَلِكًا. لِذا، ألاَ صَلَّيتَ مِن فَضلِكَ حَتَّى لا نَموت؛ أي حَتَّى لا يُميتَنا الرَّبُّ؟"
"فَقَالَ صَمُوئِيلُ لِلشَّعْبِ: لاَ تَخَافُوا"؛ أي: "لا يوجدُ شَيءٌ تَخافونَ مِنه". ولكِن لماذا يَقولُ شَيئًا كهذا؟ لأنَّهُ كانَ يَعرِفُ الخُطَّة. فقد كانَ يَعرِفُ خُطَّةَ اللهِ النَّابعة مِن سِيادَتِه. "لا تَخافوا إِنَّكُمْ قَدْ فَعَلْتُمْ كُلَّ هذَا الشَّرِّ، وَلكِنْ لاَ تَحِيدُوا عَنِ الرَّبِّ، بَلِ اعْبُدُوا الرَّبَّ بِكُلِّ قُلُوبِكُمْ". فهو يَقول: "انظروا! صَحيحٌ أنَّكُم أخطأتُم، وأنَّكُم تَستَحِقُّونَ المَوتَ؛ ولكن ابتدِئوا بالطَّاعةِ حَالاً. ابتدِئوا بالطَّاعة". "وَلاَ تَحِيدُوا... وَرَاءَ الأَبَاطِيلِ الَّتِي لاَ تُفِيدُ وَلاَ تُنْقِذُ، لأَنَّهَا بَاطِلَةٌ". لِذا فإنَّهُ يَقول: "انظروا! لا تَخافوا، بلِ ابتَدِئوا وَحَسْب بعملِ الصَّواب".
ثُمَّ نَقرأُ في العدد 22 (وَهُوَ يَرجِعُ هُنا إلى التَّحَدُّثِ عن خُطَّةِ الله): "لأَنَّهُ لاَ يَتْرُكُ الرَّبُّ شَعْبَهُ مِنْ أَجْلِ اسْمِهِ الْعَظِيمِ. لأَنَّهُ قَدْ شَاءَ الرَّبُّ أَنْ يَجْعَلَكُمْ لَهُ شَعْبًا". فهو يَقول: "انظُروا! إنَّ اللهَ لن يَقتُلَكُم. إنَّ اللهَ لن يَقتُلَكُم لأنَّ لدى اللهِ خُطَّة. فالخُطَّةُ قَيْدَ التَّنفيذ. والخُطَّةُ قد أُعلِنَت. والخُطَّةُ هي أنَّكُم ستَصيرونَ شَعبًا لَهُ. فهو لن يَقتُلَكُم". إذًا، ما الَّذي يَقولُه؟ لقد جاءوا إليهِ وقالوا: "صَلِّ لأجلِنا! صَلِّ لأجلِنا!" وَهُوَ يَقول: "لا تَخافوا! لن تَموتوا! أنا أَعرِفُ الخُطَّة. فالخُطَّةُ هي أنَّكُم سَتَحَيَوْن. والخُطَّة هو أنَّكُم شَعبُ اللهِ. فسوفَ يُبقيكُم اللهُ أحياءَ لأنَّهُ اختارَكُم. فاسمُهُ على المِحَكِّ؛ أي أنَّ سُمعَتَهُ على المِحَكِّ. وخُطَّتُهُ على المِحَكِّ. لِذا، لا تَخافوا. فأنتُم لن تَموتوا".
ولكنَّنا نَقرأُ في العدد 23 – انظُروا إلى ما يَقول: "وَأَمَّا أَنَا فَحَاشَا لِي أَنْ أُخْطِئَ إِلَى الرَّبِّ فَأَكُفَّ عَن..." [ماذا؟] "...عنِ الصَّلاَةِ مِنْ أَجْلِكُمْ، بَلْ أُعَلِّمُكُمُ الطَّرِيقَ الصَّالِحَ الْمُسْتَقِيمَ". سوفَ أفعلُ أَمْرَيْنِ لَكُم: سوفَ أُعَلِّمُكُم الطَّريقَ الصَّالِحَ المُستقيمَ، وسوفَ أُصَلِّي لأجلِكُم لأنِّي أَعلمُ كيفَ تَسيرُ الخُطَّة". أَلاَ تَجِدونَ ذلكَ مُدهشًا؟ إنَّ اللهَ لن يَقتُلَكُم. فالأمرُ مَحسومٌ. وقد تَقولونَ لصموئيل: "إذًا، لِماذا تُصَلِّي لأجلهم؟ ما الغايَة مِن ذلك؟" "الغَايَةُ هي أنَّ شَوقَ قَلبي وشَغَفَ قَلبي وسُؤْلَ قَلبي هو أن أَجعلَ قَلبي مُنسَجِمًا مَعَ مَقاصِدِ الله. وصَلواتي هي جُزءٌ مِنَ الأداةِ الَّتي يَستخدِمُها اللهُ لتنفيذِ خُطَّتِه. وكذلك هي الحالُ بالنِّسبة إلى تَعليمي. لِذا، سوفَ أُصَلِّي لأجلِكُم وأُعَلِّمُكُم. واللهُ لن يَقتُلَكُم".
وكما تَرَوْنَ فإنَّ الطَّاعةَ والصَّلاةَ والسِّيادَةَ مُرتبطة كُلُّها معًا. وهذا يُشبِهُ ما جاءَ في رسالة رُومية والأصحاحِ التَّاسع. أليسَ كذلك؟ ففي رسالة رُومية والأصحاحِ التَّاسع، يَقولُ بولُس: "لأَنْ لَيْسَ جَمِيعُ الَّذِينَ مِنْ إِسْرَائِيلَ هُمْ إِسْرَائِيلِيُّونَ". فلن يَخلُصَ جَميعُ اليهود. "أَحْبَبْتُ يَعْقُوبَ وَأَبْغَضْتُ عِيسُوَ... إِنِّي أَرْحَمُ مَنْ أَرْحَمُ، وَأَتَرَاءَفُ عَلَى مَنْ أَتَرَاءَفُ". بعبارة أخرى فإنَّ اللهَ يَقول: "سوفَ أُخَلِّصُ مَن أُريدُ أن أُخَلِّص". وهو يَستَمِرُّ في قَولِ ذلكَ في كُلِّ الأصحاحِ التَّاسع. وقد دَوَّنَ بولُسُ ذلك فقال: "مَنْ أَنْتَ أَيُّهَا الإِنْسَانُ الَّذِي تُجَاوِبُ اللهَ؟ أَلَعَلَّ الْجِبْلَةَ تَقُولُ لِجَابِلِهَا: «لِمَاذَا صَنَعْتَنِي هكَذَا؟»" "أَلَعَلَّ عِنْدَ اللهِ ظُلْمًا؟ حَاشَا!" بل إنَّ اللهَ يَستطيعُ أن يَفعلَ أيَّ شَيءٍ يُريدُ أن يَفعلَهُ وكُلَّ ما يُريدُ أن يَفعلَهُ. فهذه هي الحقيقة. وهذا يَعني أنَّهُ لن يَخلُص جَميعُ بني إسرائيل. فسوفَ يُوضَعُ بني إسرائيل جانبًا. والأُمَمُ الَّذينَ هُم ليسوا شَعبًا سيَخلُصون. وبولُس يُوَضِّحُ ذلكَ تمامًا بعباراتٍ لا لُبْسَ فيها في الأصحاحِ التَّاسِعِ مِن رسالة رُومية.
وهل تُريدونَ أن تَعلموا كيفَ يَبتدئُ الأصحاحَ العاشِر؟ "إِنَّ مَسَرَّةَ قَلْبِي وَطَلْبَتِي إِلَى اللهِ لأَجْلِ إِسْرَائِيلَ هِيَ لِلْخَلاَص". ماذا؟ أنا أعرِفُ خُطَّةَ اللهِ الأزليَّة؛ ولكنَّ هذا لا يُلغي حَياةَ الصَّلاةِ لَديَّ. فأنا أُصَلِّي إلى اللهِ لأجلِ بني إسرائيلَ مِن أجلِ خَلاصِهم. فأنا أَترُكُ الجُزءَ المُختصَّ باللهِ للهِ، وأقومُ بالجُزءِ المُختَصَّ بي. وَ"طَلِبَةُ الْبَارِّ تَقْتَدِرُ كَثِيرًا فِي فِعْلِهَا". فاللهُ يَعملُ بطريقةٍ ما على تَفعيلِ تلكَ الصَّلوات.
وأنا أُحِبُّ ما جاءَ في إنجيل لوقا والأصحاحِ الثَّاني والعشرين. فهو مَثَلٌ إيضاحيٌّ رائعٌ على هذا المبدأ نَفسِه. ففي إنجيل لوقا والأصحاح 22، وهذا رائعٌ، يَقولُ يَسوعُ لبُطرس: "سِمْعَانُ، سِمْعَانُ" – وَهُوَ يَدعوهُ هُنا باسمِهِ القَديمِ عندما كانَ يَتصرَّفُ حَسَبَ طَبيعَتِهِ القَديمة. "سِمْعَانُ، سِمْعَانُ، هُوَذَا الشَّيْطَانُ طَلَبَكُمْ لِكَيْ يُغَرْبِلَكُمْ كَالْحِنْطَةِ!" فالشَّيطانُ يُريدُ أن يأتي وَراءَكُم. والمَعنى المَقصودُ هُوَ: "لقد سَمَحْتُ لَهُ أن يَفعلَ ذلك". ولكن يُمكِنُكم أيضًا أن تَملأوا الفَراغَ بالكلماتِ التَّالية: "ولكنِّي أَعلَمُ أنَّكُم سَتَنْجُون". أليسَ كذلك؟ فقد كانَ يَعلَمُ ذلك. فقد كانَ يَعلَمُ أنَّ بُطرسَ لن يَفقِدَ خَلاصَهُ تَمامًا ويَخضَع لسُلطانِ الشَّيطانِ ويَنتهي بهِ المَطافُ في جَهنَّم. فقد كانَ يَعلَمُ ذلك. "إنَّ الشَّيطانَ يُريدُ أن يُسَيطِرَ عليكُم، ويُريدُ أن يُخْضِعَكُم لِفَحصٍ صَعبٍ جدًّا كي يُغَرْبِلَكُم. وسوفَ أَسمَحُ لَهُ بأن يَفعلَ ذلك". وقد كانَ يَسوعُ يَعلَمُ تَمامًا كيفَ سيَنتهي الامتحان. ولكنِ انظروا إلى العدد 32: "وَلكِنِّي [ماذا؟] طَلَبْتُ مِنْ أَجْلِكَ".
هل تَعلمونَ أنَّ صَلواتِ يَسوعَ كانت جُزءًا مِن خُطَّةِ اللهِ الأزليَّة؟ فيسوعُ لم يَقُل: "لا فائِدَةَ تُرجَى مِن صَلواتي لأنِّي أَعلَمُ كيفَ سيَؤولُ هذا الأمر بِمُجمَلِه". ويسوعُ لم يَقُل: "إنَّ الأمرَ لا يَقتصِر فقط على أنِّي أعرِفُ كيفَ سيَنتهي الأمر، بل إنِّي أُسيطِرُ على كُلِّ ما يَجري. لِذا، ما الدَّاعي للصَّلاة؟" ولكنَّ يَسوعَ في اتِّضاعِهِ يُقَدِّمُ لنا نَموذَجًا على الشَّخصِ الَّذي يَعلمُ تَمامًا خُطَّةَ اللهِ ولكنَّهُ بالرَّغمِ مِن ذلكَ يُصَلِّي مِن أجلِ اكتِمالِ الخُطَّة. فقد كانَ يَعلَمُ أنَّ بُطرسَ سيَجتازُ الفَحصَ، ويَنجو، ويُقَدِّمَ حَياتَهُ في النِّهاية لأجلِ عِلَّةِ المسيحِ بِوَصفِهِ عَبدًا أمينًا، وأنَّهُ سَيَموتُ شَهيدًا دُونَ أن يُنكِرَ إيمانَهُ. لقد كانَ يَسوعُ يَعرِفُ هذا كُلَّهُ. وكانَ قد خَطَّطَ لهذا كُلِّه، وسَمَحَ بحدوثِ كُلِّ ذلك، وجَعَلَهُ يَحدُثُ في حَياةِ بُطرس. وبالرَّغمِ مِن ذلكَ فقد صَلَّى لأجلِ بُطرس هُنا. وإن كانَ الابنُ يُصَلِّي مِن أجلِ اكتِمالِ خُطَّةِ اللهِ الأزليَّة، أيُعقَلُ أن نَفعلَ نَحنُ ما هُوَ أقَلُّ مِن ذلك؟ فالصَّلاةُ والسِّيادَةُ الإلهيَّةُ تَسيرانِ جَنبًا إلى جَنبٍ معَ الطِّلبةِ والمسؤوليَّةِ البشريَّة.
وهُناكَ مَثَلٌ إيضاحيٌّ آخر، وهو واحدٌ مِنَ الأمثلةِ الإيضاحيَّةِ المُفَضَّلةِ لديَّ؛ وهو مَذكورٌ في نِهايةِ سِفْر الرُّؤيا. وهو يُوَضِّحُ نَفسَ المبدأ. وهو يُريكُم أنَّ القلبَ يَصرُخُ لكي يَنسَجِمَ معَ خُطَّةِ الله. فهذا هُوَ حَقًّا مَعنى الصَّلاة. فنحنُ نَصرُخُ لكي نَنسَجِمَ معَ الخُطَطِ الإلهيَّة. فَهُوَ يَقولُ في نِهايةِ العدد 20، قبلَ أن يَقولَ: "نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ مَعَ جَمِيعِكُمْ. آمِين" في الجُملةِ قبلَ الأخيرة، يَقولُ يوحنَّا: "آمِينَ. تَعَالَ أَيُّهَا الرَّبُّ يَسُوعُ". فهذه هي صَلاتُهُ: "تَعَالَ أَيُّهَا الرَّبُّ يَسُوعُ". وقد يَقولُ شَخصٌ ليوحنَّا: "يوحنَّا! هل كُنتَ تُصغي؟ فقد كَتَبْتَ اثنين وعشرينَ أصحاحًا لكي تَقولَ إنَّ يسوعَ آتٍ. والآن، بعدَ أن خَصَّصتَ اثنين وعشرينَ أصحاحًا لكي تقولَ إنَّهُ آتٍ، لِماذا تُصَلِّي قَائِلاً: ’تَعَالَ أَيُّهَا الرَّبُّ يَسُوعُ‘؟ فقد قُلتَ للتَّوّ إنَّهُ سيأتي. وحَتَّى إنَّنا نَقرأُ في نفسِ الآية: ’أَنَا آتِي سَرِيعًا‘. والجَوابُ هُوَ: ’تَعَالَ أَيُّهَا الرَّبُّ يَسُوعُ‘".
وكما تَرَوْنَ فإنَّ الصَّلاةَ تَعني أنَّنا مُنسَجِمونَ معَ الخُطَّة. وقد كانَ بولُس يَعلَمُ. لِنَعُد الآن إلى رسالة تسالونيكي الثانية. فقد كانَ بولسُ يَعلمُ أنَّ اللهَ يُريدُ أن يُقَدِّسَ شَعبَهُ. وَهُوَ يَجعلُ صَلاتَهُ مُنسجمةً معَ قَصدِ الله: "يا رَبُّ، أنا أَعلمُ أنَّكَ تُريدُ أن تُقَدِّسَ شَعبَكَ، وأَعلمُ أنَّكَ تُريدُ أن تَجعلَهُم مُؤهَّلينَ، وأعلَمُ أنَّكَ تُريدُ أن تُلَبِّي كُلَّ رَغبةٍ لديهم في عَمَلِ الصَّلاح، وأعلَمُ أنَّكَ تُريدُ أن تَرى عَمَلَ إيمانِهم يَتِمُّ بقوَّة، وأَعلمُ أنَّ تلكَ هي رَغبتُك. وأنا أُعْلِنُ عنِ انسجامي مع ذلك. فهذه هي الطِّلباتُ الصَّحيحةُ، وأنا أُصَلِّي لأجلِ الطِّلباتِ الصَّحيحة وأُعَلِّمُهُم أن يُوَجِّهوا طِلباتِهم في الاتِّجاهِ الصَّحيح".
هل تُريدونَ أن تُصَلُّوا بَعضُكُم لأجلِ بَعض؟ إذًا، ينبغي أن تُصَلُّوا هكذا. فهذه هي الأشياءُ الَّتي يَنبغي أن تُصَلُّوا لأجلِها لأنَّها الأشياءُ الَّتي يُبالي بها اللهُ. فاللهُ لا يُبالي كثيرًا بالأشياءِ الصَّغيرةِ في الحياةِ كما يُبالي بالأشياءِ الكبيرةِ الرُّوحيَّة في الحياة. وكما تَرَوْنَ، فإنَّ قَصدَ اللهِ مِن خلالِ الرُّوحِ القُدُسِ هو أن يَجعلَكُم تُشابِهونَ أكثرَ فأكثر صُورةَ يسوعَ المسيح. فالأشياءُ الصَّغيرةُ في الحياةِ والَّتي تَأتي وتَختفي هي أشياءٌ ثانويَّة في هذهِ العمليَّة. ولَعَلَّها تَعملُ في تلكَ العمليَّةِ بطريقةٍ أو بأخرى. لِذا فإنَّ لدى اللهِ خُطَّة أزليَّة سيُتَمِّمُها بسيادتِه. ولكن في خِضَمِّ تلكَ الخُطَّة هُناكَ مَكانٌ للصَّلاةِ حينَ نَجعلُ أنفسَنا مُنسجِمينَ معَ تلكَ الخُطَّة، وحتَّى عندما نَصيرُ الأداةَ لتحقيقِ تلكَ الخُطَّة لأنَّ "طَلِبَةُ الْبَارِّ تَقْتَدِرُ كَثِيرًا فِي فِعْلِهَا". فهي تَقتَدِرُ كَثِيرًا فِي فِعْلِهَا.
وهل ينبغي تَذكيرُنا بذلكَ المَثَلِ الإيضاحِيِّ الرَّائعِ عن إشعياء؟ فقد ذَهبَ إشعياءُ إلى المَلِكِ حَزَقِيَّا وقالَ لَهُ: "هكَذَا يَقُولُ الرَّبُّ: أَوْصِ بَيْتَكَ لأَنَّكَ تَمُوتُ وَلاَ تَعِيشُ" (إشعياء 38: 1). فقد قالَ لهُ: أنتَ لن تَتَعافَى، بل ستَموت". بعدَ ذلك، بَكَى المَلِكُ بُكاءً مُرًّا [إن كُنتُم تَذكرونَ ذلكَ] وصَلَّى بشأنِ مَصيرِهِ المَحتوم. ثُمَّ إنَّ إشَعياءَ [الَّذي لم يَكُن قد غَادَرَ بَيتَ المَلِكِ بعدَ تَسليمِ الرِّسالةِ الأولى] تَسَلَّمَ الرِّسالةَ التَّاليةَ مِنَ اللهِ: "اذْهَبْ وَقُلْ لِحَزَقِيَّا: هكَذَا يَقُولُ الرَّبُّ إِلهُ دَاوُدَ أَبِيكَ: قَدْ سَمِعْتُ صَلاَتَكَ. قَدْ رَأَيْتُ دُمُوعَكَ. هأَنَذَا أُضِيفُ إِلَى أَيَّامِكَ خَمْسَ عَشَرَةَ سَنَةً". وهذا مُدهِش! فقصَّةُ النَّبيِّ تُوَضِّحُ تمامًا أنَّهُ لو أنَّ المَلِكَ لم يُصَلِّ... لو أنَّهُ لم يُصَلِّ، لكانَ قد مَات. لِذا فإنَّ الصَّلاةَ تَعملُ بطريقةٍ عَجيبةٍ في الخُطَّةِ كما هي حَالُ الطَّاعة لأنَّكُم إن لم تُطِيعوا فإنَّكُم لن تَتَقَدَّسوا. وإن لم تُطيعوا الإنجيلَ لن تَخلُصوا.
لِذا، لا يُمكنُنا أن نُؤمِنَ بسيادةِ اللهِ، ولا يُمكنُنا أن نُؤمِنَ وَحَسْب بتعليمِ كلمةِ اللهِ إن كانَ ذلكَ الإيمانُ يِحْرِمُنا مِن شَغَفِ الصَّلاة. لِذا فإنَّ الصَّلاةَ هي شَوْقٌ قَلبِيٌّ للاتِّحادِ بمقاصِدِ اللهِ المُقدَّسة مِن أجلِ تَحقيقِها. فاللهُ يَعملُ فينا، أو كما يَقولُ "تي. سي. هاموند" (T. C. Hammond) في مَقالةٍ نُشِرَت في مَجلَّة "هِيز" HIS)): "لا شَكَّ في أنَّهُ يُوجَدُ تَجاوُبٌ بَشريٌّ مَعَ المُبادَرَةِ الإلهيَّة". فالصَّلاةُ هي طَريقةٌ أَنْسَجِمُ بها معَ مَقاصِدِ اللهِ ويُحَقِّقُ اللهُ مِن خِلالِها تلكَ المقاصِد. فالصَّلاةُ تُحَرِّكُ اللهَ. فاللهُ يُحَرِّكُ شَعبَهُ الَّذي يَتحرَّكُ مُتجاوبًا.
إذًا، هذا هو المَصدَر. وأيًّا كانَ ما تُؤمِن بِهِ بشأنِ سِيادةِ اللهِ، بِغَضِّ النَّظَرِ عن شِدَّةِ ثِقَتِكَ بأنَّهُ هو المَسؤولُ عن كُلِّ شيءٍ، لا يُمكِنُ لهذا الشَّيء الَّذي تُؤمِنُ بِهِ... لا يُمكِنُهُ أن يُلغي حَياةَ الصَّلاةِ لديك. لِذا فإنَّ بولسَ يُصَلِّي: "الأَمْرُ الَّذِي لأَجْلِهِ نُصَلِّي أَيْضًا كُلَّ حِينٍ مِنْ جِهَتِكُمْ: أَنْ يُؤَهِّلَكُمْ إِلهُنَا لِلدَّعْوَةِ، وَيُكَمِّلَ كُلَّ مَسَرَّةِ الصَّلاَحِ وَعَمَلَ الإِيمَانِ بِقُوَّةٍ". فهو يُصَلِّي لأجلِ هذهِ الأمور الثَّلاثة. وهي أمورٌ عَظيمة. فالأهلِيَّةُ تُشيرُ إلى الشَّخصيَّةِ الرُّوحيَّة؛ أي أن يَجعلَكَ الرَّبُّ الشَّخصَ الَّذي يَنبغي أن تَكون. والإكمالُ يُشيرُ إلى أن يُحَقِّقَ اللهُ مِن خِلالِ ظُروفِ حَياتِكَ كُلَّ شَوقٍ مُقَدَّس. وأخيرًا، أن تَتِمَّ كُلُّ خِدمةٍ تَقومُ بها بقوَّة. فهذا هو ما يُريدُهُ اللهُ: حَياةً كَما يَحِقُّ، وحَياةً مُشْبَعَةً، وحَياةً قَويَّةً. فهذه هي الأشياءُ الَّتي تَستَحِقُّ أن نُصَلِّي لأجلِها. فعندما تُصَلِّي لأجلِ شَريكِ الحياةِ، أو عندما تُصَلِّي لأجلِ أبنائِكَ، أو عندما تُصَلِّي لأجلِ أصدقائِكَ، أو عندما تُصَلِّي لأجلِ كَنيستِكَ، أو عندما تُصَلِّي لأجلِ حَياتِكَ الرُّوحيَّة، يجبُ عليكَ أن تُصَلِّي لأجلِ الأشياءِ التَّالية: الأهليَّة، والشِّبَع، والقوَّة في الخِدمة.
وإليكُم المُلاحظة التَّالية: إنَّها نَقلَةٌ سَهلةٌ في الحقيقةِ بعدَ أن كَتَبَ الأعدادَ مِن 5 إلى 10 أن يَكتُبَ تلكَ المُلاحظة في هذا الأصحاحِ في هذا المَكان. فنحنُ نَجِدُ عادةً هذهِ المُلاحظاتِ عن حَياةِ الصَّلاةِ لديهِ في جُزءٍ سابقٍ مِنَ الرِّسالةِ في الأصحاحِ الأوَّل. فهي تَظهَرُ عادةً في الآياتِ الخَمسِ أوِ السِّتِّ الأولى؛ ولكنَّهُ هُنا يَنتظِرُ إلى أن يَنتهي مِنَ التَّحدُّثِ عنِ المجيءِ الثَّاني. وأعتقدُ أنَّها طَريقة رائعة للقيامِ بذلك لأنَّ أيَّ حَديثٍ عنِ المَجيءِ الثَّاني، وأيَّ حَديثٍ عنِ الرَّجاءِ المُستقبليِّ للمؤمِن لَهُ مَفاعيل مُباشِرة في الحاضِر. أليسَ كذلك؟ وأنتُم تَعلَمونَ ذلكَ مِن خلال الأعداد 5-10 الَّتي دَرَسناها بالتَّفصيلِ والَّتي تَتحدَّثُ عن عَودةِ الرَّبِّ. فنحنُ نَقرأُ في العددِ السَّابعِ الَّذي هو العَددُ الرَّئيسيُّ، في مُنتَصَفِ العَدد: "عِنْدَ اسْتِعْلاَنِ الرَّبِّ يَسُوعَ مِنَ السَّمَاءِ مَعَ مَلاَئِكَةِ قُوَّتِهِ". وقد قُلنا إنَّهُ سيأتي لِغايَتَيْن: العِقاب والمُكافأة. لِذا فإنَّ تَرَقُّبَ مَجيءِ المسيحِ ليسَ شيئًا يُؤثِّرُ فقط في نَظرتنا إلى المستقبل، بل إنَّهُ يُؤثِّرُ أيضًا في نَظرتِنا إلى الحاضِرِ لأنَّ لَهُ آثار حَاضِرة وَثيقة الصِّلة.
ففي رسالة بُطرس الثَّانية والأصحاحِ الثَّالث، الَّذي رُبَّما كانَ أشهرَ وأسهلَ نَصٍّ عن هذا الموضوع، يَكتُبُ بُطرسُ عن عودةِ المسيح، ويَتحدَّثُ عنِ الوعدِ بمجيئِهِ في العددِ الرَّابع، ويَتحدَّثُ عن دَينونتِه. ثُمَّ إنَّهُ يَقولُ في العددِ الثَّامنِ إنَّ هذا الأمرَ سَيَحدُثُ وإنَّهُ لا مَفَرَّ مِن حُدوثِهِ، وإنَّهُ لا يُمكِنُنا أن نَمنَعَهُ أو نُعَطِّلَهُ. وإن كانَ الوقتُ يبدو طَويلاً، تَذَكَّروا وَحَسْب "أَنَّ يَوْمًا وَاحِدًا عِنْدَ الرَّبِّ كَأَلْفِ سَنَةٍ". ثُمَّ إنَّهُ يَقولُ في العددِ التَّاسع: " لاَ يَتَبَاطَأُ الرَّبُّ عَنْ وَعْدِهِ". فإن كانَ قد وَعَدَ بأنَّهُ سيأتي فإنَّهُ سيَفعلُ ذلك. وهو يُشَبِّهُ في العددِ العاشِرِ مَجيءَ ذلكَ اليوم بِمَجيءِ لِصٍّ ويقولُ إنَّ السَّماواتِ ستَزول، ويَتحدَّثُ عن كُلِّ تلكَ الأمور. ثُمَّ نَجِدُ في العددِ الحادي عشر مِفتاحًا حَقيقيًّا: "فَبِمَا أَنَّ هذِهِ كُلَّهَا تَنْحَلُّ، أَيَّ أُنَاسٍ يَجِبُ أَنْ تَكُونُوا أَنْتُمْ فِي سِيرَةٍ مُقَدَّسَةٍ وَتَقْوَى؟" ثُمَّ إنَّهُ يَقولُ في العدد 14 إنَّهُ يَنبغي أن نُوجَدَ في سَلامٍ، وَبِلا دَنَسٍ أو عَيْبٍ. وفي العدد 18: "وَلكِنِ انْمُوا فِي النِّعْمَةِ وَفِي مَعْرِفَةِ رَبِّنَا وَمُخَلِّصِنَا يَسُوعَ الْمَسِيح". لِذا، عندما تَعلمونَ أنَّ المسيحَ سيأتي في المستقبَل فإنَّ تَجاوُبَكُم الحاضِرَ يُحَتِّمُ عليكم أن تَستعِدُّوا. فنحنُ نَقرأُ في رسالة يوحنَّا الأولى 3: 3 أنَّهُ إن كانَ هذا الرَّجاءُ عِندَكُم فإنَّهُ يُطَهِّرُكُم.
لِذا فقد كانَ بولُسُ يَعلمُ أنَّ خُطَّةَ اللهِ للمَجدِ المُستقبليِّ لشعبِهِ قد وُضِعَت. فهذا هو رَجاءُ المُؤمِن. ولكنَّهُ كانَ يَعلَمُ أيضًا أنَّ لها مَفاعيل عَمليَّة قويَّة على الطَّريقةِ الَّتي نَحيا بها. لِذا فإنَّهُ يَنتقلُ بسهولة للتَّحدُّثِ عنِ الصَّلاةِ حَتَّى تَجِدَ الجَوانِبُ العَمليَّةُ للرَّجاءِ طَريقَها إلى حَياةِ النَّاس. فقد كانَ يَعلَمُ، في العدد 12 على سبيلِ المِثالِ، أنَّهُم سَيُمَجَّدونَ في يومٍ ما؛ ولكنَّهُ أرادَ أن يَتَمَجَّدَ المسيحُ فيهم الآن – الآن. فحقيقةُ ما سيَحدُث في المستقبل ينبغي أن تَصنَعَ فَرقًا في الحاضِرِ أيضًا.
لِذا فإنَّ بولسَ يَقول: "انظُروا! أنا أُصَلِّي إلى اللهِ لأجلِكُم مِن أجلِ هذهِ الأشياءِ الثَّلاثة. فهذه هي الأمورُ الصَّحيحة". فهي حَقًّا الأمورُ الصَّحيحة. فهي الأشياءُ الَّتي ينبغي أن تُكَرِّسوا أنفسَكُم للصَّلاةِ لأجلِها. فيجبُ علينا أن نَسعى جاهِدينَ في حَياتِنا إلى التَّركيزِ على الأمورِ الصَّحيحة. وهذهِ هي الأشياءُ التي يَنبغي أن نَنهَمِكَ بها في طَاعَتِنا المسيحيَّةِ إذْ نَسعى إلى أن نَكونَ مُؤهَّلينَ أكثرَ فأكثرَ لِحَمْلِ اسمِ المسيح، ونَسعى إلى القيامِ بالأشياءِ الصَّالحة ورُؤيتِها تَتحقَّق، ونَسعى إلى الخِدمة بقوَّة. فإن كانَ هذا هو ما نَسعى إليه، وإن كانَ هذا هو الهَدف، وإن كانت هذهِ هي غَايةُ صَلواتِنا ونَمَطِ طَاعَتِنا فإنَّ اللهَ سيَتمجَّد. وأنا أَعلمُ أنَّ هذا يَتطلَّبُ تَضحيةً، وأَعلمُ أنَّهُ ينبغي لكُم أن تَنْسَوْا كُلَّ شيءٍ مِن حَولِكُم، وأن تَتَجاهَلوا الثَّقافةَ والقُمامَةَ الَّتي تُطرَحُ عليكُم رَغمًا عنكُم، وأنَّهُ يجب عليكم أن تَسْعَوْا إلى شَيءٍ يَتطلَّبُ تَركيزًا شَديدًا، ونَظرةً إلى الأمام، واستعدادًا هَائِلاً للتَّكريسِ والتَّضحيةِ للحِفاظِ على تَركيزِكُم.
كانَ "لانس" (Lance) يُريني مَثلاً إيضاحيًّا مُدهشًا في كِتابٍ عن شركة "بوني إكسبرس" (Pony Express) يَتحدَّثُ عنِ التَّضحيةِ والتَّكريسِ اللذَّينِ يَتَطَلَّبهُما القيامُ بالعملِ الصَّحيح. فقد كانت شركة "بوني إكسبرس" شركة نَقْل خاصَّة تَحمِلُ البريدَ بواسطة أشخاصٍ يَمْتَطونَ ظُهورَ الأحصِنَة. وكانت مَحَطَّتُهُم الشَّرقيَّة هي "سينت جوزف" (St. Joseph) بولاية "ميزوري" (Missouri)، ومَحطَّتُهم الشَّرقيَّة هي "ساكرامنتو" بولاية "كاليفورنيا" (California). وكانت تَكلُفة إرسالِ طَرْدٍ بَريديٍّ بواسطة شركة "بوني إكسبرس" هي دولاران ونِصف للأوقيَّة. وكانَ هذا قبلَ أكثر مِن مِئة سنة. لِذا، كانَ ذلكَ المبلغُ كبيرًا. وإن كانَ الجَوُّ صَحْوًا وتابَعَتِ الخُيولُ طَريقَها مِن دُونِ اعتداءٍ مِنَ الهُنودِ الحُمْر، كانَ الطَّردُ البَريديُّ يُكمِلُ رِحلةَ الألفيِّ ميل في عشرة أيَّام بالسُّرعةِ القُصوى. وهذا هو الوقتُ الَّذي تَطَلَّبَهُ وُصولُ خِطاب "لِنكن" (Lincoln) الافتتاحيّ إلى ساكرامنتو مِن سينت جوزف.
ورُبَّما ستُدهَشونَ إن عَلِمتُم أنَّ "بوني إكسبرس" عَمِلَت فقط مِنَ الثَّالثِ مِن شهر نيسان/إبريل سنة 1860 إلى الثَّامِن عشر مِن شهر تشرين الثَّاني/نوفمبر سنة 1861. ثُمَّ إنَّهُ تَمَّ اختراعُ التِّليغراف. وعندما تَوَفَّرَ خَطُّ التِّليغراف وصارَ هُناكَ خَطٌّ يَربِطُ بينَ المَدينتين، لم تَعُد شركة "بوني إكسبرس" ضَروريَّة. وكانَ امتِطاءُ ظَهرِ الحِصانِ للعملِ معَ "بوني إكسبرس" عَملاً شاقًّا يَتطلَّبُ تَركيزًا. فقد كانَ يجبُ عليكَ أن تَنطلِقَ بأقصى سُرعة مُمكنة، وألاَّ تَتوقَّفَ إلاَّ مِن أجلِ تَبديلِ الحِصان لأنَّهُ كانَ يُتوقَّعُ مِنكَ أن تَمتَطي ظَهرَ الحِصانِ نَحوَ مِئة ميل في اليوم، وأن تُبَدِّلَ الحِصانَ كُلَّ 15-25 ميلاً. وعَدا عنِ البَريد، كانَ الشَّيءُ الوحيدُ الَّذي يُسمَحُ بِحَملِهِ هو أشياء قليلة مِثلَ كَميَّة صغيرة مِنَ الطَّحين، ودَقيق الذُّرة، واللَّحْمُ المُقَدَّد. وفي الحالاتِ الخَطِرة، كانَ الشَّخصُ الَّذي يَمْتَطي ظَهرَ الحِصان يَحمِلُ مَعَهُ عُلبَةَ إسعافاتٍ أوليَّة تَحوي زَيتَ التَّربنتين، والبورَكس، وكريم الطِّرْطير. فلكي تُسافِر خَفيفًا وتَزيدَ مِن قُدرتِكَ على التَّمَلُّصِ مِنَ الهُنودِ الحُمْر في حَالِ هُجومِهم، كانَ الرِّجالُ يُسافرونَ دائمًا وَهُم يَرتدونَ أقمصةً فقط حَتَّى في الشِّتاءِ القارِسِ عندما يَعبُرونَ سِلسلة جبال رُوكي.
وقد تقول: "كيفَ كانوا يَفرِضونَ على العامِلينَ أن يَعيشوا هَكذا؟ وكيفَ تَمَكَّنوا مِنَ العُثورِ على أيِّ عامِلينَ لديهم؟" إليكُم إعلانًا مِن صَحيفةٍ صَدَرَت في سان فرانسيسكو في سنة 1860. فهذا إعلانٌ صَدَرَ عن شركة "بوني إكسبرس". إليكُم ما يَقول: "مَطلوب: شُبَّانٌ خَفيفو الوَزنِ وسَريعون". فلا يَجوزُ أن يَكونَ وَزنُكَ ثَقيلاً لِئلاَّ تَقتُلَ الحِصان. أنتُم تَفهمونَ ذلك! "لا يَزيدُ عُمرُهم عن 18 سنة". فيجب أن تَكونَ لديكَ قُدرة عالية على التَّحَمُّل. "يجب أن يكونَ المُتَقَدِّمُ خَبيرًا في امتِطاءِ الخَيلِ ومُستعدًّا للمُجازَفة يوميًّا". والمُلاحظةُ الأخيرةُ هي: "تُعطَى الأولويَّة لليَتامَى". وهل تَعلمونَ أنَّهُم لم يَجِدوا صُعوبَةً قَطّ في العُثورِ على عامِلين؟ فقد كانت لديهم دائمًا لائحة انتظار بأسماءِ الأشخاصِ الرَّاغبينَ في العمل. وكانَ أشخاصٌ كثيرونَ يَنجذبونَ إلى ذلك النَّوع مِنَ التَّضحية.
وفي النِّطاقِ الرُّوحيِّ، أعتقدُ أنَّ مسألةَ الحِفاظِ على التَّركيزِ والسَّعيِ إلى القيامِ بالأشياءِ الصَّحيحةِ يَتطلَّبُ نَفسَ الصَّرامَةِ والجِدِّيَّةِ والتَّكريسِ والتَّضحيةِ ورُوحِ المُغامرةِ، ونَفسَ عَدمِ المُبالاةِ بجميعِ الأشياءِ وجَميعِ النَّاسِ مِن حَولِنا كما هي الحَالُ في العالَمِ المادِّيِّ إن أردتَ أن تَكونَ عَامِلاً جَيِّدًا لدى شركة "بوني إكسبرس". فهل يُمكِنُكَ أن تُحافِظَ على تَركيزِك؟ وهل يُمكِنُكَ أن تَركُضَ بنفسِ السُّرعةِ الَّتي يُريدُ مِنكَ اللهُ أن تركُضَ بها، وأن تَسعى نَحوَ الهَدفِ الَّذي يُريدُ مِنكَ أن تَسعى إليه بالرَّغمِ مِن كُلِّ الأشياءِ الَّتي تَجري مِن حَولِكَ دُونَ أن تَتَلَهَّى؟ هل يُمكِنُكَ أن تَستمرَّ في السَّعيِ إلى الأشياءِ الصَّحيحَة؟ هذا هو التَّحَدِّي. ولا يُمكِنُكَ أن تَفعلَ ذلكَ بِمُفردِك. لِذا فإنَّ الرسولَ بولسَ يُصَلِّي أن تَتمكَّنوا مِنَ القيامِ بذلكَ بقوَّةِ الله.
نَشكُرُكَ يا أبانا على تَذكيرِنا مَرَّةً أخرى بمَركَزِيَّةِ الصَّلاةِ في موضوعِ التَّكريسِ والنُّموِّ الرُّوحيِّ. ونَشكُرُكَ يا أبانا على تذكيرِنا بأنَّكَ أنتَ المُهيمِن، وبأنَّكَ تَعرِفَ كُلَّ الأشياءِ مِنَ البداية إلى النِّهاية لأنَّكَ أنتَ مَن صَنَعتَها، وأنَّكَ أنتَ مَن وَضَعْتَ مَقاصِدَكَ وأنَّكَ ستُحَقِّقُها، وأنَّكَ الرَّبُّ، وأنَّكَ لا تَتغيَّر. ونحنُ نُؤكِّدُ كُلَّ ذلك. ولكنَّكَ عَمِلتَ في الوقتِ نفسِه، يا رَبّ، بطريقةٍ غامضةٍ ورائعةٍ وعَجيبةٍ على جَعْلِ مُعادَلَةِ سِيادَتِكَ تَحوي عُنْصُرَيِّ الصَّلاةِ والطَّاعة. لِذا فإنَّنا نُصَلِّي معَ بولُس لأجلِ كنيستِنا، يا رَبّ، أَنْ تؤَهِّلَهُمْ لِلدَّعْوَةِ، وَتُكَمِّلَ كُلَّ مَسَرَّةِ الصَّلاَحِ لَديهم، وَأن تَجعَلَ خِدمَتَهُم النَّابعةَ مِنَ الإِيمَانِ تَعمَلُ بِقُوَّة. ويا رَبّ، نسألُكَ أيضًا أن تُعطيهِم القُدرةَ والقُوَّةَ والإرادَةَ لكي يَبقَوْا على الطَّريقِ المُستقيمِ، ولكي يَستمرُّوا في التَّقدُّمِ بالرَّغمِ مِن كُلِّ الخُصومِ والأعداءِ والتَّحَدِّياتِ والمَشاكِلِ مِن دُونِ أَحمالٍ زائدةٍ حَتَّى يَتقدَّموا بسُرعة في الطَّريق ويَقوموا بالتَّضحياتِ اللاَّزمةِ لتحقيقِ كُلِّ هَدفٍ بُغيةَ الحُصولِ على المُكافأةِ وهي أن يَتَمَثَّلوا بالمسيح. ونحنُ نَشكُرُكَ، يا رَبّ، لأنَّكَ تَستطيعُ أن تَعملَ في حياتِنا هذا العَملَ الَّذي نَتوقُ إلى أن تَعمَلَهُ، والَّذي نُسَبِّحُكَ عليهِ باسمِ المسيح. آمين!

This article is also available and sold as a booklet.