
إذا كُنْتم معنا في صَباحِ هذا اليوم، لا بدَّ أنَّكم تعلمون أنَّني سأبتدِئ في هذا المساء سِلْسِلةً جديدةً أَقومُ بتحضيرها منذ وقتٍ طويل؛ وهي سِلْسِلةٌ عن أصْلِ الكون. ولا أدري كم مِنَ الوقت ستَستغرق هذه السِلْسِلة تمامًا، ولكنِّي أعرف أنَّني سأصْرِفُ بعض الوقت على المُقَدِّمة قبل أن نَنطلق في دراسة سِفْر التَّكوين 1: 1 ودراسة قِصَّةِ الخَلْقِ آيةً تلو الأخرى، وعِبارةً تِلْوَ الأخرى، ونَسمَحُ للرَّبِّ أنْ يُبَيِّنَ أهميَّتَها لنا.
والآن، أوَدُّ أنْ ابتدِئ بتوضيح بِضْعِ نِقاطٍ إنْ سَمحتُم لي إذْ أوَدُّ أنْ أوضِّح بضعة أمور أرجو أنْ تُبْقوها في أذهانِكم. أوَّلاً، أنا لستُ عَالِمًا. فأنا لا أَدَّعي أنَّني عالمٌ. ويمكنُ لأيِّ مُعَلِّمٍ عَلَّمَني مادَّةَ العُلومِ في الماضي أنْ يَقِفَ ويُؤكِّدَ هذه الحقيقة. فأنا لاهُوتيٌّ، ومُعَلِّمٌ للكتابِ المُقدَّسِ، وفيلسوفٌ بدوامٍ جُزئيٍّ؛ ولكني لستُ عَالِمًا. لذلك، عندما يختصُّ الأمر بالأمور العلميَّة، ينبغي أنْ أُحِيْلَ الموضوعَ إلى شخصٍ آخر لِلْبَتِّ فيه لأنَّني لا أستطيعُ أنْ أَبِتَّ فيه. ولنْ تكون هذه الدِّراسة دراسة عِلْميَّة في الأساس. والحقيقة هي أنَّ هذا ليس هدفَنا البَتَّة. بل إنَّها ستكونُ دراسةً للكتابِ المُقدَّس، أيْ دراسةً لاهوتيَّةً لا تخلو مِنْ بعضِ الافتراضاتِ العقلانيَّة.
ثانيًّا، لنْ أُجيبَ عن كُلِّ سؤالٍ اللَّيلة. وأنا أَعلمُ أنَّ الأشياءَ التي لنْ أقولَها في هذا المساء ستَطْرَحُ أسئلةً. وسوف أُجيبُ عن هذه الأسئلةِ في أثناء دِراسَتِنا للنصِّ الكتابيّ. فسوف أُجيبُ عنْ أمور مِثل "نَظريَّة التَّطَوُّر الخَلْقِيّ" (theistic evolution). وسوف أُجيبُ عن أمور مِثل أنَّ "كُلَّ يوم مِنْ أيَّام الخَلْق يُمَثِّلُ حِقْبَةً زَمَنِيَّة" (day-age theory). وسوف أُجيب عن أمورٍ أُخرى مِثْلَ "الخَلْق المُتَدَرِّج" (progressive creationism) في أثناء دِراسَتَنا. ولكنَّنا لنْ نتمكَّن مِنْ مُعالجة كل هذه القضايا الليلة. وأنا أُوْمِن أنكم ستتمكَّنون مِنْ العثور على إجابات لأسئلتكم عن أصل الكون مِنْ خلال الكتاب المقدَّس نفسِهِ. فمسائِل مِثل "الخَلْق المُتَدَرِّج" و "التطوُّر الخَلْقِيّ" يُجيب عنها الكتاب المقدَّس نفسُهُ. لذلك سوف نَشُقُّ طريقنا عَبْرَ نَصِّ سِفْرِ التكوين ابتداءً بالأصحاح الأوَّل وانتقالاً إلى الأصحاح الثاني. وسوف نجد هناك إجابات رائعًة عنِ الأسئلةِ التي تُطْرَح بشأن أصْل الكون.
ولكنْ كنقطة انطلاق في هذه الليلة، أوَدُّ أنْ أتحدَّث عن فكرة مُحدَّدة، وأوَدُّ أنْ أُثبِّتَ الصورة في أذهانكُم فيما يختصُّ بهذا الموضوع. فهذا أمرٌ مُهِمٌّ لنا جميعًا، وهو مُهِمٌ جدًّا للطَّلَبَة. فإنْ كنتَ طالِبًا في المدرسة الإعداديَّة، أو طالِبًا في المدرسة الثانويَّة، أو طالبًا في الكُلِّيَّة أوِ الجامعة في أيِّ مدرسةٍ غير مسيحيَّة بِحَقّ، فإنَّك ستَتَعَلَّم أمورًا تُخالِف العقيدة المسيحيَّة فيما يَختصُّ بموضوع التطوُّر كما لو كانت تلك هي الحقيقة. وسوف تَجِدُ أنَّ ما سأقوله لك يُناقِض كلَّ ما تسمعه هناك. لذلك، سوف نُبَيِّن هذا التناقُض الليلة، ثُمَّ سننتقل إلى النَّصِّ الكتابيِّ ونَرى ما يقوله الكتاب المقدَّس نفسُهُ عن نظريَّة التطوُّر المُتداولة.
وهذا أيضًا مُهِمٌّ لنا جميعًا لأنَّ فَهْمَ أَصْلِ الكون كما وَرَد في سِفْر التكوين هو أمرٌ جوهريٌّ لِفهم بقيَّة الكتاب المقدَّس. فإنْ لم يكن الأصحاحان الأوَّل والثَّاني في سِفْر التَّكوين يُطْلِعانا على الحقيقة، ما الذي يَدْفعُنا إلى تَصديق أيِّ شيءٍ في الكتاب المقدَّس؟ فإنْ كان العهدُ الجديدُ يقول لنا إنَّ الخالِقَ هو "فادينا"، ولكنَّ اللهَ ليس الخالِق، قد يَعني هذا أنَّه ليسَ الفادي أيضًا. وإنْ كنَّا نَقرأ في رسالة بطرس الثانيَّة أنَّ الله نفسَهُ سيجعل في لَحظة كُلَّ عناصِرِ الكون المعروف لدينا تَنْحَلُّ، وأنَّ اللهَ سيُزيل في لحظة كُلَّ شيءٍ، فإنَّ هذا يُؤكِّد قُدْرتَهُ على الخَلْق. فاللهُ القادرُ على إزالةِ الكونِ بكلمةٍ قادرٌ أيضًا على خَلْقِهِ بالسُّرعةِ التي يَشاء.
لذا فإنَّ ما نُؤمن به بخصوص الخَلْق، وما نُؤمن به بخصوص سِفْر التكوين سيترك تأثيراتٍ فينا حتَّى نهاية الكتاب المقدَّس - وهي تأثيرات تَخْتصُّ بِصِدْقِ وصِحَّةِ الكتاب المقدَّس، وتأثيرات تَخْتصُّ بالإنجيل، وتأثيرات تَخْتصُّ بنهاية تاريخ الإنسان إذْ إنَّها بمُجملِها تتوقَّف على كيفيَّة فَهْمِنا لأصْل الكون بحسب ما جاء في سِفْر التكوين. لذلك فإنَّ مسألة أصْل الكوْن مُهمَّة جدًّا لكل تفكيرٍ بَشَرِيٍّ. وهي تَصيرُ مُهمَّة جدًّا لكيفيَّة سلوكِنا في الحياة كبَشَر. فمِنْ دون فَهْمٍ لأصل الكون (بل بالحَرِيِّ: مِنْ دون فَهْمٍ صحيحٍ لأصل الكون)، لا يُمكننا البتَّة أنْ نَفهمَ أنفُسَنا. ولا يمكننا البتَّة أنْ نَفهمَ البشريَّة مِنْ جِهةِ الغاية مِن وُجودِنا ومَصيرِنا. فإنْ لم نكُن نُؤمن بما يقولُهُ سِفْرُ التكوين عن أصل الكون، سنبقى ضائِعينَ مِنْ جهة الغاية مِن وجودِنا ومَصيرِنا. فإجابَتُنا عنِ السؤال المُختصِّ بهذا العالم والحياةِ فيه (سواءٌ أنَّ الكَوْنَ ظَهَرَ بِمَحْضِ الصُّدْفة مِنْ دُونِ سَبَب، أو أنَّهُ خُلِقَ مِنْ قِبَلِ اللهِ) هي مسألة لها تأثيرات شاملة على الحياةِ البشريَّةِ بأسْرِها.
وهناك مبدئيًّا خِياران لا ثالِثَ لَهُما: فإمَّا أنْ تُؤمِنَ بما يَقولُهُ سِفر التكوين، أو لا تؤمن به. وهذا لا يَعني أنَّنا نُفْرِطُ في تَبسيطِ الأمر. ولكنْ بصراحة فإنَّ الإيمانَ بإلهٍ خَارقٍ للطبيعة (أيْ أنَّه هو الذي خَلَقَ كُلَّ شيءٍ) هو التفسيرُ العقلانيُّ الوحيدُ للكون، وللحياة، ولِلغاية مِنَ الحياة، ولِمصيرِ الحياة. والمُعادلةُ الإلهيَّةُ التي يُقَدِّمُها لنا الكتابُ المقدَّسُ (بالمُفارقة معَ المُعادلةِ التي تقولُ إنَّ: [لا أحد × لا شيء = كُلّ شيء])، إنَّ هذه المُعادلة الإلهيَّة موجودة في سِفر التكوين 1: 1 إذْ نقرأ: "في البَدْء خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ والأرض". ولا أدري كيف يُمكنُ لأيِّ شخصٍ أنْ يُعَبِّرَ عن ذلك بطريقةٍ بسيطةٍ أو مباشرةٍ أكثر مِنْ هذه. لذلك، إِمَّا أنْ تُؤمِنَ بأنَّ اللهَ خَلَقَ السَّمواتِ والأرضَ، أو أنْ تُؤمِنَ أنَّه لم يَفعل ذلك. والحقيقة هي أنَّ هذَيْنِ الخِيارَيْنِ هُما الخِياران الوحيدان أمامَك. وإنْ كنتَ تُؤمِنُ بأنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ والأرض، فإنَّ هذا يَعني وجودَ سِجِلٍّ واحدٍ فقط عن تلك الخليقة - وهي المذكورة في الأصحاح الأُول مِنْ سِفر التكوين. ويجب عليكَ، حينئذٍ، أنْ تَقبلَ ما جاء في الأصحاح الأُول مِنْ سِفر التكوين بوصفِهِ التفسيرَ الوحيدَ الصحيحَ والدَّقيقَ لعمليَّةِ الخَلْقِ تلك.
لذلكَ أقولُ مَرَّةً أُخرى إنَّك أمَامَ خِيارَيْنِ لا ثَالِثَ لهما: إمَّا أنْ تُؤمِنَ بما جاء في سِفر التكوين أوْ لا تؤمن به. فإِمَّا أنْ تؤمنَ بأنَّ قِصَّةَ سِفر التكوين (القائلة إنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ والأرضِ) هي قصَّة صَحيحة، أو أنْ تُؤمِنَ أنَّها نَشَأت بِمَحْضِ الصُّدْفة. وإذا نَظرنا إلى ما جاء في سِفر التكوين 1: 1 نَظرةً سريعةً سنَجِدُ أنَّ الكلماتِ المذكورةَ في العدد الأُول مدهشة جدًّا. فهي تُعَبِّرُ عن فِكْرِ اللهِ العظيم. فاللهُ يقول في ذلك العدد الأول كُلَّ ما يمكن أنْ يُقال عن عمليَّةِ الخَلْق. وهو يقول ذلك بكلماتٍ قليلة جدًّا. فالجملةُ مُختصرةٌ وقصيرةٌ بطريقة تَفوق قدرَتَنا البشريَّة على الكِتابة.
وهناك عَالِمٌ مَشهورٌ جِدًّا اسمُهُ "هيربرت سبنسر" (Herbert Spencer) ماتَ في سنة 1903. وقد صارَ هذا العالِمُ بارزًا جدًّا في مَجالِهِ العِلْمِيِّ بسبب اكتشافٍ واحدٍ عظيم وإسهامٍ واحدٍ قامَ به. فقد اكتشفَ أنَّ الوجودَ كُلَّهُ، أنَّ الوجودَ كُلَّهُ، أيْ كُلَّ شيءٍ مَوجودٍ في الكَوْن، يُمكنُ احتواؤُهُ في خمسة عناصر: زَمان، وقُوَّة، وفِعْل، ومكان، ومادَّة. فقد قال "هيربرت سبنسر" إنَّ كُلَّ شيءٍ موجود إنما يوجد في واحدة مِنْ هذه الفئاتِ الخَمْس: الزَّمان، والقوَّة، والفِعْل، والمكان، والمادَّة. فلا وُجودَ لأيِّ شيءٍ خارج نِطاقِ هذه الفئات. وقد كان ذلك الاكتشافُ أَلْمَعِيًّا ولم يَظهر حتَّى القرن التَّاسِع عشر. والآن فَكِّروا في ذلك. فقد ذَكَرَ "سبنسر" تلك الفئات بهذا التَّرتيب: الزَّمان، والقوَّة، والفِعْل، والمكان، والمادَّة. وهذا تَرتيبٌ مَنطقيٌّ. وبعد أنْ عَرَفنا ذلك، استمعوا إلى ما جاءَ في سِفْر التكوين 1: 1 إذْ نقرأ: "فِي الْبَدْءِ" [وهذا هُوَ الزَّمان]، اللهُ [وهذِهِ هِيَ القُوَّة]، خَلَقَ [وهذا هُوَ الفِعْل] السَّمَاوَاتِ [وهذا هُوَ المَكان] وَالأَرْضَ" [وهذهِ هِيَ المَادَّة]. ففي الآية الأُولى في الكتاب المقدَّس، قالَ اللهُ بوضوح ما لم يُدْرِكه الإنسان إلَّا في القرن التاسع عشر. فكلُّ ما يمكن أنْ يُقال بخصوص كُلِّ شيءٍ موجود في الكون مَذكورٌ في تلك الآية الأُولى. والآن إمَّا أنْ تُصَدِّق ذلك أو لا تُصَدِّقْهُ. فإمَّا أنْ تُصَدِّق أنَّ تلك الآيةَ صحيحة وأنَّ اللهَ هو القُوَّة (أو أنْ تُصَدِّق أنَّ اللهَ ليس القُوَّة) التي خَلَقَتْ كُلَّ شيء. وحينئذٍ، فإنَّ كُلَّ ما يَتَبَقَّى لديكَ هو الصُّدْفة، أوِ العَشوائيَّة، أوِ الحَدَثُ العَرَضِيُّ.
وهذه ليست مسألة ثانويَّة. وقد كَتَبَ أحَدُ الأشخاصِ رِسالةً إلى رَئيسِ هيئة "حَافِظو العَهْد" (Promise Keepers) - وأنا لا أَقْصِدُ التَّشْهيرَ بِهِم، بل أَذْكُرُهُمْ فقط كَمَثَلٍ تَوضيحِيٍّ بِسَبَبِ الرَّدِّ الذي كَتَبوهُ حين سُئِلوا عن موقفهِم مِنْ موضوع الخَلْق. فقد رَدَّ مُساعِدُ رَئيسِ تلك الهيئة فقال (وأنا أقتبسُ كَلامَهُ): "أرجو أنْ تَعْلَم أنَّ خِدْمِة هيئة ’حَافِظو العَهْد‘ لا تأخذ موقفًا مُحَدَّدًا في مِثْلِ هذه المَسائِل. والحقيقة هي أنَّنا نحاولُ قدرَ اسْتِطاعَتِنا أنْ نَتَجَنَّبَ مِثلَ هذه المُجادلات. فجُهودُنا تَتركَّزُ حول توحيد النَّاس معًا حول العقائد المسيحيَّة القويمة المُهمَّة والتاريخيَّة كما هي مُبيَّنة في بيان الإيمان، أو تَتَركَّز على الأشياء التي تُوَّحِد جسد المسيح عِوَضًا عن التركيز على المسائل التي تُسَبِّب الانقسامات. وحيث إنَّ الكَنَائِس المختلفة والمؤمنين المختلفين يَعتنقون أراء عديدة بخصوص الخَلْق، فإنَّ هذا الموضوع هو واحدٌ مِنْ المواضيع التي نَرى أنَّها تَندرج تحت فئة العقائد الثانويَّة – عقائد ثانويَّة مِثْل المواهب الروحيَّة، والضَّمان الأبديّ، والاختطاف، إلخ. وباختصار، عندما نأتي إلى موضوعٍ مِثْلَ موضوع الخَلْق، فإنَّنا نُؤمِنُ بأنَّه ينبغي للمؤمنين المسيحيين أنْ يُظْهِروا نِعْمةً بَعضُهُم تُجَاهَ بَعْضٍ كما جَاء في الجُملةِ التي تقول: "في الأمور الجَوهريَّة: وَحْدَة؛ وفي الأمور غير الجوهريَّة: حُرِّيَّة؛ وفي كُلِّ شيء: مَحَبَّة". (نهاية الاقتباس).
والحقيقة هي أنَّ هذه كلمات غير لائقة البتَّة لأنَّها تَصِف الإيمان بقِصَّة الخَلْق إنَّهُ أمْرٌ ثانَوِيٌّ. أليس كذلك؟ فهي لا تَتَطَرَّق إلى مسألة أنَّك إنْ لم تُؤمن بسِفْر التكوين فإنَّك لا تُؤمن بالكتاب المُقدَّس. وأنا لا أُحاول أنْ أُشَوِّه صُورة تلك الهيئة، ولكنِّي أقول ببساطة إنَّ هذا هو الرأي السَّائد عند أغلبيَّة المسيحيِّين. فالجَدَلُ بشأن ما إذا كان العالمُ قد خُلِقَ مِنْ قِبَل اللهِ أو أنَّه نَشَأَ بِمَحْض الصُّدفة مِنْ دون سَبَب هو جَدَلٌ قائمٌ مُنذ وقتٍ طويل. فذلك الجَدَل قائمٌ منذ وقت "داروين". ولكنَّ هذا الجَدَل يَتلخَّصُ في الآتي: إمَّا أنْ تُؤمِنَ بالكتاب المُقدَّس أو لا تؤمن به. وإمَّا أنْ تُؤمِنَ بسِفْر التكوين أو لا تؤمن به. وإن لم تكن تؤمن بسِفْر التكوين، ما الذي تؤمن به إذَنْ؟ في أغلبيَّة الحالات، إنَّك تؤمن بالتَّطَوُّر الطَّبيعيّ (naturalistic evolution). وهناك أشخاصٌ يؤمنون بالتَّطَوُّر الخَلْقِيِّ ويقولون إنَّ اللهَ خَلَقَ كُلَّ شيءٍ، ولكنَّه تَرَكَ التَّطَوُّرَ يأخُذُ مَجراه. وَهُمْ يُنْكِرونَ أنَّ سِفْرَ التكوين صَحيحٌ في ما يقوله عن أنَّ اللهَ خَلَقَ العالمَ في سِتَّةِ أيَّام يتألَّفُ كُلٌّ منها مِنْ 24 ساعة. وبصورة أساسيَّة، فإنَّ أنْصارَ نظريَّة الخَلْق المُتَدَرِّج يقولونَ الشيءَ نَفْسَه - أيْ إنَّ الخَلْقَ لم يحدُث كما جاءَ في سِفر التكوين، بل إنَّه حَدَثَ على مَدى دُهور طويلة، وإنَّ اللهَ أَقْحَمَ نَفْسَهُ تَدريجيًّا في تلك العمليَّة وقام ببعض أعْمالِ الخَلْقِ إلى جانبِ عمليَّةِ التَّطَوُّرِ التي كانت تَجري أصلاً.
كذلك فإنَّ هاتَيْن النَّظريَّتَيْن (أيْ نظريَّة التَّطَوُّر الخَلْقِيّ، ونظريَّة الخَلْق المُتَدَرِّج) تُنْكران أيضًا النَّصَّ الصَّريحَ لسِفْر التكوين. لذا فإنَّني أقولُ مَرَّةً أُخرى: إمَّا أنْ تؤمنَ بسِفْر التكوين أو لا تؤمن به. وإنْ لم تكُن تؤمن به، قد تكون لديك بعض الخِيارات. فقد تكونُ مِنْ أنصار نظريَّة التطوُّر الخَلْقِيّ، أو قد تكون مِنْ أنصار نظريَّة التطوُّر الطبيعيّ. وفي وسط المسيحيِّين، هناك مَنْ يؤمنون بنظريَّة التطوُّر الخَلْقِيّ. ولكِنْ مِنْ بين الأشخاص غير المؤمنين في العالم، فإنَّهُمْ يُؤمنونَ بنظريَّة التَّطَوُّر الطبيعيّ. لذلك، لا يبقى لديهِم خِيارٌ آخر سوى أنْ يؤمنوا بالمُعادلة العجيبة التي تقول: ["لا أحد" × "لا شيء" = "كُلّ شيء"].
وقد قال "دوغلاس كيلي" (Douglas Kelly) الذي كَتَبَ عن هذا الموضوع وقَدَّمَ أراء رائعة: "لا شكَّ في أنَّ نظرة الكِتاب المقدَّس إلى الإنسان، بوصفه خليقة الله الذي خَلَقَهُ على صورته، تترُك أعظم تأثير في كرامة الإنسان، وفي حُرِّيَّته، وفي انتشار حقوق الفَرْد، وفي الأنظمة السِّياسيَّة، وفي تَطَوُّر الطِّبّ، وفي كُلِّ جانبٍ آخر مِنْ جوانب الثقافة". وهو يقول أيضًا: "وما أبعد ذلك عن وُجهة النظر الإنسانيَّة للإنسان بوصفه مُجرَّد كائنٍ ناشِئٍ عنِ التطوُّر وليس بوصفه مَخلوقًا على صورة الله لأنَّها نَظرة لا تؤمن بوجود إله. ومِثْلُ هذه النظريَّة هي التي جَعَلت الدُّوَل الماركسِيَّة الاستبداديَّة تَقتُل دُوْنَ تَرَدُّدٍ الملايين مِن مواطنيها بسبب افتراضِها بأنَّه لا يوجد إلَهٌ خُلِقَ هؤلاء المواطنين على صورته، وبأنَّه لا يوجد إلَهٌ يُعطي هؤلاء المواطنين الكَرامَةَ والحَقَّ في الوجود سِوى ما تَفْرِضُهُ الدَّولة". (نهاية الاقتباس).
وقد اسْتَفاضَ في بحث هذه النقطة الباحِثُ النَّمساويُّ "بارون إريك فون كونيلت-ليدن" (Baron Erik Von Kuehnelt-Leddihn) الذي لَعَلَّهُ كان واحدًا مِنْ أعظم عُلماء العصر في بحث موضوع الحُرِّيَّة والدِّكتاتوريَّة. وقد كَتَبَ كتابًا مُهِمًّا جدًّا بعنوان "إعادة تقييم اليَساريَّة: مِنْ دي ساد إلى ماركس إلى هيتلر و بول بوت" (Leftism Revisited: From De Sade and Marx to Hitler and Pol Pot) يُعالِج فيه هذه القضايا. وهو يُبَيِّن في هذا الكتاب أنَّه بِمَعْزِلٍ عنِ الإيمان بأنَّ البشرَ قد خُلِقوا على صورة اللهِ العظيم، فإنَّ كرامَةَ وحُرِّيَّةَ البَشَرِ المُسْتمدَّة مِنَ الإلهِ الخالقِ تختفي تمامًا". وهو يقولُ أيضًا: "بالنسبة إلى المَادِّيِّينَ الحَقيقيِّين، ليس هناك فَرْقٌ جوهريٌّ، [بل فقط تَطَوُّرٌ تدريجيٌّ] بين الإنسانِ والحَيَوانِ إذْ إنَّ الإنسانَ هو مُجرَّد حَشَرة ضَارَّة". (نهاية الاقتباس). وخُلاصة ما يقول هي: إنَّ القضيَّة الأساسيَّة هي ما إذا كان الإنسانُ مَخلوقًا على صورةِ اللهِ أَمْ أنَّهُ مُجَرَّد حَشَرة أخذتْ شكلَ إنسان. وهو مُحِقٌّ في ذلك. فنحن أمام خِيارين: فإمَّا أنَّنا قد نَشَأنا مِنْ شيءٍ حقيرٍ ولا يمكن أنْ نُفسِّر وجودنا إلَّا بالمعنى الماديِّ (بمعنى أنَّنا لا نتألَّف مِنْ أيِّ شيء سوى المادة)، أو أنَّنا خُلِقْنا مِنْ قِبَل الله على صورتِه وفقًا لنموذجٍ سَماويٍّ. والجَدَلُ ليس أَحْيائيًّا (أو بيولوجيًّا) فحسب. وهذا هو ما أُحاولُ أنْ أقولَهُ. فهو ليس أَحْيائِيًّا فقط، بل إنَّه جَدَلٌ أدَبِيٌّ ورُوحِيٌّ أيضًا. فيجب أنْ يَتطرَّقَ هذا الجَدَل إلى مسائل تَخْتصُّ بكرامة الإنسان وطبيعة الإنسان على صورة النَّموذجِ السماويِّ الذي هو صُورة الله. وهو يطرَح أسئلةً عن قضيَّة السِّيادة، أي: مَنْ هو صاحِبُ السِّيادة في الكون؟ ومَنْ هو صاحبُ السُّلْطان؟ وهو يسأل: هل هناك دَيَّانٌ للعالم؟ وهل هناك شريعة أدبيَّة للعالم كُلِّه؟ وهل هناك مُشَرِّع؟ وهل ينبغي للناس أنْ يعيشوا وَفْقًا لِمعيار الله؟ وهل سيكون هناك تَقييمٌ نهائيٌّ لحياة الرِّجالِ والنِّساء. وهل هناك دينونة أبديَّة؟
وكما تَرَوْن، فإنَّ هذه هي الأسئلة التي برَزَت نظريَّة التَّطَوُّر لِتَجَنُّبِها. فنظريَّة التَّطوُّر اُبْتِكِرت لِقَتْلِ إلَهِ الكتابِ المقدَّس - لا لأنَّ أنصار نظريَّة التطوُّر، وأنصار المَذهب المَادِّيِّ، وأنصار المَذْهَبِ الطَّبيعيِّ لم يُحِبُّوا اللهَ بوصفه خالِقًا، بل لأنَّهم لم يُريدوا أنْ يُنَفِّذَ اللهُ دَينونَتَهُ. فقد تَمَّ اختراعُ نظريَّة التطوُّر مِنْ أجْلِ قَتْلِ إلَهِ الكتابِ المقدَّسِ، ومِنْ أجل إلغاء فِكْرةِ وُجودِ مُشَرِّعٍ، ومِنْ أجل إلغاء حُرْمَةِ شَريعته - أيِ المِعْيار الذي يَحْكُمُ فِكْرَ الإنسانِ وسُلوكه. وقد تَمَّ اختراعُ نظريَّة التطوُّر للتَّمَلُّص مِنَ الأخلاقيَّةِ الشُموليَّةِ، والخَطيئةِ الشُّمُوليَّةِ، والمُسَاءَلَةِ الشُمُوليَّة. وقد تَمَّ اختراعُ نَظريَّة التطوُّر للتخلُّص مِنَ الدَّيَّانِ وتَرْكِ البشر أحرارًا للقيام بما يرغبون في القيام به دونَ شُعورٍ بالذنب، ودون عَواقِب.
وما أعنيه هو أنَّنا لو لَخَّصْنا هَذَيْنِ البَديلَيْن، لوجدنا أنَّ النظرة الماديَّة تقول إنَّ القوَّة المُطْلقة هي قوة غير شخصيَّة لأنَّها لا تعترف بوجود الله. أَمَّا النظرة المسيحيَّة فتقول أنَّ القوَّة المُطلقة هي شخصيَّة وغير محدودة إذْ إنَّها تَتمثَّلُ في اللهِ المُحِبّ. والنظرة الماديَّة تقول إنَّ الكونَ خُلِقَ بِمَحْض الصُدْفة مِنْ دون قَصْدٍ نهائيّ. أَمَّا النظرة المسيحيَّة فتقول إنَّ الكون خُلِقَ بمحبَّةٍ مِنْ قِبَلِ اللهِ لِقصْدٍ مُحَدَّد. والنظرة الماديَّة تقول إنَّ الإنسانَ هو نِتاجُ: (عامِل الزَّمَن + الصُّدْفة + المادَّة). ونتيجة لذلك، لا يوجد لأيِّ إنسانٍ قيمة أبديَّة أو كرامة أو مَغزى سوى ما يمكن استخلاصُهُ بِحُكْمِ تَجربته الشَّخصيَّة. أَمَّا النظرة المسيحيَّة فتقول إنَّ الإنسانَ خُلِقَ مِنْ قِبَلِ اللهِ على صورته، وإنَّه مَحبوبٌ مِنَ الله. وبسبب ذلك فإنَّ جميع البشر لهم قيمة أبديَّة وكرامة. وقيمتهم ليست مُستمدَّة مِنْ أنفُسِهِم، بل مِنْ مَصْدرٍ أَسْمَى مِنْ أنفُسِهِم - مِنَ اللهِ نفسِهِ.
والنظرة الماديَّة للأخلاق تقول إنَّ الأخلاقَ تُحَدَّد مِنْ قِبَل كُلِّ فَرْدٍ وَفْقًا لآرائه الشخصيَّة ومُيولِهِ الشخصيَّة. لذا فإنَّ الأخلاقَ هي شيءٌ نِسبيٌّ في نهايةِ المَطاف لأنَّ كُلَّ شخصٍ هو السُّلْطَة النِّهائيَّة لآرائه الشخصيَّة. أَمَّا النظرة المسيحيَّة فتقول إنَّ الأخلاقَ تُحَدَّد مِنْ قِبَلِ اللهِ، وهي ثابتة لأنَّها قائمة على شخصيَّةِ اللهِ القُدُّوسِ التي لا تتغيَّر.
والنظرة الماديَّة لا تؤمن بوجود حياة بعد الموْت إذْ إنَّها تقولُ إنَّ الموْتَ يَجْلِبُ فَناءً أبديًّا أوِ انقراضًا لكُلِّ فرد. أَمَّا النظرة المسيحيَّة للحياة بعد الموت فتقول إنَّه يوجد إمَّا حياة أبديَّة مع الله أو انفصالٌ أبديٌّ عنه - إمَّا أمجادٌ في السماءِ، أو رُعْبٌ في جَهَنَّم.
والآن اسمحوا لي، يا أحبَّائي، أنْ أقول لكم شيئًا. إنْ قَبولَكُم لأيٍّ مِنْ هاتين النَّظْرَتَيْن ليس أمرًا ثانويًّا، بل هو أمرٌ جوهريٌّ - لا فقط مِنْ جِهة العِلم، بل أيضًا مِنْ جِهة اللَّاهوت. فكيف يُعْقَل أنْ تَنظرَ المسيحيَّة إلى هذه الأمور كما لو كانت ثانويَّة؟ فهذا هو أساسُ كلِّ حَقّ. وقد قال "فرانسيس شيفر" (Francis Schaeffer)، وهو واحدٌ مِنَ المُدافعين عن المسيحيَّة، إنَّه لو كان يَمْلِكُ ساعةً واحدةً يُمكنه أنْ يَصْرِفَها مع شخصٍ على مَتْنِ طائرةٍ، أي مع شخص لم يعرف الرَّبَّ بعد، فإنَّه سيَصْرِف الدقائق الخمس والخمسين الأُولى في التحدُّثِ عن أنَّ الإنسانَ مَخلوقٌ على صورة الله، وإنَّه سيَصرِف الدَّقائق الخمس الأخيرة في تقديم إنجيل الخلاص الذي يَقدر أنْ يُعيدَ الإنسانَ إلى تلك الصورة الأصليَّة. فالمسيحيَّة لا تبتدئ بقبول يسوع المَسيح مُخلِّصًا، بل إنَّ المسيحيَّة تبتدئ مِنْ تكوين 1: 1. فقد خَلَقُ اللهُ السماواتِ والأرضَ لِقصْدٍ وغايةٍ حَدَّدَهُما هُوَ نَفْسُهُ. لذلك فإنَّ فَهْمَ عقيدةِ الخَلْق في سِفْر التكوين والإيمانَ بها أمرٌ جوهريٌّ. وأرجو أنْ تَسمعوني جيِّدًا: ينبغي أنْ يُؤخَذَ الكتابُ المقدَّسُ على مَحْمَلِ الجِدِّ عندما يَصِفُ العالمَ الحقيقيّ.
فالناس يقولون: "إنَّ سِفْرَ التَّكوين هو قِصَّة أُسطوريَّة، وخُرافيَّة، وخياليَّة، ورَمزيَّة، وتقليديَّة. وهو لا يتحدَّث حقًّا عن وقائع حقيقيَّة تَخْتصُّ بالعالم الحقيقيِّ". بَلَى إنَّه يتحدَّث عن ذلك. فكلمةُ اللهِ ينبغي أنْ تُؤخذَ على مَحْمَلِ الجِدِّ عندما تتحدَّثُ عن العالمِ الحقيقيِّ في أيِّ موضوعٍ وفي كُلِّ موضوع. فإنْ تَجَنَّبْنا أنْ نَتَطَرَّقَ إلى ما يقولُهُ الكتابُ المقدَّسُ عن خَلْقِ العالمِ الماديِّ، قد تَميلُ دِيانَتُنا إلى الانفصال عن العالم الحقيقيّ. وهناك مَيْلٌ لِوَضْعِ الكتابِ المقدَّسِ في فِئة الكُتُب التَّصَوُّفيَّةِ، ومَيْلٌ لِوَضْعِ المسيحيَّةِ في خِزانةٍ ذاتِ زُجاجٍ مُلَوَّنٍ (كما قال "دوغلاس كيلي" “Douglas Kelly”) لكي لا تُؤثِّرَ في العالمِ المؤلَّفِ مِنْ مَكانٍ وزمان.
لذلك، إذا ابتدأتم بِسِفْر التكوين وساوَمْتُمْ على الطبيعةِ الحَرفيَّةِ لذلك النَّصِّ، فإنَّكم سَتُنْشِئونَ نَصًّا صُوُفِيًّا للكتابِ المُقدَّسِ مِنْ صَفَحاتِهِ الأولى. وقد تَحدَّثَ اللَّاُهوتِيُّ الأسكُتْلنديُّ "جيمس ديني" (James Denney) عن هذه النقطة في أواخِر سنة 1890. وأنا أقتبس هنا كلماتِه إذْ قال: "إنَّ الفَصْلَ بين الأمور الدينيَّة والعلميَّة يَعني في النهاية الفَصْل بين المسائل الدِّينيَّة والمسائل الحقيقيَّة. وهذا يعني أنْ يَموتَ الدِّيْنُ بين البَشَر الحقيقيِّين". فلا يمكنكم أنْ تختاروا سِفْر التكوين، وأنْ تأخذوا الأصحاحَ الأوَّلَ مِنْه، وأنْ تقولوا إنَّ هذه قصَّة خياليَّة، وإنَّ هذه ليست تاريخًا حقيقيًّا، وإنَّ هذا ليس واقعًا، وإنَّ هذا لا يَعكسُ فَهْمًا حقيقيًّا للعالم الحقيقيِّ في مكانٍ حَقيقيٍّ وزمانٍ حقيقيٍّ - دون أنْ تَنْجُمَ عَنْ تَصَرُّفِكُم هذا عواقب وخيمة تَطَال بَقِيَّةَ رسالةِ الكتابِ المقدَّس. فعقيدةُ الخَلْقِ (كما هي مُبَيَّنة في سِفْر التكوين) جوهريَّة. فهي الموْضِعُ الذي يَبتدئ فيه اللهُ قِصَّته. ولا يمكنكم أنْ تُغيِّروا البدايةَ دون أنْ تُؤثِّروا في بدايةِ القصَّة ونِهايَتِها. وفي الكتاب المقدَّس، اللهُ هو الذي يَتكلَّم. وهو يَتكلَّم في تكوين 1: 1 ويقول إنَّه خَلَقَ السَّماواتِ والأرضَ. فهو الذي تَكَلَّمَ في تكوين 1: 1، وهو الذي يتكلَّم في كُلِّ الكتاب المقدَّس إلى نهايته.
وعندما تُساوِمونَ على ما جاءَ في تكوين 1 فإنَّكم تُساومون على كلمةِ اللهِ الحيِّ، وتأخُذونَ القصَّةَ الحقيقيَّةَ للخَلْقِ الحقيقيِّ في المكانِ الحقيقيِّ والزمانِ الحقيقيِّ وتقولونَ إنَّها ليست حقيقيَّة، وإنَّها ليست شَرْعِيَّة، وإنَّها ليست الحقَّ - وهذه إساءَةٌ خطيرة. وهي تَفْصِلُ الكتابَ المقدَّسَ عنِ الواقعِ، وتُقْصِي الدِّينَ (أيِ الدِّينَ الحقيقيَّ) عنِ الواقع. وهذه إساءَة كبيرة. لذلك فإنَّ نظريَّة التطوُّر تُحِبُّ أنْ تفعلوا ذلك. فهي تُحِبُّ أنْ تُجرِّدوا اللهَ مِنْ أُلوهيَّته، وتحِبُّ أنْ تُجرِّدوا الكتابَ المقدَّسَ مِنْ صِحَّتِه. فهي تُريدُ مِنْكُم أنْ ترفُضوا اللهَ بوصْفِهِ المُشَرِّعَ والديَّانَ والمُخَلِّص. وهي تريد أنْ تُدمِّرَ كَرامةَ الإنسانِ بوصْفِهِ مَخلوقًا على صورة الله. وهي تَصِل إلى حَدِّ السُّخْف. أليس كذلك؟ وبحسب نظريَّة التطوُّر، فإنَّ الإنسانَ أَفْضَل مِنَ الحيواناتِ مِنْ جهة الكَمِّ. وهذا يَعني أنَّه يَمْلِك بعض الصِّفاتِ التي لا تَمْلِكُها الحيوانات؛ ولكنَّه مِنْ جِهَةِ النَّوْعِ ليس أَفْضَلَ مِنها. فهو يَمْلِك عَقلاً أكبرَ مِنها مِنْ جِهَةِ الحَجْم، ولكنَّه مِنْ حيث النَّوْع ليس مخلوقًا على صورة الله. لذلك فإنَّها تَقولُ إنَّهُ لا يَجوزُ أخلاقيًّا أنْ يَنتهكَ الإنسانُ حُقوقَ الحيواناتِ الأخرى الَّذين هُمْ إخوَتُنا حَرفيًّا (مِنْ وُجْهةِ نَظَرِ نَظريَّة التطوُّر).
ونحن نَسمعُ هذا الهُراءَ طَوَال الوقتِ في زَمانِنا هذا. أليس كذلك؟ فَهُناك مُنَظَّمةٌ مَعروفةٌ تُدْعى "بيتا" (PETA) ومعناها: "دُعاة المُعاملة الأخلاقيَّة للحيوانات" (People for the Ethical Treatment of Animals). وقد صَرَّحَتْ مُديرَتُها الإقليميَّةُ "إنجريد نيوكيرك" (Ingrid Newkirk) بهذا التَّصريح الشَّهير إذْ قالت: "الفَأرُ هو خِنزيرٌ، وهو صَبِيٌّ" – "الفَأرُ هو خِنزيرٌ، وهو كَلْبٌ، وهو صَبِيٌّ". فلا يُوجد فَرْق! فكُلُّ الأشكالِ الأعلى للحياة (آخِذينَ بعين الاعتبار أنَّ الفأرَ هو أعلى شكلٍ مِنْ أشكالِ الحياةِ - في نظرِها)، ينبغي أنْ تُعامل بِمُساواة. وهناك مُنَظَّمة مُثيرة للسُّخرية تُسَمِّي نفسَها "كنيسةَ القتلِ الرَّحيم" (The Church of Euthanasia). وهي تؤمن بأنَّ حُقوقَ الحَيَواناتِ تَفوقُ حُقوقَ البَشَر. وقد قالَ مُمَثِّلٌ عن تلك المنظَّمة لجُمهورٍ مَحَلِّيٍّ في برنامجيٍ تلفزيونيٍّ (وأنا أَقتبِسُ كلامَهُ هُنا): "إنْ أَرَدنا أنْ نَقتُلَ بعضَ أجناسِ الحَيَواناتِ، لِنَقتُل أوَّلاً البَشَرَ لأنَّ البَشَرَ هُمْ أجناسٌ أَدْنى يَقومونَ بِدَوْرٍ أَقَلّ شَأنًا في التَّنَوُّعِ الكُلِّيِّ في الطبيعة" [نهاية الاقتباس].
ولا شَكَّ أنَّكم قرأتم عن ذلك. وقد قرأتُ ما تقولُهُ مجموعاتُ حِمايةِ الحَيَواناتِ عن أنَّ أَكْلَ اللُّحومِ جريمة. فالإنسانُ (في نَظَرِهِم) هو الجنسُ المُسْتَبِدُّ، وقَتْلُ الأبقارِ جريمة. وهناك شخصٌ قال إنَّ قَتْلَ الدَّجاجِ يُماثِلُ المذبحةَ الجماعيَّةَ التي اقْتَرَفَها النَّازِيُّونَ بِحَقِّ اليهود. وهذا النَّوعُ مِنَ الغَباوة يأتي بسبب أنَّ هؤلاءِ الناسَ يؤمنون حقًّا بأنَّ الإنسانَ هو ببساطة: الحَلْقَةُ الأخيرةُ في سِلْسِلةِ التَّطوُّر التي ابتدأت بِمَحْض الصُّدفة، وبأنَّهُ يَعيشُ بِلا قَصْد، وبأنَّهُ لا مَصيرَ لَهُ، وبأنَّه ليس مَخلوقًا على صورة الله. وهو لا يَمْلِكُ أيَّ كَرامَة مُختلفة عن أيِّ جِنْسٍ آخر في عمليَّة التطوُّر.
وهل تعلمون شيئًا؟ لو كانت نَظريَّة التَّطَوُّر صحيحة لما كان بمقدورِكُم أنْ تُجادِلوها. فنحن سنكونُ مُجَرَّد حَيَوانات، وسنكونُ قد نَشَأنا مِنْ أجناسٍ أُخرى وحسب. وقد تكونُ حُجَّتُهم صَحيحة. وجميع أولئكَ الذين يُدافعون عن حقوق الحَيَوانات (كَمَا كَتَبَ "مارفن لوبيناو" “Marvin Lubenow”)، والَّذين يُعَبِّرون عن أنْفُسِهِم عَلَنًا في هذا الموضوع، يؤمنون بنظريَّة التطوُّر. وبحسب نظريَّة التطوُّر فإنَّ الصُّدفة هي التي جعلت الإنسانَ يَحصُل على عَقْلٍ كبير. ولو لم تحدُث بعض الطَّفْرات في أجدادِنا، بل حَدَثَتْ في أجدادِ قُرود الشَّمبانزي، لَكُنَّا الآنَ حَيْثُ هُمْ (أيْ في حديقةِ الحَيَوانات) ولَكانت تلكَ القُرود مَكانَنا. لِذا، فإنَّه يَكتُب قائلاً: "أنا لا أَمْلِكُ أيَّ حَقٍّ أَخلاقيٍّ في استخدامِ تَفَوُّقي لأنَّني حَصلتُ على هذا التَّفَوُّقِ بِمَحْض الصُّدفة. وأنا لا أَمْلِكُ الحَقَّ في انتهاكِ حُقوق الحَيَواناتِ الأخرى التي لا ذَنْبَ لها في عَدَمِ تَطويرِ نفس الإمكانيَّات". ولكِن لو كان الإنسانُ (كَما قال) مُجرَّدَ حَيَوانٍ نَشَأَ عن صُدْفَةٍ حَدَثَتْ في الطبيعة، أو نَشَأَ عن طَفْراتٍ حَدَثَتْ صُدْفَةً، ما الغايَة مِنْ حياته؟ وأينَ كرامَتُه؟ وأين تَكْمُن قيمَتُه الحقيقيَّة؟ وما القصْدُ مِنْ وُجودِه؟ مِنَ الواضح أنَّه لا يمْلِك أيَّ شيء.
وما تَقولُهُ نَظريَّةُ التطوُّر في الأساس هو أنَّهُ على مَرِّ الزَّمان، وبِمَحْض الصُّدفة، فإنَّ المادَّة نَشَأت وَكَوَّنَت الكَوْنَ كُلَّهُ. وهُناكَ أمرٌ مُدهش وهو أنَّ "جاك مونو" (Jacques Monod)، الحائِز على جائزة نوبل، يقولُ في كِتابٍ له بعُنوان "المُصادَفَة والضَّروة" (Chance and Necessity): "الإنسانُ وحيدٌ في هذا الكونِ الفَسيح البَليد الَّذي نشأ منه بمحض الصُّدْفَة". والشَّخصُ الذي يَقولُ هذا الكلام هو عالمٌ أحْيائِيٌّ حائزٌ على جائزة نوبل! وهو يُؤمن بأنَّ الصُّدفةَ وحدَها هي مَصدر كُلِّ تجديد. والصُّدفة وحدها هي مصدر كُلِّ خَلْقٍ في العَالَمِ الأحْيائِيّ. وهو يقول: "إنَّ الصُّدفة المَحْضَة، وهي صُدفة حُرَّة تمامًا ولكنَّها عمياء، هي أساسُ التَّعقيد الهائل للتَّطَوُّر". لذا فإنَّ "مونو" يقول إنَّها الصُّدفة وحَسْب.
وقد كَتَبَ عالمُ التَّطوُّر الشَّهير "جي. دبليو. بارو" (J.W. Burrow) في مُقدِّمة لكتاب "أَصْل الأنواع" (The Origin of Species): "إنَّ الطبيعة، وفقًا لداروين، هي نِتاج الصُّدفة المَحْضَة والصِّراع الأعمى. والإنسان، الَّذي هو الكائن الوحيد الَّذي تَعَرَّض لطَفْرَة ذكاء فريدة، يُؤذي الحيوانات مِن أجل الحصول على غذائه. وفي نَظَر البعض فإنَّ الشُّعور بالخسارة كان أمرًا لا رُجوع فيه. فكأنَّ الحَبْلَ السُّرِّيَّ قد قُطِعَ فوَجَدَ البشرُ أنفُسَهم جُزءًا مِن كونٍ باردٍ وخالٍ مِنَ المشاعر. وخلافًا للطبيعة (كما فَهِمَها الإغريقُ، وعصرُ التَّنوير، والتَّقليدُ العقلانيُّ المسيحيُّ) فإنَّ الطَّبيعة عند أنصار الدَّارونيَّة لا تُفَسِّر سُلوك البشر ولا تُجيب عن مُعضلات البشر الأخلاقيَّة". [نهاية الاقتباس]. وما أعنيه هو أنَّ الإنسانَ قد انفصل عن أيِّ مَعنىً - أيًّا كان. فهو طَفْرَة وحيدة ذكيَّة نشأتْ صُدْفَةً. وهو بروتوبلازما يَنتظر أن يَصيرَ سَمادًا عُضويًّا. وهذه نَظرة بَعيدة كُلَّ البُعد عن القول بأنَّهُ مَخلوق على صورة الله. وهذه الفكرة المُستمدَّة مِن نظريَّة التَّطوُّر لا تَكتفي بتجريد الإنسانَ مِن كرامته ومَغزى حياته، بل إنَّها أكثر مِن مُجَرَّد فكرة غبيَّة، وأكثر مِن مُجرَّد فكرة غير عقلانيَّة، وأكثر مِن مُجَرَّد فكرة مُحْبِطَة، وأكثر مِن مُجرَّد فكرة مُهينَة، وأكثر حتَّى مِنْ مُجرَّد فكرة غير أخلاقيَّة. فهذه الفكرة النُّشوئيَّة هي فكرة مُميتة. وفي تاريخِنا، أيْ في تاريخِنا الحديث في الحضارة الغربيَّة، لم يوجد شخص أَظْهَرَ الصِّفةَ المُميتةَ لهذه الفكرة القائمة على نَظريَّة التَّطَوُّر أكثر مِن "أدولف هتلر"، ثُمَّ جاء بعده "جوزيف ستالين" وجميع أولئك الَّذين أَقْدَموا على المذابح الجماعيَّة وقَتلوا ملايين البشر، وارتكبوا مذابحَ جَماعيَّة. وقد كان الأساس الَّذي انطلقوا منه في نِظامهم العقائديِّ والفلسفيِّ هو: نَظريَّة التَّطَوُّر.
فعلى سبيل المثال، فقد رأى "هتلر" في نَّظريَّة التطوُّر التَّبريرَ العِلميَّ لنظرته الشَّخصيَّة بذات الطَّريقة الَّتي نظر فيها الدَّارونيُّون الاجتماعيُّون في القرن التاسع عشر إلى جرائمهم الفَظيعة. ولا شَكَّ أنَّ التَّطَوُّر كان وراء كُلِّ فكرة نازِيَّة مِنَ البداية إلى النهاية. ومع ذلك فإنَّ أناسًا قلائل كانوا مُدركين لهذه الحقيقة. وحتَّى إنَّ هتلر نَجَحَ في الحصول على ما يُشبه التَّأييد المسيحيّ مِن كنيسة الدَّولة في زمانِه. وقد كَتَبَ "إيريك فروم" (Erich Fromm): "إنَّ الدِّيانة الدَّارونيَّة الاجتماعيَّة تنتمي إلى أخطر العناصر في أفكار القرن الماضي. فهي تُساعد على انتشار الأنانيَّة القوميَّة والعِرقيَّة الهمجيَّة مِن خلال جَعْلِها عُرْفًا أخلاقيًّا. وإنْ كان هتلر يؤمن بأيِّ شيءٍ على الإطلاق، فإنَّه قوانين التَّطَوُّر الَّتي بَرَّرَتْ أعمالَهُ – ولا سِيَّما أعمالَهُ الوحشيَّة - وأَضْفَتْ عليها صِبْغَة شَرعيَّة". وكيف يحدث ذلك؟ إنَّ نَظريَّة التطوُّر تُعَلِّم أنَّ البَقاءَ لِمَنْ؟ للأصْلَح؟ وقد كان هتلر يَقوم بذلك الدَّور القائم على نَظريَّة التَّطَوُّر. فقد كان هو "الأصْلَح". لِذلك فقد قَتَلَ كُلَّ شخصٍ آخر بِحُجَّة نَظريَّة التطوُّر الَّتي تقول إنَّه كان يُسْهِم في استمرار العِرْق الأقوى، وإنه كان يُساعد في تطوير الجنس الأسمى. وهذا كُلُّه وَليد نَظريَّة التطوُّر. ففي النَّظريَّة البيولوجيَّة (أوِ الأحيائيَّة) لداروين، وَجَدَ هِتلر سلاحَهُ الأقوى ضِدَّ القِيَم التَّقليديَّة، وضِدَّ القيم الدينيَّة والمسيحيَّة. وقد اختار الثَّورة البيولوجيَّة (أوِ الأحيائيَّة) كأعظم سلاحٍ لديه ضِدَّ الدِّين التَّقليديّ. وقد شَجَبَ مِرارًا وتَكرارًا المسيحيَّة بسبب موقفها مِنَ التطوُّر. وقد كَرِهَ المسيحيَّة. والحقيقة هي أنَّه قال (وأنا أقتبسُ هنا ما قالَهُ هِتلر): "أنا أنظر إلى المسيحيَّة بوصفها أكبر وأخطر كِذبة وُجِدَتْ يومًا". وكِتاب "كِفاحي" (My Struggle) كَشَفَ في الأصل أنَّ نَظريَّة هِتلر القائمة على نَظريَّة التَّطوُّر كانت تَشُقُّ طريقَها سياسيًّا، وكانت المُبَرِّر لإهلاك الملايين مِمَّن كانوا يُهَدِّدون استمرار تَطَوُّر الجِنس الأسْمَى. وقد كَتَبَ هِتلر في كتاب "كِفاحي": "الَّذي يُريدُ أن يعيشَ ينبغي أنْ يُقاتل. والَّذي لا يريدُ أنْ يُقاتِل في هذا العالم، الَّذي يُعَدُ الصِّراعُ الأزليُّ فيه شَريعةَ الحَياة، لا يَستحقُّ أنْ يَعيش. وأنا لا أَرى سَبَبًا يَمنع الإنسان مِن أنْ يكونَ قاسيًا كالطَّبيعة. فالطَّبيعةُ لا تُحِبُّ الأوغادَ سِوى قليلاً". وقد قالَ أخيرًا: "كُلُّ مَنْ لا يَنتمي إلى العِرْقِ الأصيل في هذا العالم هو حُثَالَة". لذلك فقد أَعْدَمَ اليهودَ، وَأعْدَمَ السُّوْدَ، وأَعْدَمَ الغَجَرَ، وكانَ يَظُنُّ أنه يساعد الانتخابَ الطَّبيعيَّ ويُحَقِّق حُلْمَ التطوُّر البيولوجيِّ. وقد قال مُدير جبهة العُمَّال النَّازِيِّين إنَّ مَذابح هِتلر (وأنا أَقتبسُ كلامَهُ): "عَبَّرَتْ عَنْ أَسْمَى وأفضل ما في البشريَّة". كذلك، فإنَّ "جوليان هَكسلي" (Julian Huxley)، وهو عالمٌ أحيائِيٌّ يُؤمنُ بنظريَّة التطوُّر كَتَبَ "مَقالاتُ عَالِمٍ إنسانيٍّ" (Essays of a Humanist) في سنة 1964 قال فيها: "إنَّ التطوُّر هو أقوى وأشمل فكرة ظهرت يومًا على الأرض". وهل تَعلمونَ شيئًا؟ إنَّهُ مُحِقٌّ. فهي أكبر كِذبة شيطانيَّة مُنفردة عَرَفَها العالم لأنَّها تَرفض حقيقة الحاجة إلى خالِق. فهي تقول إنَّهُ بمقدور النَّاس أنْ يتجنَّبوا اللهَ – ولا سِيَّما إلهَ الكِتاب المقدَّس.
ولم يكن داروين يُبالي إنْ كنتَ تُريدُ أن تَعبُدَ إلهًا آخر. ولا أعتقد أنَّ هِتلر كان يُبالي إن كنتَ تريد أن تَعبد إلهًا آخر، ولكِنْ ليسَ إلَهَ الكتاب المقدَّس – أيْ ليسَ الإلَهَ الخَالِق. وعندما نَشَرَ داروين كِتابَهُ "أَصْل الأنواع"، تَمَّ رَفْضُهُ رَفْضًا كبيرًا مِنْ قِبَلِ جُمهور العُلماء في زمانه لأنَّهم كانوا يُؤمنون عامَّةً بوجودِ خالِقٍ للكون. فلم يكن هناك أيُّ تفسيرٍ عقلانيٍّ آخر: فأنتَ لديكَ نَتيجة. لذلك، لا بُدَّ مِنْ وجود سَبَب. وعندما كَتَبَ "أصْل الأنواع"، تَعَرَّضَ الكِتابُ إلى النَّقْدِ مُنذ لَحظة صُدوره. وقد كان العُلماءُ أَجْمَعين تقريبًا ضِدَّهُ. وفي السَّنوات اللَّاحقة، وَصَفَ "توماس هكسلي" (Thomas Huxley) الوضعَ في سنة 1860 قائلاً (وأنا أقتبسُ كلامَهُ): "لقد كانَ أنصار آراء السيِّد داروين قَلائِل جدًّا. ولا شَكَّ البَتَّة في أنَّهُ لو أنَّ المجلسَ العُموميّ لعُلماء الكنيسة عُقِدَ آنذاك لِتَمَّتْ إدانَتُنا بأغلبيَّة سَاحقة".
لقد كانت هذه النَّظريَّة مرفوضةً. وحتَّى إنَّ داروين واجَهُ صُعوباتٍ جَمَّةً فيها. فإنْ قرأتُم أيَّ شيءٍ لداروين، ستجدونَ أنه يُعَبِّرُ دائمًا وفي كُلِّ كِتاباتِهِ عن شُكوكِهِ الكثيرة جدًّا. فمثلاً، إنَّهُ يقول في الفصل السَّادس مِن كِتاب "أصْل الأنواع": "قَبل وقتٍ طويل مِن وُصول القارئ إلى هذا الجُزء مِن كِتابي، فإنَّ مجموعة كبيرة مِن الصُّعوبات ستكون قد واجَهَتْه. والبعضُ منها صعوبات في مُنتهى الجِدِّيَّة حَتَّى إنَّني إلى هذا اليوم أجِدُ صعوبةً في إمعان التَّفكير فيها مِن دون أن أشعر بالذُّهول". وهو يقول في الفصل الَّذي كَتَبَهُ عن الغَريزة: "إنَّ غرائز بسيطة [مِثل أنْ تَصنعَ النَّحلُ خَليَّةً] قد تكون كافية لِهَدْمِ نَظريَّتي بأسْرِها". وقد قالَ أيضًا: "أعترفُ بأنَّ التَّفكير بأنَّ العَيْنَ قد تَنشأ مِن خلال الانتقاء الطَّبيعيّ هو تفكيرٌ غريبٌ إلى أقصى درجة مُمكنة". وفي الفصل الَّذي كَتَبَهُ عن النَّقصِ الموجود في السِّجِلِّ الجيولوجِيّ، اشْتَكى مِنْ أنَّ انْعِدام وجود الحلقات المُتوسِّطة بالنِّسبة للأحافير في جميع السِّجلَّات الجيولوجيَّة رُبَّما كان (وأنا أقتبسُ كلامَهُ هُنا): "أكثرَ اعتراضٍ واضحٍ وخطيرٍ يُمْكِنُ الاعتدادُ بِهِ ضِدَّ نَظريَّتي". بعبارة أخرى، لقد كانَ، على أقلِّ تقديرٍ، صادقًا بما يَكفي للاعتراف بأنَّ ذلكَ ليسَ معقولاً البَتَّة.
وقد كَتَبَ داروين أنَّهُ كانَ مُدركًا تمامًا لجَهْلِهِ. ففي رسائله الشَّخصيَّة الَّتي كَتَبها عن هاجِسِهِ الشَّديد خَشْيَةَ أنْ "أكونَ قد ضَلَّلْتُ نَفسي، وأنْ أكونَ قد كَرَّسْتُ نَفْسي لِوَهْم". ولكِنَّ داروين كانَ عاقِدَ العَزْمِ على الهَرَبِ مِنَ الإلهِ الشَّخصيِّ بأيِّ ثمن. وقد قال: "أنا عاقِدُ العَزْمِ على الهرب مِنْ فِكرة وجود تَصميم وإله شَخْصِيّ بأيِّ ثمن". وبالقُربِ مِنْ نهاية حياته، كانَ يَخوضُ تلك الحرب مُحاولاً، كما هي عادَتُهُ دائمًا، أنْ يَهرب مِنَ الله، ولكنَّهُ لم يَنْجَح في ذلك يومًا. وأخيرًا، صارت حياتُهُ العاطفيَّة هَزيلةً تَحْتَ وَطْأة المعركة، واختفت المشاعر الدِّينيَّة واختفى معها كُلُّ شيء آخر، وصار العالم باردًا ومَيْتًا. وفي النِّهاية، مِنَ الواضح أنَّ داروين تَذَوَّقَ السُّمَّ الَّذي حَضَّرَهُ بنفسه. فقد حَرَمَ العالمَ مِنَ اللهِ ومِنْ كُلِّ مَعنى للحياة. لذا، فقد حَرَمَ نَفسَهُ مِنْ كُلِّ مَعنى للحياة.
وقد كَتَبَ "جيمس مور" (James Moore) سيرة حياة داروين بعنوان "حياةُ عَالِم تَطَوُّر مُعَذَّب" (The Life of a Tormented Evolutionist). وفي بعض رسائله، أشار داروين إلى نَظريَّته قائلًا إنَّها (وأنا أقتبس كلامَهُ): "إنْجيلُ الشَّيطان". وحتَّى بعد أنْ بَدا أنَّهُ قد كَسِبَ الرِّهان لأنَّهُ حَرَّرَ البشرَ مِنَ إلَهِ الكتابِ المقدَّس، فإنَّهُ حَرَّرَ النَّاسَ لكي يَستمتعوا بخطيَّتهم مِنْ دون التَّفكير بالدَّيَّان. وقد ابتدأ يَفوزُ في المعركة، ولكِنَّ عَذابَهُ النَّفسيَّ كانَ عَميقًا جدًّا. وقد استمرَّت أمْراضُهُ الجسديَّة. وهو لم يكن يَقتل الله حَرفيًّا في حياته هو فقط، بل كان يَقتُل الله في حياة كُلِّ شخصٍ آخر أيضًا. ويَقولُ واحدٌ مِنَ الكُتَّابِ: "لقد كانت حَياتُهُ مُحاولة واحدة طويلة للهروب مِنَ الكنيسة والهروب مِنَ الله. وهذا هو ما يُفَسِّر الكثيرَ مِنَ الأشياء المُتناقضة في حياتِه وشخصيَّته".
والآنْ، اسمحوا لي أنْ أُوَضِّحَ نُقطةً مُهمَّةً. إنَّ الأمرُ بِرُمَّتِه يَدورُ حول التَّخَلُّص مِنَ الله (أيْ مِن إلَهِ الكتاب المقدَّس)، والتَّخَلُّص مِنْ سُلطان الكِتاب المقدَّس بِكُلِّ ما يَحويه مِن تَطبيقاتٍ أخلاقيَّة. وحتَّى فيما يَختصُّ بالمسيحيِّينَ الَّذينَ يريدون أنْ يَرجِعوا إلى سفر التَّكوين، لا أعتقد أنَّهم يَمْلِكون الحُريَّة في أنْ يقولوا لنا إنَّ تكوين 1 لا يَعني ما يَقول. وما الَّذي يَدفعُنا إلى الانضمامِ إلى مُعَسْكَرِ الأشخاصِ الَّذينَ يُعارضونَ مُباشَرَةً سُلطانَ إلَهِ الكتاب المقدَّس؟ وقد أَرَدْتُ فقط أنْ أُبَيِّنَ هذه النُّقطة.
والآنْ، سوف أَصْرِفُ بِضْعَ دقائق في التَّحدُّثِ عنِ الجانبِ الفلسفيِّ قليلاً. وأعتقد أنَّكم ستجدونَ ذلكَ مُمتعًا. في نهاية المَطاف، فإنَّ أنصار نَظريَّة التَّطوُّر (أيْ أنصار نَظريَّة التَّطوُّر الطَّبيعيّ) وحتَّى أنصار نَظريَّة التَّطوُّر الخَلْقِيِّ يقولون إنَّ الأشياءَ تَحْدُث بِمَحْض الصُّدفة – بِمَحْض الصُّدفة. فنحنُ نَتخلَّص مِنْ إلَه الكتاب المقدَّس، ونَتخلَّص مِن إلَه سِفْر التَّكوين، ونَتخلَّص مِنَ الخالق، ثُمَّ تَبقى لدينا الصُّدْفَة. وهذه نُقطة مُدهشة للتَّفكير فيها. وقد قرأتُ هذه الكلمة "صُدْفَة" المَرَّة تلو الأخرى تلو الأخرى في أثناء قراءتي لمؤلَّفات هؤلاء الأشخاص. والخُرافَة الكامِنَة وراء عمليَّة التَّطَوُّر بأسرها (أيْ فِكرة التَّطوُّر غير الكِتابيَّة، وغير العقلانيَّة، وغير الأخلاقيَّة) – إنَّ الخُرافَة الكامِنَة وراءَها هي خُرافة الصُّدفة ... الصُّدفة. فالصُّدفة هي السَّبب. وفي العِلْم الحديث، تَكتسب الصُّدفة مَعنىً جديدًا. فَهُمْ لا يريدون أنْ يكونَ اللهُ هو السَّبب، بل لا بُدَّ مِنْ وجودِ سَبَبٍ آخر. لذلك فإنَّ السَّببَ هو الصُّدفة.
وعندما نَتحدَّثُ عنِ الكلمة "صُدْفَة" ونُعيدُها إلى أصْلِها، سَنَجِدُ أنَّ استخدامُ هذه الكلمة كانَ يَقْتَصِرُ في يومٍ ما على وَصْف الاحتماليَّة الرِّياضيَّة حيث كان بمقدورِنا أن نقول: "إذا ذَهَبْتُ إلى المكانِ الفُلانِيّ، هناك فُرصة في أن أرى فُلانَة لأنَّها قد تَأتي مِن هذا الطَّريق". أو: "إذا وَضَعْتُ هذا المال في هذا الحِساب، هناك فُرصة في حُصولِ الأمْرِ الفُلانِيِّ وفي كَسْبِ المبلغِ الفُلانِيِّ مِنَ المال". أو: "إذا انتقلتُ إلى المُجتمعِ الفُلانِيِّ وابتدأتُ في التَّعرُّف إلى بعض الأشخاص، هناك فُرصة في زِيادَة أرباحي التِّجاريَّة". فهناك احتماليَّة رِياضيَّة. فقد كان هذا هو معنى الكلمة "صُدْفَة" في الأصل. ثُمَّ إنَّ استخدامَها تَوَسَّعَ قليلاً وصارت تُطَبَّق على نِطاقٍ أوسع لتشمل حَدَثًا غير مُتوقَّع، أيْ أيَّ احتماليَّة مهما كانت بعيدة، أو أيَّة مُصادَفة مهما بَدَت مُستحيلة. ولكِن اسمحوا لي أنْ أخبركم شيئًا عن الصُّدفة. إنَّ الصُّدفة غير موجودة. فهي لا شيء. إنَّها لا شيء. فالكلمة "صُدفة" تُستخدم لوصف شيءٍ آخر. ولكنَّ الصُّدفة ليست شيئًا. فهي ليست قُوَّة. والفُرصة لا تقدر أنْ تَجعل أيَّ شيءٍ يحدث. فالصُّدفة لا وجودَ لها. بل هي فقط طريقة لتفسير شيءٍ آخر. فالفُرصة لا تَجعلك تَلتقي تلك الفَتاة. بل إنَّكَ كنتَ ذاهبًا إلى هناك في وقتٍ كانت هي فيه ذاهبة إلى هناك. لذلك فقد التقيتَها هُناك. فالفرصة ليس لها شأنٌ بذلك لأنَّ الفرصة غير موجودة. فهي لا شيء. ولكنَّهُمْ جَعَلوها في التَّطوُّر الحديث قُوَّةً فاعِلَة. فقد رَفَّعوها مِنْ "لا شيء" إلى "كُلِّ شيء". وقد صارت الفُرصة تَجعل الأشياء تَحدُث. ولكنَّ الفُرصة خُرافة تُستخدم لتدعيم فكرة النَّظرة المُشَوَّشة إلى الواقع.
وما أعنيه هو أنَّ هذا التَّفكيرَ يُواجِه مُعْضِلاتٍ كثيرة مِن وجهة النَّظر العقلانيَّة أو الفلسفيَّة بحيث يَتعذَّر عليك أنْ تَعرف نُقطة البداية. فكيف ستحصل على المادَّة الأوليَّة الَّتي ستَستخدمُها الصُّدفة؟ ومِنْ أين تأتي هذه المادَّة؟ فعليك أن تقول: "إنَّ الصُّدفة هي الَّتي جَعَلَتها تَظهر". وهل تَعلمونَ شيئًا؟ إنَّ هذا يبدو سخيفًا جدًّا. وبالرَّغم مِن ذلك فإنَّ هذه هي الفَلسفة الَّتي تَدعم نظريَّة التَّطوُّر. وهي غير مُتماسكة وغير عقلانيَّة البتَّة. ولكنَّ التَّبرير المُستخدم في نظريَّة التَّطوُّر الحَديثة هو "الصُّدفة". وهذا مُناقضٌ للمنطق. وكما تَرَوْن، هذا هو ما يَحدث عندما تَتَخَلُّونَ عن المنطق. فالمنطقُ يقول: "هُناكَ كَوْنٌ. ولا بُدَّ أنَّ هُناكَ خالقًا لهذا الكَوْن". فهل مِن شيءٍ آخر يَقولُهُ المنطق؟ "هُناكَ بِناية. إذَنْ، لا بُدَّ أنَّ شَخْصًا بَناها"، أو: "هُناكَ بيانو. إذَنْ، لا بُدَّ أنَّ شَخصًا صَنَعَهُ"، أو: "هناكَ كَوْنٌ، وهو مُعَقَّدٌ أكثر مِنَ البِناية، ومُعَقَّدٌ أكثر جِدًّا مِنَ البيانو. إذَنْ، لا بُدَّ أنَّ شخصًا ... شخصًا مُقتدرًا جدًّا جدًّا وذكيًّا جدًّا جدًّا خَلَقَهُ". ولكنَّكَ تقول: "لا، لا! بل إنَّ الصُّدْفَة هي الَّتي أَوْجَدَتْهُ". اسمعوني، يا أعِزَّائي: إنَّ هذا مُناقِضٌ للعَقْل. فهو ليسَ عقلانيَّة. فعندما تَتَخَلُّونَ عنِ المنطقِ ستَقَعونَ ضَحِيَّةَ الخُرافات.
وأَلَدُّ عَدُوَّيْنِ للأساطير ... أَلَدُّ عَدُوَّيْنِ للأساطير هُما: "المُعْطَيات التَّجريبيَّة" و "العَقْل الَّذي أعطانا اللهُ إيَّاه. لذلك، لكي تكون مِن أنصار نظريَّة التَّطوُّر وتؤمن بأنَّ الصُّدفة تَجعل الأشياء تَحدث، يجب أنْ تَفعل شيئَيْن: أنْ تَرفُضَ المُعْطَيات التَّجريبيَّة، وأنْ تَكونَ شخصًا غيرَ عَقلانِيّ. ولكِنْ إذا كنتَ تُحِبُّ خطيئتك كثيرًا فإنَّكَ ستفعل ذلك. وكما تَرَى، إذا كان بمقدورِكَ أنْ تَتجاهَل المُعْطَيات التَّجريبيَّة (أيْ الأدلَّة)، وأنْ تَتجاهلَ المَنطقَ الَّذي أعطاكَ اللهُ إيَّاه – وَهُما شيئان يُعْرَفُ عَنْهُما أنَّهُما جوهر العِلْم الصِّرْف – فإنْ كانَ بمقدورك أنْ تَتخلَّص مِنْ هذَيْن الشَّيئين فإنَّ الأساطير سَتُهَيْمِنْ بطريقة جُنونيَّة. وكما قالَ أحَدُ الكُتَّاب: "الصُّدفة هي الوِسَادة اللَّيِّنة الجديدة الَّتي يَتَّكِئ عليها العِلم". وقد قال "آرثر كويستلر" (Arthur Koestler): "طالَما أنَّ الصُّدفة هي الَّتي تَسود، فإنَّ اللهَ شَيءٌ في غير مَكانِهِ الصَّحيح". فإنْ كانت الصُّدفة هي الَّتي تَسود، لن يكون بمقدور الله أنْ يَسود. فالصُّدفة تُنَحِّي اللهَ جانِبًا. فوجودُ الصُّدفة في حَدِّ ذاتِه يَخْلَعُ اللهَ عَنْ عَرْشِ سِيادَتِه. فإذا كانت الصُّدفة (كَقُوَّة) موجودة حَتَّى في أضعف أشكالها، فإنَّ هذا كَفيلٌ بتجريدِ اللهِ مِنْ أُلوهِيَّتِه ... إنْ جَازَ القَوْل. فَكِلاهُما حَصْرِيٌّ بالتَّبادُل. فإمَّا أنْ يكونَ هُناكَ إلَهٌ خَلَقَ الكَوْن ويَسودُ بِسُلْطانٍ ويُهَيْمِنُ بسُلطان، أوْ أنَّهُ لا يوجد إله. فإنْ كانت الصُّدفة موجودة، فهي تُدَمِّر سِيادة الله. وإنْ لم يكن اللهُ هو صاحب السِّيادة، فإنَّهُ ليس الله. وإنْ لم يكن هو الله، فإنَّ اللهَ غير موجود، والصُّدفة هي الَّتي تَسود. وهذا أمْرٌ مُرْعِب.
ولكِنَّ الصُّدفة ليست قُوَّة. فالصُّدفة لا تقدر أنْ تَجعل أيَّ شيءٍ يَحْدُث. والصُّدفة لا شَيء. وهي غير موجودة. وهي لا تَمْلِك القُدرة على القيام بأيِّ شيء لأنَّها لا شيء. فهي عاجزة لأنَّها لا شيء. فهي لا تَمْلِك القُدرة لأنَّها غير موجودة. هل تَفهمونَ هذا؟ فحيثُ إنَّ الصُّدفة غير موجودة، لا يمكنها أنْ تَصنَعَ شيئًا. فهي لا تستطيع أنْ تكون سَبَب أيِّ عِلَّة. وبالرَّغمِ مِن ذلك فإنَّ أنصار نَظريَّة التَّطوُّر الحديثة يتحدَّثونَ عنِ الصُّدفة طَوالَ الوقت. وكلامُهُمْ هو مُجَرَّد هُراء. فهذا هُوَ أقدم وَأَمْنَع قانونٍ في العِلْمِ والمَنطقِ والعَقل. وأيُّ شخصٍ مِنكم اشترَكَ في جِدال أوْ دَرَسَ أيًّا مِنَ الفلاسفةِ العَقلانيِّينَ يَتذكَّر العبارة "لا شَيءَ يأتي مِنَ العَدَم". والصُّدفة هي لا شيء. فهذا مُنافٍ للعَقل.
لذلك، عندما يَنْسِبُ العُلماءُ قُوَّةً عظيمةً للصُّدفة – اسمَعوني جيِّدًا: فإنَّ هذا يَعني أنَّهم قد تَرَكوا نِطاقَ العَقْل، وَتَركوا مَجالَ العِلْم. فقد اتَّجَهُوا إلى إخراجِ الأرانِبِ مِنَ القُبَّعاتِ، وإلى الوَهْم. وحينئذٍ فإنَّ كُلَّ البحثِ العِلميِّ يَصيرُ فَوضَى وغَرابَة لأنَّهُ لا يَستطيعُ أنْ يُقَدِّم ما يَنْبَغي أنْ يُقَدِّمَهُ لأنَّهُمْ لن يَسْمَحوا لَهُ بالقيام بذلك. وفي وقتِنا الحاضِر، بالرَّغم مِنْ غَرابَةَ نَظريَّةَ التَّطوُّر فإنَّ أحدًا لا يَقِفُ في وَجْهِها، بل إنَّ كُلَّ الجامعاتِ والكُلِّيَّاتِ تُرَكِّز على هذه النَّظريَّة. ففي كُلِّ مَرَّة أُمْسِكُ فيها إحدى الصُّحُف أوِ المَجلَّاتِ فإنَّني أَجِدُ فيها مقالةً أخرى مِنْ تلكَ المقالاتِ الغريبة عنْ نَظريَّةِ التَّطوُّر. ولأنَّني أقرأُ مَجَلَّة "ناشيونال جيوغرافيك" تَحديدًا، فإنَّني أقرأُ عن هذا الموضوع أيضًا. وَهُمْ يُحاولونَ دائمًا أنْ يُقنِعونا بأنَّ الصُّدفة موجودة كَقُوَّة، وَأنَّ كُلَّ شيءٍ قد نَشَأَ بالصُّدفة. ومِنْ بينِ الأشخاصِ الَّذينَ نالوا جائزة نُوبل: "جورج والد" (George Wald)، وَهُوَ رَجُلٌ ذَكِيٌّ. وقد قال (وأنا أقتبسُ كلامَهُ): "يجب على المرءِ أنْ يَنتظر وحسب. فالزَّمَنُ نفسُهُ يُجري المُعجزات. فإذا أَتَحْنا لَهُ وقتًا كافيًا فإنَّ المُستحيلَ يَصيرُ مُمكِنًا، والمُمْكِنَ يَصيرُ مُحْتَمَلاً، والمُحْتَمَلَ مُؤكَّدًا في الحقيقة". [نِهاية الاقتباس]. ولكِنْ ما هَذا الكَلام؟ إنَّهُ كلامٌ مُتَناقِضٌ! وَهُوَ كلامٌ لا مَعنى لَهُ البَتَّة. فَالخَلْقُ الذَّاتِيُّ أمرٌ مَرفوضٌ بِغَضِّ النَّظَرِ عنِ الوقتِ المُتاح لأنَّ الصُّدفة غير موجودة. إنَّها غير موجودة.
فلا يوجد أيُّ تفسير لوجود الكَوْن مِن دون الله. وسوفَ أُقَدِّمُ لكم مَثَلاً توضيحيًّا عِلميًّا صغيرًا. هل سَمعتم يومًا بنظريَّة الكَمّ (quantum theory)؟ حسنًا! اسْمَحوا لي أنْ أُخبركم شيئًا عنها. فنظريَّةُ الكَمّ تعودُ إلى العالِم "ماكس بلانك" (Max Planck) الَّذي طَرَحَ في سنة 1900 نَظريَّةً تقول إنَّ الطَّاقة موجودة في شكل وحدات تُسَمَّى "كوانتا" (quanta). ولن أَتَعَمَّقَ في التَّفاصيلِ هُنا لأنَّني لا أعرفُ الكثيرَ عنها شخصيًّا. ولكِنَّ الطَّاقة يمكن أنْ تَتَجَزَّأ إلى وحداتٍ. وقد قال إنَّ هذه الوحدات الَّتي يمكن قياسها تُدعى "كوانتا". وفي سنة 1927، وَجَدَ "فيرنر هيزينبيرغ" (Werner Heisenberg)، وهو فيزيائيٌّ ألمانِيٌّ، أنَّهُ عندما يَصْطَدِمُ "فوتون" بالذَّرَّة فإنَّهُ يَجعل واحدًا مِنَ الإلكترونات يَنتقل إلى مَدارٍ أعلى. وعندما يَحدث ذلك، فإنَّ الإلكترون يَنتقل مِنَ المدار الأسفل إلى المدار الأعلى (استمعوا جيِّدًا): في الوقتِ نفسه دونَ أنْ يَعْبُرَ المسافةَ الفاصلةَ بينهما. وهذه هي القَفزة الكَمِّيَّة. وسوفَ أُعيدُ ذلك: عندما يَصْطَدِم فوتون بِذَرَّة فإنَّهُ يَجعل إلكترونًا يَتحرَّك إلى مَدارٍ أعلى (بَعْدَ أنْ كانَ في مَدارٍ أسفل) في نفس الوقت، ولكِنْ دونَ أنْ يَعْبُرَ المسافةَ الفاصلةَ بينهما. وما يَحدث هو أنَّ الإلكترون يتوقَّف عن الوجود في نُقطة مُعيَّنة، ويوجد في الوقت نفسه في النُّقطة الأخرى. وهذه هي القَفزة الكَمِّيَّة المشهورة. فهو يَختفي مِنَ الوجود ويَظهر إلى حَيِّز الوجود في الوقتِ نفسه. وطَوال الوقت ... طَوال الوقت، في كُلِّ الذَّرَّات، طَوال الوقت، وعلى مَرِّ التَّاريخِ المَخلوقِ فإنَّهُ مُستمرٌّ في القيام بذلك. بِمَحْضِ الصُّدفة؟ إنَّ مُجَرَّد القول إنَّ ذلكَ يُسَمَّى "القَفزة الكَمِّيَّة" لا يُفَسِّرُ ذلك. فهناكَ شيءٌ واحدٌ فقط يُفسِّر ذلك وهو قُدرة الله المستمرَّة على الخَلْق. فهو يَحفظُ الكونَ والخليقة مِن خلال الحفاظِ على استمرار كُلِّ أعمال الخَلْق اللَّازمة حَتَّى على مستوى الإلكترون في الذَّرَّة. فهو "حامِلُ كُلِّ الأشياءِ (كما جاءَ في عبرانيِّين 1) بِكَلِمَةِ قُدْرَتِه".
وسوفَ أُقَدِّمُ لكم فِكرةً خِتاميَّةً أُخرى هُنا. لا، بل سأحتفظ بها للمرَّة القادمة. سوفَ أحتفظ بها للمرَّة القادمة لأنَّني لا أريدُ أنْ أبتدئ بها ثُمَّ أتركُكم في مَكانٍ ما بين الأسفل والأعلى. وأنا أُدرك أنَّ بعضًا مِن هذه المعلومات تُتْعِبُ أذهانَكُم، ولكنَّ هذا جَيِّد ولا بأسَ به. وسوفَ نُتابِع هذا الموضوع مساءَ يوم الأحد القادِم. وسوف أُبَيِّن لكم كيف أنَّ لهذا الأمر مَفاعيلٌ في الإنجيل، ثُمَّ إنَّنا سننتقل إلى النَّصِّ الفِعليِّ الوارد في سِفْر التَّكوين. لِنَحْنِ رُؤوسَنا حَتَّى نُصَلِّي:
يا أبانا، إذْ نتأمَّلُ في هذه الأفكار، وإذْ نَسعى إلى استخدامِ أذهانِنا الَّتي وَهَبْتَها لنا، والتي تُبَرهنُ على أنَّنا قد خُلِقْنا على صُورة الله، فإنَّنا نُصَلِّي أنْ تُرشِدَنا لكي نَفهمَ تمامًا كيفَ ينبغي أنْ نُفَكِّر باستخدامِ الكتابِ المُقدَّسِ والمنطقِ اللَّذَيْنِ أعطيتَنا إيَّاهُما. احْمِنا مِنْ أيِّ فِكرة أوْ أيِّ مُعْتَقَد يُعارِضُ الكِتابَ المقدَّس ويُنكر تَعليمَهُ المُباشِر. واحْمِنا مِنْ أيِّ شيءٍ باطِلٍ أوْ مُنافٍ للعقل، ومِنْ أيِّ سوءِ استخدامٍ لعقولِنا الَّتي وَهَبْتَها لنا. وشَجِّعنا مِن خلال رُوحِكَ القُدُّوس على التَّفكيرِ كما ينبغي أنْ نُفَكِّر. ونحنُ نَحزن، يا رَبّ، لأنَّ الإنسانَ يَسعى إلى تَدميرِك، ويَسعى إلى إقْصاءِ فِكْرَةِ أنَّكَ الخالِق. فهذهِ الإساءَةُ إليكَ مأساويَّة. وهي أمْرٌ يُخْزي الأشخاصَ الَّذينَ يفعلونَ ذلك. فهو أَمْرٌ مأساويٌّ ولَهُ عواقب أبديَّة. ونحنُ نَحزَن على ضَياعِ أولئكَ الَّذينَ يؤمنونَ بنظريَّة التَّطَوُّر. ونحنُ نَحزَن على العَبَثِيَّة، وعلى فَراغِ الحياةِ الَّتي يَعيشُها أولئكَ الَّذينَ يُريدونَ أنْ يَعيشوا بأيِّ طريقةٍ يَشاءون مِنْ دُوْنِ أنْ يَشعروا بالذَّنب، ومِن دون مسؤوليَّة، ومِن دونِ مُساءَلَة أمامَ الدَّيَّان، ومِن دونِ الالتزامِ بالمِعيارِ الموضوعِ لأجلهم. ونحنُ نَحزَن، يا رَبّ، لأنَّ عواقبَ مِثل هذه الحياة، وعواقبَ مِثلِ هذه الخطيَّة هي الدَّينونة الأبديَّة. ونحن لا نريد أنْ تكونَ لنا أيُّ صِلَة بهؤلاءِ الَّذينَ يُنكرونَ الكلمة، ولا أنْ يكونَ لنا أيُّ صِلَة بأولئكَ الَّذينَ يُساومونَ على الكِتابِ المقدَّس. بل نُريدُ أنْ نَأخُذَ كلمتَكَ كَما أعطيتَنا إيَّاها، وأنْ نُؤمِنَ بأنَّ ما قُلتَهُ هو ما قَصَدْتَ أنْ تَقولَهُ تمامًا. لذلك، أَرْشِدْنا، يا أبانا، في أثناءِ تأمُّلنا في هذا الأمور لكي يكونَ لدينا أساسٌ قويٌّ وراسِخٌ في كلمتك، ولكي نَعْرِفَكَ بِوَصْفِكَ خَالِقَنا العَظيمَ وفادينا أيضًا. ونحنُ نَشكُرُكَ على هذه الفُرصة الَّتي أَتَحْتَها لنا لكي نَعرفَكَ على نَحْوٍ أفضل بوصفِكَ خَالِقَنا، ولكي نَعْبُدَكَ كما يَليقُ أنْ تُعْبَد. نُصَلِّي باسْمِ المسيح. آمين.

This article is also available and sold as a booklet.