Grace to You Resources
Grace to You - Resource

يا لَهُ مِنَ امتيازٍ لنا في هذا الصَّباح أن نُتابعَ هذهِ السِّلسِلَة. وقد نَظرتُ إلى نَشرةِ يومِ الأحد ورأيتُ أنَّ هذا هو الجُزء 16 و 17. وأنا لم أقصِد أن تكونَ هذهِ العِظَة طويلة هكذا، ولا أعتَزِمُ التَّوقُّفَ الآن. لِذا، سوفَ نَستمرُّ في هذه الدِّراسة عن تَشريح الكنيسة. ومِنَ الرَّائعِ أن نَحصُلَ على التَّعليمِ الواضحِ لكلمةِ اللهِ فيما يَخُصُّ حياةَ الكنيسةِ وما ينبغي للكنيسةِ أن تَفعلَه. وقد تَبارَكنا جدًّا بهذه الدِّراسة كما تَبارَكَ بها كَثيرونَ آخرون.

لقد ذَهبتُ إلى مَكتبةٍ كَبيرةٍ لِبَيعِ الكُتُب. فقد كُنتُ مُضطرًّا إلى الذَّهابِ إلى هُناكَ والتَّوقيعِ على مَجموعةٍ مِنَ الكُتُب والقيامِ بأمورٍ أخرى فالتقيتُ عَددًا مِنَ رُعاةِ الكنائسِ هُناكَ فشَكروني على هذه السِّلسلة لأنَّهُم يَحصُلونَ عليها كجُزءٍ مِنَ اشتراكِهِم الأسبوعيِّ في خِدمةِ العِظاتِ المُسَجَّلة. وأعتقد أنَّهُم أرادُوا تَشجيعي على الاستمرارِ فيها لأنَّهُم يُعطونَ هذهِ التَّسجيلاتِ لِرعايا كَنائِسِهم ويُشَجِّعونَهُم على السُّلوكِ في الطَّريقِ نَفسِه.

ونحنُ مُمْتَنُّونَ لأنَّ كلمةَ اللهِ واضحة جدًّا بخصوصِ ما ينبغي للكنيسة أن تَكونَ عليه. ونحنُ نَتحدَّثُ، بكُلِّ تأكيدٍ، عن تَشريحِ الكنيسةِ بعباراتٍ مُحَدَّدةٍ؛ لا بِعباراتٍ عامَّة. فقد تَحدَّثنا عنِ السِّماتِ المُحَدَّدةِ للكنيسةِ والَّتي هي أساسيَّة أو جَوهريَّة لأنَّها تُعطيها شَكلَها أو هَيكلَها العَظميَّ أوِ الهَيكلَ الصُّلبَ الَّذي يُعطي الكنيسةَ صَلابتَها ويَجعلها كنيسةً لا تَقبَلُ المُساومة. ثُمَّ إنَّنا تَحدَّثنا عنِ الأنظمةِ الدَّاخليَّةِ للجسدِ في مَعرِضِ حَديثِنا عن تَشريحِ الكنيسة؛ أي عن تلكَ المواقفِ الرُّوحيَّةِ الَّتي تُعطي الحياةَ للكنيسة. ونحنُ نَوَدُّ أن نُتابِعَ في الخَطِّ نَفسِهِ وأن نَستمرَّ في حَديثِنا في هذا الصَّباح.

ولكِن قبلَ أن نَتحدَّثَ عنِ المَوقِفِ التَّالي في اللاَّئحةِ الطَّويلةِ الَّتي تَضُمُّ هذهِ المواقفَ الرُّوحيَّة، أوَدُّ أن أُعَلِّقَ تَعليقًا عَامًّا وأتحدَّثَ قليلاً عنِ السَّببِ الَّذي يَجعلُني أعتقدُ أنَّهُ مِنَ المُهمِّ جدًّا أن نُعيدَ تأكيدَ سِماتِ الكنيسة. فنحنُ نَعيشُ اليومَ في زَمَنٍ تُوجَدُ فيهِ عَدَمُ مُبالاةٍ تُجاهَ مَركزيَّةِ الكنيسة. وما أعنيه بذلك هو أنَّ هناكَ أشخاصًا كثيرينَ جدًّا لَيسُوا مُكَرَّسينَ حَقًّا للكنيسةِ مَعَ أنَّهُم مُكَرَّسونَ للمسيحِ ومُكَرَّسونَ للحَقِّ الرُّوحيِّ بطريقةٍ أو بأخرى.

وقد كنتُ أُفَكِّرُ في ذلكَ بينما كنتُ أجلِسُ في تلكَ المَكتبة الضَّخمة يومَ أمس وأنظُرُ إلى كُلِّ شَيءٍ ابتداءً مِنَ الأشياءِ الزَّهيدَةِ القيمةِ؛ وأنا أعني بذلكَ الأشياءَ المسيحيَّةَ الَّتي تَضَعُها على رَفِّك، وتلكَ الأشياءَ الَّتي يَنبغي أن تَنفُضَ الغُبارَ عَنها وتَمْسَحَها؛ أي عن تلكَ الأشياءِ كالصُّوَرِ المسيحيَّةِ، والأشعارِ، والأقمصةِ، والأحزِمَةِ، والجَوارِب، وما إلى ذلك. وأنا أعني بذلكَ أيضًا التَّسجيلات أوِ الأشرطةِ المسيحيَّةِ، والأقراصِ المَضغوطَةِ، والكُتُبِ، واللَّوازِمِ والمَعَدَّات.

وقد كانتِ المَكتبةُ مُكَدَّسَةً على غِرارِ المَتاجِرِ الكُبرى، وكانَ النَّاسُ يَروحونَ ويجيئونَ في مَمَرَّاتِ المَكتبةِ ويَشترونَ كُلَّ تلكَ الأشياء. وما صَدَمَني هو أنَّهُ توجدُ عَقليَّةٌ استِهلاكيَّة في الكنيسة تَقودُ إلى مَفاهيم مُعيَّنة عَجيبة. وقد رَبَطْتُ تلكَ الأشياء معًا بطريقةٍ تُنسَجِمُ معَ أهميَّةِ دراسَتِنا.

فيبدو لي أنَّنا نُعاني اليومَ ضُعفًا في تَكريسِ النَّاسِ للكنيسة. وسوفَ أقولُ لكُم ما أعنيه بذلك. فنحنُ نَنظُرُ نَظرةً استِهلاكيَّةً للكنيسة. وهي تُشبِهُ النَّظرةَ المِزاجيَّةَ للنَّاسِ في هذا الزَّمنِ المُحَدَّدِ الَّذي نَعيشُ فيه في ثَقافَتِنا. فالنَّاسُ مُكَرَّسونَ للكنيسةِ بنفسِ الطَّريقةِ الَّتي هُمْ مُكَرَّسونَ بها للأسواقِ التِّجاريَّة. فإن كانَ يوجدُ فيها شَيءٌ يَجذِبُ اهتِمامُهُم، سيَذهبونَ إليها.

وحَتَّى إنَّهُم قد يَقومونَ بعمليَّةِ مُقايَضَة مَاليَّة. فقد يُقَدِّمونَ مَبلغًا صَغيرًا مِنَ المالِ مُقابِلَ الخِدْماتِ المُقَدَّمة إن وَجدوا أنَّ هذه الخِدْماتِ تُلائِمُ حَاجَتَهُم. فيبدو أنَّ النَّاسَ ليسوا مُلتَزِمينَ تُجاهَ الكنيسةِ أكثرَ مِمَّا هُمْ مُلتَزِمونَ تُجاهَ الأسواقِ التِّجاريَّة. فَهُم يَنظُرونَ ويَقولون: "هل يوجد هُنا شيءٌ يُمكنُني الحُصولُ عليه؟" فهي عَقليَّة شِرائيَّة بَحْتَة. فلا توجدُ أيّة مَسؤوليَّة، ولا تُوجدُ أيَّة مُساءَلَة تُجاهَ الكنيسةِ المَحليَّة؛ بل إنِّي مُستعدٌّ للذَّهابِ إليها إن كانت تُقَدِّمُ لي شَيئًا مَا.

والشَّيءُ الثَّاني الَّذي لاحظتُ أنَّهُ يُسْهِمُ في ضُعفِ التَّكريسِ الحَقيقيِّ للكنيسةِ ويَقودُ إلى عَدمِ فَهمِ الكنيسةِ هو ليسَ فقط أنَّ هُناكَ عَقليَّة شِرائيَّة وَحَسْب، بل إنَّ هُناكَ خَصْخَصَة للرُّوحانيَّة... خَصْخَصَة للرُّوحانيَّة. فنحنُ نَعيشُ في زَمَنٍ يَرفُضُ السُّلطةَ في سَبيلِ الحُصولِ على الحُقوقِ الشَّخصيَّة. فنحنُ لا نُريدُ أن نَخضَعَ لأيَّة سُلطَة، بل نُريدُ أن نَحرِصَ على حُصولِنا على حَقِّنا الشَّخصيِّ في أن نَفعلَ ما نُريد، وأن نَكونَ كما نُريد، وأن نُؤمِنَ بِما نَشاء، وأن نَتصرَّفَ بأيَّة طَريقة نَرغبُ فيها. فهذا شيءٌ سَائِدٌ في ثَقافَتِنا.

فالحُقوقُ الشَّخصيَّةُ تُهيمِنُ على ثَقافَتِنا. والحُقوقُ الشَّخصيَّةُ تُسهِمُ في خَصْخَصَةِ الرُّوحانيَّة. وما أعنيه بذلكَ هو أنَّني الشَّخصُ الَّذي سيُقَرِّرُ كيفَ ستكونُ حياتي الرُّوحيَّة. فسوفَ أَنتقي وأختارُ وأُشَكِّلُ حَياتي المَسيحيَّة كما أشاء. وبوجودِ كُلِّ هذهِ الأشرطةِ والكُتُبِ والبَرامِجِ الإذاعيَّةِ والمَحطَّاتِ التِّلِفزيونيَّة المسيحيَّة وغيرِها، هُناكَ خِياراتٌ لا حَصْرَ لها. فيُمكنُكَ أن تُشَكِّلَ أيَّ نَوعٍ مِنَ المَسيحيَّةِ تَرغَبُ فيه.

ويُمكِنُكَ أن تَنتقي وتَختارَ رأيًا مِن بينِ خمسة عشر رأيًا مُختلفًا عنِ المسيحيَّةِ وأن تَصيغَ الرَّأيَ الَّذي يُناسِبُك. فهي نَفسُ عَقليَّة مَطاعِمِ الوَجْباتِ السَّريعةِ الَّتي تُتيحُ لكَ حُريَّةَ إعدادِ وَجبَتِكَ كما تَشاء. وهُناكَ النَّزعةُ الفَردانيَّةُ، وخَصْخَصَةُ الرُّوحانيَّة والمسيحيَّة. فقد باتت هذهِ الأشياءُ انتقائيَّةً وَفقًا لأهواءِ أيِّ فَرْد. والفِكرةُ هي أنَّ عَلاقتي الشخصيَّة بيسوعَ المسيحِ، وحياتي الرُّوحيَّة الشخصيَّة أَهَمُّ مِن أيَّة حياة مُشترَكة قد تَفرِضُها الكنيسةُ عَليَّ أو تُلْزِمُني بها.

وأعتقدُ أيضًا أنَّهُ يوجدُ في هذا الوقتِ الَّذي نَعيشُ فيه شيئًا آخرَ مُحْزِنٌ ولكنَّهُ يُسهِمُ حَقًّا في عدمِ الاهتمامِ بالكنيسة وهو: خَيبةُ الأملِ في قيادةِ الكنيسة. فهُناكَ أشخاصٌ كثيرونَ في المسيحيَّة تَأذَّوْا كثيرًا وجُرِحوا مِنْ قِبَلِ قَادَةِ الكنيسة. وهذا يُسهِمُ في ابتِعادِهم عنِ الكنيسة، ويُسهِمُ في عَدَمِ مُبالاتِهم وعَدَمِ خُضوعِهم لسُلطةِ المُعَلِّمينَ والقادة. فَهُم مُتَرَدِّدونَ في القيامِ بذلكَ لأنَّهم اختَبروا في وقتٍ سَابقٍ رُعاةً زائفينَ ومُعَلِّمينَ كَذَبة وقادة كَذَبة كانوا غير مُقَدَّسينَ إمَّا في سُلوكِهم، وإمَّا في تَعليمِهم، وإمَّا في كِلا الأمْرَيْن.

وهُناكَ أشخاصٌ مِنكُم يَنتمونَ إلى تلكَ الفِئة. فأنتُم تَحرِصونَ على مُشاهدةِ ما يَجري مِن بُعْد. وأنتُم تأتونَ إلى هذه الكنيسة ولكنَّكُم لستُم مُنخرِطينَ في حياةِ الكنيسة. ورُبَّما كانَ السَّببُ في ذلكَ هو أنَّكُم التقيتُم وُعَّاظًا كانوا يُرَوِّجونَ سِرًّا لِهَرطقات. وَهُم يَفعلونَ ذلكَ دائمًا في السِّرِّ ويَقولونَ لَكُم إنَّهُم يُعَلِّمونَكُم الكتابَ المقدَّسَ أو إنَّ اللهَ أَوصاهُم بأن يَقولوا كَلامًا مُحَدَّدًا. ولكنَّهُم ليسوا كِتابيِّينَ بصورةٍ رَئيسيَّة. وقد اكتشفتُم ذلكَ بأنفُسِكُم، وفَهِمتُم ذلكَ، وتأثَّرَ مُستوى ثِقَتِكُم بِهم تأثيرًا سَلبيًّا شديدًا بسببِ ذلك.

ورُبَّما تَمَّ استِغلالُكُم مِنْ قِبَلِ قَادَةٍ مُعيَّنينَ لأجلِ رِبْحٍ شَخصيٍّ. ففي الوقتِ الَّذي كانوا يَطلبونَ مِنكُم فيه أن تُضَحُّوا، كانوا يَزدادونَ ثَراءً على حِسابِكُم. ورُبَّما كُنتُم تَحتَ قادةٍ يَنغمسونَ في شَهَواتٍ جِنسيَّة، أو كما يَقولُ العهدُ الجديدُ: "لَهُمْ عُيُونٌ مَمْلُوَّةٌ فِسْقًا" فَهَدَموا ثِقَتَكُم بسببِ انخراطِهم بخطيَّةٍ جِنسيَّةٍ فُضِحَتْ عَلانيةً. وهذهِ ما زالت قِصَّةً مُحزِنَةً جدًّا. أو رُبَّما التقيتَ قادةً لا يَعرفونَ الكثيرَ عنِ الكتابِ المقدَّسِ فَخَدعوكَ لأنَّهُم لم يُقَدِّموا لكَ الطَّعامَ الرُّوحيَّ الَّذي كانَ يَنبغي أن تَحصُلَ عليه.

فقد سَاهَموا في ضُعفِكَ الرُّوحيَّ عِوَضًا عن أن يُساهِموا في نُمُوِّكَ الرُّوحيّ. ورُبَّما التقيتَ مُعَلِّمينَ أو رُعاةً مُتَسَلِّطينَ أرادوا أن يُهيمِنوا على حَياتِك. ورُبَّما التقيتَ أشخاصًا لديهم قُدرات كَلاميَّة؛ ولكنَّهُم لم يقولوا شيئًا ذا قيمة. لِذا فقد صِرتَ تَنظُرُ إلى الكنيسةِ في ضَوْءِ هذهِ الأشياء. ورُبَّما كُنتَ جُزءًا مِن رَعيَّةٍ تَضُمُّ أشخاصًا مُرائينَ فلم تُلاحِظ أنَّ اللهَ يَفعلُ شَيئًا يُذْكَر، أو لاحظتَ أنَّ الكَنيسةَ تَفتقِرُ إلى القُوَّة. وكُلُّ هذهِ الأمورِ تُسهِمُ في نَوعٍ مِنَ الجَفاءِ الَّذي يَشعُرُ بهِ أُناسٌ تُجاهَ الكنيسة.

وأودُّ أيضًا أن أُضيفَ نُقطةً رابعةً؛ وهي نُقطة تَقودُني إلى قَولِ ما أريدُ أن أقولَهُ لكم في هذا الصَّباح. فأعتقدُ أنَّ هُناكَ عامِلاً آخرَ يُسْهِمُ في عدمِ مُبالاةِ النَّاسِ بالكنيسةِ وهو تَوَقُّعُ الكَمال؛ وهو أمرٌ ليسَ وَاقِعيًّا في الحقيقة. فإنَّ كانَ النَّاسُ يَتوقَّعونَ مِنَ الكنيسةِ أن تَكونَ كُلَّ ما يَقولُهُ الكتابُ المقدَّسُ دائمًا، ولا يَتَقَبَّلونَ مِنها أيَّة إخفاقات، قد يَقودُهُم ذلكَ إلى الشُّعورِ بنوعٍ مِن خَيبةِ الأمل.

فالنَّاسُ يَترُكونَ كنيسةً رائعةً حَقًّا، وكنيسةً جَيِّدةً، ومُمتازةً، ومُعافاةً، وكاملةً، وخِدمَتُها سَليمة لأنَّهُم رأوا ضُعفًا وَهميًّا، أو ضُعفًا حَقيقيًّا، أو إخفاقًا حَقيقيًّا، أو إخفاقًا وَهميًّا، أو لأنَّهُم شَعروا بخيبةِ أملٍ فتَركوها. فأنا أسمَعُ أشخاصًا يَقولون (وهو أمرٌ يُدهِشُني دائمًا حينَ أُفَكِّرُ فيه): "سوفَ نَترُكُ كنيسةَ غريس "Grace Church" ونُغادِرها. وسوفَ نَقومُ نحنُ الأربعة بتأسيسِ كنيسة كاملة لأنَّنا وَجَدْنا ضُعفًا هُنا".

ومِنَ المُحزِنِ أن تُفَكِّروا في ذلك. ولكنَّهُ تَفكيرٌ مَوجود. وأنا أتساءلُ دائمًا ما الَّذي كانَ هؤلاءِ الأشخاصُ سيَفعلونَهُ في أزمنةِ العهدِ الجديدِ عندما كانت هناكَ كنيسة واحدة فقط في كُلِّ مَدينة لا غَيْر. فهناكَ أشخاصٌ كثيرونَ جدًّا في أماكِن كثيرة جدًّا حولَ العالَم مُستعدُّونَ لفِعلِ أيِّ شيءٍ مِن أجلِ الحُصولِ على كنيسة جَيِّدة وطاهرة تُعَلِّمُ كلمةَ اللهِ بأمانة. وبالرَّغمِ مِن ذلك، هناكَ أشخاصٌ يَتجاهلونَ ذلكَ بِغباوةٍ ويَتجاهلونَ قيمَتَها مِن أجلِ شيءٍ أَقَلُّ مِنها قيمةً بكثير.

ولكِن إن وَجَدْتَ كنيسةً مُكَرَّسةً للتَّعليمِ القويمِ عنِ الخلاصِ، ووَجدتَ كنيسةً تُؤمِنُ بعِصمةِ الكتابِ المقدَّسِ، ووَجدتَ كنيسةً تُفَسِّرُ الأصحاحات 1-11 مِن سِفْر التَّكوين تفسيرًا تاريخيًّا وحَرفيًّا، ووَجدتَ كنيسةً تُقَدِّمُ يسوعَ المسيحَ بصِفَتِهِ الطَّريقَ الوحيدَ للسَّماءِ وبأنَّهُ المُخَلِّصُ والرَّبُّ، ووَجدتَ كنيسةً تُؤمِنُ بولادةِ المسيحِ مِن عَذراء، وبموتِهِ البَدَليِّ على الصَّليب، وبقيامَتِهِ الجسديَّة وعَودَتِهِ الجَسديَّة لتأسيسِ مَملكتِه، ووَجدتَ كنيسةً مُلتزمةً بِتَسَلُّمِ الذُّكورِ مَهامَ القيادةِ حَسَبَ الكتابِ المقدَّسِ، وتُؤمِنُ بأنَّ جَهَنَّمَ مَكانٌ حَقيقيٌّ، ووَجدتَ كنيسةً تُمارِسُ التَّأديبَ الكَنَسِيَّ وتُنادي بالتَّعليمِ القويمِ، وتُحِبُّ النَّاسَ، وتَكرِزُ بالإنجيلِ للخُطاةِ وتُتَلْمِذُ المُخَلَّصينَ؛ إن وَجدتَ كنيسةً كهذه اشكُر اللهَ لأنَّكَ وَجدتَها. واسكُب حَياتَكَ في ذلكَ المَكانِ ولا تَضَع تَوقُّعاتٍ غير واقعيَّة لِكَمالِها. وفوقَ الكُلِّ، لا تَعتقد أنَّكَ تَستحقُّ الكَمال.

وما يُحزِنُني هو أنَّ النَّاسَ لا يَنخرِطونَ في الكنيسةِ بالرَّغمِ مِن أنَّها المؤسَّسةُ الوحيدةُ الَّتي بَناها الرَّبُّ. وأنا أحزَنُ بسببِ هذهِ العَقليَّةِ الاستهلاكيَّةِ الَّتي تَنظُرُ إلى الكنيسةِ كما لو أنَّها تَبيعُ شَيئًا. وإن أردتَ أن تَشتريهِ فإنَّكَ تَذهبُ وتَشتريه. أمَّا إن لم تَجِد فيها ما تَبحثُ عنهُ فإنَّكَ تَذهبُ إلى مَكانٍ آخر أو لا تَذهبُ إلى أيِّ مكان. وأنا أَحزَنُ على خَصْخَصَةِ الرُّوحانيَّةِ حيثُ يُشَكِّلُ النَّاسُ حَياتَهُم الرُّوحيَّة بالطَّريقةِ الَّتي يَشاءونَ وَفْقًا لرغباتِهم الشخصيَّة.

وأنا أَحزَنُ بسببِ النُّفورِ المُستمرِّ مِن قادةِ الكنيسةِ بسببِ المأساةِ المُريعةِ لوجودِ الخطيَّة بينَ قادةِ الكنيسة. فأنا أَحزنُ بسببِ ذلك. وأنا أحزنُ أيضًا على الأشخاصِ الَّذينَ يَضَعونَ تَوقُّعاتٍ غير واقعيَّة لما ينبغي أن تكونَ عليهِ الكنيسة، أو لِكَمالِها. وعندما لا يَجِدونَ ذلك فإنَّهُم يَفقِدونَ حَماسَتَهُم ولا يُكَرِّسونَ أنفسَهُم للكنيسة.

هذه هي الكنيسةُ يا أحبَّائي. والرَّبُّ يسوعُ هو رَأسُها. وهو يَبنيها. وهي جَسَدُهُ. وقد دَعانا إلى أن نَكونَ جُزءًا مِنها. وإن لم تَكُن جُزءًا مِنها فإنَّكَ تَعصيه وتَترُكُ اجتماعَ العِبادةِ بالرَّغمِ مِن أنَّهُ يُوصيكَ بعدمِ فِعلِ ذلك. فيجب عليكُم أن تَنضمّوا إلى شَعبِ اللهِ لأنَّهُ يجب عليكم أن تُحَرِّضُوا بعضُكُم بعضًا على المحبَّةِ والأعمالِ الصَّالحة.

ويجب عليكم أن تَتذكَّروا أنَّ الكنيسةَ تَجتمعُ مِن أجلِ كَسْرِ الخُبزِ والصَّلاةِ والشَّركةِ وتَعليمِ الرُّسُل. ففي تلكَ البيئةِ تَعمَلُ قُوَّةُ اللهِ. ويجب عليكم أن تَتذكَّروا أيضًا أنَّهُ إن لم تُبالوا بالكنيسةِ البتَّة فإنَّ ذلكَ يَطرَحُ السُّؤالَ عَمَّا إذا كُنتَ مُؤمِنًا أَم لا لأنَّ المُؤمِنينَ يُعرَفونَ (حَسَب ما جاءَ في رسالة يوحنَّا الأولى 3: 14) مِن خِلالِ مَحَبَّتِهم للإخوة. ومَحبَّةُ الإخوةِ تُؤدِّي إلى الرَّغبةِ في الوجودِ في وَسْطِ أولئكَ الَّذينَ لديهم إيمانٌ ثَمينٌ مُشابِه.

كما أنَّ المؤمنينَ يُعرَفونَ أيضًا بأنَّهُم يَسمَعونَ الكلمةَ ويَعمَلونَ بها (كما قالَ يسوع). وَهُم يُحبُّونَ أن يَخضَعوا لسُلطانِ كلمةِ اللهِ وأن يُطيعوها. لِذا، مِنَ الخَطَرِ جدًّا أن تَعزِلَ نَفسكَ عن شَعبِ اللهِ. فهذا يُشيرُ بقوَّة إلى حَالِ قَلبِكَ وإلى عَدمِ أمانَتِكَ. فنحنُ نَقرأُ في سِفْر الأمثال 18: 1: "الْمُعْتَزِلُ يَطْلُبُ شَهْوَتَهُ".

فالأمرُ واضحٌ جدًّا. فعندما يكونُ هُناكَ شخصٌ ليسَ أمينًا لجماعةِ القِدِّيسين، وليسَ أمينًا لعبادةِ اللهِ والشَّرِكَةِ وكَسْرِ الخُبْزِ وسَماعِ تَعليمِ الرُّسُل، فإنَّ السَّببَ في ذلكَ يَرجِعُ أن وُجودِ رَغْباتٍ شخصيَّةٍ أخرى أَقَلُّ نُبْلاً بكثير مِن تلكَ الَّتي لدى المؤمنِ المُكَرَّس.

وأنا أدعوكُم إلى أن تَكونوا أُمناءَ تُجاهَ الكنيسة، وأدعوكُم إلى تَبَنِّي مَوقِفِ المُرَنِّمِ الَّذي قالَ في المَزمور 122: "فَرِحْتُ بِالْقَائِلِينَ لِي: إِلَى بَيْتِ الرَّبِّ نَذْهَبُ". فيجب أن تَكونَ فَرِحًا لأنَّكَ جُزءٌ مِن شَعبِ الله، وجُزءٌ مِن كَنيستِه. ونحنُ نَتحدَّثُ عنِ الكنيسةِ وما ينبغي للكنيسةِ أن تَكون. والموقفُ الَّذي أريدُ أن أُقَدِّمَهُ لكم في هذا الصَّباح، وهو واحدٌ مِن تلكَ المواقفِ الرُّوحيَّة الأخرى، أي واحدٌ مِنَ تلكَ المواقِفِ الرُّوحيَّةِ الموجودةِ في داخلِ الكنيسةِ وتَجعلُ الحياةَ تَسري فيها، هو مَوقفُ القَناعَة... القَناعَة.

فقد تَحدَّثنا عنِ العَديدِ مِنَ المواقفِ الرُّوحيَّةِ كالإيمانِ، والمحبَّةِ، والتَّواضُعِ، والوَحدَة، والرَّأفة، والغُفران، والفَرَح، والشُّكر. وقد تَحدَّثنا عن مَدى أهميَّةِ تلكَ المواقفِ الرُّوحيَّةِ لحياةِ الكنيسةِ لأنَّها هي الَّتي تَحمِلُ حياةَ الكنيسة. فهي الأعضاءُ الداخليَّةُ الموجودةِ في جسدِ المسيحِ والَّتي تَسري مِن خلالِها الحياةُ وَتُوَلِّدُ الخِدمَة. وواحدٌ مِن تلكَ المواقفِ هو مَوقفُ القَناعَة... القَناعَة.

ويا لها مِن كلمة غَنيَّة. وهي تَعني أن تَكونَ رَاضِيًا... أن تَكونَ رَاضِيًا. وكما قُلتُ في المُقدِّمةِ القصيرةِ الَّتي ذَكرتُها، هُناكَ مَسيحيُّونَ كثيرونَ جدًّا ليسوا قَنوعين.... ليسوا قَنوعين. وهُناكَ مَن يُعَزِّزُ هذا الشُّعورَ اليوم. وهُوَ يُعَزَّزُ بمستوياتٍ عالية جدًّا. فنحنُ نَسمعُ عن كُلِّ تلكَ الخِدماتِ الَّتي تُرَكِّزُ على الحاجاتِ الشُّعوريَّة.

وقد كنتُ أقرأُ كِتابًا في هذا الأسبوعِ، وهو كِتابٌ حَديثٌ نِسبيًّا يَحكي قِصَّةً في الحقيقة. فهو مَشروعُ بَحْثٍ عنِ الكنيسةِ الَّتي تُحاولُ إرضاءَ الرَّعيَّةِ مِن خِلالِ التَّركيزِ على الحَاجات. وبمُساعدةِ الأشخاصِ الَّذينَ ابتدأوا تلكَ الحَرَكَةِ وإجراءِ مُقابلاتٍ طَويلة مَعَهُم على مَدى سَنتين ونِصف، أَكَّدوا أنَّ الدَّافعَ الرَّئيسيَّ في خِدمتِهم هو جَعلُ النَّاسِ مُكْتَفينَ ذاتيًّا مِن خلالِ مُساعدَتِهِم على إدراكِ أنَّهُم ليسوا مُكْتَفينَ، وليسوا رَاضينَ، وأنَّهُم بحاجة إلى أن يكونوا مُكْتَفينَ وراضين.

وقد يَبدو أنَّهُ لا بأسَ في هذا الأمر في البداية؛ ولكن عندما تُؤسِّسُ خِدمَةً وُجِدَتْ في الأصل للتَّعامُلِ معَ النَّاسِ على أساسِ عَدَمِ اكتفائِهم، وتَبني كُلَّ شيءٍ حولَ ذلكَ، وتَجذِبهُم إلى المسيح، فإنَّ كُلَّ ما تَفعلُهُ هو أنَّكَ ما تَزالُ تُقنِعُ الجَميعَ بالرِّضا عن أنفسِهم كما لو أنَّ ذلكَ الهَدفَ هو هَدَفٌ صَالِح. ثُمَّ عندما تَأتي بهؤلاءِ الأشخاصِ إلى المسيح، سيَستمرُّونَ في التَّفكيرِ في ما إذا كانوا يَشعرونَ بالرِّضا أَم عَدَم الرِّضا. فقد وَعَدتَهُم أنَّ يسوعَ سيُشبِعُهم. ولا أدري كيفَ تَنظرونَ إلى هذا الأمر، ولكن توجد أشياءٌ كثيرةٌ جدًّا في الحياةِ حَتَّى في المسيحِ ليسَت مُشبِعَةً جدًّا مِن زاويةِ الرَّاحةِ البشريَّة.

أو كما قالَ أحدُ الكُتَّاب: "مِن خلالِ مُحاولةِ التَّشَبُّهِ بهذا الشَّخصِ غيرِ المُنتَمي إلى الكنيسةِ، ومَعرفةِ كُلِّ حاجاتِهِ، والتَّركيزِ على حاجَتِهِ للشُّعورِ بالرِّضا، ومِن خِلالِ السَّعيِ إلى نَقلِهِ مِنَ العالَمِ إلى الكنيسةِ، فإنَّ مَا فَعلتَهُ هو أنَّكَ نَقلتَ الكنيسةَ إلى العالَم لأنَّكَ أعدتَ تَعريفَ أعظمِ حاجةٍ لديه بأنَّها الحاجة إلى الرِّضا عنِ الذَّات. والآن، صارت لديكَ كنيسة مَملوءة بأشخاصٍ تَعَلَّموا أنَّ المَسألة الرَّئيسيَّة هي الرِّضا الشَّخصيِّ مِن وُجهةِ نَظرِ الإنسان". ويا لَهُ مِن مَوقفٍ مأساويٍّ ينبغي لنا أن نُعالِجَهُ.

لِذا فإنَّ مَا يَبيعوهُ لنا دائمًا في ثَقافَتِنا هو عَدَم الرِّضا. فهذهِ هي الطَّريقةُ الَّتي يَعملُ بها كُلُّ عالَمِ الإعلانات: أن يَجعلَكَ غيرَ رَاضٍ، وغيرَ مُكْتَفٍ، وأن يَجعلَ الرِّضا الشَّخصيِّ أَهَمَّ قَضيَّة في حياتِك. والحقيقةُ هي أنَّ ذلكَ ليسَ مُهمًّا البتَّة. فلا يوجد شيءٌ في هذا العالَمِ الَّذي سيَحترِق، ولا يوجد شيء في هذا العالَمِ الزَّائل ينبغي أن يُقْرَنَ بشعورِنا بالقَناعَةِ أوِ الرِّضا... لا شيء. وسوفَ نَتحدَّثُ عن ذلك في هذا الصَّباح.

إنَّ القَناعَة كلمة كِتابيَّة. فقد قالَ بُولُس في رسالتِهِ الأولى إلى تيموثاوس 6: 6: "وَأَمَّا التَّقْوَى مَعَ الْقَنَاعَةِ فَهِيَ تِجَارَةٌ عَظِيمَةٌ". ثُمَّ في العدد 8 يَقولُ بُولس: "فَإِنْ كَانَ لَنَا قُوتٌ وَكِسْوَةٌ، فَلْنَكْتَفِ بِهِمَا". وقد قالَ كاتبُ الرِّسالةِ إلى العِبرانِيِّين في الأصحاحِ الثَّالث عشر والعددِ الخامِس: "كُونُوا مُكْتَفِينَ بِمَا عِنْدَكُمْ، لأَنَّهُ قَالَ: «لاَ أُهْمِلُكَ وَلاَ أَتْرُكُكَ»". لِذا فإنَّ الكتابَ المقدَّسَ يَتحدَّثُ كثيرًا عنِ القَناعةِ ويأمُرُنا بصورةٍ رئيسيَّة بأن نَكونَ قَنوعين. وهذا مَوقفٌ آخر مِن تلكَ المواقفِ الروحيَّة الجوهريَّة في حياةِ الكنيسة. ويجب على الكنيسة أن تَكونَ قَنوعَة. ويجب عليكَ أن تَكونَ قَنوعًا. فالرَّبُّ يُوصيكُم بذلك.

وبينما كُنتُ أُفَكِّرُ في هذا الموقفِ المُدهِش، هذا الموقفِ الرَّائعِ الَّذي ينبغي أن يَكونَ مَوجودًا بقوَّة في حياتِنا، سألتُ نَفسي: "أينَ يُمكنُني أن أَجِدَ في الكتابِ المقدَّسِ أعظمَ مَثَلٍ إيضاحيٍّ على ذلك؟" وقد عَثَرتُ عليهِ بسهولة. وأوَّلُ مَكانٍ فَتحتُ عليهِ هو رسالة فيلبِّي والأصحاح الرَّابع. افتَحوا عليهِ معي: رسالة فيلبِّي والأصحاح الرَّابع.

بينَما كانَ الرَّسولُ بولسُ يَكتُبُ هذه الرِّسالة إلى أهلِ فيلبِّي، يجب عليكم أن تَعرِفوا القليلَ عن أحوالِه. ففي الوقتِ الَّذي كَتَبَ فيهِ هذهِ الرِّسالة، كانَ مَسجونًا. لقد كانَ مَسجونًا. فقد كانَ في مَدينةِ رُوما الَّتي كانت أعظمَ مَدينة في الإمبراطوريَّة الرُّومانيَّة. ولأنَّ كِرازَتَهُ بالإنجيل أثارت مَتاعِبَ كثيرة بينَ اليهودِ والأُمم، تَمَّ سَجنُه.

وقد كانَ سَجْنًا مُعَدَّلاً إلى حَدٍّ مَا لأنَّهُ كانَ يَخضَعُ للإقامَةِ الجَبريَّةِ ولم يَكُن مَطروحًا في زِنزانةٍ كالبقيَّة. ومِنَ الواضحِ أنَّهُ كانَ يَعيشُ في مَكانٍ خَاصٍّ، وأنَّهُ كانَ مُقَيَّدًا إلى جُنديٍّ رُومانِيّ. ونحنُ نَعلمُ أنَّهُ سُجِنَ في وقتٍ مَا في سِجْنٍ قَذِرٍ، رُبَّما في سِجْنِ مامرتين (Mamertine Prison) الَّذي ما زَالَ بإمكانِكُم أن تَرَوْهُ إن زُرتُم رُوما. ولكن في هذه المَرَّة تَحديدًا، يبدو أنَّهُ كانَ مَسجونًا في مَكانٍ خَاصٍّ، وأنَّهُ كانَ يَعيشُ حَياةً زاهِدَةً جدًّا ومُقَيَّدًا إلى جُنديٍّ رُومانيّ.

وقد كانَ مَعزولاً عن أصدقائِه وأحبَّائِه. وهو لا يَقدِرُ أن يَروحَ ويَجيءَ كَما يَشاء، ولا يَستطيعُ أن يَعِظَ ويَخدِم. فقد خَسِرَ كُلَّ حُرِّيَّتَهُ وكُلَّ خُصوصيَّتِه لأنَّهُ كانَ مُقيَّدًا دائمًا إلى جُنديٍّ رُومانِيّ. وهو لا يَحصُلُ إلاَّ على الحَدِّ الأدنى مِن مُقَوِّماتِ الحياةِ، وعلى الحَدِّ الأدنى مِنَ الطَّعامِ والشَّرابِ والمَلابس. فقد كانَ يُعاني عَذابَ الأسْر. ومِن أَوْجُهٍ عَديدة فإنَّ تَقييدَ شَخصٍ بشَخصٍ آخر هو أسوأ مِن وَضعِهِ في زِنزانةٍ مُنفردة أو في سِجْنٍ مَملوءٍ بالمَساجين.

وقد كانَ يَحصُلُ على الحَدِّ الأدنى مِن مُقَوِّماتِ الحياة. ومِن أوجُه مُعيَّنة، كانت تلكَ الحالة أسوأَ حَالةٍ بَشريَّةٍ تَخطُرُ بالبال. وقد تَمَكَّنَ عَدَدٌ قَليلٌ مِن أصدقائِهِ أحيانًا مِن مَعرفةِ مَكانِهِ والتَّواصُلِ معه. وقد بَقِيَ في تلكَ الحالةِ بانتظارِ مُحاكمتِهِ أمامَ نِيرون (Nero)؛ وهي مُحاكَمَة ستَنتهي بإعدامِه. وقد كانَ يَعلَمُ ذلك. وقد حُرِمَ مِن كُلِّ راحةٍ بَشريَّة.

فقد عاشَ وَحيدًا مِن وُجهةِ النَّظرِ البشريَّة. وكانت كُلُّ حَرَكَة مِن يَدِه وهو يَكتُبُ تُحْدِثُ صَريرًا بسببِ القُيودِ الَّتي قُيِّدَ بها إلى جُنديٍّ. في تلكَ الأحوال، نَقرأُ في رسالة فيلبِّي 4: 11: "لَيْسَ أَنِّي أَقُولُ مِنْ جِهَةِ احْتِيَاجٍ، فَإِنِّي قَدْ تَعَلَّمْتُ أَنْ أَكُونَ مُكْتَفِيًا بِمَا أَنَا فِيه".

ويا لَهُ مِن دَرسٍ مُبارَكٍ يَنبغي لنا أن نَتعلَّمَهُ، وتَعَلَّمَهُ هُوَ! ولا يُمكِنُكَ أن تَحصُلَ على ذلكَ مِن دُونِ تَعَلُّم. فهناكَ عَمليَّة لِتَعَلُّمِ القَناعة. وبالرَّغمِ مِن هذهِ الأحوالِ الصَّعبةِ، وهذهِ العُزلَة، وانعِدامِ الخُصوصيَّة، وهذه القُيودِ وهذا السِّجن، فإنَّهُ يَقول: "لقد تَعَلَّمْتُ أَنْ أَكُونَ مُكْتَفِيًا". فنحنُ نَجِدُ هُنا وَصفًا لرَجُلٍ قَنوع. وهذا هو الرَّجُلُ الَّذي ينبغي أن تَتعلَّموا مِنهُ لأنَّ هذا الرَّجُلَ لم يَكُن يَملِكُ أيَّ شيءٍ... أيَّ شيء البتَّة. وقبلَ كُلِّ شيء، أريدُ أن أُشيرَ إلى أنَّهُ لم يُفَكِّر البَتَّة بِعَقليَّة الضَّحِيَّة. فهو لم يُفَكِّر البَتَّة بِعَقليَّة الضَّحِيَّة.

وهو لم يَتحدَّث قَطّ عن صُعوبَةِ سِجنِه. وهو لم يَتحدَّث قَطّ عن ظُلْمِ القَضاءِ الَّذي حَكَمَ عليه. وهو لم يَتحدَّث قَطّ عن الكَراهِيَةِ الَّتي لم يَكُن يَستحقُّها مِنَ اليهود، أو عنِ العَداوةِ الَّتي لم يَكُن يَستحقُّها مِنَ الأُمَم. وهو لم يَتحدَّث قَطّ عن أنَّهُ تَعرَّضَ لِسُوءِ المُعامَلَة، أو خُشونَةِ المُعامَلة، أوِ الاضطِهادِ، أو ما إلى ذلك. فهو لم يُفَكِّر يَومًا بأنَّهُ ضَحِيَّة. وما أبعدَ ذلكَ عن العَقليَّةِ السَّائدةِ اليومَ في مُجتمعِنا. أليسَ كذلك؟ فكُلُّ شخصٍ يَشعُرُ بأنَّهُ ضَحيَّة لِكُلِّ مَا. وما أسرَعَ ما نُفَكِّرُ في أنفسِنا بأنَّنا ضَحايا!

والكلمة "مُكْتَفيًا" في هذه الآية هي كلمة مُدهشة جدًّا. وهي تَعني بصورة رئيسيَّة أن تَحصُل على ما يَكفيك. فهي كلمة بَسيطة تَعني الحُصول على كِفايَتِك، أي أن تَكونَ مُكتَفِيًا. والحقيقةُ هي أنَّ "لايتفوت" (Lightfoot)، المُفَسِّرُ العَظيمُ للنَّصِّ اليونانيِّ يقول: "إنَّها تُشيرُ إلى شخصٍ ليسَ بحاجةٍ إلى أيِّ عَوْن". فهي تُشيرُ إلى شخصٍ لا يَحتاجُ إلى أيِّ شيء. وإذا نَظرتُم إلى بولُس وقُلتُم إنَّ: "هذا الرَّجُلَ لا يَحتاجُ إلى أيِّ شيء" (وَفقًا لتَعريفِ اليوم)، سيكونُ كَلامُكُم سَخيفًا. فهو لم يَكُن يَملِكُ أيَّ شيءٍ؛ ولكنَّهُ ليسَ بحاجة إلى أيِّ شيء. هذهِ هي القَناعَة. هذه هي القَناعةُ المُطلَقَة: ألاَّ يَكونَ لديكَ أيُّ شيء؛ ولكنَّكَ لستَ بحاجةٍ إلى أيِّ شيء. "لقد تَعلَّمتُ..." [كما يَقولُ] "... تَعَلَّمتُ أن أكونَ مُكتَفِيًا".

وهو يَقولُ في العدد 12 الشَّيءَ نَفسَهُ مَرَّةً أخرى في نِهايةِ العَدد [حَسَبَ التَّرجمةِ الَّتي بينَ أيدينا]: "لقد تَعَلَّمتُ السِّرَّ"... لقد تَعَلَّمتُ السِّرَّ. وهو يَستخدِمُ مَرَّةً أخرى الفِعل "تَعَلَّمْتُ". وهو فِعْلٌ يُستخدَمُ في اللُّغةِ اليونانيَّةِ للإشارة إلى تَعَلُّمِ شَيءٍ مَا. وقد كانَ يُستخدَمُ مَثَلاً للإشارةِ إلى تَعَلُّمِ أسرارِ الدِّياناتِ السِّريَّة. وإن كُنتُم تَدرسونَ اللُّغةَ اليونانيَّة فإنَّهُ الفِعْلُ "مويئو" (mueo). فهُناكَ أشخاصٌ مِنكُم يُتابِعونَني في دِراسةِ يُونانيَّةِ العهدِ الجديد. "مويئو". وهي كلمة تُشيرُ إلى تَعَلُّمِ الأسرارِ الدَّاخليَّةِ لديانةٍ مَا. والحقيقةُ هي أنَّهُم كانوا يَستخدمونَ هذه الكلمة في الأزمنةِ القديمة للإشارة إلى أنَّ الشَّخصَ مُتَعَلِّم. وهذا يعني أنَّهُ كانَ يَتعلَّمُ الأسرارَ الدَّاخليَّةَ لديانَتِهم.

وبولُس يَقولُ: "لقد تَعلَّمتُ السِّرَّ. لقد تَعَلَّمتُ ذلك". "لقد تَعَلَّمتُ أن أكونَ مُكتَفِيًا". وهذا سِرٌّ يَخفى على أُناسٍ كَثيرين. وبصراحة يا أحبَّائي... وهذهِ واحدةٌ مِنَ الصُّعوباتِ الَّتي ينبغي لكُم أن تَحتَمِلوها في ثَقافتِنا: كُلَّما حَصَلتُم على مَزيدٍ مِنَ الأشياء، زادت صُعوبةُ تَعَلُّمِكُم هذا الدَّرس. فَمِنَ الأسهلِ بكثير أن يَتعلَّمَ الأشخاصُ الَّذينَ لا يَملكونَ أيَّ شيء هذا الدَّرس. فالأشخاصُ الَّذينَ يعيشونَ في الهِند يَتعلَّمونَ الاكِتفاءَ بسهولة أكثر مِنَّا بكثير لأنَّنا نُعَرِّفُ الحياةَ مِن زاويةِ مَا نَملِكُه. فنحنُ مُعتادونَ جدًّا على تلكَ الأشياء. وبولُس يَقولُ: "لقد تَعَلَّمتُ".

والسُّؤالُ الَّذي يَتبادَرُ إلى ذِهني هو: كيفَ تَتعلَّمُ ذلك؟ كيفَ يُمكِنُكَ أن تَكونَ مُكتَفِيًا جدًّا؟ وكيفَ يُمكِنُكَ أن تَصِلَ إلى نُقطةٍ في حَياتِكَ تَقولُ فيها: "أنا لا أَملِكُ أيَّ شيءٍ؛ ولكنِّي لستُ بحاجةٍ إلى أيِّ شيء"؟ كيفَ تُحَقِّقونَ ذلك؟ كيفَ يُمكنُني أن أتعلَّمَ ذلكَ الدَّرس؟ كيفَ يُمكنُني أن أتعلَّمَ الاكتفاء؟ كيفَ يُمكنُني أن أَمْنَعَ مَشاعِري مِنَ الصُّعودِ والهُبوطِ وَفقًا لِحصولي أو عدمِ حُصولي على الأشياء؟ وكيفَ يُمكنُني أن أَتَخَطَّى عَقَبَةَ سُوءِ مُعاملةِ شَريكِ حَياتي لي، أو أفرادِ عائلتي، أو أَبي وأُمِّي، أو أصدقائي، أو مُديري في العَمل، أو مُعَلِّمي، أو أُستاذي الَّذي يُعطيني عَلاماتٍ مُتَدَنِّية؟

كيفَ أَتَخَطَّى شُعوري بأنِّي ضَحيَّة، أو شُعوري بعدمِ حُصولي على مُعاملة عَادلة ومُنصِفَة؟ كيفَ أَتَخَطَّى ذلكَ وأقول: "أنا لا أَملِكُ أيَّ شيءٍ؛ ولكنِّي لستُ بحاجة إلى أيِّ شيء. أنا مُكْتَفٍ. أنا قَنوع. أنا ليسَت لديَّ أيَّة حاجات"؟ كيفَ أُفَكِّرُ بتكَ الطَّريقة وأستمرُّ في التَّفكيرِ هكذا دُونَ أن أَصعَدَ وأهبِط وَفقًا لِصُعودِ أو هُبوطِ الأشياءِ في عَالَمي؟ سَوفَ نَعرِفُ الجَوابَ مِن خلالِ هذا المَقطَع. فهناكَ خَمسة... هُناكَ خَمسة مَبادئ ينبغي أن تَتعلَّموها إن أردُتم أن تَكونوا مُكْتَفين. خَمسة مَبادئ. فهي أسرارُ الاكتِفاء. وعندما تَتَعَلَّموها، ستَصيرونَ مُكْتَفين.

المَبدأُ الأوَّل: ثِقُوا بالعِنايةِ الإلهيَّة... ثِقُوا بالعِنايةِ الإلهيَّة. وهذا مَبدأٌ يُلَمَّحُ إليهِ تَلميحًا هُنا؛ ولكنِّي أعتقدُ أنَّهُ يُلَمَّحُ إليهِ بطريقة رائعة. ثِقُوا بالعِنايةِ الإلهيَّة. ثِقُوا بالعِنايةِ الإلهيَّة. واسمَحوا لي أن أقولَ كلمةً عنِ العِنايةِ الإلهيَّة. إنَّ "العِناية الإلهيَّة" هي عِبارة يَستخدِمُها اللاَّهوتيُّونَ مُنذُ سَنواتٍ طويلة لِوَصفِ حَقيقةِ أنَّ اللهَ يَعملُ كُلَّ شيءٍ حَسَبَ مَشيئتِه. فهذا هو مَعناها. فهي تَعني أنَّ اللهَ يأخُذُ مَلايينَ الأشياءِ الصَّغيرةِ الَّتي تَحدُثُ في الكَون ويَصنَعُ مِنها كُلَّها مَشيئَتَهُ الكامِلَة. وكما قُلتُ لكُم في وقتٍ سَابقٍ عندما تَحدَّثنا عنِ العِنايةِ الإلهيَّة، فإنَّ العِنايةَ الإلهيَّةَ هي في نَظري أعظمُ مُعجِزَةٍ على الإطلاق.

فإن أَوْقَفَ اللهُ السَّيْرَ الطَّبيعيَّ للأشياءِ وصَنَعَ مُعجزةً فإنَّهُ يَستطيعُ أن يَفعلَ أيَّ شيءٍ يُريد. ويُمكِنُكم أن تَفهموا ذلك. فهو يَملِكُ قُدرةً هائلةً. فقد خَلَقَ كُلَّ شيءٍ. لِذا فإنَّهُ يَستطيعُ أن يُوقِفَ السَّيْرَ الطَّبيعيَّ للعَمليَّةِ الطَّبيعيَّةِ الَّتي تَجري في العالَمِ ويَصنعَ مُعجزةً وَحَسْب. ولكنَّ ما يَفعلُهُ في العِنايةِ الإلهيَّةِ هو أنَّهُ يَسمَحُ لكُلِّ تلكَ الأشياءِ الصَّغيرةِ أن تَحدُث، ويَسمَحُ لملايينِ النَّاسِ أن يَصنَعوا مَلايينَ القَراراتِ، وأن يَفعلوا مَلايينَ الأشياء، ويَسمَحُ للشَّياطينِ وَجُنْدِ الشَّيطانِ أن يَفعلوا ما يَشاءون. ثُمَّ إنَّ هُناكَ كُلَّ العَواملِ الماديَّةِ في الكَونِ المادِّيِّ، وكُلَّ التَّعقيداتِ المُلازِمَةِ لملايينِ المَلايينِ مِنَ الأشياءِ الصَّغيرة. ولكنَّ اللهَ يأخُذُ كُلَّ تلكَ الأشياءِ، ويَخلِطُها معًا بعِناية فائقة، ويَصنَعُ مِنها مَقاصِدَهُ وكُلَّ مَا يَشاء.

وهذا شَيءٌ يَفوقُ استيعابي أنا شخصيًّا. فإن وَضعتُم عَناصِرَ كثيرة في حياتي سأشعُرُ بالتَّشويشِ ولا أستطيعُ بُلوغَ هَدفي بوجودِ عَناصِر كثيرة. فالأمرُ يَصيرُ مُعَقَّدًا جدًّا. ولطالَما فَكَّرتُ في أنَّ الذَّكاءَ... وهذا ليسَ تَعريفًا عِلميًّا دَقيقًا... ولكنِّي لَطالما فَكَّرتُ في أنَّ الذَّكاءَ المُتنامي هو القُدرة على احتِمالِ المَزيدِ والمَزيدِ مِنَ التَّعقيد. حسنًا؟ فالأشخاصُ الأغبياء حَقًّا، والأشخاصُ العاديُّونَ والبُسطاءُ الَّذينَ هُم ليسوا أذكياءَ جدًّا لا يَستطيعونَ أن يَتحمَّلوا الكثيرَ مِن التَّعقيد.

ولكِن إن استمرَّيتُم في صُعودِ سُلَّمِ حَاصِلِ الذَّكاء ستجدونَ أنَّهُ كُلَّما صَعدتُم إلى أعلى زَادَ التَّعقيدُ الَّذي يَستطيعُ النَّاسُ أن يَتعامَلوا مَعَهُ. ولكن حتَّى عندما تَنظرونَ إلى غَريبي الأطوارِ حَقًّا، أيِ الأشخاصِ الَّذينَ يَصِلُ حَاصِلُ ذَكائِهِم إلى نَحوِ 175 أو أكثر، ستَجدونَ أنَّهُم يَستطيعونَ أن يُعالِجوا أمورًا مُعَقَّدةٍ جدًّا؛ ولكنَّهُم لا يَستطيعونَ العُثورَ على زَوْجٍ مِنَ الجَوارِبِ المُتشابِهَة. ولا بُدَّ أنَّكُم تَعرفونَ أشخاصًا كهؤلاء. فحتَّى عندما يَكونُ حَاصِلُ ذَكائِهِم مُرتفعًا جدًّا، فإنَّ هُناكَ حُدودًا لقُدراتِهم.

أمَّا عندما تَتحدَّثونَ عنِ اللهِ فإنَّكُم تَتحدَّثونَ عن مُستوىً عَالٍ جدًّا مِنَ النُّبوغ، وتَتحدَّثونَ عن ذِهنٍ يَستطيعُ أن يُعالِجَ كُلَّ التَّعقيداتِ الموجودة في الكَون وأن يَصنَعَ مِنها كُلَّها خُطَّةً مُحْكَمَةً لتنفيذِ مَشيئتِهِ الكاملة. فنحنُ نَتحدَّثُ عن شيءٍ يَستعصِي تَمامًا على أذهانِنا. فهذا أقَلُّ ما يُقالُ عنه. لِذا فإنَّنا لا نَستطيعُ أن نَفهمَ كُلَّ المَسائلَ اللاَّهوتيَّةَ لأنَّ عُقولَنا تَعجَزُ عن ذلك حَتَّى قبلَ أن يَصِلَ مُعَدَّلُ ذَكائِنا إلى 175. وبالمُناسبة، إنَّ مُعَدَّلَ الذَّكاءِ هو مِئَة تَقريبًا. ومُعَدَّلُ ذَكاءِ الشَّخصِ الَّذي يُنهي الجامعة هو بين 120 و 125. لِذا فإنَّنا نَفْعَلُ حَسَنًا إذْ إنَّنا نَفهَمُ الكثيرَ مِنَ الأشياءِ الَّتي تَحدُثُ في هذا العالَم؛ ولكِن ما أبعدَنا عن ذَكاءِ الله.

وقد كانَ هُناكَ حَدَثٌ صَغيرٌ دَبَّرَهُ اللهُ في خِضَمِّ حَياةِ بولُس. انظروا إلى العددِ العاشِر. فهو يَقول: "ثُمَّ إِنِّي فَرِحْتُ بِالرَّبِّ جِدًّا". فهو يَقول: "لقد فَرِحتُ لهذا السَّبب: لأَنَّكُمُ الآنَ قَدْ أَزْهَرَ أَيْضًا مَرَّةً اعْتِنَاؤُكُمْ بِي الَّذِي كُنْتُمْ تَعْتَنُونَهُ، وَلكِنْ لَمْ تَكُنْ لَكُمْ فُرْصَةٌ". والآن، لماذا يَفرحُ بولُسُ بالرَّبّ؟ ولماذا لا يَشكُرُ أهلَ فيلبِّي؟ ولماذا لا يَقول: "أريدُ أن أشكُرَكُم على ما فَعلتُموه؟" إنَّهُ يَفرَحُ في الرَّبِّ لأنَّهُ يَعلمُ أنَّهُ هُوَ الَّذي فَعَلَ كُلَّ شيء.

إليكُم ما حَدَث. وسوفَ أحاولُ أن أُوَضِّحَ الصُّورةَ لَكُم قليلاً: طَوالَ عَشْرة سِنين، لم تُرسِل كنيسة فيلبِّي إلى بولُس أيَّ دَعْمٍ مادِّيّ. وقد كانَ بصورةٍ رئيسيَّةٍ خَادِمًا جَوَّالاً يَعملُ ويَكسَبُ رِزْقَهُ قَدرَ استِطاعتِه. ولكِن ما إن تَدخُل السِّجنَ أو تُسْجَنَ حَتَّى تَصيرُ الحالُ أصعَب قليلاً. وطَوالَ عَشْرِ سَنوات، لم تَتمكَّن كنيسةُ فيلبِّي مِن إرسالِ أيِّ دَعْمٍ مادِّيٍّ لَهُ. وعندما تَتَعَمَّقونَ قَليلاً في تلكَ السَّنواتِ العَشْرِ وتَسألونَ: "لِماذا؟" ستَجِدونَ إجابَتَيْن: الأولى هي أنَّهُم كانوا فُقراءَ ولا يَملكونَ حَتَّى مَا يَكفيهم.

ويجب عليكم أن تَتَذَكَّروا أنَّهُ قبلَ عَشْرِ سِنواتٍ مِن كِتابةِ رسالة فيلبِّي، ذَهَبَ بولسُ إلى مَدينةِ فيلبِّي. وقد ذَهبَ أوَّلاً إلى ذلكَ المَجْمَعِ... وهو لم يَكُن في الحَقيقةِ مَجْمَعًا، بل كانوا مَجموعةً مِنَ اليهودِ الَّذينَ يَجتمِعونَ عندَ النَّهر. فلم يَكُن يوجدُ عَدَدٌ كَافٍ لتأسيسِ مَجْمَع. وقد ذهبَ إلى هُناكَ ووجدَ مَجموعةً مِنَ الرِّجالِ والنِّساءِ عندَ النَّهرِ مِنَ اليهودِ، وكانوا يَعبُدونَ يَهْوَه. وقد ذَهبَ إلى هُناكَ والتَقاهُم. وأنتُم تَعرفونَ كيفَ سَارتِ القِصَّة. فقد كَرَزَ بالإنجيل. ثُمَّ إنَّهُ رأى فتاةً بِهَا رُوحُ عِرَافَة. وقد حاولَ الشَّيطانُ أن يَتَعاوَنَ معَ اللهِ وأن يُهيمِن عليها. ولكنَّ بولسَ طَرَدَ الشَّيطانَ مِنَ الفتاةِ ولم يَرغب في أيَّة دَعاية مِنَ الشَّيطان.

ولَعَلَّكُم تَذكُرونَ ما حَدثَ بعدَ ذلك. فقد كَرَزَ بولسُ بالإنجيلِ في النِّهاية في مَدينةِ فيلبِّي، وتَمَّ سَجْنُه. وبينما كانت رِجْلاهُ في المِقْطَرة، كانَ هُوَ وصَديقُهُ "سِيلا" يُسَبِّحانِ اللهَ في مُنتصفِ اللَّيل. وقد حَدَثَتْ زَلْزَلَة فَتَزَعْزَعَتْ أَسَاسَاتُ السِّجْنِ وَانْفَكَّتْ قُيُودُ الجَمِيع. ولَعَلَّكُم تَذكرونَ أنَّ السَّجَّانَ آمَنَ وأنَّ كَنيسةَ زُرِعَتْ في فيلبِّي. وقد انقضَتْ عَشْرُ سَنواتٍ مُنذُ ذلكَ الوقت. فقد انْقَضَتْ عَشْرُ سَنواتٍ مُنذُ أن دَوَّنَ سِفْرُ أعمالِ الرُّسُل تلكَ القِصَّة المُدهشة. وبولُس يَقولُ في العددِ العاشِر: "ثُمَّ إِنِّي فَرِحْتُ بِالرَّبِّ جِدًّا لأَنَّكُمُ الآنَ قَدْ أَزْهَرَ أَيْضًا مَرَّةً اعْتِنَاؤُكُمْ بِي الَّذِي كُنْتُمْ تَعْتَنُونَهُ، وَلكِنْ لَمْ تَكُنْ لَكُمْ فُرْصَةٌ".

فخِلالَ تلكَ السَّنواتِ العَشْر، لم تَكُن لَهُم "كايروس" (kairos)، وهي كلمة تَعني: "فُرصة" أو "مُناسَبة". ونحنُ لا نَعرفُ السَّببَ تَحديدًا، ولكِن مِنَ المؤكَّدِ أنَّ ذلكَ كانَ يَرجِعُ جُزئيًّا إلى فَقْرِهم. فقد تَمَّ اضطِهادُ بولُس في تلكَ البَلدة. ومِنَ المؤكَّدِ أنَّ الكنيسةَ الفَتِيَّةَ واجَهَت مَتاعِبَ في تلكَ البَلدة. ولكن عَدا عن ذلك، كانَت هُناكَ صُعوبَةُ الوُصولِ إلى بولُس.

فقد كانَ دائِمَ التَّنَقُّلِ ومِنَ الصَّعبِ على أيِّ شخصٍ أن يَعرِفَ مَكانَهُ. ثانيًا، لقد كانَ مَشغولاً في كَسْبِ رِزْقِهِ إذْ كانَ يَعمَلُ في الدِّباغَةِ وصِناعَةِ الخِيَام. ولكنَّهُ وَجَدَ نَفسَهُ مُؤخَّرًا في مَوقفٍ لم يَعُد فيه قادرًا على كَسْبِ رِزْقِه. وكانت حَاجاتُهُ هائلة. وفي ذلكَ الوقتِ المُناسب جدًّا، بعدَ عَشْرِ سَنواتٍ مِن زَرْعِهِ لتلكَ الكنيسة، تَجَدَّدَ اهتِمامُهُم بِهِ.

وما يُشيرُ إليهِ هُنا هو أنَّهُم أرسَلوا إليهِ هَدِيَّة. فقد أرسَلوا إليهِ هَدِيَّة. فقد أرسَلوا إليهِ شَيئًا لكي يَعتنوا بِهِ. ورُبَّما كانَ ذلكَ الشَّيءُ مَلابِسَ أو طَعامًا. ونحنُ لا نَدري ما هو تَحديدًا؛ ولكنَّهُم أرسَلوا إليهِ... أرسَلوا إليهِ هَديَّة. وسوفَ تُلاحِظونَ في العَدد 16 أنَّهُ يَقول: "فَإِنَّكُمْ فِي تَسَالُونِيكِي أَيْضًا أَرْسَلْتُمْ إِلَيَّ مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ لِحَاجَتِي. لَيْسَ أَنِّي أَطْلُبُ الْعَطِيَّة". لِذا فإنَّنا نَقرأُ هُنا أنَّهُم ابتدأوا مُؤخَّرًا في سَدِّ حاجاتِه. فقد أرسَلوا إليهِ هَدايا في تسالونيكي. والآن، في المَوقفِ الَّذي هُوَ فيه في السِّجنِ في رُوما، أرسَلوا إليهِ هَدايا مَرَّةً أخرى. فقد صَاروا قادرينَ على القيامِ بذلك، والرَّبُّ جَعَلَ ذلكَ مُمكِنًا في الوقتِ الَّذي كانَ فيهِ بولُسُ في حاجَةٍ مَاسَّةٍ إلى ذلك.

وبالمُناسبة، إنَّ الكلمة "أَزْهَرَ" المَذكورة هُنا هي كَلِمة مُستَعارة مِن عَالَمِ الزِّراعَة. فقد يُساعِدُكم هذا على فَهمِها. فهي تُشيرُ إلى شيءٍ يُبَرْعِم أو يُزْهِر أو يَتَفَتَّح. فهو يَقول: "لقد أَزْهَرَ اعتِناؤُكُم بي". لقد أَزْهَرَ اعتِناؤُكُم بي. لقد كُنتُم تَهتمُّونَ بي مِن قَبل؛ ولكنَّكم لم تَجِدوا الفُرصةَ ولم تَملكوا القُدرةَ على القيامِ بذلك. أمَّا الآن فقد أُتيحتِ الفُرصةُ لَكُم. لِذا فإنِّي أَفرحُ بالرَّبِّ جِدًّا.

وكما تَرَوْنَ، لقد كانَ يَعلمُ أنَّ ما قالَهُ كاتِبُ الرِّسالةِ إلى العِبرانِيِّينَ صَحيح؛ أي: لا حاجةَ إلى القيامِ بأيِّ شيءٍ سِوى أن تَكونوا مُكْتَفينَ لأنِّي لن أُهمِلَكُم ولن أترُكَكُم. فقد كانَ يَعلمُ أنَّ اللهَ مَوجود. وقد كانَ يَعلمُ ما جاءَ في سِفْر الأمثال 16: 9: "قَلْبُ الإِنْسَانِ يُفَكِّرُ فِي طَرِيقِهِ، وَالرَّبُّ يَهْدِي خَطْوَتَهُ". وقد كانَ يَعلَمُ ما جاءَ في سِفْر الأمثال 19: 21: "فِي قَلْبِ الإِنْسَانِ أَفْكَارٌ كَثِيرَةٌ، لكِنْ مَشُورَةُ الرَّبِّ هِيَ تَثْبُتُ".

وقد كانَ بولسُ يَعلمُ أنَّهُ ليسَ مُضطرًّا إلى مُعالجةِ كُلِّ المَسائلِ لأنَّهُ قالَ في رسالة فيلبِّي 2: 13: "لأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَامِلُ فِيكُمْ أَنْ تُرِيدُوا وَأَنْ تَعْمَلُوا مِنْ أَجْلِ الْمَسَرَّة". وقد كانَ يَعلمُ أنَّ حَياتَهُ هي بينَ يَدَيِّ الله. وكانَ يَعرِفُ العهدَ القديم. وكانَ يَعرِفُ عِنايَتَهُ الإلهيَّة في حياةِ يُوسُف. فقد باعَهُ إخوَتُهُ عَبْدًا. والحقيقةُ هي أنَّ ذَهابَ يُوسُفَ إلى مِصرَ وتَعيينَهُ رَئيسًا للوُزراءِ هُوَ الأمرُ الَّذي حَفِظَ بَني إسرائيل.

وكانَ بولسُ يَعرِفُ قِصَّةَ أستير، وكيفَ أنَّ أستير وُضِعَت عن قَصدٍ في قَصرِ مَلِكٍ وَثنيٍّ لكي تُحْبِطَ مُؤامرةً كانَ يُمكِنُ أن تَكونَ مَذبحةً جَماعيَّةً وأن تُهلِكَ الشَّعبَ اليَهوديّ. إنَّها العِنايةُ الإلهيَّة. وحَتَّى إنَّكُم لا تَقرأونَ اسمَ اللهِ أوِ الكلمة "الله" أو أيَّة إشارة إلى اللهِ في كُلِّ سِفْر أَسْتير. ولكنَّهُ كانَ يَعملُ في الخَفاءِ على تَتميمِ مَشيئتِهِ وعِنايتِهِ الإلهيّ في كُلِّ آية.

ولَعَلَّكُم تَذكرونَ قِصَّةَ راعوث وكيفَ أنَّ اللهَ عَمِلَ مِن خلال عِنايَتِهِ الإلهيَّةِ في كُلِّ تلكَ القصَّة المُدهشة على الحِفاظِ على نَسلِ داود لكي يأتي مِنهُ في النِّهاية المَسِيَّا، وكيفَ أنَّ اللهَ يَعملُ مِن خلالِ كُلِّ تلكَ الملايينِ مِنَ الأحداثِ الصَّغيرة. وقد كانَ بولسُ يَعرِفُ كُلَّ شيءٍ عن ذلك. فقد كانَ يَعلَمُ ذلكَ مِن خلالِ مَعرفتِهِ للكتابِ المُقدَّس. وكانَ يَعلَمُ ذلكَ مِن خِلالِ خِبرتِهِ الشَّخصيَّة. فقد كانَ يَعلَمُ أنَّ اللهَ مُهيمِنٌ على كلِّ شيء.

وهناكَ مَبدأٌ ثَانٍ ينبغي أن تَتعلَّموه؛ لا فقط العِناية الإلهيَّة الَّتي تقولُ إنَّهُ في الوقتِ والمَكانِ المُناسِبَيْنِ عندما تَدعو الحَاجَة، سوفَ يَعملُ اللهُ؛ بل ثانيًا، لا يَكفي أن تَثِقوا بالعِنايةِ الإلهيَّة، بل يجب أن تَكتَفُوا بالقَليل... أن تَكتَفُوا بالقَليل. وهذا ليسَ بالأمرِ الهَيِّن. فقد كنتُ أقرأُ رسالةً في هذا الصَّباحِ بينَ الخِدْمَتَيْنِ... لا، بل في البيتِ قبلَ أن أُغادِر... تَسَلَّمتُها مِن مُرْسَلٍ ذَهَبَ للخِدمةِ في مَكانٍ بِدائيٍّ جدًّا في إفريقيا بعدَ أن تَرَكَ الولاياتِ المُتَّحدة. وقد انقضت الآن بِضعةُ أسابيع على وُجودِهِ وحياتِهِ في إفريقيا.

والرِّسالةُ تَقول: "أعتقد أنَّكَ تَتساءلُ عن رأيِنا في إفريقيا". وبعدَ نَحْوِ صَفْحَتَيْن، كَتَبَ يَقول: "إليكَ ما وَجدنا أنَّهُ صَعْبٌ". وقد ذَكَرَ الطُّرُقَ الوَعِرَة، والوَحْل، وما إلى ذلك. والبيتُ بحاجة إلى دِهان، ولا يوجد سِوى ماء بارِد، وهَلُمَّ جَرَّا. "صَلُّوا لأجلِنا... صَلُّوا لأجلِنا". ويُمكنُني أن أفهمَ ذلك. فهناكَ أشخاصٌ ليسوا مُعتادينَ على القليل. وهذه نَقْلَة كَبيرة جدًّا تَتطلَّبُ مِنهُم أن يُفَكِّروا في كيفيَّةِ العَيْشِ بتلكَ المَوارِد القليلة؛ هذا عَدا عن كيفيَّةِ الكِرازةِ في ذلكَ البَلَد برسالةِ يسوعَ المسيح.

وهذا أمرٌ صَعبٌ عَلينا في هذا المُجتمَع. وهذه واحدة مِن لَعْناتِ الرَّخاء. ونَجِدُ هذا المبدأَ في العدد 11 إذْ نَقرأ: "لَيْسَ أَنِّي أَقُولُ مِنْ جِهَةِ احْتِيَاجٍ". فبولسُ يُريدُ أن يَستخدِمَ أُسلوبَ المُفارَقَة هُنا. فهو يَفرحُ في الرَّبِّ لأنَّ أهلَ فيلبِّي قاموا في الوقتِ المُناسب بِسَدِّ حاجاتِه؛ ولكن ليسَ بسببِ حَاجاتِهِ الشخصيَّة لأنَّهُ يَقول: "فَإِنِّي قَدْ تَعَلَّمْتُ أَنْ أَكُونَ مُكْتَفِيًا بِمَا أَنَا فِيه".

"أنا لا أفرَحُ... لا أفرحُ بسببِ حاجاتي! انظُروا! أنا مُكْتَفٍ بأيَّةِ حَال. وأنا ليست لديَّ أيَّة حاجات. وما أعنيه هو أنِّي أفرحُ بالقليلِ الَّذي أعطَيتُموني إيَّاه، ولكنَّهُ كَثيرٌ في نَظري. وأنا لستُ بحاجة إلى المَزيد. وهذا لا يَرجِعُ إلى أنَّ جَميعَ حَاجاتي قد سُدِّدَتْ فجأةً، بل لأنِّي أحتاجُ فقط إلى الأساسيَّات. ومِن خِلالِكُم يَقومُ الرَّبُّ بِتَوفيِرها. وأنا أَثِقُ بأنَّهُ سيَعملُ دائمًا على تَوفيرِها مِن خلالِ عِنايَتِهِ الإلهيَّة. ولكنَّ السَّببَ في ذلك هو ليسَ أنِّي بحاجة إلى المَزيد".

هل يُمكنُكم أن تَتخيَّلوا شَخصًا يَقولُ هذهِ الكلماتِ اليوم؟ "أنا ليست لديَّ حاجات! أنا ليست لديَّ حاجات!" فَمِنَ الصَّعبِ جدًّا أن نَقولَ ذلكَ ونحنُ نُفَكِّرُ بهذهِ العَقليَّةِ الاستِهلاكيَّة. أليسَ كذلك؟ "أنا ليست لديَّ أيَّة حَاجات... أنا لستُ بحاجة إلى أيِّ شيء. أنا لا أحتاجُ إلى أيِّ شيء!" ونحنُ نَملِكُ أكثرَ بكثير مِمَّا كانَ يَملِكُ بولسُ الَّذي قالَ إنَّهُ ليسَ بحاجة إلى أيِّ شيء.

وما أعنيه هو أنَّنا رأينا قبلَ سَنواتٍ عديدة ظُهورَ إنجيل الرَّخاء. وإنجيلُ الرَّخاءِ لم يَصمُد طَويلاً لأنَّ الفُقراءَ يَصيرونَ أكثر فَقرًا عندما يُعطونَ أموالَهُم لِمَنْ يُنادونَ بإنجيلِ الرَّخاء. لِذا فإنَّ إنجيلَ الرَّخاءِ لم يَدُم طَويلاً. فالنَّاسُ لم يَصيروا أغنياء. وهو لم يَنجَح بتلكَ الطَّريقة. فهو يُشبِهُ خُطَّةً هَرَمِيَّة. فالأشخاصُ الَّذينَ في القِمَّة هُمُ الوحيدونَ الَّذينَ يَصيرونَ أغنياء. وقد اختَفى إنجيلُ الرَّخاءِ نَوعًا مَا وتَلاشَى. وقد حَلَّ مَحَلُّهُ لاهوتُ الحَاجات. فنحنُ لدينا حاجات كثيرة، ونحنُ جَميعًا ضَحايا. فنحنُ نَشعُرُ جَميعًا بالإحباطِ والخُذلانِ والبُؤس، وبأنَّ الآخرينَ لا يَفهمونَنا، وبأنَّ الحياةَ ليسَت مُنْصِفَة.

وهذا يُشبِهُ المُحاكَمَةَ الَّتي سَمِعتُ عنها حيثُ إنَّ المَحكمةَ حَكَمَت لأحدِ المُوَظَّفينَ بتَعويضٍ قيمَتُهُ أحدَ عَشَر مَليونًا ومِئتيّ ألفِ دولار لأنَّ مُوظَّفًا آخرَ قالَ شيئًا لَهُ تَمَّ تَفسيرُهُ بأنَّهُ تَمييزٌ عُنصريٌّ. والآن، أنا لا أُشَجِّعُكُم على القيامِ بذلك، ولكنَّ شخصًا قالَ لذلكَ المُوظَّف شيئًا فَسَّرَهُ بأنَّهُ تَمييزٌ عُنصريٌّ؛ وهو أمرٌ لا يَجوزُ لأيِّ شخصٍ أن يَفعلَهُ بأيِّ شخصٍ آخر. وقد عَوَّضَتْهُ المَحكمة بأحدَ عشرَ مَليونًا ومِئتي ألفِ دولار.

وقد فَرِحتُ حينَ رأيتُ في هذا الأسبوع أنَّ مَحكمةً أخرى نَقَضَتْ ذلكَ الحُكْمَ وقالت: "هذه هي الحياة! هذه هي الحياة يا صَاح! هَوِّن عَليك!" هل تَعتقدُ أنَّكَ تَستطيعُ أن تَعيشَ حَياتَكَ وتُقاضِي كُلَّ شخصٍ تَعتقد أنَّهُ جَعَلَكَ ضَحِيَّةَ عِبارةٍ مَا؟ هذه هي الحياة! وهذا هو العالَم! وأنا مُمْتَنٌّ لذلكَ القاضي. وأنا لا أعرِفُ أيَّ شيءٍ عنه، ولكنَّهُ شخصٌ عاقِلٌ في وَسْطِ كُلِّ ما يَحدُث!

ولكنَّنا نَرى لاهوتًا آخرَ قائمًا على الحَاجات. والفِكرةُ هي: "أنا لديَّ كُلُّ هذه الحاجات، ويجب على اللهِ أن يَسُدَّ كُلَّ حاجاتي، ويجب على يَسوعَ أن يَسُدَّ كُلَّ حاجاتي. فيجب أن أَشبَعَ، ويجب أن تُلَبَّى حاجاتي، ويجب أن... يجب أن أنجَحَ، ويجب أن أزدَهِرَ في عَملي، ويجب أن تكونَ حَياتي الزَّوجيَّة كما أتمنَّى أن تَكون!" فعندما تَسلُكُ في ذلك الدَّرب فإنَّهُ دَربٌ يُؤدِّي إلى كارِثَة.

وقد كنتُ أقرأُ عن كَنيسةٍ تَهتمُّ كثيرًا بإرضاءِ جَميعِ النَّاس على أساسِ الشِّبَعِ وسَدِّ الحاجاتِ الشخصيَّة. وما حَدَثَ هو أنَّ لديهم آلافَ الأشخاصِ في رَعيَّتِهم كُلَّ سنة يَتَلَقَّوْنَ عِلاجًا نَفسيًّا. ولماذا يَتَلَقَّونَ عِلاجًا نَفسيًّا؟ لأنَّ الكنيسةَ قالت لَهُم إنَّهُ عندما تَقبلونَ المسيحَ ستَحصُلونَ على كُلِّ ما تَتَمَنُّوه، وعلى كُلِّ ما تَرغبونَ فيه.

وَهُم يَعيشونَ في ثَقافةٍ تُخبرُهم إنَّهُ لا توجد نِهاية لتلكَ الرَّغْبات. لِذا فإنَّهُم يُحبَطونَ ويَذهبونَ لِتَلَقِّي العِلاجِ النَّفسيّ. ولكن يجب أن يكونَ هُناكَ شخصٌ يَقولُ لهم: "أنتَ مُجرَّد ضَحِيَّة مِسكينة! يا لَكَ مِن إنسانٍ بائِس!" فهذا اللاَّهوتُ مأساويٌّ جدًّا! فحاجَتُنا الماسَّةُ أنا وأنتَ هي النَّجاةُ مِن جَهَنَّم. وحاجَتُنا الحقيقيَّةُ هي أن نَعبُدَ اللهَ الحَقيقيَّ الحَيَّ. فلا يَهُمُّ حَقًّا إنْ كُنَّا سنَحصُلُ على أيِّ شيءٍ في الحياةِ أو لن نَحصُلَ عليه.

فنحنُ لدينا الكثير جدًّا. وما أعنيه هو أنَّنا أغنياء جدًّا. ولا بأسَ في ذلك. فاللهُ بارَكَنا. وقد تَحدَّثنا عن ذلكَ في دراسَتِنا لرسالة كورِنثوس الثَّانية. ولا بأسَ في ذلك. فيُمكِنُكم أن تَكونوا أغنياء؛ ولكن يجب أن تُدركوا دائمًا أنَّكُم لستُم بحاجة إلى ذلكَ الغِنَى. والحقيقةُ هي أنَّهُ كُلَّما زادَ غِناكَ، زادَ إدراكُكَ لعدمِ حاجَتِكَ إلى هذا المال. وسُرعانَ ما لا تَعودُ راغِبًا فيه. فعندما يَقولُ النَّاسُ: "أريدُ أن أُقَدِّمَ لكَ هَديَّة"... فَهُم يَقولونَ لي أحيانًا إنَّهُم يُريدونَ أن يُعطوني هَديَّة. وأنا أقولُ لهم: "انظر! إن لم تَكُن الهَديَّة شيئًا قابلاً للاحتراقِ أوِ الاستهلاك، لا تُقَدِّمها لي". فإن لم يَكُن بمقدوري أن أحرِقَها أو آكُلَها، لا أريدُ أن أَضَعها في مَكانٍ مَا. وهناكَ شيءٌ آخر: إن كانَ بمقدوري أن أقرأها، أعطِني إيَّاها".

وبولُس يَقول: "قَدْ تَعَلَّمْتُ أَنْ أَكُونَ مُكْتَفِيًا... قَدْ تَعَلَّمْتُ أَنْ أَكُونَ مُكْتَفِيًا بِمَا أَنَا فِيه". وهو لا يُنكِرُ أنَّ الحياةَ تَنطوي على أحوالٍ صَعبة. فهذه هي الحياة. وهو لا يُنكِرُ أنَّهُ تَعرَّضَ لِسُوءِ المُعامَلة؛ ولكنَّهُ ليسَ ضَحيَّةً. فهو لا يُفَكِّرُ بعقليَّةِ الضَّحيَّة، بل هُوَ مُنتَصِرٌ. وهو يَكْتَفي بالقَليل. وهو لا يَنسى البتَّة ما يَستحقُّهُ حَقًّا. أليسَ كذلك؟ وهو لا يَنسى أيضًا ما هُو آت: "مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ: مَا أَعَدَّهُ اللهُ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ". أليسَ كذلك؟ لِذا فإنَّهُ يَثِقُ في العِنايةِ الإلهيَّةِ لِسَدِّ حاجاتِه. وَهُوَ يَعلَمُ أنَّ اللهَ لن يَترُكَهُ. وَهُوَ مُقْتَنِعٌ وراضٍ بالقَليل.

أمَّا هذه العَقليَّة المَسيحيَّة الَّتي تَقول: "أنا مِحْوَرُ الكَون، وحاجاتي هي القُوَّة الدَّافعة الرَّئيسيَّة" فهي بِكُلِّ تأكيد ليست نَهْجًا كِتابيًّا. وعندما أقولُ إنَّ بولسَ كانَ مُكتفيًا، لا أعني بذلكَ أنَّهُ لم تَكُن هُناكَ أيَّة أُمور ليسَ مُكتفيًا بها. واسمَحوا لي أن أَذكُرَ لَكُم بِضعًا مِنها. فقد رَفَضَ أن يَكتفي بحالَتِهِ الرُّوحيَّة. فهو لم يَكُن مُكتفيًا بذلك حَتَّى إنَّهُ قال: "وَيحي أنا الإنسانُ الشَّقيّ!" وهو لم يَكُن مُكتفيًا بِسَعيِهِ إلى القَداسة. وَهُوَ لم يَكُن مُكتفيًا بسَعيِهِ إلى التَّشَبُّهِ بالمسيح. فقد قال: "أَنَا لَسْتُ أَحْسِبُ نَفْسِي أَنِّي قَدْ أَدْرَكْتُ، وَلكِنِّي... أَسْعَى نَحْوَ الْغَرَض".

وهو لم يَكُن راضيًا عن الطَّريقةِ الَّتي يُعامِلُ بها العالَمُ يَسوعَ المسيح. وهو لم يَكُن راضيًا بالتَّجديفِ عليه. وهو لم يَكُن راضيًا عنِ الأشخاصِ الذَّاهبينَ إلى جَهنَّم بسببِ رَفضِهم للإنجيل. فهناكَ أشياء كثيرة لم يَكُن راضيًا عنها؛ ولكنَّها لا تَمُتُّ بِصِلَة إلى الأحوالِ الماديَّة. فقد كانَ يَكفيهِ أنَّ اللهَ سَمَحَ بتلكَ الأحوالِ، وأنَّ اللهَ يُبَرهِنُ على أنَّهُ أمينٌ وقادرٌ في تلكَ الأحوال.

وقد كانَ بمقدورِهِ أن يَقولَ معَ المُرَنِّم: "مَنْ لِي فِي السَّمَاءِ؟ وَمَعَكَ لاَ أُرِيدُ شَيْئًا فِي الأَرْضِ. قَدْ فَنِيَ لَحْمِي وَقَلْبِي. صَخْرَةُ قَلْبِي وَنَصِيبِي اللهُ إِلَى الدَّهْرِ". فقد كانَ حُصولُهُ على اللهِ يَعني الحُصولَ على كُلِّ شيءٍ. لِذا فإنَّهُ لم يَكُن بحاجةٍ إلى أيِّ شيء. فقد تَعَلَّمَ أنَّ الغايةَ القُصوى للإنسان هي تَمجيدُ اللهِ، وأنَّ أعظمَ فَرَحٍ للإنسانِ هي أن يُحبَّ الرَّبَّ إلهَهُ مِن كُلِّ قلبِه ونَفسِه وفِكرِه وقُوَّتِه.

اسمَعوني: لقد كانت مَحبَّتُهُ للهِ في تلكَ العَلاقة كافية. لقد كانت كافية. فهي مَحبَّة طاهرة رائعة نَختبرُها أحيانًا عندما نَقَعُ في حُبِّ شَريكِ الحياة، أو نَختبرُها عندما نَرى طِفلَنا أوَّلَ مَرَّة. فهي مَحبَّة طاهرة جدًّا حتَّى إنَّها... حَتَّى إنَّها لا تُبالي بالظُّروف. لِذا، يُمكنُنا أن نَقولَ إنَّ الحياةَ المسيحيَّةَ ينبغي أن تَكونَ حَياةً مُتحرِّرةً مِنَ الحاجَة... مُتحرِّرةً مِنَ الحاجة. فيجب أن تَكتفي بالقليل.

ثُمَّ اسمَحوا لي أن أَذكُرَ لَكُم النُّقطةَ الثَّالثة؛ وهي نُقطة مُرتبطة بالنُّقطةِ الثَّانية. وهذا هو العُنصُرُ الثَّالثُ فيما يَختصُّ بالقَناعَة. يجب عليكَ أن تَستَقِلَّ عنِ الظُّروف. يجب عليكَ أن تَستقلَّ عنِ الظُّروف. فإن أردتَ أن تكونَ شخصًا قَنوعًا، يجب عليكَ أن تَرضى بالقليل، ويجب عليكَ أن تَثِقَ بأنَّ القليلَ هو حَقًّا ما وَفَّرَهُ اللهُ بعِنايتِهِ الإلهيَّة. وثالثًا، يجب عليكَ أن تَستقلَّ عنِ الظُّروف. ويُمكنكُم أن تَرَوْا هذا الاستقلالَ في العَدد 12. فهي آية مُدهشة جدًّا. وهي آية يُلغي فيها كُلَّ شيء.

لاحِظوا كيفَ يَفعل ذلك: "أَعْرِفُ أَنْ أَتَّضِعَ وَأَعْرِفُ أَيْضًا أَنْ أَسْتَفْضِلَ. فِي كُلِّ شَيْءٍ وَفِي جَمِيعِ الأَشْيَاءِ قَدْ تَدَرَّبْتُ أَنْ أَشْبَعَ وَأَنْ أَجُوعَ، وَأَنْ أَسْتَفْضِلَ وَأَنْ أَنْقُصَ". "في كُلِّ شَيءٍ وَفِي جَمِيعِ الأَشْيَاء". هذا هو المِفتاح. إنَّها تلكَ العِبارة القصيرة في السَّطر الثَّاني: "في كُلِّ شَيءٍ وَفِي جَمِيعِ الأَشْيَاء". بعبارة أخرى، لا يَهُمّ. فالظُّروفُ ليسَت مُهمَّة. فسوفَ تَتعلَّم أن تَكونَ قَنوعًا عندما تَتعلَّمُ أن تَثِقَ باللهِ، وبعنايتِهِ الإلهيَّةِ، وبأنَّهُ سيَهتمُّ بكُلِّ شيء، وعندما تَتعلَّمُ أن تَكتفي بالقليل، وعندما تَتعلَّمُ ألاَّ تُبالي بظروفِك.

فهو يَقول: "أنا أعرفُ كيفَ... أنا أعرفُ كيفَ... أنا أعرفُ كيفَ أعيش بموارِد مُتواضِعَة". والفِعلُ المُستخدَمُ هُنا يَعني حَرفيًّا العَيْش بالحَدِّ الأدنى مِنَ الحاجاتِ الضَّروريَّة. "وَأَعْرِفُ أَيْضًا أَنْ أَسْتَفْضِلَ" ("بيريسيئو" – "perisseuo")؛ أي أن أعيشَ بِفَيْض أو بوفرة في الأشياءِ والأمورِ الأرضيَّة. فأنا أعرفُ كيفَ أفعلُ هذا أو ذاك. "أَعْرِفُ أَنْ أَتَّضِعَ وَأَعْرِفُ أَيْضًا أَنْ أَسْتَفْضِلَ". وأحيانًا يكونُ الأمرُ الأخيرُ أصعَب. أليسَ كذلك؟ لِذا، يجب عليكَ أن تُحافِظَ على تَركيزِك. "لأنِّي في كُلِّ ظَرْفٍ وفي جَميعِ الأحوالِ تَعَلَّمتُ السِّرَّ" [مَرَّةً أخرى]. فقد تَعَلَّمتُهُ. "قَدْ تَدَرَّبْتُ أَنْ أَشْبَعَ وَأَنْ أَجُوعَ، وَأَنْ أَسْتَفْضِلَ وَأَنْ أَنْقُصَ". وما يَفعلُهُ هو أنَّهُ يُلغي كُلَّ شيء. فهو يقولُ وَحَسْب: أنا مُكْتَفٍ ولا أُبالي بالظُّروف. وهذا نُضجٌ رُوحيٌّ حَقيقيّ.

وكما قُلتُ في وقتٍ سابق، هُناكَ أشخاصٌ كثيرونَ جدًّا يَترُكونَ أنفُسَهُم يَصعَدونَ ويَهبِطونَ حَسَبَ ما تُمليهِ عليهِم مَشاعِرُ الرِّضا. ولكنَّ بولسَ كانَ يَجِدُ كُلَّ كِفايَتِهِ في العلاقةِ بالرَّبِّ، ويَجِدُ كُلَّ كِفايَتِهِ في رَجاءِ المُستقبَل، ويَجِدُ كُلَّ كِفايَتِهِ في كَونِهِ نافِعًا للهِ ولغاياتِ المَلكوت، ويَجِدُ كُلَّ كِفايَتِهِ في الخِدمة. وقد عَانَى كثيرًا جدًّا. والحقيقةُ هي أنَّهُ عاشَ الجُزءَ الأكبرَ مِن حَياتِهِ في اعتقادي، مُنذُ أن صارَ مُؤمِنًا، عاشَ الجُزءَ الأكبرَ مِن حَياتِهِ بموارِدَ مُتواضِعة. فقد جاعَ واحتاجَ أكثرَ مِمَّا عاشَ في بُحبوحَة، وأكثرَ مِمَّا كانَ مُمتلئًا ولديهِ وَفرَه. وأعتقدُ أنَّ الوَفرةَ كانتِ الاستِثناءَ وليستِ القاعدة.

ولكنَّ ما يَقولُهُ هو أنَّهُ لا يُبالي بذلك. فهذه ليستِ المسألةُ الرَّئيسيَّة. فإن حَصلتُ على الأشياءِ الَّتي أُريد، وإن وَفَّرَها اللهُ لي، هذا حَسَنٌ. ويجب عليَّ أن أكونَ وَكيلاً عليها وأن أشكُرَهُ عليها، وأن أفهَمَ كيفيَّةَ استخدامِها. وإن لم أحصُل عليها، لا بأسَ أيضًا. ولَعَلَّكُم تَذكرونَ في رسالتهِ الثَّانية إلى أهلِ كورِنثوس والأصحاحِ الثَّاني عشر أنَّ التَّجاربَ الَّتي سَمَحَ اللهُ بها طَوالَ حياتِهِ دَفَعَتْهُ في ذلكَ المَقطعِ مِن رسالة كورنثوس الثَّانية والأصحاح 12 إلى القولِ إنَّهُ كانَ راضيًا بالرَّغمِ مِنَ الاضطهادِ والكَرْبِ والإهاناتِ والضُّعفِ لأنَّ تلكَ الأشياءَ هي الَّتي جَعلتهُ مُتواضِعًا، وجَذبَتْهُ إلى اللهِ، وجَعلتهُ قَويًّا.

لِذا يا أحبَّائي، يُمكنُنا القولُ إنَّ القَناعة شيءٌ خَادِعٌ في هذا المُجتمعِ لأنَّ هذا المُجتمعَ يُريدُ أن يَجعلَكُم ضَحيَّة. وهذا المُجتمعُ يُريدُ أن يُركِّزَ على الحُقوقِ الشَّخصيَّةِ وأن يُمَجِّدَها. وهذا المُجتمعُ يُريدُ أن يُضفي صِبغَةً شَخصيَّةً وذاتيَّةً وفَرديَّةً على رُوحانيَّتِك ومَسيحيَّتِكَ لكي تَرغبَ في الحُصولِ على كُلِّ ما تُفَكِّر فيه. فهذا المُجتمعُ يُريدُ أن يَجعلَ يَسوعَ جِنِّيًّا. فيَكفي أن تَفْرُكَ القُمْقُمَ فيَخرُج ويُعطيكَ ما تَشاء. وهذا المُجتمعُ يُريدُ مِن خِلالِ الدِّعاياتِ أن يَجعلكَ غيرَ رَاضٍ عن أيِّ شيءٍ على الإطلاق.

وأنا أُقرُّ بأنَّ هُناكَ مَتاعِب ومَشَقَّات في الحياة، وهُناكَ صِراعات في الحياة؛ ولكنَّ كَثيرًا مِنها يَنبُعُ مِنَ الأنانيَّةِ الَّتي يُحَرِّضُ عليها هذا النَّهْج. فعندما تَكونُ أنانيًّا في زَواجِكَ، ستكونُ هُناكَ مَشاكِل. وعندما تَكونُ أنانيًّا في عائلتِك، ستكونُ هُناكَ مَشاكِل. وستكونُ هُناكَ مَشاكِل في الكنيسة، وستكونُ هُناكَ مَشاكِل في العلاقات، فسوفَ تَهْدِمُ حَياتَكَ إن كُنتَ تَعيشُ لأجلِ إرضاءِ نَفسِك. فهذا شيءٌ مُريع. وهذا شيءٌ مأساويّ. وعندما تَقولُ للنَّاسِ إنَّهُ يجب عليهم أن يَقبلوا يسوعَ لأنَّهُ سيَجعلُهم رَاضينَ عن أنفُسِهِم، ويُلَبِّي حاجاتِهم الشخصيَّة، تَكونُ قد وَضعتُهُم على طَريقٍ يُؤدِّي إلى كارثة.

فسوفَ يأتي أشخاصٌ مِنهُم ويَعرفونَ الرَّبَّ يسوعَ المسيحَ ثُمَّ يَصرِفونَ أغلبيَّةَ حَياتِهم المسيحيَّةِ وَهُم يَتساءلونَ عن سَبَبِ عدمِ نَجاحِ الأمرِ بالطَّريقةِ الَّتي وَعدتُهُم بها. فإن كُنتَ أنانيًّا، وإن كُنتَ ضَحيَّةً، وإن كُنتَ ستأخُذُ كُلَّ جُرْحٍ بطريقةٍ شَخصيَّة، وإن كُنتَ سَتتأذَّى في كُلِّ مَرَّةٍ يَقولُ لكَ أحدٌ فيها شيئًا يُسيءُ إليكَ أو شيئًا لا تُحِبُّهُ، ستَهدِمُ كُلَّ العَلاقاتِ، وتَهدِمُ حَياتَكَ الشخصيَّة.

أمَّا إن أدركتَ أنَّ ظُروفَكَ تَخضَعُ للعِنايةِ الإلهيَّةِ لتحقيقِ المقاصدِ الَّتي يُريدُها لَكَ، وإنَّهُ يجبُ عليكَ أن تَكتفي بالقليلِ وأن تَتَحَرَّرَ تَمامًا مِن ظُروفِكَ مِن جِهَةِ قُدرتِها على تَغييرِ قَناعتِك، تكونُ قد تَعلَّمتَ أن تكونَ قَنوعًا. وأليسَ مِنَ الرَّائعِ أن نَكونَ جميعًا مُكْتَفينَ جدًّا لأنَّ ذلكَ سيَؤولُ إلى تَسبيحٍ عَظيمٍ لله.

والآن، لِنَنتقل إلى المبدأ الرَّابع. وهذا مبدأٌ مُهمٌّ جدًّا وواضحٌ جدًّا. وهو يَتحدَّثُ عن هذه النُّقطةِ في العدد 13. ويُمكنُنا أن نُعَبِّرَ عن هذا المبدأ بالطَّريقة التَّالية: إن أردنا أن نكونَ مُكْتَفينَ، يجب علينا أن نَثِقَ بالعِنايةِ الإلهيَّةِ، وأن نَرضى بالقليل، وأن نَستقلَّ عنِ الظُّروفِ، وأن نَتَقوَّى بالقُوَّةِ الإلهيَّة... أن نَتَقوَّى بالقُوَّةِ الإلهيَّة. فهو يقولُ في العدد 13 إنَّهُ بالرَّغمِ مِن كُلِّ ظُروفي... ويجب عليكم أن تَتذكَّروا أنَّهُ كانَ مَسجونًا عندما كَتَبَ هذا، ومُقَيَّدًا إلى جُنديٍّ رُومانيٍّ في أسوأ ظُروف؛ ولكنَّهُ يَقولُ في العدد 13: "أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ الَّذِي يُقَوِّينِي". وأنا أُوْمِنُ بأنَّ ما أَدرَكَهُ بولسُ هنا هو أنَّهُ لا يوجد شيء يَعسُرُ على الرَّبّ.

لقد كانَ قَويًّا لأنَّهُ كانَ يَستمدُّ القُوَّةَ مِن مَصدرِ القُوَّة. وما أريدُ أن أقولَهُ لكُم في هذه النُّقطةِ تَحديدًا هو أنَّ القَناعةَ لن تكونَ مِن نَصيبِكَ إلاَّ إذا صِرتَ تَستمدُّ قُوَّتَكَ مِن مَصدرِ القوَّةِ ذاك. أمَّا إن سَمَحتَ للخطيَّةِ أوِ الإثمِ أن يَدخُلا حَياتَكَ فإنَّكَ ستبتدئُ في السُّلوكِ حَسَبَ الجسد، وستَفصِلُ نَفسكَ عنِ المَصدرِ الَّذي يَمُدُّكَ بالقوَّةِ وتَخسَرُ تلكَ القَناعة. ورُبَّما يَحرِمُكَ اللهُ مِنَ الأشياءِ الَّتي وَعَدَكَ بها إن كُنتَ مُؤمِنًا مُطيعًا فتَسقُطُ في ظُروفٍ مُريعةٍ تَفوقُ قُدرتَكَ على الاحتِمال. وقد يَفعلُ الرَّبُّ ذلكَ لكي يَقودَكَ إلى التَّوبة.

ورُبَّما كانَ هذا هو ما حَدَثَ في الرِّسالة الأولى إلى أهلِ كورنثوس والأصحاحِ الخامس حيثُ إنَّ رَجُلاً في الكنيسةِ كانَ يُخطئُ خَطيَّةً جَسيمةً إذْ إنَّهُ كانَ يُمارِسُ الفاحِشَةَ معَ زَوجةِ أبيه... معَ زَوجةِ أبيه. وهذا سِفاحُ قُرْبَى. وقد كانَ يَتباهَى بذلكَ ويَفتخِرُ بذلكَ. ولم تَكُنِ الكنيسةُ تَفعلُ أيَّ شيءٍ بهذا الخُصوص. والرَّسولُ بولسُ يَقول: "سَلِّموا هذَا الشَّخصَ لِلشَّيْطَانِ لِهَلاَكِ [ماذا؟] الجَسَد".

فسوفَ تأتي أوقاتٌ في حياةِ المُؤمنِ لا تُسَدُّ فيها الحاجاتُ الأساسيَّةُ للمُؤمِن. وبالنِّسبةِ إلى كنيسةِ كورِنثوس، اضطُرَّ الرَّسولُ بولُس إلى أن يَقول: "مِنْ أَجْلِ هذَا فِيكُمْ كَثِيرُونَ ضُعَفَاءُ وَمَرْضَى، وَكَثِيرُونَ يَرْقُدُونَ [بسببِ الخطايا الَّتي اقترفتُموها عندَ اشتِراكِكُم في مائدةِ الرَّبّ]".

إنَّ الرَّبَّ كَافٍ دائمًا للمؤمِنِ المُطيع، وكافٍ دائمًا للمؤمنِ الَّذي يَتَّكِلُ عليهِ ويَخضَعُ لَهُ. فهو كافٍ دائمًا. وهذا هو ما يَقولُهُ العدد 13: "أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ الَّذِي يُقَوِّينِي". فتلكَ القُوَّة مُتاحَة. لِذا فإنَّ الرَّسولَ بولسَ صَلَّى في تلكَ الصَّلاةِ الرَّائعة في رسالة أفسُس 3: 16 قائلاً: "لِكَيْ يُعْطِيَكُمْ بِحَسَبِ غِنَى مَجْدِهِ، أَنْ تَتَأَيَّدُوا بِالْقُوَّةِ بِرُوحِهِ فِي الإِنْسَانِ الْبَاطِن".

أمَّا الطَّريقةُ الَّتي تَختبرُ بها تلكَ القوَّة فهي مِن خِلالِ خُضوعِكَ للرُّوحِ في الإنسانِ الباطِن. وهذا يَعني أن تَحيا حَياةً مُنقادَةً للرُّوح، وأن تَسلُكَ بالرُّوح، وأن تَفعلَ ما جاءَ في رسالة غَلاطيَّة؛ أي أن تَمتلئَ بالرُّوح، وأن تَفعلَ ما جاءَ في رسالة أفسُس والأصحاحِ الخامِس؛ أي أن تَسمحَ للكلمة أن تَسكُنَ فيكَ بِغِنى لكي تَتجاوبَ معها بطاعة.

فالكِفايةُ أوِ القَناعةُ تأتي مِنَ الاتِّصالِ الوَثيقِ بمصدرِ القوَّة، وباللهِ الَّذي يَستطيعُ أن يُقَوِّيكَ على القيامِ بكُلِّ شيء: "أستطيعُ كُلَّ شَيء". وَهُوَ يَقولُ حَرفيًّا: أنا قادِرٌ وأملِكُ القُوَّة. فأنا أَملِكُ القُوَّةَ على القيامِ بكُلِّ الأشياء. وبالمُناسبة، إنَّ العبارة "كُلَّ شيء" في اللُّغةِ اليونانيَّة تأتي بصيغةٍ تَوكيديَّة بِمَعنى: "يُمكنُني القيامُ بِكُلِّ الأشياء"، أو: "يُمكنُني إنجازُ كُلِّ الأشياءِ" – لماذا؟ "بسببِ ذاكَ الَّذي يُقَوِّيني". فعندما تَتَّصِلُ بمَصدرِ القُوَّة، يُمكنُكَ أن تَجتازَ أيَّ شيء: أيَّة صُعوبة، وأيَّ حِرْمان، وأيَّ فَيْضٍ؛ وحَتَّى أن تَتجاوبَ معَ ذلكَ تَجاوُبًا سَليمًا.

وأنا أعتقد أنَّ العبارة "كُلَّ شيء"... لنتوقَّف قليلاً ونتأمَّل في هاتينِ الكلمتين قليلاً. فأنا أعتقدُ أنَّ العِبارة "كُلَّ شيء" الواردة بالصِّيغةِ التَّوكيديَّة تُشيرُ إلى الأمورِ المَذكورة في العَدَدين 11 و 12. وهي أمور تَختصُّ بوسائلِ الرَّاحةِ الماديَّةِ والظُّروفِ الحَياتيَّةِ، أوِ الظُّروفِ الأرضيَّة. وما يَقولُهُ هو: "يُمكنُني أن أعيشَ مِن دونِ الطَّعامِ الَّذي أرغبُ في الحُصولِ عليه. ويُمكنُني أن أعيشَ بمُستوىً مُتَواضِعٍ جدًّا. ويُمكنُني أن أعيشَ بالحَدِّ الأدنى مِنَ المَلابسِ، وبراحةٍ مَحدودة، وبِدفءٍ أقلّ مِمَّا أرغبُ فيه، وبحُريَّة أقلّ مِن تلكَ الَّتي أتمنَّاها، وبعناية شخصيَّة أقلّ مِن تلكَ الَّتي أرغبُ فيها. يُمكنُني أن أتَخَطَّى ذلك. ويُمكنُني أن أحتَمِلَ الألم، ويُمكنُني أن أحتَمِلَ التَّهديدات، ويُمكنُني أن أحتَمِلَ العِقابَ والخطرَ لأنِّي أَستَمِدُّ القوَّةَ مِن ذاكَ الَّذي يُقوِّيني".

فهو يَتحدَّثُ حَرفيًّا عن أنَّهُ يَملِكُ القُدرةَ على التَّغلُّبِ على أقسى الظُّروفِ البدنيَّة بسببِ مَراحِمِ الرَّبِّ العظيمةِ الَّتي أُسْبِغَتْ عليه. فهو ثَابِتٌ... إنَّهُ ثَابِتٌ في الكَرْمَة (كما جاءَ في إنجيل يوحنَّا 15: 5). وحياةُ الرَّبِّ تَسري فيه.

والكلمة "يُقَوِّيني" في العبارةُ الواردةُ في نهايةِ العدد 13: "فِي الْمَسِيحِ الَّذِي يُقَوِّينِي" هي تَرجمة للكلمة "إندوناماؤو" (endunamoo) المُشتقَّة مِنَ الكلمة "دوناميس" (dunamis) الَّتي اشتُقَّت مِنها الكلمة "داينامايت" (dynamite) ومَعناها: "مادَّة شَديدة الانفجار". وحَرْفُ الجَرِّ الَّذي يَسبِقُها يَزيدُ مِن قُوَّتِها. وحَرفُ الجَرَّ اليونانيّ "إين" (en) يَعني: "يُزَوِّد". لِذا فإنَّ الفِعلَ يَعني: "يُزَوِّد بالطَّاقة" أو "يَمُدُّ بالقوَّة". لِذا فإنَّ الرَّسول بولس يَقولُ ببساطة مُتناهِيَة: "في خِضَمِّ أيِّ مَوقِف، الرَّبُّ نَفسُهُ يَمُدُّني بالقوَّة".

ولطالَما رَغِبتُم في أن تَتمتَّعوا بعلاقةٍ كهذهِ بالرَّبِّ لكي تَكونوا مَشحونينَ بالقوَّة لاحتمالِ أيَّة صُعوبة. وفي الرِّسالة الثَّانية إلى تيموثاوس والأصحاحِ الرَّابع، هناكَ مَثَلٌ إيضاحيٌّ مُدهشٌ عن ذلكَ مِن حياةِ الرَّسول بولُس. وهذه هي، بِكُلِّ تأكيد، آخر رسالة كَتَبَها (كما تَعلمون). وقد كانَ في هذا الوقتِ في السِّجنِ للمَرَّةِ الأخيرة، وعلى وَشْكِ أن يُعدَم. وهو يَقولُ في العدد 16 مِن رسالة تيموثاوس الثَّانية: "فِي احْتِجَاجِي الأَوَّلِ لَمْ يَحْضُرْ أَحَدٌ مَعِي، بَلِ الْجَمِيعُ تَرَكُونِي. لاَ يُحْسَبْ عَلَيْهِمْ". وهذهِ صَلاة تُشبِهُ صَلاة استفانوس عندما صَلَّى إلى اللهِ وطَلبَ مِنهُ إلاَّ يُقِمْ خَطيَّةً للأشخاصِ الَّذينَ رَجموه. وهي تُشبِهُ صَلاةَ يسوعَ إلى الآبِ لكي يَغفِرَ لِمَن صَلَبوه.

فَهُنا يَطلُبُ بولسُ مِنَ الرَّبِّ أن يُسْبِغَ رَحْمَتَهُ على الأشخاصِ الَّذينَ تَركوهُ في المرَّةِ الأولى الَّتي تَمَّت مُحاكمَتُهُ الكُبرى فيها. ومِنَ الواضحِ أنَّهُ حُوكِمَ في رُوما. وعِوَضًا عن أن يأتي المسيحيُّونَ ويَقِفوا بجانبه، هَرَبوا جميعًا كما فَعَلَ التَّلاميذُ عندما تَمَّ اعتقالُ يَسوع. فقد تَركوهُ؛ ولكنَّهُ لا يُريدُ أن يُحْسَبَ ذلكَ عَليهم. فقد كانَ يُحِبُّهم كثيرًا جدًّا. ولكِن عندما وَجَدَ نَفسَهُ في ظُروفٍ صَعبةٍ جدًّا، لم يُدافِع أحدٌ عنه.

فكُلُّ الأشخاصِ الَّذين أَثَّرَ في حَياتِهم، وكُلُّ الأشخاصِ الَّذينَ قادَهُم إلى مَعرفةِ يسوعَ المسيح، وكُلُّ تلكَ الكنائسِ الَّتي زَرَعَها، وكُلُّ هؤلاءِ النَّاسِ هَربوا ولم يَبْقَ مِنْهُم أحد. ولا بُدَّ أنَّ تلكَ طريقة مُحزِنَة لإنهاءِ حَياةٍ أمينة كهذه. فهُناكَ فَرقٌ كبيرٌ بينَ أن تُضطَهَدَ مِن غيرِ المؤمنينَ وبينَ أن تُهْجَرَ مِنَ المُؤمنين. وهُناكَ فَرقٌ كبيرٌ بينَ أن تُهجَرَ مِن مُؤمِنينَ لا تَعرفُهم وبينَ أن تُهجَرَ مِن الأشخاصِ الَّذينَ سَكَبْتَ حَياتَكَ فيهِم.

لا تَتوقَّع الكثير جدًّا. فالنَّاسُ قادِرونَ جدًّا على تَخييبِ رَجاءِ أَشرَفِ الخُدَّامِ المَسيحيِّين. ولكِنَّهُ يَقولُ في العدد 17: "بالرَّغمِ مِن أنَّ أحدًا لم يَقِف إلى جانبي، فإنَّ الرَّبَّ وَقَفَ مَعِي وَقَوَّانِي". وأنا لا أدري يَقينًا مَعنى ذلك، ولا أدري يَقينًا ما الَّذي قَصَدَهُ بذلك. ولكِن مِنَ المؤكَّدِ أنَّهُ يُشيرُ إلى أنَّ الرَّبَّ زَوَّدَهُ بالقوَّةِ الَّتي تُمَكِّنُهُ مِنَ اجتيازِ مِحنةٍ جَسديَّةٍ صَعبةٍ جدًّا، ومِحنةٍ نَفسيَّةٍ وذِهنيَّةٍ صَعبة. ومِنَ المؤكَّدِ أنَّ هذا يَعني أنَّهُ حَصَلَ على قُوَّةٍ رُوحيَّةٍ عَظيمةٍ "لِكَيْ تُتَمَّ بِي الْكِرَازَةُ، وَيَسْمَعَ جَمِيعُ الأُمَمِ، فَأُنْقِذْتُ مِنْ فَمِ الأَسَد".

فالرَّبُّ أعطاهُ قُوَّةً في دِفاعِهِ لكي يَكرِزَ بالإنجيلِ، وأعطاهُ قُوَّةً لكي يَستخدِمَ عَقلَهُ وطاقَتَهُ لتوصيلِ الرِّسالةِ اللاَّزمةِ وتأجيلِ المَصيرِ المَحتومِ ولو إلى حِيْن. وحتَّى في النِّهاية عندما يَحينُ وقتُ الموتِ فإنَّهُ يَقول في العدد 18: "وَسَيُنْقِذُنِي الرَّبُّ مِنْ كُلِّ عَمَل رَدِيءٍ وَيُخَلِّصُنِي لِمَلَكُوتِهِ السَّمَاوِيِّ". فأسوأُ شيءٍ يُمكنُهم أن يَفعلوه بِهِ هو أن يُرسلوهُ إلى السَّماء. وقد كانَ سُكنَى الرُّوحِ هو قُوَّتُه. لِذا فقد جَعَلَهُ الرَّبُّ مُتواضِعًا لكي يَتعلَّمَ أن يَتَّكِل عليه.

ولَعَلَّكُم تَذكرونَ ما جاءَ في رسالة كورِنثوس الثانية والأصحاح 12. وَهُوَ، بالمُناسبة، نَصٌّ رائعٌ ينبغي لجميعِ المؤمنينَ أن يَعرِفوه. فقد أُصيبَ بولسُ بشَوكةٍ في الجَسَد أَثَّرَت كثيرًا جدًّا في حياتِه. وقد صَلَّى إلى الرَّبِّ كي يُزيلَها، ولكنَّ الربَّ قال: "لن أُزيلَها، ولكنِّي سأُعطيكَ نِعمةَ كافيةً لاحتِمالِها. فسوفَ أُسبِغُ نِعمتي عليكَ حَتَّى تَحتملَ الألم. والحقيقةُ هي أنَّ الألمَ جَيِّدٌ لأنَّهُ يَجعَلُكَ مُتواضِعًا". لِذا فإنَّهُ يَقول: "فَبِكُلِّ سُرُورٍ أَفْتَخِرُ بِالْحَرِيِّ فِي ضَعَفَاتِي، لِكَيْ تَحِلَّ عَلَيَّ قُوَّةُ الْمَسِيح". فكُلَّما زَادَ ضُعفُكَ، زَادَ اتِّكالُكَ على قُوَّةِ المسيح. وإن أردتَ أن تكونَ شخصًا قَنوعًا، يجب عليكَ أن تُدركَ حاجَتَكَ إلى الاتِّكالِ على مَصدرِ القُوَّة.

وقد كانَ بولُس كذلك. فهو يَقولُ في رسالة غلاطيَّة 2: 20: "مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا، بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ، فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي". فقد رأى المسيحَ حَيًّا ويَعملُ فيه: "لأَنَّ لِيَ الْحَيَاةَ هِيَ الْمَسِيحُ" (كما قالَ في وقتٍ سابقٍ لأهلِ فيلبِّي). وقد كانَ هذا هو شَغَفُه. لِذا فقد استطاعَ أن يَقولَ هُنا: "أنا لديَّ القُدرة وأستطيعُ أنَّ أفعلَ كُلَّ شيءٍ مِن خلالِ ذاكَ الَّذي يعملُ بانتظامٍ وأمانةٍ على إمدادي بطاقَتِه".

يا أحبَّائي، إذا كُنتُم تُعانونَ مِن عدمِ الرِّضا، قد يَرجِعُ السَّببُ في ذلكَ إلى أنَّكُم لا تِثِقونَ في العِنايةِ الإلهيَّة، ولا تَثِقونَ بأنَّ اللهَ يُديرُ كُلَّ شيءٍ لِمَجدِه. وقد يَرجِعُ السَّببُ في ذلكَ إلى أنَّكَ لستَ راضيًا بالقليلِ، وتَظُنُّ لسببٍ ما أنَّكَ تَستحقُّ ما هو أكثر مِن ذلك، وإلى أنَّكَ تَنظُرُ إلى نَفسِكَ بعقليَّةِ الضَّحيَّة. وقد يَرجِعُ السَّببُ في ذلكَ إلى أنَّكَ لا تَعيشُ باستقلالٍ عن ظُروفِكَ، بل إنَّكَ تَستَسلِمُ لها وتَسمَحُ لنفسكِ أن تَصعَدَ وتِهبِطَ مَعَ مَشاعِرِكَ وَفقًا لما يَحدُثُ في هذه الحياة. أو قد يَرجِعُ السَّببُ في ذلكَ إلى أنَّكَ تَسمَحُ بوجودِ خَطيَّةٍ في حَياتِك. ونَتيجة لتلكَ الخطيَّة، هُناكَ اتِّصالٌ ضَعيفٌ بينَكَ وبينَ مَصدرِ الطَّاقةِ الَّذي يَمُدُّكَ بالقوَّةَ في كُلِّ مَوقِف.

وقد يكونُ مِنَ الصَّعبِ عليكُم أن تَفهموا ذلك، ولكن يُمكنني أن أقولَ لكُم ما يَلي مِن خلالِ خِبرتي المَحدودةِ في الحياة. اسمَعوا ما سأقول: لقد تَعَلَّمتُ أن أتَقَبَّلَ بِفَرَحٍ كُلَّ مُعاناةٍ، وألمٍ، وسُوءِ تَمثيلٍ، وسُوءِ فَهْمٍ، واتِّهامٍ باطِلٍ. وقد وَصَلتُ إلى نُقطةٍ صارت فيها هذهِ الأشياءُ تَرسِمُ ابتسامَةً خَفيفةً في قلبي لأنِّي أفهمُ قَصدَها في تَكميلي عِوَضًا عن أن أُفَكِّرَ في الانتقامِ لنفسي. وهذا يَسري على كُلِّ الصُّعوباتِ أيًّا كانت. وقد تَشعُرُ أحيانًا أنَّكَ قد استَنفذتَ كُلَّ قُوَّتِك؛ ولكن مِنَ المُدهشِ كيفَ أنَّ اللهَ يَمُدُّكَ بالقوَّةِ الَّتي تَحتاجُ إليها لإتْمامِ العَملِ الَّذي دَعاكَ إليه.

وقد بَقِيَتْ نُقطةٌ أخيرة؛ وهي نُقطة أساسيَّة جدًّا ومُهمَّة جدًّا. فمِن دُونِها ستَستمرُّونَ في الوُقوعِ في المَشاكِل فيما يَختصُّ بقناعَتِكُم. فيجب عليكم أن تَتَّكِلوا على العِنايةِ الإلهيَّة، وأن تَرضُوا بالقليل، وأن تَستَقِلُّوا عن ظُروفِكُم، وأن تَتَقَوَّوْا بالقوَّةِ الإلهيَّة. وأخيرًا، يجب عليكم أن تَهتَمُّوا بمَصلحةِ الآخرين... أن تَهتمُّوا بمَصلحةِ الآخرين.

فالأشخاصُ الأنانيُّونَ لن يَشعُروا البَتَّة بالاكتفاء... البَتَّة! وهذا عُنصرٌ جَوهريٌّ مِن عَناصِرِ اكتِفاءِ النَّاس: عَدَم الأنانيَّة، أوِ الاهتِمامُ بما يَحدُثُ في حياةِ النَّاسِ أكثرَ مِنَ اهتمامِكُم بما يَحدُثُ في حَياتِكُم. أن تَهتَمُّوا بذلكَ أكثر بكثير. وأنا أَشعُرُ بحماسةٍ كبيرةٍ دائمًا عندما أتحدَّثُ إلى شخصٍ يَتألَّم ولكنَّهُ لا يُريدُ أن يَتحدَّثَ عن أيِّ شيءٍ سِوى السُّؤالِ عن أحوالي. فهذه عَلامَة قويَّة على عَمَلِ اللهِ في القلب، ودَليلٌ قَويٌّ على القَناعَة.

لِنَنظُر إلى هذا المبدأ في هذا المَقطعِ الرَّائعِ مِن رسالة فيلبِّي والأصحاحِ الرَّابعِ لأنَّهُ يَكشِفُ عنه في العدد 14: استَمِعوا إلى ما يَقول: "غَيْرَ أَنَّكُمْ فَعَلْتُمْ حَسَنًا إِذِ اشْتَرَكْتُمْ فِي ضِيقَتِي". فأنا مَسرورٌ حَقًّا بأنَّكُم أرسلتُم إليَّ تلكَ الهَدايا. وأنا مَسرورٌ لأنَّكُم شاركتُموني هذا الوقتَ العَصيبَ مِن حَياتي. "وَأَنْتُمْ أَيْضًا تَعْلَمُونَ أَيُّهَا الْفِيلِبِّيُّونَ أَنَّهُ فِي بَدَاءَةِ الإِنْجِيلِ، لَمَّا خَرَجْتُ مِنْ مَكِدُونِيَّةَ، لَمْ تُشَارِكْنِي كَنِيسَةٌ وَاحِدَةٌ فِي حِسَابِ الْعَطَاءِ وَالأَخْذِ إِلاَّ أَنْتُمْ وَحْدَكُمْ". فأنتُم الوحيدونَ الَّذينَ فَعلتُم ذلك.

"فَإِنَّكُمْ فِي تَسَالُونِيكِي أَيْضًا أَرْسَلْتُمْ إِلَيَّ مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ لِحَاجَتِي". والآن، اسمَعُوا ما يَقول: "لَيْسَ أَنِّي أَطْلُبُ الْعَطِيَّةَ". فما يُفْرِحُني هو ليسَ أنَّكُم أرسلتُم إليَّ هَديَّةً لأجلي. وكَم أُحِبُّ ذلك! فهو يَقول: "بَلْ أَطْلُبُ الثَّمَرَ الْمُتَكَاثِرَ لِحِسَابِكُمْ". فهو يَقول: "السَّببُ الَّذي يُفْرِحُني جدًّا في أنَّكُم أرسلتُم إليَّ هَديَّةً هو ما يَعنيهِ ذلكَ بالنِّسبةِ إليكُم".

وما الَّذي يَعنيهِ ذلكَ بالنِّسبةِ إليكُم؟ الجَوابُ بَسيطُ جدًّا: "إنَّهُ ثَمَرٌ مُتكاثِرٌ لِحسابِكُم". وما الَّذي يَعنيهِ ذلك؟ فإن كانوا فُقراءَ وجَمَعوا القَليلَ الَّذي لَديهم وأرسَلوهُ إلى بولُس، كيفَ سيكونُ ذلكَ العَطاءُ ثَمَرًا مُتكاثِرًا لِحسابِهم؟" الجوابُ بَسيطٌ جدًّا: لقد كانوا يَكنِزونَ لَهُم كَنزًا. أين؟ في السَّماء. وهذا سيَجعلُهم يَحصُلونَ على مُكافأةٍ أبديَّة. فهذا هو ما يَقولُهُ بولُس. فهو يَقول: "أنا ليست لديَّ أيَّة حَاجات. فأنا مُتَّصِلٌ بمصدرِ القوَّةِ، وإلهي يَسُدُّ حاجاتي. وأنا أستطيعُ أن أفعلَ أيَّ شيءٍ مِن خلالِ قُوَّتِه. ولكنِّي مَسرورٌ لأجلِ العَطِيَّة بسببِ ما تَعنيهِ بالنِّسبة إليكم". وفي العدد 18: "قَدِ اسْتَوْفَيْتُ كُلَّ شَيْءٍ وَاسْتَفْضَلْتُ. قَدِ امْتَلأْتُ".

وهذه كلماتٌ رائعةٌ جدًّا جدًّا تَصْدُرُ من سَجين. فهو في مِحنَةٍ وضِيقةٍ وكَرْب. وهو يَقولُ ذلكَ عندما يُشيرُ إلى ضيقَتِه في العدد 14. فهو يَستخدِمُ الكلمة "ثليبسيس" (thlipsis)، ومَعناها: "ضَغْط". وهو يَقول: "لقد كُنتم أوَّلَ أشخاصٍ يُساعِدونَني". فقد أَسَّسَ الكنيسةَ، كما ذَكَرنا، في سِفْرِ أعمالِ الرُّسُل والأصحاح 16، وكانَ أوَّلَ من أَدخلَ الإنجيلَ إلى أوروبَّا.

وقد كَرَزَ في فيلبِّي ثُمَّ انتقلَ إلى تسالونيكي وبيريَّة. وعندما غادَرَ تلكَ المَنطقة ليذهبَ إلى أَخائِيَة، كانَ مؤمنو فيلبِّي أُمناءَ في مُساعدتِهِ في تلك السَّنواتِ الباكِرةِ لكي يَبتدئَ الخِدمة، ثُمَّ إنَّ سَنواتٍ انقضَت على قيامِهم بأيِّ شيء. والآن، في الوقتِ المُناسب، أرسلوا إليهِ عَطِيَّةً لِسَدِّ حاجاتِه.

ولكنَّهُ يَقولُ لهم: "ليسَ هذا هو ما يُبارِكُني. فأنا لستُ بحاجة إلى المُساعدة. وأنا لن أُنفِقَ ذلكَ على نفسي. ليسَ هذا هو مَصدر فَرحي، بل إنَّ مَصدرَ فَرحي هو الثَّمَرُ المُتَكَاثِرُ لِحِسَابِكُم. فالكلمة اليونانيَّة المُستخدمَة هُنا تَعني في الحقيقة: "ثَمَر". فهي في الحقيقة كلمة تَعني: "ثَمَر". فما فَعلتُموهُ يُعطي ثَمرًا لحِسابِكُم.

فهذا يَعني أنَّكُم وَضَعْتُم كَنْزَكُم في السَّماءِ وأّنَّكُم ستَحصُلونَ بالمُقابِلِ على مُكافأةٍ أبديَّة. وهذا يُتَمِّمُ ما جاءَ في إنجيل لوقا 6: 38: "أُعْطوا تُعْطَوْا". فالفائدةُ تُحْسَبُ عندَ اللهِ. واللهُ سيُبارِكُكُم في الحياةِ والأبديَّة. فهو لم يَرغب في أن يُعطوا لِمَنفعتِهِ الشخصيَّة، بل أرادَ مِنهُم أن يُعطوا لأنَّ ذلكَ سيُؤدِّي إلى حُصولِهم على بَرَكة عَظيمة.

وهذا هو المَوقفُ القَلبيُّ للإنسانِ القَنوع. فكُلُّ ما يَراهُ هو خَيرُ الآخرين. وهو لا يَتمسَّكُ بالأشياءِ، بل يُعطيها بسُرعة، ويُعطيها بسهولة، ويُعطيها بسخاءٍ شديدٍ لأنَّهُ يَهتمُّ بالآخرينَ أكثر بكثير مِمَّا يَهتمُّ بنَفسِه. وحاجاتُهُ ليست هي المُهِمَّة. وحاجاتُهُ الآنِيَّة ليست هي المُهمَّة. وحاجاتُهُ المُستقبليَّةُ ليست هي المُهِمَّة.

بل إنَّ ما يُبالي بِهِ هو أن يُمَجَّدَ اللهُ، وأن تكونَ هُناكَ حياةٌ رُوحيَّة ونُمُوٌّ رُوحيّ. لِذا فإنَّهُ يَقولُ في العدد 18: "وَلكِنِّي قَدِ اسْتَوْفَيْتُ كُلَّ شَيْءٍ وَاسْتَفْضَلْتُ. قَدِ امْتَلأْتُ". فهو يَقولُ: "أنا لستُ بحاجة إلى أيِّ شيءٍ آخر "إِذْ قَبِلْتُ" – تابِعوا ما يَقول في العدد 18: "إذْ قَبِلْتُ مِنْ أَبَفْرُودِتُسَ [الَّذي زارَهُ مِن كَنيستِهم] الأَشْيَاءَ الَّتِي مِنْ عِنْدِكُمْ، نَسِيمَ رَائِحَةٍ طَيِّبَةٍ، ذَبِيحَةً مَقْبُولَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ".

"هذا هو سَبَبُ حُبِّي لعَطِيَّتِكُم: لا بسببِ ما تَعنيهِ لي، بل بسببِ ما تَعنيهِ لكُم لأنَّكم فَعلتُم ذلكَ لكي تُمَجِّدوا اللهَ". وهذه لُغَة تُشيرُ إلى العَطاءِ المُضَحِّي، بالمُناسبة؛ وليست لُغَةً مَاليَّة. فهي لُغَة تُشيرُ إلى العَطاءِ المُضَحِّي. فهو ينتقلُ مِنَ الحديثِ عنِ الثَّمرِ والمُصطلحاتِ الماليَّةِ المُستخدمةِ هُنا، وعنِ الثَّمرِ المُتكاثِرِ لحِسابِهم، ويَنتقلُ إلى الإشارةِ إلى الذَّبيحة. وهو يَرى العَطيَّةَ على حَقيقتِها. فهي في الحقيقة ذَبيحة مُقدَّمة إلى الله.

فهو تَصَرُّفٌ يُعَبِّرُ عن عِبادةٍ مُقَدَّسة. وهي ذَبيحة مُقَدَّمة مِن مُؤمني فيلبِّي هؤلاء. وهو يَعلمُ ذلكَ لأنَّها ذَبيحة ستَؤولُ إلى مُباركَتِهِم رُوحيًّا. وما أعنيه هو أنَّهُ يَعيشُ هُنا ويُوَضِّحُ ما قالَهُ في وقتٍ سابقٍ لمؤمني فيلبِّي. فإذا نَظرتُم إلى الأصحاحِ الثَّاني، وهو مَقطعٌ مألوفٌ، ستقرأونَ في العددِ الرَّابعِ: "لاَ تَنْظُرُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لِنَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لآخَرِينَ أَيْضًا".

فلن تَكونوا يَومًا قَنوعينَ إلاَّ حينَ تَفعلوا ذلك. ولن تَحصُلوا يَومًا على ما يَكفيكُم. ولن تَشعروا يَومًا بالرِّضا؛ بل ستَلهَثونَ دائمًا. هُناكَ تَعريفٌ مُحْزِنٌ للخطيَّة يقولُ إنَّها الرَّغبة في الحصولِ على الأشياءِ واستِهلاكِها لإشباعِ رَغباتِكَ الشخصيَّة. وقد كانَ بولسُ مُمْتَنًّا لا بسببِ ما عَنَتْهُ العَطِيَّة لَهُ، بل بسببِ ما عَنَتْهُ العَطِيَّة لَهُم. ولا يُمكنُني، يا أحبَّائي، أن أُنَبِّرَ على هذه النُّقطة بالقدرِ الكافي. فالأشخاصُ القَنوعونَ هُم أشخاصٌ يَهتمُّونَ بِسَدِّ حاجاتِ الآخرين. وهذه حقيقة أساسيَّة. وما لم تُبدي الاستعدادَ للقيامِ بذلك، وما لم تَكُن هذهِ أولويَّة لديكَ، ستَستمرُّ في خَوضِ تَجربةِ عدمِ الرِّضا.

وسوفَ تَشعُرُ أنَّكَ تأذَّيتَ إن أساءَ إليكَ الآخرونَ، أو أخذوا شيئًا مِنكَ، أو غَشُّوكَ، أو ما إلى ذلك. وإن لم تَحصُل على كُلِّ الأشياءِ الَّتي تَرغبُ في الحُصولِ عليها، أو إن لم تُكَدِّس كُلَّ الأشياءِ الَّتي تَرغبُ في تَكديسِها خَوفًا مِمَّا يُخَبِّئُهُ المُستقبل... إن كانَ هذا هو شُغلُكَ الشَّاغِلُ، ستُعاني بسببِ عدمِ القَناعة. أمَّا عندما تُدركُ أنَ أهَمَّ شَيءٍ هو الآخرينَ وسَدُّ حاجاتِهم، ستَتحرَّرُ مِن عدمِ القناعة.

وهو يُلَخِّص سَببَ فَرَحِه في العدد 19؛ وهي آية رائعة! وكم كنتُ أتمنَّى أن يكونَ لدينا الوقتُ للتَّأمُّلِ في هذه الآية. فهو يَقول: "فَيَمْلأُ إِلهِي كُلَّ احْتِيَاجِكُمْ بِحَسَبِ غِنَاهُ فِي الْمَجْدِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ". وكيفَ تَمَكَّنَ مِن قَولِ ذلك؟ كيفَ تَمَكَّنَ مِن أن يَقولَ لمُؤمِني كورِنثوس بثِقَة: "فَيَمْلأُ إِلهِي كُلَّ احْتِيَاجِكُمْ"؟ سوفَ يَملأُ اللهُ كُلَّ احتياجِكُم! كيفَ أَمْكَنَهُ أن يَقولَ ذلك؟ لقد تَمَكَّنَ مِن قولِ ذلك بسببِ وُجودٍ مَبدأ عامِل هو مَبدأ العَطاء الَّذي يَقولُ إنَّكَ إن زَرَعْتَ فإنَّكَ ماذا؟ تَحصُد. وإن أعطيتَ فإنَّهُ يُعطى لَكَ. فهذا مَبدأٌ رُوحيّ. ونَقرأُ في إنجيل لوقا 6: 38 ورسالة كورنثوس الثَّانية والأصحاحِ التَّاسعِ "إِنَّ مَنْ يَزْرَعُ بِالشُّحِّ فَبِالشُّحِّ أَيْضًا يَحْصُدُ، وَمَنْ يَزْرَعُ بِالْبَرَكَاتِ فَبِالْبَرَكَاتِ أَيْضًا يَحْصُدُ".

والنُّقطةُ الجوهريَّةُ هي إنَّ ما تَزرَعَهُ معَ اللهِ تَحصُدُهُ مِنه. وقد تَعَهَّدَ اللهَ ووَعَدَ بأنَّكَ لن تَتفوَّقَ عليهِ في العَطاء. ويُمكنكم أن تَرجِعوا إلى سِفْر الأمثال لتَجِدوا أنَّهُ يَقولُ إنَّكَ إن أَكْرَمْتَ الرَّبَّ مِنْ بَاكُورَاتِ غَلَّتِكَ، فإنَّ خَزائِنَكَ تَمْتَلِئُ شِبْعًا. هذا هو المَبدأ. وبولُس يَعرِفُ ذلكَ المبدأ. لِذا فقد فَرِحَ لأنَّهُ يَقولُ إنَّ عَطِيَّتَكُم الَّتي أرسَلتُموها إليَّ هي دَلالة واضحة على أنَّكُم طَبَّقتُم ذلكَ المبدأ. واللهُ سيُكافِئُكُم على عَطائِكُم مِن خلالِ إسباغِ عَطاياه عَليكُم: "فَيَمْلأُ إِلهِي كُلَّ احْتِيَاجِكُمْ".

وهناكَ شُروطٌ لذلك. فهذا شيءٌ لا يُمكِنُكُم وَحَسْب أن تُخرِجوهُ مِن سِياقِه. فإن أَكرمتَ الرَّبَّ حَقًّا مِن مَالِكَ، سَيَحرِصُ على سَدِّ كُلِّ حَاجَاتِك. هذه هي النُّقطةُ الجَوهريَّة. وذلكَ المَقطعُ الَّذي دَرسناهُ قبلَ بِضعة أشهُر (مِن رسالة كورنثوس الثَّانية والأصحاح التَّاسِع) مُهمٌّ جدًّا. فهو يَقولُ في العددِ السَّابِع... أو لِنقرأ ابتداءً مِنَ العددِ السَّادس ونُتابِع ونَرى ما يَقولُهُ كُلُّ السِّياق: "هذَا وَإِنَّ مَنْ يَزْرَعُ بِالشُّحِّ فَبِالشُّحِّ أَيْضًا يَحْصُدُ، وَمَنْ يَزْرَعُ بِالْبَرَكَاتِ فَبِالْبَرَكَاتِ أَيْضًا يَحْصُدُ. كُلُّ وَاحِدٍ كَمَا يَنْوِي بِقَلْبِهِ، لَيْسَ عَنْ حُزْنٍ أَوِ اضْطِرَارٍ. لأَنَّ الْمُعْطِيَ الْمَسْرُورَ يُحِبُّهُ اللهُ". إذًا، إن زَرعتَ فإنَّكَ ستَحصُد.

وكَم يَنبغي أن تَزرَع؟ الكَمَّ الَّذي تَشاء. فأنتَ تَنوي في قَلبِكَ وتَزرع، ولا تَفعلُ ذلكَ عن حُزْنٍ أوِ اضطِرارٍ أو بطريقةٍ ناموسيَّة؛ بل تَفعلُ ذلكَ بفرحٍ وتُعطي ما تُريد. وهُنا يأتي الجَوابُ: "وَاللهُ قَادِرٌ أَنْ يَزِيدَكُمْ كُلَّ نِعْمَةٍ، لِكَيْ تَكُونُوا وَلَكُمْ كُلُّ اكْتِفَاءٍ كُلَّ حِينٍ فِي كُلِّ شَيْءٍ، تَزْدَادُونَ فِي كُلِّ عَمَل صَالِحٍ". فاللهُ سيُسبِغُ نِعمتَهُ عليكم. والكتابُ المقدَّسُ يَقول: "جَرِّبُونِي... إِنْ كُنْتُ لاَ أَفْتَحُ لَكُمْ كُوَى السَّمَاوَاتِ، وَأَفِيضُ عَلَيْكُمْ بَرَكَةً حَتَّى لاَ تُوسَعَ".

"وَالَّذِي يُقَدِّمُ بِذَارًا لِلزَّارِعِ [كما يَقولُ في العددِ العاشِر] وَخُبْزًا لِلأَكْلِ، سَيُقَدِّمُ وَيُكَثِّرُ بِذَارَكُمْ وَيُنْمِي غَّلاَتِ بِرِّكُمْ. مُسْتَغْنِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ لِكُلِّ سَخَاءٍ". فأنتُم تُعطونَ وتَزرعونَ، واللهُ يُسبِغُ عليكُم نِعمَتَهُ. وهذا ما جَعَلَهُ قادرًا على القولِ إنَّ ما جاءَ في العدد 19 صَحيح. وهذا هو ما جَعَلَهُ يَقولُ لِمُؤمِني فيلبِّي: "فَيَمْلأُ إِلهِي كُلَّ احْتِيَاجِكُمْ بِحَسَبِ غِنَاهُ فِي الْمَجْدِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ" لأنَّكُم أخذتُم الخُطوةَ الأولى في ذلكَ المبدأ العامِل، وأعطيتُم بسخاء وتَضحية، وزَرعتُم؛ لِذا فإنَّكُم ستَحصُدون. هذا هو المبدأ. وعندما نَتعلَّمُ هذا المبدأَ فإنَّنا نَتبارَك.

وكما تَرَوْنَ، هذا هو ما جَعَلَ بولسَ مُتَشَجِّعًا جدًّا. فهو لم يَتشجَّع لأنَّهُ حَصَلَ على ما حَصَلَ عليه، بل لأنَّ مُؤمني فيلبِّي سيَحصُلونَ مِنَ اللهِ على البَركةِ الَّتي تَأتي بسببِ سَخائِهم. فليسَ مِنَ الصَّعبِ علينا أن نَفهمَ سَببَ رِضاه. أليسَ كذلك؟ فهو ليسَ بالأمرِ الصَّعبِ حَقًّا، بل إنَّهُ في الحقيقة أمرٌ واضحٌ جدًّا عندما تَقرأونَ النَّصَّ.

فنحنُ هُنا أمامَ رَجُلٍ كانَ يَثِقُ ثِقَةً مُطلَقةً في هَيمنةِ اللهِ التَّامَّة على كُلِّ شيء. وقد كانَ يَعلمُ أنَّ اللهَ يَعرِفُ أحوالَهُ، وأنَّ اللهَ يُهيمنٌ هَيمنةً مُطلقةً على كُلِّ مُشكلة مُنفردة في حياتِهِ، وأنَّهُ مَسؤولٌ عن كُلِّ حَدَثٍ يَحدُثُ في الكَون، وأنَّ كُلَّ تلكَ الأشياءِ تَحدُث معًا لكي يُتَمِّمَ اللهُ قَصدَهُ للرَّسولِ بولُس.

ثانيًا، لقد تَعَلَّمَ أن يَكتفي بالقليل جدًّا. ثالثًا، لقد عاشَ حياةً مُستقلَّةً عنِ الظُّروف. وقد كانت حَقًّا غير ماديَّة. رابعًا، لقد سَلَكَ في الرُّوح وبقيَ مُتَّصِلاً بمَصدرِ القوَّةِ الَّذي يَمُدُّهُ بالقوَّةِ في كُلِّ شيءٍ يَحدُثُ في الحياة. خامسًا، لقد كانَ مُنهمكًا تمامًا في كُلِّ ما هُوَ لِخَيرِ الآخرين.

فالإيمانُ والتَّواضُعُ والخُضوعُ والاتِّكالُ والإيثارُ هي الفضائلُ الَّتي تَجعلُ المؤمنَ قَنوعًا. وقد كانَ بولسُ كذلكَ حتَّى إنَّهُ يَختِمُ هذهِ الفِقرة القصيرة في وَسْطِ ظُروفِهِ القاسيةِ بوصفِهِ سَجينًا بالقول في العدد 20: "وَللهِ وَأَبِينَا الْمَجْدُ إِلَى دَهْرِ الدَّاهِرِينَ. آمِين". فهذا هو كُلُّ ما كانَ يُبالي بهِ: أن يَتَمَجَّدَ اللهُ.

القَناعة! إنَّها بَركة رائعة وتَمجيدٌ للربِّ يسوعَ المسيح. فإن كُنَّا نَقولُ إنَّنا نَنتمي إليه، يجب علينا أن نَرضَى بأيِّ شَيءٍ يَدعونا إلى احتِمالِه، وأن نَرضَى بأيِّ شيءٍ يُوَفِّرُهُ لنا. وبالنِّسبةِ إلى الأشخاصِ الَّذينَ بارَكَهُم الرَّبُّ كثيرًا فإنَّ التَّحدِّي الماثِلَ أمامَنا هُوَ تَحَدٍّ أعظَم كي نَكونَ مُكْتَفينَ ومُستعدِّينَ لِحِرمانِ أنفسِنا مِن ذلكَ مِن أجلِ الآخرين، ومِن أجلِ فَرحِ رُؤيةِ اللهِ يَسكُبُ بَرَكَتَهُ عليهم. فيا لَهُ مِنَ امتيازٍ عَظيم! ويُمكنُني أن أقولَ المَزيدَ، ولكنِّي سأكتفي بهذا. دَعونا نُصَلِّي:

يا أبانا، لقد تأمَّلنا مَرَّةً أخرى في الكتابِ المقدَّسِ وتَذَكَّرنا مَبادئَ جَوهريَّة جدًّا في حياتِنا. ولكنَّ هذا لا يَكفي، يا رَبّ... لا يَكفي البَتَّة. فالحقيقةُ هي أنَّنا نَتَعَدَّى تَعَدِّيًا خَطيرًا جدًّا على مَشيئتِكَ لنا حينَ نَعرِفُ هذا المبدأَ ولا نُمارِسُه. لِذا يا رَبّ، صَلاتي هي أن تَقودَنا بِروحِكَ في الأيَّامِ القادمة، وأن تُعَلِّمَنا الدُّروسَ الَّتي تَجعلُنا قَنوعين. عَلِّمنا كيفَ لا نُبالي بالظُّروفِ المُحيطةِ بنا، وكيفَ نَكتفي بالقيل، وكيفَ نَتَّكِلُ عليكَ في كُلِّ شيء.

عَلِّمنا كيفَ نَنسَى أنفسَنا ونُحبَّ الآخرينَ ونَهتمُّ بحصولِهم على البَرَكاتِ أكثرَ مِن حُصولِنا نحنُ عليها. عَلِّمنا ذلكَ النَّوعَ مِنَ الاتِّضاع. وعَلِّمنا أنَّنا بحاجة إلى السُّلوكِ في طَريقِ البِرِّ لكي نَكونَ مُتَّصِلينَ دائمًا بمصدرِ القوَّةِ الَّتي نَحتاجُ إليها في أَحْلَكِ الأوقات. ونحنُ نَعلمُ أنَّنا إن تَجاوَبنا تَجاوُبًا سليمًا فإنَّكَ ستَسُدُّ كُلَّ حاجاتِنا. وحينئذٍ، سنعملُ معَ الرَّسولِ بولُس وكثيرينَ على تَمجيدِك. لأجلِ هذا نُصَلِّي لأنَّكَ مُسْتَحِقٌّ. آمين!

This sermon series includes the following messages:

Please contact the publisher to obtain copies of this resource.

Publisher Information
Unleashing God’s Truth, One Verse at a Time
Since 1969

Welcome!

Enter your email address and we will send you instructions on how to reset your password.

Back to Log In

Unleashing God’s Truth, One Verse at a Time
Since 1969
Minimize
View Wishlist

Cart

Cart is empty.

Subject to Import Tax

Please be aware that these items are sent out from our office in the UK. Since the UK is now no longer a member of the EU, you may be charged an import tax on this item by the customs authorities in your country of residence, which is beyond our control.

Because we don’t want you to incur expenditure for which you are not prepared, could you please confirm whether you are willing to pay this charge, if necessary?

ECFA Accredited
Unleashing God’s Truth, One Verse at a Time
Since 1969
Back to Cart

Checkout as:

Not ? Log out

Log in to speed up the checkout process.

Unleashing God’s Truth, One Verse at a Time
Since 1969
Minimize