
لِنفتح كُتُبَنا المُقدَّسةَ على سِفْر الرُّؤيا. وسوف نبتدئ دراسَتَنا في هذا المساء بالتأمُّل في الحقائق العظيمة لهذا السِّفْر الرائع. حين ابتدأتُ دراسَتي قبل مُدَّة، كنتُ أُفكِّرُ في كيفيَّة عَرْض مُقَدَّمة السِّفْر. فقد فَكَّرتُ في الرُّجوعِ إلى الوراء وَذِكْرِ بعضِ المُلاحظاتِ المأخوذة مِنْ سِفْر حِزْقيال، أوْ رُبَّما بعض المُلاحظات المأخوذة مِنْ سِفْر دانيال، أو ربما بالتَّعليمِ عن الأمور المستقبليَّة بحسب ما جاءَ في سِفْر زَكَرِيَّا - وهي جميعُها أَسْفارٌ ترتبطُ (بطريقةٍ أوْ بأخرى) بهذا السِّفْر العظيم. وقد فَكَّرتُ في الرجوعِ إلى الوراء والابتداءِ رُبَّما بِعِظةِ رِبِّنا على جبل الزَّيتون إذْ إنَّهُ يَتحدَّثُ فيها عن مَجيئِهِ الثاني في الأصْحاحَيْن 24 و 25 مِنْ إنجيل مَتَّى (وأيضًا في إنجيل لوقا). ثُمَّ إنَّني فَكَّرْتُ في التَّأمُّلِ في رسائِل بولُس أوْ في رسائِل بطرس لأنَّ هناك مواضِعَ كثيرةً ترتبط فيها الأفكارُ بالمجيءِ الثاني ليسوعَ المَسيح. ولكنْ بعد كُلِّ ذلكَ التفكير، ابتدأتُ بقراءةِ الأصحاحِ الأوَّلِ، وأَعَدْتُ قِراءَتَهُ المَرَّةَ تِلْوَ الأُخرى، وتأمَّلتُ فيه. وحينئذٍ أَدركتُ أنَّني إنْ أَعْدَدْتُ مُقَدِّمَةً (حتى لو كانت مِنَ العهد القديم أوِ العهد الجديد) فإنَّ ذلك سيكونُ (إنْ جَازَ القَوْل) تَعَدِّيًا على المُقَدِّمَةِ الَّتي عَرَضَها يوحنَّا. وحين ابتدأتُ بقراءةِ افتتاحيَّةِ هذا السِّفْرِ والتَّأمُّلِ فيها، رأيتُ بوضوحٍ تامٍّ أنَّ الأعداد 1–3 هي في الحقيقة المُقَدِّمةُ الَّتي أَوْحَى بها الرُّوحُ القُدُسُ إلى يُوحنَّا كافتتاحيَّةٍ لهذا السِّفْرِ العظيم. وقد أدركتُ أنَّني لستُ بحاجةٍ إلى التَّمهيدِ لهذهِ الدِّراسةِ لأنَّ يوحنَّا فَعَلَ ذلك. فالآياتُ الثَّلاثُ الأُولى تُمَهِّدُ للسِّفْرِ تمهيدًا رائعًا. ولنتأمَّل فيها إذْ نَقرأُ في سِفْر الرُّؤيا 1: 1-3:
"إِعْلاَنُ يَسُوعَ المَسيح، الَّذِي أَعْطَاهُ إِيَّاهُ اللهُ، لِيُرِيَ عَبِيدَهُ مَا لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَنْ قَرِيبٍ، وَبَيَّنَهُ مُرْسِلاً بِيَدِ مَلاَكِهِ لِعَبْدِهِ يوحنَّا، الَّذِي شَهِدَ بِكَلِمَةِ اللهِ وَبِشَهَادَةِ يَسُوعَ المَسيح بِكُلِّ مَا رَآهُ. طُوبَى لِلَّذِي يَقْرَأُ وَلِلَّذِينَ يَسْمَعُونَ أَقْوَالَ النُّبُوَّةِ، وَيَحْفَظُونَ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِيهَا، لأَنَّ الْوَقْتَ قَرِيبٌ".
ثُمَّ في العددِ الرَّابع، يَبتدئُ يُوحَنَّا الكتابةَ حَقًّا فيقولُ: "يوحنَّا، إِلَى السَّبْعِ الكَنَائِسِ ...". ولكنْ قبل تلك الرسالةِ التي تَبتدئ بالعددِ الرَّابِعِ، نَجِدُ هذه المُقَدِّمَةَ الرائعةَ في الآياتِ الثلاث الأُولى. وحين ابتدأتُ بدراسةِ هذه الآياتِ الثَّلاثِ، رأيتُ بوضوحٍ تامٍّ أنَّ كُلَّ ما نحتاج إليه لِتَهيئةِ أنْفُسِنا لدراسةِ سِفْرِ الرُّؤيا بطريقةٍ لا تُنْسَى ومُغيِّرةٍ للحياةِ مُرَكَّزٌ في هذه الآياتِ الثَّلاثِ نَفْسِها. لذلكَ فإنَّ ما أريد أنْ أفعلَهُ هو أنْ أُساعدَكم في التَّمهيدِ لهذا السِّفْر (وَهُوَ أَمْرٌ مُهِمٌّ جدًّا وضروريٌّ جدًّا) وذلك مِنْ خلال التَّأمُّلِ في هذه الآياتِ الثلاثِ ورؤية عناصرِ تلك المقدِّمةِ التي تَجْعَلُنا نتلامسُ معَ المادة الرئيسيَّة والقضايا المهمَّة في هذا السِّفْر. ولكي نفعل ذلك، أَوَدُّ أنْ أُجَزِّء المقدِّمةَ إلى عناصرَ عديدة، وأنْ أُشارِكَها معكُم الواحْدةَ تِلْوَ الأخرى. وإذْ نتأمَّلُ في هذه العناصرِ فإنَّها سَتُهَيِّئُنا لدراسةِ هذا السِّفْر الغَنِيِّ العظيم.
أوَّلاً، يَتحدَّثُ يوحنَّا في مُقَدِّمَتِهِ لسِفْر الرُّؤيا عن طبيعةِ السِّفْرِ الجوهريَّة - عن طبيعَتِهِ الجَوهريَّة. فنحنُ نَقرأُ في العددِ الأوَّل الكَلِمَة: "إعْلان". ويجب علينا أنْ نتوقَّف هنا. وأنا أَعْلَمُ أنَّكم تَعْلَمونَ أنَّني سأفعل ذلك. ولكنْ يجب علينا أنْ نفعلَ ذلك. فطبيعةُ هذا السِّفْرِ هي أنَّه "إعْلان". إنَّه "إعْلان". وهذا هو المِفتاحُ لِكُلِّ شيءٍ مَذكورٍ بعد ذلك. فنحن هنا أمام حقائق كانت مَخفيَّةً وصارت الآنَ مُعْلَنَةً.
فهناك حقائق في سِفْرِ الرُّؤيا وَرَدَتْ في شَكْلِ رُموزٍ واسْتِعاراتٍ في العهد القديم. وهناك حقائق وَرَدَتْ في سِفْر الرُّؤيا ولكنَّها كانت مُسْتَتِرَةً مِنْ خِلالِ الأسلوبِ النَّبَوِيِّ في العهد القديم. ومعَ أنَّه لا توجد (وسوف أُعيدُ ذلك:) معَ أنَّه لا توجد اقتباساتٌ مُباشرةٌ مِنَ العهدِ القديمِ في هذا السِّفْر بِمُجْملِه، ومع أنَّه لا توجد اقتباساتٌ مُباشرة في كُلِّ آياتِهِ الأربعمِئة وأربعة، فإنَّ مِئَتَيْنِ وخَمْسًا وسبعينَ آيةً على الأقَلّ مِنْ آياتِ سِفْرِ الرُّؤيا تُشيرُ (بطريقةٍ أو بأخرى) أوْ ترتبطُ (بطريقةٍ أو بأخرى) بالحَقِّ النَّبَوِيِّ المُعْلَنِ في العهد القديم. فالعلاقاتُ مَوجودَةٌ لا مِنْ خلالِ الأقوالِ المُقتبسَة، بل مِنْ خلال الارتباطاتِ والإشاراتِ (لا مِنْ خلالِ الاقتباساتِ المُباشرة). فَهُوَ سِفْر يَزْخُرُ بإعلاناتٍ تَمَّتِ الإشارةُ إليها بصورةِ تَلْميحاتٍ فقط في العهد القديم.
كذلك، مِنَ الواضح لأيِّ قَارِئٍ لِسِفْر الرُّؤيا أنَّ يوحنَّا كان يُفكِّر أثناء كِتابَتِهِ المُوْحَى بها مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ في تعليمِ يَسوعَ في عِظتِهِ على جبل الزيتون (كما وردت في إنجيل مَتَّى والأصْحاحَيْن 24 و 25). وكما سنرى في أثناءِ تَأمُّلِنا في هذا السِّفْر، هناك أوْجُهُ تَشَابُهٍ كثيرة جِدًّا بينَ هذا السِّفْرِ وتعليمِ رَبِّنا في تلكَ العِظةِ الرائعةِ المدوَّنةِ في إنجيل مَتَّى والأصْحاحَيْن 24 و 25. لذا فقد تَمَّ الكشفُ عنِ الكثيرِ مِنَ الأمورِ المُخْتصَّةِ بالمجيءِ الثاني للمسيح في العهد القديم وفي العهد الجديد مِنْ خلال تعليم الرَّبِّ يَسوعَ نَفْسِهِ. ولا نُجانِبُ الصَّوابَ إنْ قٌلنا أيضًا إنَّ بولُسَ قد تحدَّث كثيرًا عنِ المجيءِ الثَّاني للمَسيح مِنْ خلالِ حَديثِهِ عنِ اختطافِ الكنيسةِ والدَّينونةِ التي سيأتي بها على غير المؤمنين. ومِنَ المهم أيضًا أنْ نُلاحظ أنَّ بطرس قد تحدَّث كثيرًا عن المجيء الثاني للمسيح في رِسَالَتَيْه إذْ إنَّهُ كان يَتَطَلَّعُ قُدُمًا إلى ذلك الحَدَث العظيم. ويقتضي التنويهُ أيضًا إلى أنَّه حتَّى في رسائِل يوحنَّا، هناك تَرَقُّبٌ لعودةِ المَسيح. ونجدُ أيضًا أنَّ يَعقوبَ يَقولُ للمؤمنينَ في رِسالَتِهِ أنْ يَصْبِروا وأنْ يَحتملوا إلى أنْ يأتي الرَّبّ. لذا، فقد قِيْلَ الكثيرُ عن هذا الموضوع.
وأقول مَرَّةً أُخرى إنَّ بعضَ أجزاءٍ مِنْ هذا السِّفْر وَرَدَ بصيغةِ استعاراتٍ، وأنَّ بَعْضًا منه وَرَدَ بصيغةِ رُموزٍ، وأنَّ بعضًا منها وَرَدَ بصيغةِ نُبواتٍ وتَعميماتٍ مَحْجُوبَةٍ في الأدَبِ النَّبَوِيِّ في العهدِ القديم، وأنَّ بعضَ أجزائِهِ وَرَدَ بصورة مُحَدَّدة جدًّا في العهدِ الجديد. ولكنَّنا نَجِدُ في سِفْرِ الرُّؤيا تَفاصيلَ كثيرةً جدًّا عن عودةِ يَسوعَ المَسيح. لذلك فإنَّ هذا هو "الإعلانُ"، وهذا هو "كَشْفُ النِّقاب". فالكلمة المُستخدَمَة هُنا هي "أبوكالوبسيس" (apokalupsis)، وهي الكلمة التي جاءت منها الكلمة "أبوكاليبس" (apocalypse) ومَعْناها الحَرْفِيُّ هُوَ: "كَشْفُ الغِطاءِ" أوْ "نَزْعُ الغِطاءِ" أوْ "إزالَةُ الغِطاءِ" أوْ "إزالةُ الحِجَابِ" أوْ "كَشْفُ السِّرِّ". وقدِ استُخدِمَتْ هذهِ الكلمة ثماني عَشْرَةَ مَرَّةً في العهد الجديد. وعندما تُسْتخدَمُ للإشارةِ إلى شخصٍ فإنَّها تُشيرُ دائمًا إلى أنَّه قد صَار مَنْظُورًا. ففي كُلِّ مَرَّةٍ استُخْدِمَتْ فيها هذه الكلمةُ للإشارة إلى شخصٍ فإنَّها تعني أنَّ ذلك الشخصَ قد صَار مَرْئِيًّا. لذلكَ فإنَّ ما لدينا هنا هُوَ حَقٌّ صَارَ واضِحًا تمامًا.
والكلمة "أبوكالوبسيس" (apokalupsis) استُخدِمَت أوَّلَ مَرَّة في الأصحاحِ الثاني مِن إنجيل لوقا. وأودُّ فقط أنْ أُريكُم إيَّاها لكي تَعرفوا كيفَ استُخدِمَت لأنَّ ذلكَ يجب أنْ يَترَسَّخَ في أذهانِكم حينَ تُفكِّرونَ في ذلك بالارتباطِ بِسِفْر الرُّؤيا. ففي إنجيل لوقا 2: 28، نقرأُ عَمَّا حَدَثَ عندما اصْطَحَبَ يوسُفُ ومَريم يسوعَ إلى الهيكلِ (ونحنُ نَتحدَّثُ هُنا عن يسوعَ عندما كانَ طِفلاً) إذْ لاقاهُ رَجُلٌ يُدعى "سِمْعان". ونحنُ نقرأ في العدد 25: "وَهَذَا الرَّجُلُ كَانَ بَارًّا تَقِيًّا يَنْتَظِرُ تَعْزِيَةَ إِسْرَائِيلَ [أيْ: يَنتظرُ المَسِيَّا]، وَالرُّوحُ الْقُدُسُ كَانَ عَلَيْهِ". ثم نقرأُ في العدد 28 أنَّهُ أَخَذَ الطِّفْلَ يَسوعَ عَلَى ذِرَاعَيْهِ وَبَارَكَ اللهَ وَقَالَ: "الآنَ تُطْلِقُ عَبْدَكَ يَا سَيِّدُ حَسَبَ قَوْلِكَ بِسَلاَمٍ". المقصودُ بذلك: "يمكنني أنْ أموتَ الآنَ. فقد رأيتُ المَسِيَّا". "لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ أَبْصَرَتَا خَلاَصَكَ، الَّذِي أَعْدَدْتَهُ قُدَّامَ وَجْهِ جَمِيعِ الشُّعُوبِ. نُورَ إِعْلاَنٍ لِلأُمَمِ، وَمَجْدًا لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ". ونَجِدُ هنا الكلمة "إعلان" (نُوْرُ "أبوكالوبسيس") – ومَعناها: "كَشْف" أو "إظهار". وهي تَعني حَرفيًّا في هذهِ الحالة: "أنْ يَصيرَ الشَّخصُ ظاهِرًا للعِيان". والآنْ فإنَّ المسيَّا (أيِ المَسيح، أوِ المُخَلِّص) قد صَارَ مَنْظورًا. وهي تُشيرُ إلى تَسليطِ الأضواءِ على شَخْصٍ مَا.
فهذهِ الكَلِمَة تُتَرْجَم في رسالة بُطرسَ الأولى: "اسْتِعلان". وهي تُتَرْجَم في رسالة كورِنثوس الأولى 1: 7: "استعلان" أوْ "مَجيء". وفي رُومية 8: 19: "استعلان". لذلك فإنَّها تَعني كُلَّ المَعاني التَّالية: "كَشْفُ الحِجاب"، أوْ "إزالَةُ الغِطاء"، أوْ "إظهارُ شَخْصٍ مَا"، أوْ "تَسليط الضَّوْءِ على شَخْصٍ ما لكي تُبَيِّنَ كُلَّ صِفاتِه"، أوْ "ظُهور"، أوْ "مَجيء"، أوْ "استِعلان". فهذا هُوَ مَعناها في الأصل. ولا نُجَانِبُ الصَّوابَ إنْ قُلنا إنَّ الكِتابَ المُقدَّسَ كُلَّهُ هُوَ إعلان. فهذا صَحيح. ولكِنْ إنْ أَرَدْنا أنْ نُخَصِّصَ الكَلامَ جدًّا فإنَّ هذا الكِتابَ هُوَ "إعلانٌ" خاصٌّ. فهو "إعلانُ ..." [لاحِظوا ما سأقول] "... يَسوعَ المَسيح". فهو يُعْلِنُ يسوعَ المَسيح ويُظْهِرُ نُوْرَهُ. فنحنُ نَرى هنا مَجْدَ المَسيح البَهِيّ مُعْلَنًا.
وهناك نُقطةٌ أوَدُّ أنْ أُعلِّق عليها وهي أنَّ أُناسًا كثيرين يَفترضونَ أنَّ هذا السِّفْرَ يُخفي أُمُورًا مُعَيَّنَة. فالناسُ يَقرأون هذا السِّفْرَ ويَحتارونَ كثيرًا بشأنه. والناسُ يَقرأونَهُ ويَفترضونَ أنَّه غامِضٌ وغريبٌ وعجيبٌ، وأنَّه أُحْجِيَةٌ لا حَلَّ لها، وأنَّه لُغْزٌ يَعْجَزُ الإنسانُ عن فَهْمِه. فَهُمْ يَفترضونَ أنَّه غامضٌ أوْ مُبْهَمٌ أوْ مُعَقَّدٌ أوْ لا يُمكنُ استيعابُه، وأنَّهُ مُحَيِّر. ولكنَّ هذا السِّفْرَ ليس إخْفاءً لشيءٍ ما، بل هو "إعلانٌ". ومِنَ المهم أنْ نُلاحظَ ذلك. فَهُوَ ليس حَجْبًا لشيءٍ ما، بل إنَّه يُزيلُ الحِجابَ عَنْه.
وما الذي يَكْشِفُه؟ وما الذي يُزيلُ الحِجابَ عنه؟ إنَّهُ يَكْشِفُ الكثيرَ مِنَ الأشياءِ - الكثيرَ مِنَ الأشياء. فعندما نتأمَّلُ في هذا السِّفْرِ نَجِدُ أنَّه يُعْلِنُ تَحذيراتٍ للكنيسةِ بخصوصِ الخَطَايَا المُحْدِقَةِ بها. وهو يُعْلِنُ تَعليماتٍ للكنيسة بخصوص الحاجةِ للقداسَة. وهو يُعْلنُ القُدرةَ المُدْهشةَ والمجيدةَ والغالِبَةَ للمَسيحِ والمؤمنِ المَسيحيِّ على الخطيَّةِ والشيطان. وهو يُعْلِنُ النُّصْرةَ النهائيَّةَ للمؤمنينَ الذي يَستشهِدونَ لأجلِ المَسيح. وهو يُعْلِنُ مَجْدَ العِبادةِ. وهو يُعْلِنُ نهايةَ التاريخ البشريّ. وهو يُعْلِنُ التَّركيبَةَ السِّياسِيَّةَ الأخيرةَ للعالم. وهو يُعْلِنُ نُصْرَةَ القَصْدَ المُخَلِّصَ للهِ. وهو يُعْلِنُ ما سيفعَلُهُ ضِدُّ المَسيحِ وما سيحدثُ في مَعركةِ هَرْمَجَدُّون الأخيرة عِنْدَما تَتَّحِدُ أُمَم العالمِ مَعًا. وهو يُعْلِنُ الحاجةَ لِمُقاومةِ قِوى الشَّرِّ بِصَبْر. وهو يُعْلِنُ أمجادَ ملكوتِ المَسيحِ على الأرض وفي السماء الجديدة والأرض الجديدة. وهو يُعْلِنُ نُصْرةَ مَقاصِدِ اللهِ المُخَلِّصَةِ في النهايةِ بِغَضِّ النَّظَرِ عمَّا يَسعى الشيطانُ إلى القيامِ به. وهو يُعْلِنُ نُصْرةَ المَسيحِ على كُلِّ القِوى البشريَّةِ والشيطانيَّة. وهو يُعْلِنُ نهايةَ الشيطانِ ونهايةَ الخطيَّة.
فَهُوَ على النَّقيضِ تَمامًا مِنَ الأُحْجِيَةِ، وَهُوَ على النَّقيضِ تَمامًا مِنَ السِّرِّ، وَهُوَ ليس إخفاءً لأمْرٍ ما، وهو ليس تَغْطِيَةً لأمرٍ ما؛ بل إنَّهُ يُزيلُ الغِطاءَ. لذلك فإنَّنا نقولُ إنَّ طبيعَةَ السِّفْرِ الجوهريَّة هي أنَّه "إعْلان". وقدِ انْتَقى يوحنَّا هذهِ الكلمةَ بعنايةٍ فائِقة. فَهِيَ إعلانٌ، وكَشْفٌ، وإظْهارٌ لتفاصيل كانت مَخْفِيَّةً عنْ أَعْيُنِ البَشَر. فَهُوَ يَكشِفُ تاريخَ نهاية الكَوْنِ، ويُبَيِّنُ كيفيَّةَ حُدُوثِ ذلك، وما سيحدُثُ بعد ذلك. والحقيقةُ هي أنَّ أَفْضَلَ طريقةٍ للتعبير عن ذلك هي أنَّه قِصَّةٌ مَنْشورَةٌ في الصَّفحةِ الأُولى عنْ مُستقبلِ العالمِ كَتَبَها شَخْصٌ كانَ هُناك - شخصٌ كانَ هُناك. ولو أَرَدْتُ أنْ أَختارَ عُنوانًا لدراسةِ سِفْرِ الرُّؤيا بالمفهومِ المُعاصِر فإنَّني سأختارُ العُنوان: "عَوْدَة إلى المُستقبل". إذَنْ، هذِهِ هي طبيعةُ السِّفْرِ الجوهريَّة. فَهُوَ "إعْلانٌ".
والنقطة الثانية التي أريد منكم أنْ تُلاحظوها في أثناءِ تأمُّلِنا في التَّمهيدِ الَّذي قَدَّمَهُ يوحنَّا هي الفِكْرة الرئيسيَّة للسِّفْر - الفِكْرة الرئيسيَّة للسِّفْر. فَهُوَ إعلانُ يَسوعَ المَسيح. ولا يَسَعُني إلَّا أنْ أتوقَّفَ عِنْدَ كُلِّ لَفْظٍ لأنَّ هذهِ الألفاظَ تَزْخُرُ حَرفيًّا بالمعاني. فَهذا السِّفْرُ هُوَ "إعْلانُ يَسوعَ المَسيح". وهناك أُناسٌ يَعتقدون أنَّ ذلكَ يعني أنَّ السِّفْرَ هُوَ "مِنْ" يَسوعَ المَسيح. والحقيقةُ هي أنَّ ذلكَ صحيحٌ بِكُلِّ تأكيد (بمعنى مِنَ المعاني). فنحن نقرأُ في سِفْر الرُّؤيا 22: 16 (أيْ في الأصحاحِ الأخير مِنْ هذا السِّفْر): "أَنَا يَسُوعُ، أَرْسَلْتُ مَلاَكِي لأَشْهَدَ لَكُمْ بِهذِهِ الأُمُورِ عَنِ الكَنَائِسِ". فلا نُجانِبُ الصَّوابَ إنْ قُلْنا إنَّ هذا الإعلانَ هُوَ مِنَ اللهِ، وإنَّهُ (بِكُلِّ تأكيدٍ) مِنْ يَسوعَ المَسيح. ولكنْ لا يُسْتَحْسَنْ أنْ نَفْهَمَ ما قالَهُ يُوحَنَّا هنا بهذا المعنى. فهو لا يَقْصِدُ أنْ يقولَ إنَّ هذا الإعلانَ هُوَ "مِنْ" يَسوعَ المَسيحِ بِقَدْرِ ما يَقصِدُ أنْ يقول إنَّهُ إعْلانٌ "عَنْ" يَسوعَ المَسيح. فالمَسيحُ هُوَ الَّذي يَتِمُّ الكَشْفُ عَنْهُ هنا. ولا يَحتاجُ المرءُ وقتًا طويلاً لإدراكِ ذلك. والحقيقةُ هي أنَّه بِبُلوغِكُم الآياتِ 4 و 5 و 6 فإنَّكُمْ ستُلاحِظونَ أنَّ المَسيحَ يَبتدئُ في الظُّهور. وعندما تَبلُغونَ العَدَدَيْن 7 و 8 فإنَّكم تَرَوْنَهُ بِكُلِّ مَجْدِهِ البَهِيِّ. ثُمَّ إنَّكم تَرَوْنَهُ في الأصحاحِ الثاني والأصحاحِ الثالثِ يَفْحَصُ كنيسَتَهُ. ثُمَّ إنَّنا نَجِدُ في الأصحاحات 4-22 نَفْسَ فِكْرةِ رَفْعِ الحِجَابِ عن مَجْدِ المَسيحِ في مَجيئِهِ الثَّاني إذْ إنَّه يَستعيدُ الأرضَ مِنَ الشَّيطانِ ويُؤسِّسُ مَملكَتَهُ (أيْ مَملكَتَهُ في هذا العالم ومملكته في العالم الآتي). فالمَسيحُ هو المُعْلَنُ. والمَسيحُ هو الذي يَتِمُّ كَشْفُ النِّقابِ عنهُ. والمَسيحُ هو الذي يَتِمُّ كَشْفُ الحِجابِ عنه. والمَسيحُ هو الذي يُسْتَعْلَنُ في مَجْدٍ. والمَسيحُ هو الذي يُسْتَعْلَنُ في جَلالٍ.
وبهذا المعنى، رُبَّما ستفهمون ما أعنيه إنْ قُلتُ لكم إنَّه يُشْبِهُ كثيرًا الأناجيل (مَتَّى ومَرقُس ولوقا ويوحنَّا)؛ ولكنَّه يمْلِكُ امتيازًا أَعْظَمَ هُنا. فالأناجيلُ تَكْشِفُ النِّقابَ عنِ المَسيحِ في مَجيئِهِ الأوَّلِ في اتِّضَاعِهِ. أمَّا سِفْرُ الرُّؤيا فيكشِفُ النِّقابَ عنِ المَسيحِ في مَجيئِهِ الثاني في ارْتِفاعِهِ. فالفكرةُ مِنْ إنجيل مَتَّى ومُرقس ولوقا ويوحنَّا هي الكَشْفُ عَنْ يَسوعَ المَسيحِ في اتِّضَاعِهِ. أمَّا الفكرةُ في سِفْرِ الرُّؤيا فهي الكَشْفُ عَنْ يَسوعَ المَسيحِ في سُمُوِّهِ. ولَكِنَّهُ الفِكْرةُ الرئيسيَّةُ. وهذا هو "الإعلان". فَهُوَ "أبوكالوبسيس ييسُو كريستو" (apokalupsis Jesu Christou). وَهُوَ كَشْفُ النِّقابِ عن يَسوعَ المَسيح. وبالمناسبة، فإنَّ تلك العبارةَ مُسْتخدمة في أماكِن أُخرى في العهد الجديد. فنحنُ نَقرأ في رسالة كورِنثوس الأولى 1: 7: "وَأَنْتُمْ مُتَوَقِّعُونَ اسْتِعْلاَنَ رَبِّنَا يَسُوعَ المَسيح" – أيِ "الكَشْفَ عَنْ" أوْ "إزالَةَ الحِجابِ عَنْ" يَسوعَ المَسيح. ونقرأُ في رسالة تسالونيكي الثانية 1: 7: إنَّ الرَّبَّ يسوعَ المَسيح سيُستَعْلَن. فنحنُ نَجِدُ تلكَ العِبارَةَ نَفسَها: "أبوكالوبسيس ييسُو كريستو". فنحنُ نَجِدُها في ذلكَ النَّصِّ نَفسِهِ (أيْ في الرِّسالة الثانية إلى أهلِ تسالونيكي والأصحاح الأوَّل). وحتَّى إنَّ بُطرسَ يَستخدِمُ العِبارَة نَفْسَها في رسالة بُطرس الأولى 1: 7 إذْ يَقول: "لِكَيْ تَكُونَ تَزْكِيَةُ إِيمَانِكُمْ ... تُوجَدُ لِلْمَدْحِ وَالكَرَامَةِ وَالمَجْدِ عِنْدَ [أبوكالوبسيس ييسُو كريستو]" أيْ: "عِنْدَ استعلانِ (أوْ مَجيءِ) يَسوعَ المَسيح".
والكلمةُ نَفسُها تَظْهَرُ في نَصٍّ واحدٍ آخرَ أَوَدُّ أنْ تَنظروا إليه، وهو رسالة غَلاطِيَّة والأصحاح الأوَّل - رسالة غلاطيَّة والأصحاح الأوَّل. وأعتقد أنَّنا نَجِدُ هنا مُلاحظةً مُهمَّةً جدًّا لكيلا نُسِيءَ فَهْمَ معناها. ففي رسالة غلاطيَّة والأصحاحِ الأوَّل، يَتحدَّثُ بولُسُ عن كيفَ أنَّهُ يَكْرِزُ الآنَ بالإنجيلِ فيقولُ في العددِ الحادي عشر: "وَأُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ الإِنْجِيلَ الَّذِي بَشَّرْتُ بِهِ، أَنَّهُ لَيْسَ بِحَسَبِ إِنْسَانٍ". فهو يقول إنَّهُ لم يَكْرِزْ بِحَسَبِ إنسان. بعبارة أخرى: "أنا لم أَتَلَقَّ رِسَالتي مِنْ مَصدرٍ بَشَرِيٍّ". ثُمَّ إنَّهُ يقول في العدد 12: "لأَنِّي لَمْ أَقْبَلْهُ مِنْ عِنْدِ إِنْسَانٍ وَلاَ عُلِّمْتُهُ. بَلْ [أبوكالوبسيس ييسُو كريستو]". وَهُوَ لا يَعني هُنا "بإعلانٍ مِنْ يَسوعَ المَسيح"، بَلْ "بإعلانِ يَسوعَ المَسيح". بعبارةٍ أخرى، فقد قَبِلْتُ الإنجيلَ الَّذي بُشِّرْتُ بِهِ عندما سَلَّمني اللهُ الحَقَّ المُختصَّ بالمَسيح. ولكي تَرَوْا أنَّهُ يَقْصِدُ ذلكَ فإنَّ كُلَّ ما يَنبغي لكم أن تَفعلوه هُوَ أنْ تَستمرُّوا في القراءة. فنحنُ نقرأ في العدد 13: "فَإِنَّكُمْ سَمِعْتُمْ بِسِيرَتِي قَبْلاً فِي الدِّيَانَةِ الْيَهُودِيَّةِ، أَنِّي كُنْتُ أَضْطَهِدُ كَنِيسَةَ اللهِ بِإِفْرَاطٍ وَأُتْلِفُهَا. وَكُنْتُ أَتَقَدَّمُ فِي الدِّيَانَةِ الْيَهُودِيَّةِ عَلَى كَثِيرِينَ مِنْ أَتْرَابِي فِي جِنْسِي، إِذْ كُنْتُ أَوْفَرَ غَيْرَةً فِي تَقْلِيدَاتِ آبَائِي. وَلكِنْ لَمَّا سَرَّ اللهَ الَّذِي أَفْرَزَنِي مِنْ بَطْنِ أُمِّي، وَدَعَانِي بِنِعْمَتِهِ أَنْ يُعْلِنَ ابْنَهُ فِيَّ لأُبَشِّرَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، لِلْوَقْتِ لَمْ أَسْتَشِرْ لَحْمًا وَدَمًا". وَهَلُمَّ جَرَّا. فهو يقول: "لقد تَلَقَّيتُ إعلانَ يسوعَ المَسيح مِنَ اللهِ الَّذي دَعاني بِنِعمَتِهِ وسُرَّ بأنْ يُعْلِنَ ابْنَهُ". لِذا فإنَّ كُلَّ استخدامٍ مِنْ هذهِ الاستخداماتِ لهذهِ العبارةِ نَفسِها، (أيِ: "أبوكالوبسيس ييسُو كريستو") تَنسجم معَ الفِكرةِ بأنَّهُ إعلانٌ عَنْ يسوعَ المَسيح، وليسَ إعلانًا مِنْ يَسوعَ المَسيح (بِحَسَبِ فِكْرِ الكاتِب).
والآن، لِنَرْجِع إلى سِفْر الرُّؤيا. فالشَّيءُ الَّذي يَقولُهُ هنا هو أنَّ يَسوعَ المَسيحَ هو الفِكْرةُ الرئيسيَّةُ العظيمةُ لهذا السِّفْرِ الذي هُوَ خِتامُ الكِتابِ المقدَّس. وواحِدٌ مِنَ الوُعَّاظِ المُفَضَّلينَ لَدَيَّ فيما يَختصُّ بسِفْرِ الرُّؤيا هو "دبليو. أ. كريسويل" (W.A. Criswell) الذي خَدَمَ سَنواتٍ عديدةً راعِيًا مُكَرَّمًا للكنيسةِ المَعمدانيَّةِ الأُولى (First Baptist Church) في "دالاس" بولاية تِكْسَاس. وهي كنيسةٌ وَعَظْتُ فيها في مُناسباتٍ عَديدة، وكانَ ذلكَ مَصْدَرُ فَرَحٍ وبَرَكَةٍ لِحياتي. وهو يقول في شَرْحِه لِسِفْرِ الرُّؤيا: "في المَرَّةِ الأُولى التي جاءَ فيها رَبُّنا إلى هذا العالمِ، جاءَ تحتَ غِطاءِ جَسَدِنا البَشَرِيِّ. فقد كان لاهُوتُهُ مُغَطَّى بناسُوتِه. لقد كانتْ أُلوهيَّتُهُ مُغطَّاهً بِبَشَرِيَّتِه. وبينَ الحينِ والآخر، كانَ لاهُوتُهُ يُشِعُّ كالنُّورِ كما حَدثَ على جبل التَّجَلِّي، أوْ كما حَدَثَ مِنْ خلالِ أعمالِهِ المُعجزيَّة. ولكنْ غالبًا، كان مَجْدُ، وجَلالُ، ولاهُوتُ، وعَظَمةُ، ورَوْعَةُ ابْنِ اللهِ (أيِ الأقْنومِ الثَّاني في الثَّالوثِ الأقْدَسِ) - كان كُلُّ ذلكَ مَحْجوبًا. فقد كانت كُلُّ هذه الصفاتِ مُغطَّاةً بالجَسَد. فقد وُلِدَ في حَظيرة. وقد نَشأَ في فَقْرٍ. وقد اختبرَ الجُوعَ والعَطَشَ. وقد لُطِمَ وضُرِبَ وتألَّم. وقد صُلِبَ ورُفِعَ على خشبةٍ (كما لو كان مُجْرِمًا) على مَرْأى مِنَ الأرضِ السَّاخِرَةِ كُلِّها. فالمَرَّةُ الأخيرةُ التي رَأى فيها العالمُ يَسوعَ كانتْ عندما رَأَوْهُ مُعَلَّقًا في خِزْيٍ وبُؤْسٍ وأَلَمٍ على الصَّليب. وقد ظَهَرَ لاحِقًا لمجموعةٍ مِنْ تلاميذِهِ المؤمنين، ولكنَّ المَرَّةَ الأخيرةَ التي رأى فيها هذا العالمُ غيرُ المؤمِنِ يَسوعَ هي عندما رَأَوْهُ يَموتُ كَمُجْرِمٍ وكَشَخْصٍ مُدانٍ حين صُلِبَ على صَليبٍ رُومانِيٍّ. وقد كان ذلك جُزءًا مِنْ خُطَّةِ اللهِ وجُزءًا مِنْ نعمةِ ومحبَّةِ رَبِّنا اللامُتناهيةِ التي لا حُدودَ لها: الذي بِجَلْدَتِه شُفينا".
ثُمَّ إنَّه يَقولُ:
"ولكنْ هل هذا هو كُلُّ ما سَيَراهُ العالمُ مِنْ جِهَةِ مُخَلِّصِنا - أيْ أنْ يَرَوْهُ يَموتُ في خِزْيٍ على الصَّليب؟ لا! فَخِطَّةُ اللهِ تَتَضَمَّنُ أيضًا أنَّه في يومٍ ما، فإنَّ هذا العالمَ غيرَ المؤمنِ، وهذا العالمَ المُجَدِّفَ، وهذا العالمَ البعيدَ عنِ اللهِ سيَرى ابنَ اللهِ في كَمَالِهِ، وفي مَجْدِهِ، وفي جَلالِهِ، وفي كُلِّ عَظَمَةِ وَرَوْعَةِ لاهُوتِه. وحينئذٍ، سَيَراهُ الناسُ جميعًا على حقيقتِهِ. وَسَيَراهُ وَهُوَ يُمْسِكُ بيدَيْهِ سَنَدَ مُلْكيَّةِ الكَوْنِ، ويُمْسِكُ بيدَيْهِ صَوْلَجانَ السُّلْطانِ على كُلِّ الخليقةِ الَّتي في الكَوْنِ مِنْ فَوْقِنا، وفي الكَوْنِ المُحيطِ بنا، وفي الكَوْنِ مِنْ تَحْتِنا إذْ إنَّهُ يُمْسِكُ هذا العالمَ ومَصيرَهُ بيدَيْهِ المَثقوبَتَيْنِ والمُحِبَّتَيْن". (نِهايَةُ الاقتباس)
وحالما تَدرُسونَ هذا السِّفْرَ، سيتَّضحُ لكم أنَّ الفِكْرةَ الرئيسيَّةَ والجوهريَّةَ هيَ: يَسوعُ المَسيح. والحقيقة هي أنَّ رَبِّنَا يسوعَ المَسيحَ المُباركَ يَظْهَرُ في سَبْعِ صُوَرٍ رئيسيَّة. فَهُوَ ابْنُ اللهِ المُقام وَالمُمَجَّد في وَسْطِ الكَنَائِس. وهو الحَمَلُ القائِمُ في السَّماءِ (الذي أُعْطِيَ عَلَنًا السُّلْطانَ لتنفيذِ القضاءِ المَقْضِيِّ على البشر). وهو سيأتي إلى الأرضِ بِصِفَتَهِ مَلِكَ الملوكِ ورَبَّ الأربابِ. رابعًا، إنَّه المَسيح. خامسًا، إنَّه الدَّيَّانُ الجالِسُ على العرشِ العظيمِ الأبيض. وهو الخَروفُ القائِمُ في وَسْطِ عَرْشِ اللهِ. سابعًا، إنَّه يَسوعُ، أَصْلُ وَذُرِّيَّةُ دَاوُد، وكَوْكَبُ الصُّبْحِ المُنير. ولِئَلَّا تَظُنُّوا أنَّ هذا السِّفْرَ يَتحدَّثُ عنهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ فقط، سأقدِّمُ لكم لائحةً بالألقابِ الأخرى التي يَحْمِلُها. فهو يُسَمَّى في هذا السِّفْر: الشاهِدُ الأمين. وَهُوَ بِكْرُ القائمينَ مِنَ الأمواتِ. وهو رئيسُ ملوكِ الأرض. وهو الألفُ والياءُ. وهو البدايةُ والنهايةُ. وهو الكائِنُ والذي كانَ والذي يأتي. وهو القدير. وهو الأوَّلُ والآخِر. وهو ابنُ الإنسان. وهو الحَيُّ المُمْسِكُ السَّبْعَةَ الكواكِبَ في يَمينِهِ، الماشي في وَسْطِ السَّبْعِ المَنَايِرِ الذهبيَّةِ، والذي مَعَهُ سَيْفٌ مَاضٍ ذو حَدَّيْن. وهو ابنُ اللهِ. وهو الذي عَيناهُ كَلهيبِ النَّارِ ورِجْلاهُ شِبْهُ النُّحاسِ النَّقِيِّ. وهو الذي لَهُ سَبْعَةُ أرواحِ اللهِ والسَّبْعَةُ الكواكِب. وهو القُدُّوسُ الحَقُّ الذي لَهُ مِفتاحُ داود. وهو الآمينُ، الشَّاهِدُ الأمينُ الصَّادِقُ، بَدَاءَةَ خَليقَةِ اللهِ. وهو الأسَدُ الذي مِنْ سِبْطِ يهوذا. وهو الرَّبُّ القُدُّوسُ الحَقُّ، والربُّ الإلهُ القديرُ. وهو مَلِكُ القِدِّيسينَ وكَلِمَةُ اللهِ.
فَكُلُّ هذه الألقابِ مَذكورةٌ في هذا السِّفْرِ. فَهُوَ مِحْوَرُ السِّفْرِ ومحيطُ السِّفْر. فهو البدايةُ والنهاية. وهو الأعلى والأسفَل. وهو الدَّاخِلُ والخارِج. وهو الفَوْق والتَّحْت. فالسَّماواتُ مَفتوحةٌ في هذا السِّفْرِ. وسوف تَرَوْنَ رُؤيا يَسوعَ المَسيحِ، ولكنْ ليسَ في اتِّضاعٍ ولا في صُورةٍ بشريَّة. فسوف تَرَوْنَ رُؤيا يسوعَ المَسيحِ في جَلالِهِ وسِيادَتِهِ ومَجْدِهِ الأبديِّ إذْ إنَّ ذلكَ سَيَلْمَعُ أمامَ أعينُكِم فترةً طويلةً عَلى غِرارِ ما حَدَثَ بسُرعةٍ خاطِفَةٍ في رُؤيا استفانوس. أَتذكرونَ ذلك؟ فقد رَأى ابنَ اللهِ في السماء عندما كان على وَشْكِ الموتِ شهيدًا في سِفْر أعمال الرُّسُل 7: 56. فالشيءُ الذي لَمَعَ أمامَ عيْنيه في لحظةٍ ستَنظرونَهُ وقتًا طويلاً فيما نَتأمَّلُ في الأصحاحات 1-22. فيسوعُ المَسيحُ يُرَى دائمًا في مَجْدِه وجلالِهِ - لا في اتِّضَاعِهِ.
فالطبيعةُ الجوهريَّةُ للسِّفْرِ هي أنَّه يُزيلُ الغِطاءَ ويَكْشِفُ الحِجابَ عنْ أُمورٍ لم تكُن معروفةً سابقًا، وعن تفاصيلِ نِهايةِ الكَوْنِ والمجيءِ الثاني للمَسيح. فالفكْرةُ الرئيسيَّة هي: يَسوعُ المَسيح. انظروا مَرَّةً أُخرى إلى العددِ الأوَّل. ولنتقدَّم خُطوةً أُخرى: "إِعْلاَنُ يَسُوعَ المَسيح، الَّذِي أَعْطَاهُ إِيَّاهُ اللهُ". وهذا يَقودُني إلى الحديث عنِ المَصْدَرِ الإلهيِّ – عنِ المَصْدَرِ الإلهيِّ لهذا السِّفْر. فَمَنْ هُوَ المَصدرُ الإلهيُّ؟ إنَّهُ اللهُ: "الَّذِي أَعْطَاهُ إِيَّاهُ اللهُ". وبالمُناسبة، فإنَّ هذا الجانبَ مِنْ هذا الكتابِ هُوَ جانبٌ رائعٌ. واسمحوا لي أنْ أطرحَ عليكُم سؤالاً. فهذهِ الكلماتُ تُدهِشُني جدًّا: "الَّذِي أَعْطَاهُ إِيَّاهُ اللهُ". ويمكنكم أنْ تَقرأوا هذهِ العبارة في كِتابِكُم المُقَدَّس. والضَّميرُ هُنا يُشيرُ إلى يَسوعَ المَسيح. وما يَعنيهِ ذلك هوَ الآتي: استمعوا إليَّ جَيِّدًا. لقد أَعطى اللهُ هذا السِّفْر لِمَنْ؟ ليسوعَ المَسيح. وهذهِ فِكرةٌ مُدهشةٌ. أليسَ كذلك؟ وأعتقد أنَّكم قد تَطرحونَ على أنفسكم السُّؤالَ نَفْسَهُ الَّذي طَرَحْتُهُ أنا على نَفسي وَهُوَ: ما الَّذي يُريدُ المَسيحُ مِنَ اللهِ أنْ يُعطيهِ إيَّاه؟
والحقيقةُ هي أنَّ هناكَ بعضَ الآراءِ المُدهشةِ بهذا الخُصوص. وللاطِّلاعِ على ذلك، لنذهب إلى إنجيل مَرقُس 13: 32. ولا حاجة إلى أنْ تَفتحوا عليه لأنَّكم ستتذكَّرونَ الآيَةَ حالَ قِراءَتي لها. فنحنُ نقرأ في إنجيل مَرقُس 13: 32 هذهِ الكلماتِ المألوفَة. وأنتم تُدركونَ أنَّ هذهِ العبارةَ هي عبارةٌ صَاعِقَةٌ قَالَها يَسوع: "وَأَمَّا ذلِكَ الْيَوْمُ وَتِلْكَ السَّاعَةُ" [أيْ في ما يَختصُّ بعودةِ ابنِ الإنسان] – ""وَأَمَّا ذلِكَ الْيَوْمُ وَتِلْكَ السَّاعَةُ فَلاَ يَعْلَمُ بِهِمَا أَحَدٌ، وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الَّذِينَ فِي السَّمَاءِ، وَلاَ الابْنُ، إِلاَّ الآبُ". أَتَذكرونَ ذلك؟ وقد تساءَلنا مَرَّاتٍ كثيرة: "إنْ كانَ يَسوعُ هُوَ الله، كيفَ يُعْقَل أنَّهُ لا يَعْلَمُ ذلك؟ فكيفَ يُعقَلُ أنَّهُ لا يَعرفُ وقتَ مَجيئِهِ؟" فَهُوَ يقولُ: "إنَّ الملائكةَ لا تَعلم. وأنا لا أَعلم. أبي فقط الَّذي يَعلم". ولكِنَّ هذا هو ما يَقولُه! ففي اتِّضاعِهِ (أيْ عندما جاءَ كَخَادِمٍ إلى العالمِ، وعندما اتَّضَعَ وأخذَ هيئةً بَشريَّةً، ولم يُمارِس كُلَّ صِفاتِهِ الإلهيَّة)، فإنَّهُ حَصَرَ مَعْرِفَتَهُ. وعندما قالَ إنَّهُ لا يَعلمُ ذلك فإنَّ هذا هو بالضَّبط ما قَصَدَهُ.
والبعضُ يقول إنَّ السَّبَبَ في قَوْلِهِ هُنا: "إِعْلاَنُ يَسُوعَ المَسيح، الَّذِي أَعْطَاهُ إِيَّاهُ اللهُ" هُوَ أنْ يُعطيهِ مَعلوماتٍ لم يَكُنْ يَعْرِفُها حتَّى هذا الوقت. بعبارةٍ أُخرى، فإنَّ اللهَ يقول: "سوف أُطْلِعُكَ الآنَ على أُمورٍ لم تكُن تَعْرِفُها حتَّى هذه اللحظة. فبسببِ تَنازُلِكَ وإخلائِكَ لنفسِكَ، فإنَّك لم تكُن تَعلَمُ اليومَ أوِ الساعة. ولكنْ في هذا السِّفْر، سوف أُخْبِرُكُ تَفاصيلَ النهاية". وهذا تفسيرٌ مُثيرٌ للدَّهشة، ولكنَّ الحقيقة هي أنَّ هذا السِّفْرَ لا يُخْبِرُنا عن اليومِ المُحَدَّدِ أوِ السَّاعةِ المحددةِ أيضًا. لذلكَ فإنَّ هذا التفسيرَ لا يُجيبُ عن ذلكَ السُّؤال. وأعتقد أنَّه يمكننا أنْ نفترض أنَّهُ حيثُ إنَّ ابنَ اللهِ قد مُجِّدَ بعدَ صُعودِهِ، وأنَّهُ عادَ للجلوسِ عن يمينِ عَرْشِ اللهِ، وأنَّه عادَ لمُمارسَةِ جميع صِفاتِهِ بما في ذلك عِلْمِهِ المُطْلقِ، فإنَّه يَعْلَمُ ذلكَ مُنْذُ ذلكَ الحِيْن ولم يَكُنْ بحاجة إلى انتظارِ حُلولِ سنة 96 ميلاديَّة (وَهُوَ الوقتُ الذي كُتِبَ فيه هذا السِّفْرُ) لكي يَعْرِفَ الإجابة.
إذَنْ، مِنْ أيِّ مُنْطَلَقٍ أُعْطِيَ هذا السِّفْرُ للمسيح؟ مِنْ مُنْطَلَقٍ آخَرَ رائع إذْ إنَّ اللهَ قَطَعَ وَعْدًا بتمجيدِ يَسوعَ المَسيح. فاللهُ قَطَعَ وعدًا بأنَّ يسوعَ المَسيحَ سيكونُ مَلِكَ الملوكِ ورَبَّ الأربابِ، وأنَّه سيكون مَلِكًا على الأرض. وقد قَطَعَ اللهُ وعدًا بأنَّ يسوع المَسيح سيكون وارِثًا لكل شيء يملكه الآب. ولأنَّ يسوع أَخْلى نفسَهُ، ولأنَّه صارَ جَسَدًا، ولأنَّه خَدَمَ الآب وأَطاعَهُ طاعةً كاملةً، ولأنَّه تألَّمَ وماتَ، فإنَّ اللهَ أعطاهُ هذا الإعلانَ العظيمَ عنِ المَجْدِ الآتي. ولا نَجِدُ هُنا عَنْ وَقْتِ مَجيئِهِ. فهذا ليس ما يُعطيه إيَّاه. بل إنَّه يكشِف لَهُ تمامًا عمَّا سيحدُث في تمْجِيده حين يأتي ثانيَّةً. فهذه هي مُكافأته على تلك الخِدْمَة الكاملة والمُتَّضِعة والأمينة والمقدَّسة. وهذا يُشْبِهُ أبًا يقول لابْنِهِ: "لقد كُنتَ ابنًا صالِحًا. وقد كُنت ابنًا رائعًا. وقد كُنت ابنًا مُطيعًا. وقد كُنتَ ابنًا بكُلِّ معنى الكلمة. وبسببِ أمانَتِكَ معي فقد وَعَدْتُكَ (بِصِفَتي أباكَ) أنَّك إذا كنتَ أمينًا، وفعلتَ ما أطلبُهُ منكَ، وحَقَّقْتَ الهدفَ الذي وَضَعْتُهُ لأجلكَ فإنَّني سأُعطيك ميراثي". ثُمَّ أنَّ الأبَ يقول: "والآن يا بُنَيّ، إليكَ ما وَعَدْتُكَ به. فقد كَتبتُ لكَ كُلَّ شيءٍ وأعطيتُكَ كُلَّ شيءٍ. فَهُوَ لكَ الآن". فبمعنى مِنَ المعاني، هذا هو تمامًا ما فَعَلَهُ اللهُ في سِفْرِ الرُّؤيا.
فهل يمكنكم، يا أحبَّائي، أنْ تَستوعِبوا ذلك؟ فَقَدْ سُمِحَ لنا أنْ نَسْتَرِقَّ السَّمْعَ إلى هذهِ الهِبَةِ المُتُمَثِّلَةِ في هذا السِّفْرِ الذي أعطاهُ الآبُ لابنه. فقد أُعْطِيَ هذا السِّفْرُ لَهُ. فاللهُ هو المَصْدَر. والمُسْتَلِمُ الرئيسيُّ هو يَسوعُ المَسيح. والسِّفْرُ يَحكي القِصَّةَ الرَّائعةَ والمجيدةَ والعظيمةَ عَمَّا سيحدُثُ في المستقبلِ حين يأتي الابنُ المُطيعُ ثانيَّةً بمَجْدٍ كامل. فَكِّروا في السِّفْرِ بهذه الطريقة: فقد كانتِ القيامَةُ الدُّفعةَ الأولى الَّتي دَفَعَها الآبُ تَحْتَ الحِسابِ مِنَ المِيراث. فالدُفْعةُ الأُولى الواضحةُ مِنَ الميراثِ هي القيامة. فقد أَقَامَهُ اللهُ مِنَ الأمواتِ. والدُّفْعة الثانيَّةُ الواضحةُ التي تُعَبِّرُ عن سُرورِ الآبِ هي الصُّعُود. فقد أَخَذَهُ إلى السَّماءِ وأَجْلَسَهُ أين؟ عَنْ يَمينِهِ. والدُّفعة الثالثةُ التي تُعَبِّرُ عن سُرورِ الآبِ بِطَاعَةِ ابْنِهِ هي إرسالُ الرُّوحِ القُدُسِ لأنَّ الرُّوْحَ أُرْسِلَ لكي يَسْكُنَ الكنيسةَ التي فَدَاها المَسيحُ وأَحَبَّها. ونجدُ هنا الدُّفْعةَ الأخيرةَ المُتَمَثِّلَةَ في إعْطاءِ هذا السِّفْرِ الذي يُبَيِّنُ بالتفصيل المَجْدَ الآتي ليسوعَ المَسيح - لا فقط لكي يَحيا هُوَ في تَرَقُّبٍ كاملٍ، بل لكي يَتمتَّعَ جميعُ مُحِبِّيه بذلكَ إذْ يَعلمونَ كُلَّ ما سيحدُثُ لكي نُسَبِّحَهُ ونُمَجِّدَهُ ونُكْرِمَهُ مُقَدَّمًا.
وأعتقد أنَّهُ يُمكنكم أنْ تُلَخِّصُوا الكلامَ السَّابقَ كُلَّهُ بما جاءَ في رسالة فيلبِّي والأصحاح الثَّاني. فنحنُ نَقرأُ عَنْ يسوعَ المَسيح: "الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً للهِ. لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ". فَنَحْنُ نَرى هُنا اتِّضاعَهُ. ثُمَّ نقرأ مُباشَرَةً في العددِ التَّاسِع: "لِذلِكَ رَفَّعَهُ اللهُ أَيْضًا، وَأَعْطَاهُ اسْمًا فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ [وَهُوَ، بالمُناسَبَة الاسْم: "الرَّبّ"] لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ المَسيح هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللهِ الآبِ". وهذهِ الأعدادُ الثَّلاثةُ الأخيرة (9 و 10 و 11) تَرِدُ بِصورةٍ مُفَصَّلَةٍ في سِفْر الرُّؤيا: "لقد كُنتَ أمينًا في اتِّضاعِكَ. وأنا سأكونُ أمينًا في تحقيقِ وَعْدي بِتَمْجيدِكَ".
فالطبيعة الجوهريَّة لهذا السِّفْر هي أنَّه إعلانٌ أوْ كَشْفٌ لشيءٍ مَخْفِيٍّ. والفكْرةُ الرئيسيَّة مِنْ هذا السِّفْر هي أنَّه يَكْشِفُ الحِجابَ عن يَسوعَ المَسيح. والمَصْدَرُ الإلهيُّ لهذا السِّفْرِ هو اللهُ إذْ إنَّهُ أَعطاهُ للمسيحِ كَشهادَةٍ على المَجْدِ المستقبليِّ الذي سيتمتَّعُ به. وهذا امتيازٌ حقيقيٌّ لنا. أليس كذلك؟ فيا لَهُ مِنَ امتيازٍ لنا أنْ نَتمكَّنَ مِنَ النظر إلى هذا الشَّيءِ ورؤيَتِه. فغالبًا، عندما يَتْرُكُ الأبُ مِيراثًا لابنِهِ، ويَكْتُبُهُ في الوصيَّةِ، ويُوَضِّحُ كُلَّ شيءٍ، ويُبيِّنُ كيفَ سيَتِمُّ ذلك وكيفَ سيُعْطى بالتَّحديد للابن، فإنَّ الوصيَّةَ تَكونُ مَختومة. فهي وثيقةٌ لا يُسْمحُ لنا أنْ نَطَّلِعَ عليها. فلا يُسْمَحُ لأيِّ شخصٍ أنْ يَطَّلِعَ عليها. فهي مَختومة. وهي تُوْضَعُ في مكانٍ آمِنٍ لكي لا يَتَمَكَّن أَحَدٌ مِنَ التَّلاعُبِ بها. ولكنْ كَمْ هو رائعٌ أنْ نَعْلَمَ أنَّ هذا السِّفْرَ قد فُتِحَ لنا. والحقيقةُ هي أنَّنا نَرى في الأصحاحِ السَّادِسِ أنَّ سَنَدَ المِلْكيَّةِ أوِ الميراثِ قد فُتِحَ، وأنَّ الخُتومَ السَّبْعة قد أُزيلَتْ، وأنَّ كُلَّ شيءٍ قد أُعْلِنَ لنا لكي نَفهمَهُ.
والآن، هذا يَقودُنا إلى النقطة الثانيَّة في هذه المقدَّمة. فاللهُ هو الكاتِبُ الإلهِيُّ لهذا الإعلانِ المُخْتصِّ بيسوعَ المَسيح والذي أُعْطِيَ لَهُ. ولكنْ مَنْ هُمُ المُتَلَقُّونَ البَشَرِيُّون. مَنْ هُمُ المُتَلَقُّونَ البَشَرِيُّونَ لهذا السِّفْر؟ أرجو أنْ تُلاحظوا الآتي: "إِعْلاَنُ يَسُوعَ المَسيح، الَّذِي أَعْطَاهُ إِيَّاهُ اللهُ، لِيُرِيَ عَبِيدَهُ". فيوحنَّا يَأخذُنا خُطوةً أُخرى لاستيعابِ هذا السِّفْر إذْ إنَّه ينبغي أنْ يُرَى لِعَبيدِهِ. فَهُوَ لَمْ يُعْطَ فقط لَكي يَراهُ المَسيحُ ويَفهَمهُ ويَتَرَقَّبهُ، بل إنَّه كُتِبَ لكي نَراهُ نحنُ أيضًا. صَحيحٌ أنَّه لم يُكْتَبْ لأجلِنا، بل إنَّ اللهَ أَعطاهُ للمسيح؛ ولكنَّه أَعْطانا امْتيازَ أنْ نَراه.
وما هي الكلمة "عَبيدَهُ"؟ إنَّ الكلمة "دُوْلوس" (doulos) تُشيرُ إلى العَبيد. فهذا هو معناها: "عَبيد". وهل تسمحوا أنْ أُبَيِّنَ لكم شيئًا هنا؟ نحن نَجِدُ هنا سَبَبًا واحدًا واضحًا لِعدمِ قُدرةِ غير المؤمنين على استيعابِ هذا السِّفْر. فَهُوَ لم يُكْتَبْ لهم في الأصل. أليس كذلك؟ فقد كُتِبَ لكي يَرَاهُ الأشخاصُ الذي لديْهِم الاستعدادُ لأنَّ يكونوا عَبيدًا مُطيعينَ للمسيح. فإنْ لم يكُن المَسيحُ رَبًّا على حياتِكَ، لا تَتوقَّع أنْ تَفهمَ هذا السِّفْر. والكلمة "دولوس" التي تعني "عَبْد" هي كلمة مُختلفة عنِ الكلمة "هيوبيريتيس" (huperetes). وهي مُختلفة عنِ الكلمة "دياكونيا" (diakonia). فهناك سِتُّ كلماتٍ مختلفة في اللُّغَة اليونانيَّة تُشيرُ إلى العَبيد. وقد كانت هذه الكلمةُ تُشيرُ إلى عَبْدٍ مِنْ نَوْعٍ خَاصٍّ. فعندما تُسْتخدَمُ هذه الكلمة فإنَّها تُشيرُ إلى عَبْدٍ يَخْدِمُ سَيِّدَهُ بدافِعِ المَحَبَّةِ والتَّكريس. ففي العهد القديم، كانت هناك عادَةٌ عندَ اليهود. فإنْ قالَ العَبْدُ لِسَيِّدِه: "أنا أُحِبُّكَ وأريدُ أنْ أَخْدِمَكَ. وأنا لا أَخْدِمُكَ بدافعِ الواجبِ، ولا أخْدِمُكُ بدافعِ الخوفِ، بل أخْدِمُكَ بدافعِ المَحَبَّةِ، وأريدُ أنْ أكونَ عَبْدًا لك طَوالَ حياتي بِدافعِ مَحَبَّتي لَكَ"، فإنَّ السَّيِّدَ يأخُذُ العَبْدَ إلى مَدْخَلِ البابِ حيثُ يُوجَدُ إطارٌ خَشَبِيٌّ، ويُمْسِكُ أُذْنَ العبدِ، ويُقيمُهُ لِصْقَ البابِ، ويَضَعُ في شَحْمَةِ أُذْنِهِ مِخْرَزًا. فقد كان يَثْقُبُ أُذْنَه. فقد كانَ يُحْدِثُ ثُقْبًا في أُذْنِهِ. وقَدْ كانَ لِسانُ حَالِ أيِّ عَبْدٍ لديه ثُقْبٌ في أُذْنِهِ هُوَ: "أنا أَخْدِمُ سَيِّدي بِدافِعِ المَحَبَّةِ لا بدافعِ الواجبِ. فأنَا عَبْدٌ بإرادَتي. وأنا أَخْدِمُ سَيِّدي طَوْعًا".
فهؤلاءِ هُمُ الأشخاصُ الوحيدون الذين سيَفهمونَ هذا السِّفْر. ولا يَسَعُني إلَّا أنْ أُبْدي دَهْشَتي حينَ أَقرأُ أَدَبًا لاهُوتيًّا مُتَحَرِّرًا عنْ سِفْرِ الرُّؤيا. فهو أَدَبٌ غريب! ويمكنكم أنْ تَنتقوا كِتابًا لِكاتبٍ مُتَحَرِّرٍ عنْ سِفْرِ الرُّؤيا في يومًا ما إنْ وَجَدْتُم واحدًا في المكتبة. ولا حاجة إلى استِعارَةِ الكِتابِ، بل يكفي أنْ تَنظُروا إليه نَظرةً سريعةً لأنَّه لا يَسْتَحِقُّ العَناء. ولكنكم ستجِدونَ أنَّ هؤلاءِ الكُتَّابَ تائِهونَ في مَتاهةٍ لا يُمكنُهُمْ أنْ يَخْرُجوا منها. لماذا؟ "لأنَّ الإِنْسَانَ الطَّبِيعِيَّ لاَ يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ اللهِ لأَنَّهُ عِنْدَهُ جَهَالَةٌ، وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَعْرِفَهُ لأَنَّهُ إِنَّمَا يُحْكَمُ فِيهِ رُوحِيًّا". فبالنِّسبة إلى غيرِ المؤمن، وبالنِّسبة إلى الشَّخصِ المُرائي الَّذي يأتي إلى الكنيسةِ فإنَّ سِفْرَ الرُّؤيا مُبْهَمٌ وغامِض. أمَّا بالنِّسبة إلى عَبْدِ يَسوعَ المَسيح المُحِبِّ والمُطيعِ فإنَّهُ إعلانٌ وَكَشْفٌ للغِطاءِ إذْ إنَّهُ يَجعلُ الأشياءَ واضحةً جدًّا.
لذلك، يجب عليَّ أنْ أقول لكَ منذ البداية: إنْ لم تكن مؤمنًا مسيحيًّا فإنَّ هذه الحقائقَ مُبْهمَةٌ بالنسبة إليك. فقد تَفْهَم الكلماتِ الَّتي أَتَفَوَّهُ بها. وأثناءَ دِراستِنا لهذا السِّفْر، إنْ أَصْغَيْتَ بعنايةٍ إلى الشَّرْحِ الذي أُقدِّمُهُ رُبَّما ستفهمُ بَعْضَ الأمورِ كَمُجَرَّد مَعلوماتٍ مُدَوَّنَة في الصفحة. ولكنَّ هذه المعلوماتِ لنْ تُغيِّرَ حياتَكَ ولنْ تَصيرَ حقيقيَّةً بالنسبةِ إليك في قلبِك، ولنْ تستوعِبَ أهمِّيَّتَها بالكاملِ ومعناها الحقيقيَّ العميقَ لأنَّك لست عَبْدًا للمسيح. ولَعَلَّكُم تَذكرونَ ما جاءَ في إنجيلِ مَتَّى والأصحاحِ الثالث عشر حين كانَ يَسوعُ يُعَلِّمُ بأمثالْ إذْ إنَّه قال لتلاميذِهِ: "مِنْ أَجْلِ هذَا أُكَلِّمُهُمْ بِأَمْثَال، لأَنَّهُمْ مُبْصِرِينَ لاَ يُبْصِرُونَ، وَسَامِعِينَ لاَ يَسْمَعُونَ وَلاَ يَفْهَمُونَ". فقد تَرى الصَّفحةَ، وقد تَسمع الكلماتِ، ولكنَّكَ لن تَرى بِعينَيْكَ الرُّوحِيَّتَيْنِ ولنْ تَستوعِبَ ما يَقول. ثُمَّ إنَّهُ يقولُ لتلاميذِهِ في العدد 16: "وَلكِنْ طُوبَـى لِعُيُونِكُمْ لأَنَّهَا تُبْصِرُ، وَلآذَانِكُمْ لأَنَّهَا تَسْمَعُ" لأنَّكُم عَبيدٌ مُطيعون. فهذا سِفْر للمؤمنين ولا يمكنُ لأيِّ شخصٍ آخر أنْ يَفْهَمَهُ.
لِذا فإنَّه إعْلانُ يَسوعَ المَسيحِ الَّذي أَعْطاهُ اللهُ للابْنِ، وهو يُرينا إيَّاه. خامسًا (وسوف نَتوقَّفُ عند هذه النقطة): طَبيعَتُهُ النَّبَوِيَّة - طَبيعَتُهُ النَّبَوِيَّة. فنحن نَقرأُ في العددِ الأوَّل (مَرَّةً أخرى): "إِعْلاَنُ يَسُوعَ المَسيح، الَّذِي أَعْطَاهُ إِيَّاهُ اللهُ، لِيُرِيَ عَبِيدَهُ [اسْمَعوا الآن:] مَا لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَنْ قَرِيبٍ". فهذهِ هِيَ طبيعَتُهُ النَّبويَّة: فَهُوَ نُبوءةٌ عن أُمورٍ لا بُدَّ أنْ تَحدُثَ "عَنْ قريب". وهذه عبارةٌ مُهمَّةٌ جدًّا. فهذا السِّفْرُ يَختلفُ عن جميع أسفارِ العهد الجديد. إنَّهُ مُختلِف. فالأناجيلُ تُحَدِّثُنا عَنْ أُمورٍ حَدَثَتْ. أليسَ كذلك؟ فيسوعُ جاءَ، وعاشَ، وماتَ، وقَامَ، وصَعِدَ. ومع أنَّ هناكَ آياتٍ عنِ المستقبل، فإنَّ الفكْرةَ مِنَ الأناجيلِ هي: ما حَدَثَ في الماضي. ثُمَّ يأتي سِفْرُ أعمالِ الرُّسُل. وما الذي يتحدَّثُ عنه سِفْرُ أعمال الرُّسُل؟ إنَّه تاريخُ الكنيسة مِنْ وَقْتِ صُعودِ يَسوعَ المَسيحِ إلى مَوْتِ الرَّسولِ بُولس. وهذه أمورُ حَدَثَتْ في الماضي. وما هي رسائِلُ بُولسَ ويعقوبَ وبطرسَ ويوحنَّا ويَهوذا وكاتبُ الرسالةِ إلى العِبرانيِّين؟ إنَّها جَميعُها تَختَصُّ بتفسيرِ مَعنى مَوْتِ المَسيحِ، وقِيامَتِهِ، وتطبيقِ ذلك على حياةِ الكنيسة. لذلك فإنَّها تأخُذُ تاريخَ الأناجيلِ وسِفْرِ أعمالِ الرُّسُل وتنقِلُهُ إلى الحياةِ الحاضِرةِ للكنيسةِ وحياةِ المؤمن.
لذلك، يمكننا أنْ نقولَ إنَّ الأسفارَ الخمسةَ الأُولى في العهدِ الجديد هي عنِ الماضي. والمجموعةُ الثانيَّةُ مِنَ الأسفارِ (والتي تتألَّف مِنْ واحدٍ وعشرينَ سِفْرا) تَتحدَّثُ جميعُها عنِ الحاضِرِ وعنِ الطَّريقةِ الَّتي ينبغي لنا مِنْ خِلالِها أنْ نُطبِّقَ وَقائِعَ عَمَلِ المَسيحِ الآن. أمَّا السِّفْرُ الأخيرُ فَهُوَ عنِ المستقبل. فَهُوَ يَختصُّ بالأمور الَّتي لا بُدَّ أنْ تَحدُثَ عن قَريب. فهو سِفْرٌ نَبَوِيٌّ عنِ المستقبل. وهذا هُوَ الأمرُ المدهشُ بخُصوصِه.
ونَجِدُ مُخَطَّطَ البُعْدِ المستقبليِّ لهذا السِّفْرِ في العدد 19. انظروا إليه. فنحن نجد هنا مُخَطَّطَ السِّفْرِ بِمُجْملِه. "فَاكْتُبْ" [وإليكَ ما سَتَكتُب:] مَا رَأَيْتَ، وَمَا هُوَ كَائِنٌ، وَمَا هُوَ عَتِيدٌ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ هذَا". اكْتُبْ ثلاثةَ أشياء: الأشياءَ الَّتي رَأيتَها (في الماضي)، والأشياءَ الكائِنَةَ (في الحاضِر)، والأشياءَ الَّتي سَتحدُثُ بعدَ هذِهِ الأشياء. فهذا هُوَ مُخَطَّطُ السِّفْر. فالفَصْلُ الأوَّلُ يُرينا ما رآهُ يوحنَّا. والأصحاحان الثَّاني والثَّالث يُبَيِّنان لنا ما هُوَ كائِنٌ. والأصحاحات مِنْ 4 إلى 22 تُرينا الأشياءَ الَّتي ستحدثُ بعدَ هذهِ الأشياء.
لذا فإنَّ النُّبوءَةَ تَبتدئُ في الأصحاحِ الرابعِ وتستمرُّ إلى نهايةِ الأصحاح 22. لذلك فإنَّ هذا السِّفْرَ نَبَوِيٌّ. فَهُوَ سِفْرٌ نَبَوِيٌّ بالمعنى المستقبليِّ للنُّبوءة. فهو أَدَبٌّ نَبَوِيٌّ. ويَقتضي التَّنويهُ إلى مُلاحظةٍ مُهمَّةٍ جدًّا. ففي كُلِّ الأدَبِ النَّبَوِيِّ، هناك تَركيزٌ ثُنائِيُّ الجانبِ. حسنًا؟ فَهُناك دائمًا تَركيزٌ ثُنائيُّ الجانبِ: فَهُناك مَجْدٌ مُستقبلِيٌّ سَيَحْصُلُ عليهِ المسيحُ ويَشتركُ فيه القِدُّيسون. ولكنْ هناك دائمًا جانبًا آخَرَ للدَّينونةِ المُستقبليَّةِ الآتيَّةِ على الأشرار. لذلك، في أثناءِ دِراسَتِنا لهذا السِّفْر وقَوْلِنا إنَّ يَسوعَ المَسيحَ هو الفِكْرةُ الرئيسيَّةُ، وإنَّ المَجْدَ المستقبليَّ هو القَصْدُ الرئيسيُّ، فإنَّنا سنَرى أيضًا (إلى جانبِ الكَشْفِ المستقبليِّ عن مَجْدِ المَسيحِ): دَمارَ الخطيَّةِ، وإبليسَ، والشياطينِ، والخُطاة. ومع أنَّه يَتَنَبَّأُ بالتَّفصيلِ، دُوْنَ أَدْنى شَكٍّ، عنْ مَجْدِ يَسوعَ المَسيحِ الآتي، وعَنْ كيفيَّةِ اشتراكِ القِدِّيسينَ في ذلك المَجْدِ، فإنَّه يَتنبَّأُ أيضًا عنْ دينونةِ الخُطاة.
لذلكَ فإنَّ الحقائِقَ المذكورةَ فيه (كما يُدوِّنُها يوحنَّا في الأصحاحِ العاشرِ) هي مُرَّةٌ وَحُلْوةٌ - مُرَّةٌ وحُلْوة. فهو كتابُ دَينونةٍ. وهو كتابٌ عنِ الهَلاك. فهو يُنْبِئُ عن نهايةِ العالمِ، وعن نهايةِ التاريخِ البشريِّ، وعن نهايةِ الخُطاةِ. والجانبُ الأكثرُ ظُلْمَةً في الصُّورَةِ ليسَ مَخْفيًّا ولو حَتَّى لحظةً واحدةً. فهو (أيضًا) مُعْلنٌ تمامًا. فاللهُ عادلٌ كَما نَعلَم. والخطيةُ لا بُدَّ أنْ تُعاقَب. والتَّمَرُّدُ وعَدَمُ التوبةِ لا بُدَّ أنْ يَقُودَا في النهايةِ إلى البُؤسِ، والهزيمةِ، والكارِثةِ، والمَوْتِ، والدينونةِ الأبديَّةِ. فهذا ليسَ سِفْرا عاطفيًّا، بل هُوَ سِفْرٌ جَادٌّ. وهو سِفْرٌ لَهُ وَطْأَتُه. وهو سِفْرٌ يَكْسِرُ القلبَ. وهو سِفْرٌ يُعَكِّرُ صَفْوَ الأشرارِ. فليسَ هناكَ تَهاوُنٌ معَ الشَّرِّ. صَحيحٌ أنَّ هناك حَمَلًا مَذبوحًا، ولكنَّنا نَقرأُ عَنْ غَضَبِ الحَمَلِ أيضًا. وصَحيحٌ أنَّ هناكَ نَهْرَ مَاءِ الحَياةِ، ولكنَّنا نَقرأُ عَنْ بُحَيْرةِ النَّارِ أيضًا.
ونجدُ هنا إلهًا مُحِبًّا سيَسْكُن بينَ البشرِ، ويمسَحُ كُلَّ دَمعةٍ، ويُزيلُ المَوْتَ، ويُزيلُ الحُزنَ ويُزيلُ الألمَ. ولكنْ قبلَ ذلك، فإنَّهُ سيُرسِلُ أَعداءَهُ إلى مَوْضِعِ الحُزنِ والألمِ والموْتِ والدُّموعِ في عذابٍ لا يَتَخَيَّلُهُ عَقْلٌ. لذلكَ فإنَّ السِّفْرَ لا يُخْفي الجانبَ المُظْلِمَ مِنْ مَجْدِ المَسيح. فَهُناك يومٌ مُشرقٌ سيأتي. أجل! ولكنَّ الرَّعْدَ يَسْبِقُ الفَجْر. لذلكَ، سوف نَنظُرُ إلى المستقبل. وهي عَوْدةٌ إلى المستقبل إذْ نَعودُ إلى هذا السِّفْر القديمِ الذي كُتِبَ في سنةِ 96 ميلاديَّة ونَرى فيهِ المستقبلَ مَكتوبا مِنْ قِبَلِ رَجُلٍ كانَ هناكَ إذْ إنَّ يُوحنَّا الرسولَ كانَ هناكَ لأنَّهُ نُقِلَ إلى هُناكَ مِنْ خِلالِ رُؤيا. فَهُو نُبوءَةٌ.
وهناكَ أشخاصٌ لا يُصَدِّقونَ أنَّ هذا صحيح. فاللَّاهوتيُّونَ المُتحرِّرونَ يَقول: "إنَّهُ نَظرةٌ إلى الوَراء. فهو ليسَ سفرًا نَبويًّا! فَسِفْر الرُّؤيا هو نظَرةٌ إلى الوراء، وَهُوَ يَصِفُ أحداثًا حَدَثَتْ في عَهْدِ الإمبراطور "نِيْرون" (مِنْ سنة 54 إلى 68 ميلاديَّة). وَهُوَ يَصِفُ الوقتَ الَّذي اسْتُشْهِدَ فيهِ بولُس وبُطرُس".
والبعضُ يقول: "لا! إنَّهُ نَظرةٌ إلى الوراءِ، إلى عَهْدِ الإمبراطور "دومتيان" (أيْ مِنْ سنة 81 إلى 96 ميلاديَّة) حيثُ حَدَثَتْ كُلُّ هذهِ الأشياءِ المُدَوَّنة". وهَذِهِ النَّظرةُ تُدْعى: "النَّظرة السَّابِقِيَّة" (Preterist View). ورُبَّما سَمِعْتُم هذا المُصْطَلَح مِنْ قَبْل. فالكلمة "بريتر" (praeter) هي كلمة لاتينيَّة تَعني: "ماضي". وهؤلاءِ الأشخاص يقولونَ: "لا! لا يوجد [في سِفْر الرُّؤيا] شيءٌ نَبَوِيٌّ، ولا يوجد شيءٌ خارِقٌ للطَّبيعة، ولا يوجد شيءٌ مُستقبليٌّ؛ بل هي مُجَرَّدُ نَظرةٍ إلى الوراء. وَهُوَ يَصِف ما حَدَثَ في عهد نِيْرُون، أوْ يَصِفُ ما حدث في عهد دومتيان". وبالمُناسبة، فإنَّ ذلكَ مِنْ رَابِعِ المُستحيلات – مِنْ رَابِعِ المُستحيلات. فعندما نَتأمَّلُ في السِّفْر، سنَرى بوضوحٍ تامٍّ أنَّ الأشياءَ المذكورة فيه لم تَحْدُث آنذاك. فلو أنَّها حَدَثَت، لما كانَ أَحَدٌ مِنَّا هُنا.
وهناكَ أشخاصٌ آخرونَ يقولون: "لا! إنه في الحقيقة نَظرة بانوراميَّة تبتدئ مِنَ الوقتِ الَّذي كَتَبَ فيهِ يوحنَّا، وتَصِفُ فقط كُلَّ تاريخِ الكنيسةِ إلى زَمَنِ المجيءِ الثَّاني. لذلك، هناكَ أُناسٌ يَقرأونَ هذا السِّفْر ويَزْعُمونَ أنَّهُ يَحوي أمورًا تَختصُّ بالكنيسةِ الرُّومانيَّةِ الكاثوليكيَّةِ، أوْ تَختصُّ بِـ "بابَاواتٍ" مُختَلِفين، أوْ تَخْتَصُّ بِـ "قُسطنطين". وَحَتَّى أنَّهُم قد يَزْعُمونَ أنَّهُ يَتَحَدَّثُ عنِ الثَّورةِ الفَرنسيَّة. وقد يَدَّعونَ أنَّهُ يَتحدَّثُ عنِ القُوطِيِّين أوْ حَتَّى عنِ اليَسُوعِيِّين. ولَكِنَّ هذا مُستحيل! فلا يمكنكَ أنْ تأخذَ هذهِ الفترةَ مِنَ الأحداثِ، وهذهِ اللَّائحةَ الهائلةَ مِنَ الأحداثِ، وأنْ تُسْقِطَها على كُلِّ تاريخِ الكنيسة. لأنَّكَ إنْ قرأتَ سِفْر الرُّؤيا قراءةً مُتَمَعِّنَةً، سَتَجِدُ أنَّ أغلبيَّةَ الأحداثِ الدَّراميَّة تَحدُث في فترةِ ثلاثِ سَنواتٍ ونِصْف (أيْ في اثْنينِ وأربَعينَ شَهرًا، أو في ألْفٍ وَمِئَتَيْنِ وَسِتِّينَ يومًا). لذلك، مِنَ المُستحيلِ أنْ نُسْقِطَ ذلكَ على كُلِّ تاريخِ الكنيسة. فهذا هُوَ ما يُسَمَّى "النَّظرةَ التَّاريخيَّة المُتَّصِلَة".
وهناكَ فئة ثالثة تقول: "إنَّ سِفْر الرُّؤيا لا يتحدَّث حقًّا عنْ أُناسٍ حقيقيِّين. وهو لا يتحدَّث عن أحداثٍ حقيقيَّة. وهو لا يتحدَّث عن أعمالٍ حقيقيَّةٍ أو حُروبٍ حقيقيَّة". أوْ: "إنَّهُ مُجَرَّدُ سِفْر رَمْزِيٍّ. فَهُوَ يَتحدَّثُ بأسْرِهِ عَنْ مَعركةٍ رُوحيَّةٍ، وعنْ حَربٍ روحيَّةٍ. لذلك، يجب علينا فقط أنْ نُرَوْحِنَهُ". وما يَعنيهِ ذلك هو أنَّكَ تستطيعُ أنْ تَجْعَلَهُ يعني أيَّ شَيءٍ تُريدُ أنْ يَعنيه. فلا توجد قواعِدُ لتلكَ اللُّعبة. لأنَّهُ إنْ لم يكن يَعني ما يقولُهُ، بل يعني ما تَعتقد أنَّهُ يَقولُهُ، فإنَّ ما تُفَكِّرُ فيهِ هُوَ المِعيار. لذلكَ فإنَّ ما يعتقد أيُّ شخصٍ أنَّهُ يقولُهُ قد يكونُ المَعنى المقصود. وحيثُ إنَّ كُلَّ شخصٍ قد يَظُنُّ أنَّهُ يقولُ شيئًا مُختلفًا، فإنَّهُ لا يعني أيَّ شيء. وهذهِ تُعْرَفُ بالنَّظرةِ المِثاليَّة؛ ولكنَّها (في الحقيقة) نَظرة غَبِيَّة.
وهذا يَترُكُنا أمامَ خِيارٍ واحدٍ آخر وهو أنَّهُ مُستقبليٌّ. وقد تقول: "ولماذا تعتقد أنه يتحدث عن المستقبل؟" لأنهُ يقول: "لِيُرِيَ عَبِيدَهُ مَا لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَنْ قَرِيبٍ". وإنْ قَرأتُموه، ستجدونَ أنهُ مِنَ الواضحِ أنَّ هذهِ الأحداثَ لم تحدث بعد. فماذا عنِ القِيَامَاتِ الجماعيَّة؟ فهل حَدَثَت؟ فيمكنكم أنْ تَتَفَقَّدوا المَقابِرَ للتحقُّقِ مِن ذلك. وماذا عنِ المذابحِ الجماعيَّةِ الَّتي لم نَسْمَع مَثيلاً لها مِنْ قَبل حيثُ إنَّ ثُلُثَ سُكَّانِ العالمِ سيُقْتَل؟ فهل حَدَثَ ذلك؟ وماذا عنْ دَمارِ كُلِّ النِّظامِ البشريِّ الَّذي نَعرِفُهُ؟ وبناءِ سماءٍ جديدةٍ وأرضٍ جديدة؟ فهل حَدَثَ ذلك؟ إنَّهُ أمرٌ غَريب!
وهناكَ طريقة واحدة فقط للنَّظرِ إلى هذا السِّفْر وهي أنَّهُ نُبوءةٌ مُستقبليَّة. لذلك، فإنَّنا نَقرأُ إعلانًا عن يسوعَ المَسيح، مِنَ اللهِ إلى المُؤمِنينَ المَسيحيِّينَ عنِ المُستقبلِ – وتَحديدًا عنْ وقتِ مجيءِ المَسيح. وكما قالَ "والتر سكوت" (Walter Scott) قبلَ وقتٍ طويل: "إنَّ النُّبوءةَ تُلغي الزَّمَن". "إنَّ النُّبوءةَ تُلغي الزَّمَنَ وكُلَّ تَدَخُّلٍ ... وَظُروفٍ. وهي تَجعلُ المَرءَ يَجلِسُ على عَتَبَةِ الإنْجاز". ونحنُ سننتقلُ حَرفيًّا إلى الوراءِ نَحْوَ المُستقبَل. وسوفَ نَحُطُّ الرِّحالَ (أوْ: نَهْبُطُ) في النِّهاية. فهذا هو ما يُمكننا أنْ نَتوقَّعَهُ.
والآنْ، لاحظوا تلكَ الآية مَرَّة أخرى (أيِ الآية الأولى): "مَا لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَنْ قَرِيبٍ". والآنْ، لَحظةً مِنْ فَضلِكُم – "عَنْ قَريب"؟ فعندما كَتَبَ يوحنَّا هذا السِّفْر، كانَ ذلكَ قبل أَلْفَيْ سَنَة. وما مَعنى ذلك؟ "عَنْ قَريب"؟ تَعالَوْا في الأسبوعِ القادِم واعرفوا الإجابَةَ لأنَّ الوقتَ لا يَكْفي للتحدُّثِ عن ذلكَ الآن. فَهذا حَقٌّ رائِعٌ وعَظيم. والآنْ، لِنَحْنِ رُؤوسَنا حَتَّى نُصَلِّي:
يا أبانا، مَعَ أنَّنا ابتدأنا للتَّوّ في هذهِ الدِّراسة، فإنَّنا قدِ امتلأنا بالتَّشويق، والحماسَة، والتَّرَقُّب. فأنْ نَتَمَكَّنَ مِنْ رؤيةِ وفَهْمِ إعلانِ يسوعَ المَسيح الَّذي أعطيتَهُ إيَّاه، والذي يُرينا إيَّاهُ الآن بخصوصِ المستقبل، هو أمرٌ مدهشٌ جدًّا. وأنا أُصَلِّي لأجل جميع الأشخاص الحاضرين هنا كي يمتلكوا عُيونًا تَرى، وآذانًا تَسمعُ، وقُلوبًا تَفهمُ لأنَّهم عبيدٌ ليسوعَ المَسيح. ويا رَبّ، لقد سمِعنا في هذه اللَّيلة شَهاداتٍ رائعةً جدًّا في أثناءِ مَعموديَّةِ الماءِ عنِ الفرحِ النَّاجمِ عن مَعرفةِ المَسيح، وعنِ البركةِ النَّاجمةِ عن غُفرانِ الخطايا، وعنِ الشَّوْقِ النَّاجِمِ عنِ الرَّجاءِ المُختصِّ بالسَّماء. والآنْ، يا رَبّ، يمكننا أنْ نُضيفَ أنَّ واحدةً مِنْ أعظمَ الصَّلواتِ، وواحدةً مِن أعظمِ البَرَكاتِ، وواحداً مِن أعظمِ أشكالِ الغِنى في الحياةِ المَسيحيَّةِ هي أنْ نكونَ قادرينَ على استيعابِ الحَقِّ، وأنْ نكونَ قادرينَ على فَهْمِ إعلانِ يسوعَ المَسيح الَّذي أعطيتَهُ إيَّاه لكي يُرينا إيَّاه. فيا لهُ مِنْ أمرٍ مُدهشٍ أنْ نَعلمَ أنَّ الربَّ يسوعَ سيَفتحُ هذا السِّفْرَ لنا (مَعَ أنَّهُ أُعْطِيَ لَهُ)، وأنَّهُ سيَسْمَحُ لنا بالاشتراكِ في الحقائقِ المذكورةِ فيه لكي نَعرفَ المستقبلَ قبلَ مَجيئِهِ، ولكي نَتمكَّنَ مِن قراءةِ التَّاريخِ قبلَ حُدوثِهِ، ولكي نَحيا في ضَوْءِ ذلك. نَشكرُكَ، يا أبانا، على هذا الإعلانِ العظيم. ولَيْتَهُ يُغْنينا أكثرَ جِدًّا مِنْ تَوَقُّعاتِنا لكي نَتمكَّنَ مِنْ خِدمَتِكَ (إلى أنْ يأتي المَسيح) بأمانَةٍ أكثرَ فأكثر. نَسْألُكَ هذا باسْمِهِ المُبارَك. آمين.

This article is also available and sold as a booklet.