
نُتابع سِلْسِلَتَنا في هذا المساء عن موضوع الأُصُول: الخَلْقْ أَمِ التَّطوُّر. وأنا أَعلمُ أنَّ هناك أشخاصًا جُدُدًا معنا في هذا المساء، وأنَّ البعض لم يَسمعوا الرسائل السابقة. لذلك، اسمحوا لي أنْ أُقَدِّمَ مُلَخَّصًا قصيرًا. وسوف أُحاول أنْ أجعله قصيرًا ومُقتضَبًا لأنَّ لديَّ الكثيرَ لأقوله. وأنا مسرور لأنَّ لديَّ ساعة كاملة لِقول ذلك اللَّيلة. وأعتقد أنَّني سأبتدئ في عَرْضِ المُقَدِّمة المنطقيَّة التي سأنطلق منها في كُلِّ ما سأقول وهي: أنَّ نظريَّة التَّطوُّر مُستحيلة. وإذا كنتم تَذكرون ذلك، ستَعلمون أنَّ الخِيارَ الوحيدَ الَّذي تَبَقَّى لدينا هُوَ الخَلْق. فالتَّطوُّر لا يمكن أنْ يحدث.
وقد استعرضنا سَبَبَ ذلك في العِظَتَيْنِ السَّابِقَتَيْن. فقد ناقشنا استحالةَ التَّطوُّر، ولا سيَّما مِنْ زاوية نَظريَّة البَيانات. وقد قُلتُ لكم إنَّ كُلَّ كائنٍ حَيٍّ لديه شَفْرَة حَمْض نَوَوِيّ؟ فكُلُّ كائنٍ حَيٍّ لديه شَفْرَةُ وِراثيَّة تَحوي المعلومات الدقيقة التي تجعلُهُ يَتناسَل، ويَبقى على قَيْد الحياة، ويُصْلِح نَفْسَهُ. فتلك الشَّفْرَة لا تحوي أَقَلَّ مِنَ البياناتِ الضروريَّة، ولا أكثر مِنَ البيانات الضروريَّة. والجينات فيِّ كُلِّ كائنٍ حَيٍّ تَحْصُرُ ذلك الكائن في نَوْعِهِ. فهي لا يمكن أنْ تكون أقَلّ مِنْ ذلك، ولا يمكن أنْ تكون أكثر مِنْ ذلك. فلا توجد بيانات وراثيَّة لتحويل ذلك الكائن الحيِّ إلى كائنٍ آخر. والكتاب المقدَّس يتحدَّث عن أنواعٍ مِنَ الكائنات الحيَّة قادرة أنْ تتكاثر بحسب جِنْسِها. وهذا يعني الشيء نَفْسَه بصورة أساسيَّة. فقد تكون هناك بعض الاختلافات في إطار الجنس الواحد، ولكنَّ الأمر لا يَتخَطَّى ذلك.
ويحاول العِلْمُ أنْ يقول لنا إنَّ التطوُّر هو عمليَّة تُدعى "طَفْرَة"، وإنَّ الكائنات الحيَّة لديها القُدْرة على إحداث طَفْرات (أيْ تَغييرات). ولكنْ يجب أنْ تَفهموا النقطة التالية: أنَّ الطَّفْرات لا تُغَيِّر طبيعة أوْ نوع أيِّ كائنٍ حَيٍّ. فهي لا تجعله كائنًا آخر. فما يَحدُث في الطَّفْرات (وهي نقطة مُهمَّة) هو دائمًا فُقدان البيانات الموجودة. فلا يمكن البتَّة اكتساب بيانات جديدة. فالطَّفْرات لا تُضيف بيانات وراثيَّة جديدة. لذلك فإنَّ الطَّفْرات لا تَعمل باتجاه الأعلى في عمليَّة التطوُّر. فالطَّفْرات ليست آلِيَّة تَدفع عمليَّة التطوُّر إلى أعلى. وقد أجاب الدكتور "فيرنر غيت" (Werner Gitt)، وهو مديرٌ وأُستاذٌ في المعهد الألماني الفِدرالي للفيزياء والتِّكنولوجيا، أجابَ عنِ السؤال التالي: هل يمكن أنْ تنشأ بيانات جديدة في كائنٍ حَيٍّ مِنْ خلال الطَّفْرات؟ وإليكم رَدَّهُ [وأنا أقتبسُ ذلك]: "إنَّ الطَّفْرات تستطيع فقط أنْ تُحْدِثَ طَفْرات في البيانات الموجودة. فلا يمكن أنْ تَحدُث زيادة في البيانات. وبصورة عامة فإنَّ نَتيجة الطَّفْرات سَلبيَّة. فلا يمكن أنْ تَنشأ مُخَطَّطات أوَّليَّة لوظائف جديدة أوْ أعضاء جديدة. فالطَّفْرات لا يمكن أنْ تكون مَصدر بيانات جديدة". [نهاية الاقتباس].
لذلك، يجب على العُلماء النَّزيهين أنْ يُقِرِّوا بأنَّ كُلَّ أشكال الحياة لا بُدَّ أنْ تكون قد وُجِدَتْ على انفراد مِنْ قِبَلِ عَقْلٍ قَديرٍ وذَكِيٍّ قادرٍ على بَرْمَجَة كُلّ شيء. وعندما تُفَكِّرون في تعقيد ذلك فإنَّه أمرٌ مُدْهِشٌ جدًّا. فَكِّروا فقط في الدِّماغِ البشريِّ لحظةً واحدةً. فالدِّماغُ البشريُّ مُعقَّدٌ أكثر مِنْ طائرة مِنْ طِراز 747 مَثَلاً. فالطائرة مِنْ طِراز 747 مصنوعة مِنْ نحو سِتَّة ملايين جُزء. فهل يمكنكم أنْ تتخيَّلوا طائرة مِنْ 747 تَظْهَر وَحْدَها مِنْ كَوْمةٍ مِنَ الحَديد؟ إنَّ هذا سَخيفٌ بكُلِّ تأكيد. فكُلَّما تَعَمَّق العِلْمُ في النَّظر إلى الحياة، زادَ الأمرُ تعقيدًا. فالجسمُ (على سبيل المثال) يَتكوَّن مِنْ تريليونات مِنَ الخلايا. وفي كُلِّ خَليَّة مِنْ هذه الخلايا (أيْ في كُلِّ واحدة مِنْ هذا التريليونات مِنْ هذا الخلايا)، تَمَّ تقدير مِقدار البيانات، أيْ مِقدار البيانات الوراثيَّة في واحدة مِنْ هذه الخلايا، فَوُجِدَ أنَّها تَملأُ ما لا يَقِلُّ عن ألفِ كِتابٍ يَتألَّف كُلٌّ منها مِنْ 500 صفحة. فهذه هي البيانات اللازمة لتشغيل خليَّة واحدة مِنْ أصل تريليونات مِنَ الخلايا في جِسمٍ بشريٍّ واحد. ويعتقد أغلبيَّة العُلماء أنَّ هذا الوَصْفَ لا يَفي هذا التعقيدَ حَقَّهُ. فمِن أين جاءت كُلُّ هذه البيانات؟ بل بالحَرِيِّ: مَنْ هُوَ مَصْدَرُ كُلِّ هذه البيانات؟
وأنْ نَقولَ إنَّ التَّطَوُّر هو الجواب هُوَ السُّخْفُ بِعَيْنِه. وأنْ نَقولَ إنَّ الصُّدْفة والطَّاقة هُما الجواب هو أيضًا السُّخف بِعينِه. وهو سُخْفٌ يَجعلُ صَاحِبَهُ مُؤَهَّلَّا لِدُخولِ مُستشفى الأمراض العقليَّة. إذًا، لماذا يَستمرُّ العُلماءُ في التَّرويجِ لهذه النظريَّة السخيفة، أي نظريَّة التطوُّر القائمة على الصُّدْفة؟ لماذا يفعلون ذلك؟ باختصار: إنَّهم يفعلون ذلك لكي يَتجنَّبوا الله. فَهُمْ يَفعلون ذلك لكي يُقْصُوا اللهَ خارِجَ حَياتِهِم، ولكي يَتجنَّبوا شَريعتَه، ولكي يَتجنَّبوا مَعاييرَه، ولكي يَتجنَّبوا مَشيئَتَه، ولكي يَتجنَّبوا كَلِمَتَه، ويتجنَّبوا دَينونَتَه على حياتِهِم. وباختصار، فإنَّ نَظريَّة التطوُّر تَتلخَّص في ما قالَهُ "هنري موريس" (Henry Morris) إذْ إنَّه كانَ مُوَفَّقًا في تَسْمِيَتِها: "الحَرْب الطَّويلة ضِدَّ الله".
فالتطوُّر هو التعبيرُ المُعاصِر عنِ الحَرْبِ الطَّويلة ضِدَّ الله. والعهدُ القديمُ يقول: "قَالَ الجَاهِلُ فِي قَلْبِهِ: «لَيْسَ إِلهٌ»". وهذه حَمَاقَة. فليسَ مِنَ العقلِ في شَيء أنْ تَرفُضَ الخالِق. وليس مِنَ العقلِ في شَيء أنْ تَقبَلَ الصُّدْفة. وليسَ مِنَ المنْطِقِ في شيء أنْ تَفترِضَ أنَّ نَوعًا واحدًا مِنَ الكائناتِ الحيَّة يستطيع أنْ يَصيرَ نوعًا آخر. وليس مِنَ الحِكْمةِ في شَيء أنْ تَرفُضَ شريعةَ اللهِ، وكلمةَ اللهِ، وإنجيلَ اللهِ. وما دامَ ذلك بعيدًا عنِ العقلانيَّة والحِكمة، لماذا يَفعلُ الناسُ ذلك؟ والجواب هو أنَّ الناسَ يفعلون ذلك لأنَّهم يُحِبُّون خَطاياهُم، ويُحِبُّونَ الظُلمةَ لأنَّ أعمالَهُم شِرِّيرة. فَهُمْ يُحِبُّون أنْفُسَهم، ويُحِبُّونَ خطاياهُم، ويَرفضونَ أنْ يَعبدوا اللهَ أوْ أنْ يَخضعوا لكلمته أو شريعته. لذلك فإنَّهم لا يَقبلونَ الكتابَ المقدَّس. وبالمناسبة، فإنَّ الكتابَ المقدَّسَ يُرينا أنَّ كُلَّ ما هو موجودٌ في عَالمِ اللهِ موجودٌ في كلمةِ الله. فكُلُّ ما نَعرفه عنِ الخَلْقِ مِنَ العَدَم هو ما قالَهُ الخالِقُ لنا. والمكانُ الوحيدُ الذي أَطْلَعَنا فيه على ذلك هو الكتاب المقدَّس. لذا فإنَّ نظريَّة التطوُّر هي حَرْبٌ ضِدَّ الله. وهي صِراعٌ مُعاصِرٌ وهجومٌ مُعاصِرٌ في خِضَمِّ هذه الحَرْبِ الطويلةِ جِدًّا جِدًّا التي يَشُنُّها الشَّيطانُ على الله.
وفي سنة 1989، كَتَبَ العَالِمُ "هنري موريس" (Henry Morris) كتابًا رائعًا بعنوان: "الحَرْب الطَّويلة ضِدَّ الله" (The Long War Against God). وَهُوَ يُبَيِّنُ في ذلك الكتاب تأثير نظريَّة التطوُّر في العَالَم. وهو يَكشِف الحقيقة الدَّامغة بأنَّ الاعتقادَ الواسع الانتشار بنظريَّة التَّطوُّر (الذي يَكتسِحُ كُلَّ جانبٍ مِنْ جوانب التفكير البشريِّ) قد أثَّرَ في كُلِّ جانبٍ مِنْ جوانب الحياة البشريَّة. فهو لا يُؤثِّر فقط في نظرتنا إلى العالم الماديِّ، ولا يُؤثِّر فقط في نظرتِنا إلى العلوم الأحيائيَّة، بل إنَّه أَثَّرَ أيضًا في العلوم الاجتماعيَّة، وأثَّرَ في العلوم السُّلوكيَّة، وأثَّرَ في عِلْم النَّفس، وأثَّرَ في العلوم الإنسانيَّة، وأثَّرَ في الفُنون الحُرَّة، وأثَّرَ في الفَلْسَفة، وأثَّرَ حَتَّى في الدِّين. وأنا أَقتبِسُ كَلِمات "هنري موريس" إذْ قال: "إنَّ كِذبة التطوُّر تَتغَلغَل في الفِكْر الحديث وتُسيطر عليه في كُلِّ جانب. ولأنَّ هذا هو ما يحدُث، فإنَّ الأفكار النابعة مِنْ نظريَّة التطوُّر مَسؤولة بصورة رئيسيَّة عن التطوُّرات السِّياسيَّة المَشؤومة جدًّا وعنِ التَّرَدِّي الأخلاقيِّ والاجتماعيِ الشَّديدِ الذي ينتشر بسرعة في كُلِّ مكان". [نهاية الاقتباس]. وهو يُتابع حديثَهُ في كِتابِه مُبَيِّنًا كيف أنَّ كُلَّ شيءٍ مِنَ الإبادَةِ الجَماعيَّةِ، إلى الزِّنا، إلى الجنسيَّة المِثْليَّة، إلى الإجهاضِ، إلى كُلِّ الأمورِ التي تُدَمِّرُ كَرامَةَ الإنسانِ، إلى عَدمِ رؤية الإنسانِ بوَصْفِهِ مَخلوقًا على صورة الله، إلى الجريمة والمُخَدِّراتِ وكُلِّ شيءٍ آخر، هُوَ ناجمٌ كُلُّه عنِ النَّزْعَةِ الماديِّةِ والنَّزْعَةِ الإنسانيِّةِ التي تُرَوِّجُ لِفكْرةِ أنَّ الكَوْنَ وُجِدَ مِنْ دون خالِق. لذلك، كما يقول "موريس"، فإنَّ التطوُّر ليس أكثر مِنْ صورة مُعاصرة واسعة الانتشار تُعَبِّر عنِ الصِّراعِ الأزليِّ والحَرْبِ طَويلةِ الأجل ضِدَّ الله.
إنَّ نظريَّة التطوُّر هي فلسفة جَوفاء. وهي خُدْعة لا طاَئلَ منها. وهي مُصَمَّمة لِمُهاجمة الخالِقِ ومَجْدِه. وهي تُنْكِرُ إعلانَهُ المجيدَ الذي أَعْلَنَهُ في الكتاب المقدَّس. وهي تُنْكِرُ سُلطانَهُ على الكون الذي يوجد فيه الإنسان. وهي تُنْكِرُ كرامة الإنسان. وهي تُنْكِر صورةَ اللهِ في الإنسان. وهي قصَّة خياليَّة ماكرة. وهي زِنا دِينيّ. وهي أَحَدَثُ رِجْسٍ على الأرض ابْتَكَرَهُ أبو الكَذِب (أيْ: الشَّيطان). ولو كان بمقدوري أنْ أَصِفَ ذلك بكلماتٍ أقوى لَفَعَلْت. وكما تَرَوْن، فإنَّ العالمَ يُصَدِّق دائمًا المُخادِع. والعالَمُ يُصَدِّقُ دائمًا الشَّيطان الكاذِب ويَتَّحِدُ مَعَهُ في حَرْبِهِ الطَّويلة ضِدَّ الله.
إنَّ قِصَّةَ تاريخ شُعوب العالم (أي القصَّة الدَّوَّارة حول كيف أنَّ العالمَ يُعيدُ تَدميرَ نَفْسِهِ) مَذكورة لنا في رسالة رومية والأصحاح الأوَّل. أرجو أنْ تنظروا إلى هذا الأصحاح. فهذا أصحاحٌ مَعروفٌ جدًّا. وأنا أَعْلَمُ أنَّني لَنْ أُطيلَ الحَديثَ عنهُ. ولكنِّي أريدُ أنْ أُذَكِّرَكُم بأنَّ هذا الأصحاحَ (أيْ الأصحاح الأوَّل مِنْ رسالة رومية والأعداد مِنْ 18 فصاعدًا) يُقَدِّمُ لنا سيناريو الحرب الطويلة ضِدَّ الله في عَرْضٍ يَتَوالى المَرَّة تِلْوَ الأخرى، تِلْوَ الأخرى. وما لدينا هنا هو تاريخٌ يَتَكَرَّر لِما يحدُث في شُعوب العالم طوَال تاريخ العالم. والعدد 18 يقول: "لأَنَّ غَضَبَ اللهِ مُعْلَنٌ [وَهُوَ مُعْلَنٌ] مِنَ السَّمَاءِ عَلَى جَمِيعِ فُجُورِ النَّاسِ وَإِثْمِهِمِ، الَّذِينَ يَحْجِزُونَ الحَقَّ بِالإِثْم". والحقيقة واضحة. والحَقُّ المُختصُّ بالخالِق واضحٌ. فالحَقُّ المُختصُّ بالله (بوصْفِهِ خَالِقًا عَاقِلاً لأنَّنا نحن خَليقته) هُوَ حَقٌّ واضح. والحَقُّ المُختصُّ بالله (بوصفِه إلهًا قُدُّوسًا لأنَّه ينبغي لنا أنْ نَحْيا في طَهارةٍ أخلاقيَّةٍ وضَميرٍ طاهرٍ) هو حَقٌّ واضح. والحَقُّ المُختصُّ بالله (الذي وَضَعَ مِعيارَ الصَّواب والخطأ) هو حَقٌّ واضحٌ لأنَّه موجودٌ في نَسيجِ حياتنا. والحَقُّ الذي يقول إنَّه يوجد خالِقٌ، وإنَّ هذا الإله هو العِلَّةُ الأُولى في هذهِ النَّتيجة العظيمة الَّتي تُدعى "الكَوْن" هو حَقٌّ واضحٌ لأنَّ المَنْطِقَ يَقومُ على "السَّبَب والنَّتيجة" ويُعيدُكُم في نهايةِ المَطاف إلى العِلَّةِ الأُولى. ولكنَّ البَشَرَ يَحْجِزونَ الحَقَّ.
ونقرأ في العدد 19: "إِذْ مَعْرِفَةُ اللهِ ظَاهِرَةٌ فِيهِمْ، لأَنَّ اللهَ أَظْهَرَهَا لَهُمْ". وقد فَعَلَ اللهُ ذلك مِنْ خلال إعطائِهِم مَنْطِقًا، والمَنْطِقُ هو (في الأصل) سِلْسِلةً منَ الأنماط القائمة على السَّبَب والنَّتيجة. ففي كُلِّ مَرَّةٍ تُجري فيها بَحْثًا فإنَّك تعمل على تحليل الأسباب والنَّتائج. وفي كُلِّ مَرَّة تفهم فيها مَبْدَأً فإنَّك تَفهمه لأنَّ هناك علاقة بين السَّبب والنتيجة، ولأنَّ هناك تعاقُب للأشياء التي تُؤدِّي إلى نتيجة. فهذا هو المَنْطِق. والمَنْطِق هو القُدرة على رَبْط الأشياء معًا للوصول إلى النَّتيجة الصَّحيحة. وقد وَضَعَ اللهُ في عَقْل الإنسان مَنْطِقًا لكي يتمكَّن باستخدام هذا المنطق مِنَ الرُّجوع إلى حقيقة أنَّه لا بُدَّ مِنْ وجود عِلَّة أولى. ومِنْ شأنِ ذلك أنْ يَقودَهُ إلى الله.
ثُمَّ إنَّ الله سَكَبَ في قلب الإنسان (كما جاء في رومية 2) الشَّريعة، أيْ الشَّريعة الأدبيَّة التي كَتَبَها اللهُ في القلب. لذا فإنَّنا نقرأ في العدد 19: "إِذْ مَعْرِفَةُ اللهِ ظَاهِرَةٌ فِيهِمْ" – أيْ أنَّ اللهَ (بحسب العدد 20) هو خالِقُ العالم. فيمكنك أنْ تَنظُر إلى الخليقة في العالم وتَرى صِفاتِ اللهِ غير المنظورة. ويمكنك أنْ تَنظُر إلى الخليقة وأنْ تَعرف أنَّ الله قدير. ويمكنك أنْ تَنظُر إلى الخليقة وأنْ تَعلم أنَّ ذَكاءَ اللهِ يَفوقُ استيعابَنا. ويمكنك أنْ تَنظُر إلى الخليقة وأنْ تَعرِف أنَّ عَقْلَ اللهِ كبيرٌ جدًّا، وأنَّه مُعَقَّدٌ إلى أقصى الحدود، وأنَّه لا يُسْتَقْصَى بالنسبة إلى عقولنا الصغيرة. ويمكنك أنْ تَنظُر إلى الخليقة وأنْ تَعرف أنَّ اللهَ يُحِبُّ الجَمالَ والنِّظام. ويمكنك أنْ تَنظُر إلى الخليقة وأنْ تَرى أنَّ اللهَ لديه لَمْسَة حَانِيَة، وأنْ لديه في الوقتِ نَفْسِهِ لَمْسَة قَوِيَّة وخارِقَة قادرة أنْ تَقتُل وتَسْحَق. فيمكنك أنْ تَرى كُلَّ هذا عن صِفاته.
فيمكنك أنْ تَرى صَلاحَهُ ظاهِرًا في المَطَر، وفي شُروقِ الشَّمس، وفي الطَّعام الذي نَتمتَّع به، وفي جَمالِ العالم مِنْ حَوْلِنا، وفي المَحَبَّةِ التي سَكَبَها في الحياة، وفي رَوْعَةِ الرُّومانسيَّة، وفي بَرَكةِ الأطفال، وفي البَهْجَة الفائقة للمُغامَرة. ويمكنك أنْ تَرى أنَّ اللهَ هو إلَهُ الجمالِ واللُّطْفِ والصَّلاح. فهذا كُلُّه قابلٌ للمَعرفة بخصوص قُدرته الأزليَّة وطبيعتِه الإلهيَّة. وهذا كُلُّه قابِلٌ للمعرفة (كما جاء في العدد 20) حَتَّى إنَّك إنْ لم تكُن تَرى اللهَ في هذا، ولم تكُن تُدْرِكُهُ على حقيقته، فإنَّك "بِلا عُذْر". فالخليقة ليست مُصَمَّمة لكي تُرْجِعَكَ إلى كائنٍ بِدائيٍّ وَحيد الخَلِيَّة، بل إنَّها مُصَمَّمة لكي تقودَكَ إلى الله، ومُصَمَّمة لكي تريكَ كُلَّ شيءٍ عن فِكْرِ اللهِ، وليس عن عمليَّة التَّطوُّر الخَياليَّة الناجمة عن الصُّدْفة.
وأيُّ نظريَّة كهذه (أيْ: أيُّ نظريَّة خَلْق مُتَدَرِّج، وأيُّ نظريَّة نُشوء خَلْقيّ) تُوَّجه ضَرْبَةً إلى قَصْدِ اللهِ في الخليقة لإظهار قُدرته الخارقة. فاللهُ ليسَ إلهًا ذا بُعْدٍ واحِدٍ كما يَطيبُ لأنصار نظريَّة التَّطَوُّر الخَلْقيّ أوْ أنصار نظريَّة التَّطوُّر أنْ يقولوا لنا إذْ إنَّهم يُخبروننا أنَّ اللهَ أَطْلَقَ عمليَّةَ الخَلْقِ ثُمَّ إنَّ التَّطوُّرَ أَخَذَ مَجراه. فهذا التفكير لا يُعطي المَجْدَ للهِ، بل يُعطي المَجْدَ لِبَقاءِ الأصْلَح؛ وهي فِكْرة مِنْ بَناتِ أفْكار "تشارلز داروين" وأصدقائه لتفسيرِ ما يَرَوْنَهُ في الظَّاهِر لأنَّهم لم يكونوا يَعرِفون الأشياءَ المعروفة اليوم والتي تُناقض هذا كُلَّهُ. فاللهُ لا يَتَمَجَّد، واللهُ لا يُكَرَّم حينَ نَنْسِبُ إلى نظريَّةِ التطوُّرِ الفَضْلَ في عمليَّة الخَلْق، وحين نَنسِبُ إلى نظريَّةِ التطوُّرِ الفَضْلَ في تَعقيدِ الكون، وفي تعقيدِ أصغرِ شيءٍ في الخليقة، أوْ حين نَنْسِبُ إلى نظريَّةِ التطوُّرِ الفَضْلَ في أَكْبَرِ شيءٍ في الكون. بل إنَّ اللهَ يُكَرَّمُ ويُمَجَّدُ حين نَنْسِبُ إليهِ الفَضْلَ في ذلك كُلِّه.
ويُشيرُ العدد 21 إلى أنَّهُ مِن وُجهةِ النَّظرِ العقلانيَّةِ والأخلاقيَّة الموجودة في صَميمِ نَسيجِ الحياةِ البشريَّة، فإنَّ العَقلانيَّة والفَضيلة تَقودان البَشَر إلى الله. فهذا أَمْرٌ مَفروغٌ مِنه. لذا فإنَّه يقول في العدد 21: "لأَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا اللهَ" – وما أعنيه هو أنَّهُ لم يكن لديهم مكانٌ آخر يَلْتَجِئونَ إليهِ سِوى الله، ولكنَّهُمْ: "لَمْ يُمَجِّدُوهُ ... كَإِلهٍ"، وَلم يَشكروهُ على خَليقَتِه، "بَلْ حَمِقُوا فِي أَفْكَارِهِمْ". فقد استعاضُوا عنِ اللهِ بأفكارِهم الحَمقاء. وأيضًا: "وَأَظْلَمَ قَلْبُهُمُ الْغَبِيُّ". فقد انطفأَ النُّورُ. "وَبَيْنَمَا هُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ حُكَمَاءُ" (إذْ إنَّهُمْ يَحملونَ شهادات دُكتوراه، ويؤلِّفونَ كُتُبًا)، ولكنَّهُم في الحقيقة "صَارُوا جُهَلاَءَ". فَهُمْ جُهلاءَ لأنَّهُمْ يَتَبَنُّونَ وُجهةَ نَظَرٍ مَبْتورَة، ومُستحيلة، ومُفَكَّكة، وغير عقلانيَّة. وَهُمْ يُسَمُّونَها "حِكْمَة"؛ ولكنَّ اللهَ يُسَمِّيها "حَماقة".
لذلك، فإنَّ العدد 23 يقول إنَّهُم "أَبْدَلُوا مَجْدَ اللهِ الَّذِي لاَ يَفْنَى". فقد تَحَوَّلوا عنِ اللهِ الَّذي لا يَفنى، وعنِ اللهِ الخارق للطَّبيعة، وعنِ اللهِ الَّذي هو أعظمُ مِنْ كُلِّ خليقتِه، والذي هُوَ فوقَ خَليقَتِه. وعوضًا عنِ اللهِ فقدْ أَبْدَلوا مَجْدَهُ "بِشِبْهِ صُورَةِ الإِنْسَانِ الَّذِي يَفْنَى، وَالطُّيُورِ، وَالدَّوَابِّ، وَالزَّحَّافَاتِ". فقد "عَبَدوا المَخْلوقَ دُوْنَ الخَالِق" (كما جاءَ في العدد 25). وقد استبدَلوا حَقَّ اللهِ وصَدَّقوا الكَذِب، أيْ أنَّهُمْ صَدَّقوا كَذِبَ الشَّيطانِ الَّذي يَعْكِفُ على إبقاءِ رَحَى الحَرْبِ ضِدَّ اللهِ تَدور. وقد عَبَدوا المخلوقاتِ وسَجَدوا لها. وهذا هو ما يَفعلُهُ أنصارُ نظريَّة التطوُّر. فَهُمْ يُؤمنونَ حرفيًّا بأنَّ المخلوقَ هُوَ الخالق. أليسَ كذلك؟ بِكُلِّ تأكيد.
ولا يُمكنني أنْ أَنْسَى أنَّني سَمِعْتُ أستاذًا في جامعة جنوب كاليفورنيا يُلقي محاضرةً عن كيف أنَّ الأفاعي صارت طيورًا. وإليكم ما قاله. وقد سَمعتُ ذلك بأُذُنَيَّ. فقد كانت الأفاعي تَزْحَفُ على الأرض طَوَال الوقتِ وتأكُلُ الحشرات. ولكنَّ الحشرات اكْتَسَبَتْ حِكْمَةً. لذلك عندما كانت تَرى الحيَّة قادِمَةً، كانت تَزْحَفُ وتَدخُل الجُحْر. وحينئذٍ، صَارَتِ الحَيَّاتُ تَجِدُ صعوبةً في الحصول على الطَّعام لأنَّ الحشرات كانت تَخْتَبِئُ مِنْها. لذلك، ابتدأتِ الحَيَّات تُدْرِك أنَّه يجب عليها أنْ تُـباغِتَ الحشرات. وأفضل طريقة لذلك هي أنْ تَتسلَّقَ الأشجار. لذلك فقد طَوَّرت الحَيَّاتُ قُدرتها على تَسَلُّقِ الأشجار وراحت تتدَلَّى مِنَ الأغصان؛ فلم تَعُد الحشراتُ تَراها. وعندما كانت الحيَّاتُ تَنظر إلى أسفل وتَرى حَشَرةً، كانت تَنْزِل وتأكل الحشرة. ولكنَّ الحشرات أَدْرَكَت أنَّ الحيَّات تَختبئ فوق الأشجار. لذلك فقد صارت الحشراتُ تبتعد أكثر فأكثر عنِ الأشجار. ثُمَّ إنَّ الحيَّات شَعَرَتْ بالإحباط بسبب ذلك وفَكَّرَتْ في نهاية المطاف في أنَّه مِنَ الأنْسَب لها أنْ تُجَوِّفَ عِظامَها وأنْ تُطَوِّرَ أجنحةً وتَطير! وهذا الكلام هو كَلامُ دُكتورٍ في جامعة جنوب كاليفورنيا. لذلك فقد طَوَّرتِ الحَيَّاتُ أجنحةً فظَهَرَتِ الطُّيور. هذا شخصٌ يَدَّعي أنَّه حكيم، ولكنَّه جاهل. لذلك فإنَّنا نَعْبُدُ المخلوقات ونُعْطي المَجْدَ للأفعى بسبب قُدرتِها على تحويل نفسِها إلى طَير؛ وهذا شيءٌ مستحيل تمامًا. فالحيَّة لا تمْلِك البيانات الوراثية لكي تطير، أو لكي تَصنع تجاويفَ في عِظامها، أو لكي تُطَوِّر سَاقَيْنِ أو مِنقارًا.
ولكِنْ أتَعلمونَ شَيئًا؟ هذا هو تمامًا ما كان أَهْلُ رومية يقولونه. فقد رَفَضوا الحكمةَ وقَبِلوا الغَباوةَ والحَمَاقةَ لأنَّ قُلوبَهم الحمقاء قد أَظْلَمَت. وقد كانت أفكارُهم جوفاء وعديمةَ المغزى وعديمة الفائدة لأنَّهم أَداروا ظُهُوَرهم للتفسير العقلانيِّ الوحيد لكُلِّ شيءٍ (أيْ: الله) لأنَّهم لم يُريدوا أنْ يَفْرِضَ اللهُ عليهم مَعاييرَهُ الأخلاقيَّة. وقد ابتدأوا في عِبادةِ الطُّيورِ والحيواناتِ. وقد: "عَبَدُوا الْمَخْلُوقَ دُونَ الْخَالِقِ، الَّذِي هُوَ مُبَارَكٌ إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ". لذلك أَتعلمون ما الذي حدث؟ لقد أَسْلَمَهُمُ اللهُ للخطيئةِ الجنسيَّةِ، وللجنسيَّةِ المثْليَّةِ، ولكلِّ نوعٍ آخر مِنَ الخَطايا الَّتي يَذْكُرُها في الآيات مِنْ 28-32. فهذا هو ما حدث إذْ إنَّهم غَرقوا في مُستنقعِ الإثم المُريع. وهذه هي القصَّة الحقيقيَّة وراء نظريَّة التطوُّر. فهي جُزءٌ مِنَ الحَرْبِ الطويلة ضِدَّ الله. ولو كان لدينا مُتَّسَعٌ مِنَ الوقتِ لقرأتُ على مَسامِعِكُمْ العديدَ مِنَ الأقوالِ الصادرةِ عن أنصار نظريَّة التطوُّر الذين يقولون أقوالاً تَجديفيَّة وساخِرَةً عنِ الله. ولكنْ لا حاجة إلى الاستماع إلى تلكَ الأقوال.
مِن جهة أخرى فإنَّ الكتابَ المقدَّسَ يقول بوضوح وباستمرار إنَّ اللهَ هو خالقُ كُلَّ شيء – كُلَّ شيء. واسمحوا لي أنْ أُبَيِّن لكم هذا. وسوفَ أَصرفُ بعضَ الوقتِ على هذه النُّقطة لأنَّهُ مِنَ المُهمِّ أنْ تَفهموها. فهذا مذكورٌ في تكوين 1: 1. ولا يمكن التَّعبيرُ عن ذلك بوضوحٍ أو شُمولٍ أكبر: "فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ". وهذا بَيِّنٌ وَواضحٌ جدًّا. ونقرأ في إنجيل يوحنَّا والأصحاح الأوَّل: "فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ [إشارة إلى المسيح]، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ. هذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللهِ. [ثُمَّ استمعوا إلى ما يقول:] كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ". وهل مِنْ طريقةٍ أُخرى لقولِ ذلك؟ فلا يوجد تَطَوُّر في إنجيل يوحنَّا 1: 3. "كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ". اسمعوني: لا يوجد شيء في الوجود لم يَخْلِقْهُ اللهُ.
وفي الرسالة إلى العِبرانيِّين والأصحاح 11، نقرأ هذه الآية المعروفة: "بِالإِيمَان" – فهي الطريقة الوحيدة. فهذا لا يحدث بالتَّحليل التَّجريبيّ. "بِالإِيمَان نَفْهَمُ". بعبارة أخرى: يجب عليكم أنْ تُصَدِّقوا الكتابَ المقدَّس. "بِالإِيمَان نَفْهَمُ أَنَّ الْعَالَمِينَ أُتْقِنَتْ بِكَلِمَةِ اللهِ"؛ أيْ أنَّ اللهَ تَكلَّم فَخُلِقَ كُلُّ شيء. ثُمَّ استمعوا إلى هذه الكلمات: "حَتَّى لَمْ يَتَكَوَّنْ مَا يُرَى مِمَّا هُوَ ظَاهِرٌ". وهذه جُملة مؤكَّدة تَهْدِمُ تَمامًا نظريَّة التطوُّر. فما تَرَوْنَهُ في العالمِ المَخلوق لم يُصْنَع مِنْ مادَّة أخرى، بل إنَّ كُلَّ ما تَرونَهُ في كَوْنِ اللهِ المَخلوق قد خُلِقَ مِنْ قِبَلِهِ مِنَ العَدَم – مِنَ العَدَم. وهذا هو تمامًا ما يقوله سِفْر التَّكوين. وهذه آية رائعة – عبرانيِّين 11: 3.
ونقرأ في رسالة كولوسي 1: 16 عنِ المسيح الَّذي هُوَ اللهُ الخالق. فقد جاء في العدد 16: "فَإِنَّهُ فِيهِ خُلِقَ الْكُلُّ". وهل تُلاحظونَ كم مَرَّة يُكَرِّر الكتابُ المقدَّسُ الكلمة "كُلّ"؟ "خُلِقَ الْكُلُّ". وما المقصودُ بذلك؟ "مَا في السَّمَاوَاتِ" (أيْ كُلُّ شيءٍ موجود في الكَوْن – كُلُّ شيء). "وَمَا عَلَى الأَرْضِ" (أيْ كُلُّ شيءٍ موجود في عالَمِنا المُصَغَّر، أيْ على هذه الأرض). وهذا يَعني: كُلُّ ما هو خارج نِطاق الأرض، وكُلُّ ما هو على الأرض. فقد خَلَقَ كُلَّ شيء. ثُمَّ اسمعوا ما يقول: "مَا يُرَى وَمَا لاَ يُرَى". فإنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ جَبلاً فإنَّهُ هو الَّذي خَلَقَهُ. ومَعَ أنَّكُمْ لا تَرَونَ الرِّيحَ فإنَّهُ هو الَّذي خَلَقَها. وإنْ كُنتم تَرَوْنَ مُحيطًا فإنَّهُ هو الَّذي خَلَقَهُ. ومعَ أنَّكم لا تَرَونَ تَيَّارًا كهربائيًّا يَسري في الهواء فإنَّهُ هو الَّذي خَلَقَهُ. "ما يُرى وما لا يُرى". وهذا يَشْمَل الكائنات الملائكيَّة: "سَوَاءٌ كَانَ عُرُوشًا أَمْ سِيَادَاتٍ أَمْ رِيَاسَاتٍ أَمْ سَلاَطِينَ. الْكُلُّ [وَهُوَ يُكَرِّرُها ثانيةً] بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ". وما أعنيه هو: إنَّ هذا أمرٌ لا يَرْقى إليهِ الشَّكّ – لا يَرْقى إليهِ الشَّكّ.
وإذا تَصَفَّحتُم الكتاب المقدَّس، فإنَّهُ يُؤكِّد باستمرار هذا الحَقّ. فنحنُ نقرأ في سِفْر التَّثنية 4: 32: "فَاسْأَلْ عَنِ الأَيَّامِ الأُولَى" (يَقولُ مُوسَى) "الَّتِي كَانَتْ قَبْلَكَ، مِنَ الْيَوْمِ الَّذِي خَلَقَ اللهُ فِيهِ الإِنْسَانَ عَلَى الأَرْضِ". فقد كانَ هناك يومٌ خَلَقَ اللهُ فيهِ الإنسانَ على الأرض. فهو ليس المَحَطَّة الأخيرة في عمليَّة التَّطوُّر الَّتي استمرَّت مليارات السِّنين. فقد حَدَثَ ذلك في يومٍ ما - وَهُوَ اليوم السَّادس كما تَعلمون؛ كما يُخبرُنا سِفْر التَّكوين.
وفي سِفْر المزامير – ويُعْوِزُني الوقتُ لاصطحابكم عَبْرَ كُلِّ المزاميرِ الَّتي تُمَجِّد الله بوصفه خالقًا؛ ولكنَّ المزمور 104 هو مَثَلٌ جَيِّدٌ على ذلك. فنحنُ نقرأ في المزمور 104: "بَارِكِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ. يَا رَبُّ إِلهِي، قَدْ عَظُمْتَ جِدًّا. مَجْدًا وَجَلاَلاً لَبِسْتَ. اللاَّبِسُ النُّورَ كَثَوْبٍ، الْبَاسِطُ السَّمَاوَاتِ كَشُقَّةٍ". وكما تَعلمون، فإنَّ نظريَّة التطوُّر السَّخيفة والسَّاذجة وغير العقلانيَّة تُحاول أنْ تَحُلَّ مُعضلة انبثاق الحياة على الأرضِ. لذلك، كيفَ سيتمكَّنونَ مِنْ تفسيرِ وجودِ هذا الكونِ اللَّامُتناهي؟ ولكنَّ اللهَ هو الَّذي بَسَطَهُ. ونقرأ في العدد الثالث: "الْمُسَقِّفُ عَلاَلِيَهُ بِالْمِيَاهِ. الْجَاعِلُ السَّحَابَ مَرْكَبَتَهُ، الْمَاشِي عَلَى أَجْنِحَةِ الرِّيحِ. الصَّانِعُ مَلاَئِكَتَهُ رِيَاحًا، وَخُدَّامَهُ نَارًا مُلْتَهِبَةً". ونقرأ في العدد الخامس: "الْمُؤَسِّسُ الأَرْضَ عَلَى قَوَاعِدِهَا فَلاَ تَتَزَعْزَعُ إِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ. كَسَوْتَهَا الْغَمْرَ كَثَوْبٍ". فقد خَلَقَ المُحيطات. وقد خَلقَ الأرضَ. ويُتابعُ المزمورُ الكلامَ على المِنْوالِ نَفْسِهِ. فهو "اَلْمُفَجِّرُ عُيُونًا فِي الأَوْدِيَةِ" (كما جاءَ في العدد 10). وَهُوَ الَّذي خَلَقَ الحَيَواناتِ البَرِّيَّةَ والطُّيور. وَهُوَ الَّذي أَنْبَتَ العُشْبَ (في العدد 14). ويَستمرُّ المزمورُ على المِنوالِ نَفسِهِ حتَّى العدد 24 إذْ نَقرأ: "مَا أَعْظَمَ أَعْمَالَكَ يَا رَبُّ!"
فلا فَضْلَ للصُّدفة العَمياء، بل نقرأ في العدد 24: "مَا أَعْظَمَ أَعْمَالَكَ يَا رَبُّ!" ثُمَّ استمعوا إلى هذه الكلمات: "كُلَّهَا بِحِكْمَةٍ صَنَعْتَ". وتَتكرَّرُ الكلمة "كُلّ" مَرَّةً أخرى. وكُلَّما زادت مَعرفتُنا العِلميَّة وتَعمقَّنا أكثر في الأسرارِ البديعة لهذه الخليقة، زادتْ حِكمةُ الخالِقِ في أعْيُنِنا. "مَلآنةٌ الأَرْضُ مِنْ غِنَاكَ" – أو حَرفيًّا: "مَلآنةٌ الأَرْضُ مِنْ مَخلوقاتِك". ثُمَّ نقرأ: "هذَا الْبَحْرُ الْكَبِيرُ الْوَاسِعُ الأَطْرَافِ. هُنَاكَ دَبَّابَاتٌ بِلاَ عَدَدٍ. صِغَارُ حَيَوَانٍ مَعَ كِبَارٍ. هُنَاكَ تَجْرِي السُّفُنُ. لِوِيَاثَانُ (أيْ وَحْش البَحْر - أيْ الحوت العَظيم) هذَا خَلَقْتَهُ لِيَلْعَبَ فِيهِ". ثُمَّ نقرأ في العدد 31: "يَكُونُ مَجْدُ الرَّبِّ إِلَى الدَّهْرِ. يَفْرَحُ الرَّبُّ بِأَعْمَالِهِ". وما أعنيه هو: إنَّ الخَليقَةَ كُلَّها لَهُ. فهو خَلَقَها كُلَّها. ولا يوجد تفسيرٌ آخر لذلك.
ونقرأ في المزمور 148: "هَلِّلُويَا. سَبِّحُوا الرَّبَّ مِنَ السَّمَاوَاتِ. سَبِّحُوهُ فِي الأَعَالِي. سَبِّحُوهُ يَا جَمِيعَ مَلاَئِكَتِهِ. سَبِّحُوهُ يَا كُلَّ جُنُودِهِ. سَبِّحِيهِ يَا أَيَّتُهَا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ. سَبِّحِيهِ يَا جَمِيعَ كَوَاكِبِ النُّورِ. سَبِّحِيهِ يَا سَمَاءَ السَّمَاوَاتِ، وَيَا أَيَّتُهَا الْمِيَاهُ الَّتِي فَوْقَ السَّمَاوَاتِ. لِتُسَبِّحِ اسْمَ الرَّبِّ لأَنَّهُ أَمَرَ [فَماذا؟] فَخُلِقَتْ".
ويتحدَّثُ النبيُّ إشَعْياء عن قُدرة اللهِ على الخَلْق في سِفْرِ إشعياء 40: 28. وهذه آية رائعة بحقّ، وأرجو أنْ تُدَوِّنوها: "أَمَا عَرَفْتَ؟" ويجب أنْ تَقولوا ذلك لأنصار نظريَّة التطوُّر: "أَمَا عَرَفْتَ أَمْ لَمْ تَسْمَعْ؟ إِلهُ الدَّهْرِ الرَّبُّ خَالِقُ أَطْرَافِ الأَرْضِ لاَ يَكِلُّ وَلاَ يَعْيَا. لَيْسَ عَنْ فَهْمِهِ فَحْصٌ". فعَقْلُ اللهِ لا يُسْبَرْ غَوْرُهُ بالنِّسبةِ إلينا ولا يُمكننا أنْ نَستوعِبَهُ. ونقرأ أيضًا في سِفْر إشعياء 42: 5: "هكَذَا يَقُولُ اللهُ الرَّبُّ". ولكِنْ عَنْ أيِّ إلَهٍ تتحدَّث يا إشعياء؟ اللهُ "خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَنَاشِرُهَا، بَاسِطُ الأَرْضِ وَنَتَائِجِهَا، مُعْطِي الشَّعْبِ عَلَيْهَا نَسَمَةً، وَالسَّاكِنِينَ فِيهَا رُوحًا: ’’أَنَا الرَّبَّ‘‘". فهو دائمًا خالِقُ كُلَّ شيء.
وفي الأصحاح 45 مِنْ سِفْر إشعياء، لا يَتوقَّف إشعياء عنْ تَمجيدِ اللهِ بوصْفِهِ الخالِق. فنحنُ نقرأ في العدد الخامس: "أَنَا الرَّبُّ وَلَيْسَ آخَرُ. لاَ إِلهَ سِوَايَ. نَطَّقْتُكَ وَأَنْتَ لَمْ تَعْرِفْنِي. لِكَيْ يَعْلَمُوا مِنْ مَشْرِقِ الشَّمْسِ وَمِنْ مَغْرِبِهَا أَنْ لَيْسَ غَيْرِي. أَنَا الرَّبُّ وَلَيْسَ آخَرُ. [أنا] مُصَوِّرُ النُّورِ وَخَالِقُ الظُّلْمَةِ، صَانِعُ السَّلاَمِ وَخَالِقُ الشَّرِّ. أَنَا الرَّبُّ صَانِعُ كُلِّ هذِهِ. اُقْطُرِي أَيَّتُهَا السَّمَاوَاتُ مِنْ فَوْقُ، وَلْيُنْزِلُ الْجَوُّ بِرًّا. لِتَنْفَتِحِ الأَرْضُ فَيُثْمِرَ الْخَلاَصُ، وَلْتُنْبِتْ بِرًّا مَعًا. أَنَا الرَّبَّ قَدْ خَلَقْتُهُ". فهو يتحدَّث عنِ الشَّيءِ العظيمِ والمجيدِ الَّذي سيفعلُهُ عندما يُعيدُ خَلْقَ الأرضِ في الملكوت. فهي خَليقَتُه. وهو قادرٌ أنْ يَفعلَ بها ما يَشاء وَقْتَ مَا يَشاء.
ونقرأ في العدد 9 التَّحذيرَ التَّالي لأنصار نظريَّة التَّطوُّر: "وَيْلٌ لِمَنْ يُخَاصِمُ جَابِلَهُ". ثُمَّ انظروا إلى العدد 12 مِنَ الأصحاحِ نفسِه: "أَنَا صَنَعْتُ الأَرْضَ وَخَلَقْتُ الإِنْسَانَ عَلَيْهَا. يَدَايَ أَنَا نَشَرَتَا السَّمَاوَاتِ، وَكُلَّ جُنْدِهَا أَنَا أَمَرْتُ". ثُمَّ انظروا إلى العدد 18: "لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: «خَالِقُ السَّمَاوَاتِ هُوَ اللهُ. مُصَوِّرُ الأَرْضِ وَصَانِعُهَا. هُوَ قَرَّرَهَا. لَمْ يَخْلُقْهَا بَاطِلاً. لِلسَّكَنِ صَوَّرَهَا. أَنَا الرَّبُّ وَلَيْسَ آخَرُ".
ومَلاخي النبيُّ يؤكِّد الشَّيءَ نفسَهُ. فاللهُ هُوَ أبٌ لنا جميعًا. فنحنُ نقرأ في سِفْر ملاخي 2: 10: "أَلَيْسَ أَبٌ وَاحِدٌ لِكُلِّنَا؟ أَلَيْسَ إِلهٌ وَاحِدٌ خَلَقَنَا؟" فالإنسانُ ليسَ خاتِمَة سِلسلة التَّطوُّر، بل هو خليقة الله المُباشرة – على غِرارِ كُلِّ شيءٍ آخر.
ونقرأ في إنجيل مَرقُس الأصحاح 10 والعدد 6: "وَلكِنْ مِنْ بَدْءِ الْخَلِيقَةِ [بحسب قَوْلِ يَسوع]، ذَكَرًا وَأُنْثَى خَلَقَهُمَا اللهُ". فاللهُ خَلَقَ الإنسانَ. لذا فإنَّ الإنسانَ لم يَظْهَر نتيجة التطُّور. ونجد في إنجيل مَرقُس 13: 19 هذه الكلمات القويَّة – وهي كلمات تُصيبُ الهَدَفَ تمامًا. وأنا لم أَذكُر كُلَّ الآياتِ الكِتابيَّة. فربَّما تَظُنُّونَ أنَّني أَقرأ لكم كُلَّ الآيات، ولكنَّ هذا غير صحيح. ولكنَّنا نقرأ في إنجيل مَرقُس 13: 19: "لأَنَّهُ يَكُونُ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ ضِيقٌ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ مُنْذُ ابْتِدَاءِ الْخَلِيقَةِ [وفي حالِ أنَّكُمْ لم تَعلموا ذلك] الَّتِي خَلَقَهَا اللهُ" – الْخَلِيقَةِ الَّتِي خَلَقَهَا اللهُ". فهذا التَّأكيدُ يَرِدُ المَرَّة تِلوَ المَرَّة تلو المَرَّة في الكتاب المقدَّس. فقد رأيناهُ في أنبياءِ العهدِ القديم. وقد أَرَيْتُكُم إيَّاه في إنجيل مَرْقُس. ويمكنكم أنْ تَجِدوهُ في الرَّسائِل. فنحنُ نقرأ في رسالة أفسُس 3: 9: "الله خَالِق الجَمِيع" - "الله خَالِق الجَمِيع". ويُؤكِّد الرَّسول بُطرس (كَما هي حال بولُس) الشَّيءَ نَفسَهُ. فنحنُ نقرأ في رسالة بُطرس الأولى 4: 19: "فَإِذًا، الَّذِينَ يَتَأَلَّمُونَ بِحَسَبِ مَشِيئَةِ اللهِ، فَلْيَسْتَوْدِعُوا أَنْفُسَهُمْ، كَمَا لِخَالِق أَمِين". فاللهُ هُوَ خالِقُنا الأمين.
ثُمَّ، بِكُلِّ تأكيد، أرجو أن تفتحوا على سِفْر الرُّؤيا لأنَّنا نَجِد هُنا خُلاصَةَ كُلِّ شيء. سِفْر الرُّؤيا والأصحاح الرَّابع. ولنذهب إلى السَّماء ونَرى رأيَ السَّماءِ في نظريَّة التطوُّر. فنحنُ نقرأ في العدد 11: "أَنْتَ مُسْتَحِق أَيُّهَا الرَّبُّ أَنْ تَأْخُذَ الْمَجْدَ وَالْكَرَامَةَ وَالْقُدْرَةَ". لماذا؟ "لأَنَّكَ أَنْتَ خَلَقْتَ كُلَّ الأَشْيَاءِ، وَهِيَ بِإِرَادَتِكَ كَائِنَةٌ وَخُلِقَتْ". ونقرأ في الأصحاح الخامس التَّأكيدَ نفسَهُ. فاللهُ، العَظيمُ وصاحِب السِّيادة، هو الخالِق الَّذي يَستحقُّ أنْ يأخُذَ الكَرَامَةَ وَالمَجْدَ وَالسُّلْطَان. وهو الَّذي اشْتَرى للهِ أُناسًا "مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ". ثُمَّ إنَّ كُلَّ السَّماءِ تَبتدئُ في تسبيحِ اللهِ: "لِلجَالِسِ عَلَى العَرْشِ وَلِلخَرُوفِ البَرَكَةُ وَالكَرَامَةُ وَالمَجْدُ وَالسُّلْطَانُ إِلَى أَبَدِ الآبِدِين". وأخيرًا، نقرأ في العدد 13: "وَكُلُّ خَلِيقَةٍ" – أيْ كُلُّ شيءٍ. فتلكَ الأشياءُ لم تُوْجَد بسبب التَّطوُّر، بل هي أشياءٌ مَخلوقة. فالنصُّ لا يَقول: "كُلُّ خَليقَةٍ وشيءٍ ناشئٍ عنْ طَفْرَة"، بل يقول: "وَكُلُّ خَلِيقَةٍ مِمَّا فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ وَتَحْتَ الأَرْضِ، وَمَا عَلَى الْبَحْرِ، كُلُّ مَا فِيهَا". وهذا يُشيرُ إلى فِداءِ كُلِّ الكَوْنِ المَخلوق.
ولكِن افتحوا على سِفْر الرُّؤيا والأصحاح العاشِر. فهذا أصحاحٌ بَديع. ونحنُ نقرأ عن مَلاكٍ قويٍّ ينزل من السَّماء. ولكنَّ الملاك – أيْ هذا الملاك العظيم القويّ الَّذي نَزَلَ – يَحمل سِفْرًا صغيرًا يُمَثِّلُ السِّفرَ الَّذي يَصِفُ دينونة الله. والملاك (كَما رآهُ يوحنَّا في العدد 5) كان "وَاقِفًا عَلَى الْبَحْرِ وَعَلَى الأَرْضِ" إشارةً إلى أنَّ دينونةَ اللهِ ستأتي على البحرِ واليابسة، كما يَقولُ سِفْر الرُّؤيا. وقد أَقْسَمَ الملاكُ باللهِ ووصَفَهُ بأنَّهُ "الحَيّ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ". وَهُوَ يَصِفُ اللهَ أيضًا بهذه الكلمات: "الَّذِي خَلَقَ السَّمَاءَ وَمَا فِيهَا وَالأَرْضَ وَمَا فِيهَا وَالْبَحْرَ وَمَا فِيه". فهذا أمرٌ مُؤكَّد.
وأخيرًا، نَخْتِمُ جولَتَنا في الكتاب المقدَّس برؤيا 14. فكما تَعلمون، عندما تأتي الضِّيقة العظيمة، وتُسْكَبُ الدَّينونات المُريعة والمُرْعِبَة مِنْ عرشِ الله، يمكنكم أنْ تَرَوْا آلةَ الحَرْبِ تَدور. وفي رؤيا 4 و 5، تبتدئ آلةُ الحربِ في السَّماء تَدور. ونجد وَصْفًا مُشابهًا لذلك في سِفْر حِزْقيال والأصحاح الأوَّل. فكما أنَّ آلةَ حَرْبِ اللهِ دارَتْ في الماضي، فإنَّها ستدورُ لتَجلِب الدَّينونة في المستقبل. ولكِنْ في الفترةِ الَّتي سيَسكب فيها اللهُ الدَّينونة، أيْ في فترة تلك السَّنوات السَّبع، وتَحديدًا: في السَّنوات الثَّلاث والنِّصف الأخيرة، فإنَّهُ سَيُكْرَزُ بالإنجيل في الوقتِ نفسه. فسوفَ يُكْرَزُ بهِ مِنْ خلالِ الشَّاهِدَيْن المذكورَيْن في الأصحاح 11. وسوفَ يُكْرَزُ بهِ أيضًا مِنْ خلالِ اليهودِ المِئة والأربعة والأربعينَ ألفًا المذكورين في الأصحاح 7، ولاحقًا أيضًا.
ولكِنَّنا نَقرأُ عن كارِزٍ عظيمٍ آخر مذكور في الأصحاح 14 مِنْ سِفْر الرُّؤيا إذْ نقرأ في العدد 6: "ثُمَّ رَأَيْتُ مَلاَكًا آخَرَ طَائِرًا فِي وَسَطِ السَّمَاءِ". ولعلَّكم تَرَوْنَ اللَّافتات أثناء مشاهدتكم لمباريات كُرة القدم؛ وهي لافتاتٌ تَحْمِلُها طائرة صغيرة تَطيرُ في السَّماء وتَحْمِلُها. أو رُبَّما رأيتم تلك الإعلانات على جانبِ المِنْطاد. ورُبَّما كانت فكرة اللَّافتات هذه جَيِّدة، ولكنَّها لا تُضاهي هذا الإعلان. فنحنُ نَرى هنا ملاكًا طائرًا في وَسَطِ السَّماءِ "مَعَهُ بِشَارَةٌ أَبَدِيَّةٌ، لِيُبَشِّرَ السَّاكِنِينَ عَلَى الأَرْضِ وَكُلَّ أُمَّةٍ وَقَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ". وهذا أمرٌ مُدهشٌ جدًّا. فإنْ أردتَ أنْ تَعرفَ الإنجيل، انظر إلى أعلى وحَسْب. وإليكُم ما يَكْرِز بهِ الملاك: إنَّها البشارة الأبديَّة. وهي نفس الرِّسالة الَّتي يُكْرَز بها دائمًا. فهي لا تتغيَّر البتَّة. "خَافُوا اللهَ وَأَعْطُوهُ مَجْدًا". وهذه هي، يا أحبَّائي، الرِّسالة: "خَافُوا اللهَ وَأَعْطُوهُ مَجْدًا لأَنَّهُ قَدْ جَاءَتْ سَاعَةُ دَيْنُونَتِهِ، وَاسْجُدُوا [لِمَنْ؟] لِصَانِعِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَالْبَحْرِ وَيَنَابِيعِ الْمِيَاهِ". الخالِق – الخالِق. فالبشارة الأبديَّة هي: "خافوا اللهَ واسْجُدوا لَهُ". فهذه هي بشارة الخلاص: أنَّ الفُرصةَ ما تَزالُ مُتاحةً للخَوْف مِنَ اللهِ، والسُّجودِ لَهُ، وتَمجيدِهِ. فالفُرصة ما تَزالُ مُتاحَة أمام الخاطئِ لكي يأتي ويَعْرِفَ اللهَ، ويَعبُدَهُ، ويُمَجِّدَهُ مِن خلالِ غُفرانِ الخطايا. وسوفَ يَكْرِزُ المَلاكُ بالبشارة الأبديَّة. والبشارةُ الأبديَّة هي كالآتي، يا أحبَّائي: أنَّ الخالِقَ صَارَ فادينا – أنَّ الخَالِقَ صارَ فادينا.
فاللهُ الخَالقُ نَفْسُهُ سيَأتي في النِّهاية بالدَّينونة تَمْهيدًا لإبْطالِ الخَليقَة. وهذا هو الإعلانُ الدَّائمُ للكتابِ المقدَّسِ: أنَّ الخالِقَ هو الفادي، وأنَّ الفادي هو الخالقُ الَّذي خَلَقَ كُلَّ شيءٍ بالمُطْلَق. ولا يُمْكِنُني أنْ أَسْتَثْني ما جاءَ في سِفْر نَحَمْيا لأنَّهُ يُلَخِّصُ كُلَّ شيء. فنحن نقرأ في سِفْر نَحَمْيا 9: 5 أنَّ جَميعَ اللاويِّينَ اجتمعوا وقالوا: "قُومُوا بَارِكُوا الرَّبَّ إِلهَكُمْ مِنَ الأَزَلِ إِلَى الأَبَدِ، وَلْيَتَبَارَكِ اسْمُ جَلاَلِكَ الْمُتَعَالِي عَلَى كُلِّ بَرَكَةٍ وَتَسْبِيحٍ". ثُمَّ استمعوا إلى هذهِ الكلمات: "أَنْتَ هُوَ الرَّبُّ وَحْدَكَ". فهذهِ هي تَسبيحتهم: "أَنْتَ هُوَ الرَّبُّ وَحْدَكَ. أَنْتَ صَنَعْتَ السَّمَاوَاتِ وَسَمَاءَ السَّمَاوَاتِ وَكُلَّ جُنْدِهَا، وَالأَرْضَ وَكُلَّ مَا عَلَيْهَا، وَالْبِحَارَ وَكُلَّ مَا فِيهَا، وَأَنْتَ تُحْيِيهَا كُلَّهَا. وَجُنْدُ السَّمَاءِ لَكَ يَسْجُدُ". "أَنْتَ هُوَ الرَّبُّ". وهكذا هي الحالُ دائمًا في الكتابِ المقدَّس – دائمًا. فاللهُ هو الَّذي يُنْسَبُ إليه كُلُّ الفَضْلِ ويَحْصُلُ على كُلِّ المَجْدِ على خَلْقِهِ للخليقة. وكيفَ فَعَلَ ذلك؟ نقرأ في المزمور 33: "بِكَلِمَةِ الرَّبِّ صُنِعَتِ السَّمَاوَاتُ، وَبِنَسَمَةِ فِيهِ كُلُّ جُنُودِهَا". "لأَنَّهُ قَالَ ..." (في العدد 9) "فكان. هُوَ أَمَرَ فَصَارَ" (المزمور 33).
وهناك مَقطعان رائعان في سِفْر أعمال الرُّسُل يُبَيِّن فيهما بولُس هذا الأمر بوضوحٍ شديد. فنحن نقرأ في سِفْر أعمال الرُّسُل 14: 15 أنَّ بولُس وبرنابا كانا يَعِظان في بيئة وَثنيَّة في لِسْترَة يَعبُدُ فيهِ النَّاسُ الآلِهَة المُتَعارَف عليها آنذاك. وقد قالا للنَّاس: "نَحْنُ أَيْضًا بَشَرٌ تَحْتَ آلاَمٍ مِثْلُكُمْ، نُبَشِّرُكُمْ أَنْ تَرْجِعُوا مِنْ هذِهِ الأَبَاطِيلِ إِلَى الإِلهِ الْحَيِّ". أيِّ إلَهٍ؟ الإلَهِ "الَّذِي خَلَقَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَالْبَحْرَ وَكُلَّ مَا فِيهَا".
وَفي وَسْطِ أَرِيُوسَ بَاغُوسَ (في أعمال الرُّسُل 17)، تَواجَهَ بولسُ معَ الفلاسفة. فقد كانوا قد بَنَوْا مَذْبحًا لإلَهٍ مَجْهول في حالِ أنَّهُمْ نَسَوْا أيَّ إلَهٍ لم يَعْبُدوه. لذلك فقد قالَ لهم: اسمحوا لي أنْ أُحدِّثَكم عنِ الإلهِ الَّذي لا تَعرفونَه. فسوفَ أُحدِّثُكم عنه. ونقرأ في العدد 24: "الإِلهُ الَّذِي خَلَقَ الْعَالَمَ وَكُلَّ مَا فِيهِ". بعبارة أخرى: هذا هُوَ هذا الإله. إنَّهُ "الإِلهُ الَّذِي خَلَقَ الْعَالَمَ وَكُلَّ مَا فِيهِ". وكما تَرَوْن، فإنَّ هذه ليست جُملة غامضة. أليسَ كذلك؟ ففي كُلِّ مَرَّة تجدونَ فيها هذه المقاطِع، ستُلاحظونَ أنَّها شاملة، وأنَّها لا تَذكر أيَّ عمليَّة تَطوُّر. فاللهُ هو الَّذي خَلَقَ كُلَّ شيء. وكُلُّ شيءٍ موجود هو خَليقة الله. والكتابُ المقدَّسُ يَصِفُ اللهَ مِرارًا وتَكرارًا بأنَّهُ الخالِق.
بعد أنْ عَرفتم كُلَّ هذا، لِنَعُد إلى تَكوين 1: 1 – أيْ إلى هذه الجُملة البسيطة: "فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ". ويا أصدقائي، إمَّا أنْ تُصَدِّقوا هذه الكلمات وإمَّا أنْ لا تُصَدِّقوها. وفي ضَوْءِ هذه الجُملة والجُمَل الكثيرة الأخرى الَّتي قرأتُها لكم، إذا لم تكونوا تُصَدِّقونَها فإنَّكم لا تُصَدِّقونَ أمورًا كثيرةً أخرى في الكتابِ المقدَّس.
ويُقْلِقُني حقًّا أنْ أَسمعَ النُّقَّادَ يُهينون الكتاب المقدَّس. فبينما كنتُ عائدًا ليلة أمس على مَتْنِ الطَّائرة، قرأتُ مقالةً سَخيفةً جدًّا في مَجلَّة "يو.إس. نيوز آند وورلد ريبورت" (US News and World Report) عن الرَّسول بولُس. وقد كانت المقالة تُسيء تمامًا إلى كلمة الله، وتُسيء إلى بولُس، وتُعَبِّر عن حماقة الأشخاص الَّذينَ يُنكرونَ المسيح ويَعيشونَ بِمَعْزِلٍ عنِ التَّقوى. وَهُمْ يَفعلونَ الشَّيء نفسه بسِفْر التَّكوين، أو على الأقلِّ بجُزءٍ منه، ويُسَمُّونَ أنفسَهم "عُلَماء دِيْن". وهُم يقولون: "مِنَ المَعروفِ على نِطاقٍ واسع أنَّ قصَّةَ سفر التَّكوين ينبغي أنْ يُنظر إليها لا كتاريخٍ أدبيٍّ، بل كشِعْرٍ عِبْرِيٍّ رَمْزيّ". ولكِنْ لو كانَ ذلك صحيحًا، يجب أنْ تُفَسِّر جميعَ المقاطع الأخرى رَمْزيًّا أيضًا. ولكِنَّ إليكم ما يقولُهُ هؤلاء العَلماء: "نحنُ لا نَنظر إلى هذه القصَّة كقصَّة تاريخيَّة حقيقيَّة بأنَّ اللهَ خَلَقَ العالمَ حقًّا في سِتَّة أيَّام. بل إنَّهُ أسلوبُ الشِّعْرِ العِبريّ وَحَسْب".
وقد كَتَبَ "دوغلاس كيلي" (Douglas Kelly) كتابًا رائعًا جدًّا (سأبقى مَدينًا لَهُ في تَحضيرِ هذه السِّلْسلة) بعُنوان: "الخَلْقُ والصُّدفة" (Creation and Chance) يَقولُ فيه: "لقد حاولَ العديد مِن مُفَسِّري الكتاب المقدَّس أنْ يَتجنَّبوا الصِّراع الواضح بين القراءة المباشرة لِنَصِّ سفر التَّكوين ونَظريَّات النُّشوء الطَّبيعيِّ المُعارِضَة. وَهُمْ يفعلونَ ذلك بأنْ يقولوا إنَّ سفر التَّكوين، وتحديدًا الأصحاحات مِنْ 1 إلى 11، وبصورة أكثر دِقَّةً الأصحاحات الثَّلاثة الأولى، هي كتابات شِعْريَّة وليست تاريخًا زَمنيًّا. ومِنَ المُدهشِ أنَّ هذه المُعارضة شائعة في وسط الأشخاص الَّذين يُعْرَفُ عنهم أنَّهم يَتمسَّكونَ عامَّةً بِسُلْطة الكِتاب المقدَّس". وهذا مُدهشٌ حقًّا.
كذلك، هناك عَالِمٌ كَبيرٌ في "كُليَّة لاهوت ويستمنستر بفيلادلفيا" (Westminster Seminary in Philadelphia) – وَهُوَ عالِمٌ تَتَلْمَذْتُ على كِتاباتِهِ عندما كنتُ تِلميذًا – وهو: "إدوارد ج. يونغ" (Edward J. Young). وهو عَلَّامَةٌ واسِعُ الاطِّلاعِ في اللُّغة العِبْريَّة واللُّغات المُشابِهة. وهو يُجيبُ عنِ الادِّعاءاتِ القائلة إنَّ الأصحاحات 1-3 مِنْ سفر التَّكوين هي شِعْرٌ وليست تاريخًا حقيقيًّا. وقد رَدَّ "إدوارد" على هذا السُّؤالِ في مقالةٍ له بعنوان: "هل سفر التَّكوين شِعْرٌ أَو أُسطورة؟" وإليكُم ما قالَهُ: "مِنْ أجل التَّهَرُّب مِنَ الجُمَل الحقيقيَّة والصَّريحة الواردة في سفر التَّكوين، يقولُ بعضُ الإنجيليِّين إنَّ الأصحاحات الأولى مِنْ سفر التَّكوين هي شِعْرٌ أو أُسطورة. وَهُمْ يَعنونَ بذلك أنَّهُ لا يجوز لنا أنْ نَنظر إليها بوصفها قِصصًا حقيقيَّة، وأنَّ قَبول هذا الرَّأي يُخَلِّصُ المَرءَ مِنَ العَقَبات. وَهُمْ يقولونَ إنَّ قَبول هذا الرَّأي يُزيلُ كُلَّ المُصادَماتِ معَ العِلْمِ الحديث". ثُمَّ يقول "يونغ": "إنَّ سفر التَّكوين ليس شِعْرًا. فهناك قِصَصٌ شِعريَّة أخرى عنِ الخَلْق في الكتاب المقدَّس مِثْلَ المزمور 104، وبعض الأصحاحات في سفر أيُّوب – وهي تَختلف تمامًا عنِ الأصحاح الأوَّل في سفر التَّكوين. فالشِّعْرُ العِبْرِيُّ يَتَّسِمْ بِسِماتٍ مُعيَّنة، وهي غير موجودة في الأصحاح الأوَّل مِنْ سفر التَّكوين. لذلك فإنَّ الادِّعاءَ بأنَّ تكوين 1 شِعْر هو ليسَ حَلًّا مُطْلقًا. والشَّخصُ الَّذي يقول: ’أنا أُؤْمِنُ أنَّ سفر التَّكوين يَدَّعي أنَّهُ قِصَّة تاريخيَّة، ولكنِّي لا أُوْمِنُ بتلك القصَّة‘ هو مُفَسِّرٌ أفضل جدًّا للكتاب المقدَّس مِنَ الشَّخصِ الَّذي يقول: ’أنا أُوْمِنُ أنَّ سفر التَّكوين صحيحٌ تمامًا، ولكنَّهُ شِعْر‘". [نهاية الاقتباس].
لذلك، لا تُسْمِعونا كُلَّ هذا الهُراء عنِ الشِّعْر؛ بل يَكفي أن تقولوا إنَّكم لا تؤمنون بهذه القصَّة. فهذا نَهْجٌ أفضل. فالأصحاح الأوَّل مِنْ سِفْر التَّكوين لم يُكْتَب بأسلوبٍ يُوافِق الشِّعْرَ العِبْرِيَّ. ويمكنكم أنْ تجدوا مَقاطع كثيرة في العهد القديم يَنطبق عليها ذلك. أمَّا هذا الأصحاح فَلا. فهو لا يَستخدِم أنواع التَّوازي المعروفة والتَّقليديَّة المعروفة في الشِّعْرِ العِبْريّ. ويقول "دوغلاس كيلي": "لا يُمْكِن لأيِّ غَرْبَلَة تَفسيريَّة أنْ تَجِدْ ذَرَّةً مِنَ النَّظرة الشِّعريَّة إلى الأصحاحات 1-11 مِنْ سِفْر التَّكون في أسفار العهد الجديد. فلو كانَ شِعْرًا، يمكننا أنْ نتوقَّع مِنْ كُتَّاب العهد الجديد أنْ يَفترِضوا أنَّهُ شِعْر وأنْ يُعامِلوهُ كَشِعْر. ولكِنْ عندما تَقرأونَ تَعليقات كُتَّاب العهد الجديد على سِفْر التَّكوين، مِنَ الواضح أنَّهُمْ يَنظرونَ إليهِ كتاريخ".
ويُلَخِّص "هنري موريس" استخدام العهد الجديد للعهد القديم بهذه الطَّريقة إذْ يَقول: "إنَّ أَقَلَّ ما يُقال بخصوص العهد الجديد هو أنَّهُ أكثر اعتمادًا مِنَ العهد القديم نفسه على سِفْر التَّكوين. فهناك ما لا يَقِلّ عن 165 مَقطعًا في سفر التَّكوين اقْتُبِسَتْ اقتباسًا مُباشِرًا أو أُشيرَ إليها بوضوح في العهد الجديد. وقد تَمَّت الإشارة إلى الكثير مِن هذه الآيات أكثر مِن مَرَّة. لذلك، هناك على أقَلِّ تقدير 200 اقتباس أو إشارة إلى سفر التَّكوين في العهد الجديد. ومِنَ المُهمِّ أنْ نَعرف أنَّ الجُزْءَ الَّذي تَعَرَّضَ لأشْرَسِ هُجومٍ مِنَ المُشَكِّكينَ وغيرِ المُؤمِنين، أيْ الأصحاحات 1-11 مِنْ سِفْر التَّكوين، هو الجُزء الَّذي تَرَكَ أكبرَ تأثيرٍ في العهد الجديد. فهناك أكثر مِنْ مِئَة اقتباس أو إشارة مباشرة إلى الأصحاحات 1-11 مِنْ سفر التكوين في العهد الجديد. فضلاً عن ذلك، فإنَّ كُلَّ أصْحاحٍ مِنْ هذه الأصحاحات الأحَدَ عَشَر يُشارٌ إليه في مَوْضِعٍ ما في العهد الجديد، وكُلَّ كاتبٍ مِنْ كُتَّاب العهد الجديد يُشيرُ في موضعٍ ما إلى الأصحاحات 1-11 مِنْ سِفْر التكوين [كُلّ كاتِب مُنْ كُتَّاب العهد الجديد]. وفي ما لا يَقِلّ عن سِتِّ مُناسباتٍ مُختلفة، اقتبسَ يسوعُ المسيحُ نَفْسُهُ مِنْها، أو أشارَ إلى شيءٍ ما أو شخصٍ ما في واحدٍ مِنْ هذهِ الأصحاحاتِ الأحَدَ عَشَر [سِتّ مَرَّات مُختلفة]، بما في ذلك الإشارات المُحَدَّدة إلى كُلِّ أصحاحٍ مِنَ الأصحاحات السَّبعة الأولى. كذلك، في جميعِ هذه المَرَّات الَّتي يُشيرُ فيها العهد القديم أو العهد الجديد إلى سفر التَّكوين، لا يوجد دليلٌ صغيرٌ واحدٌ على أنَّ الكُتَّاب نَظروا إلى الأحداث أو الأشخاص كأساطير أو رُموز. بل إنَّ العَكسَ هو الصَّحيح إذْ إنَّهم جميعًا نَظروا إلى سفر التَّكوين كَسِفْرٍ تاريخيٍّ حقيقيٍّ ذي سُلْطانٍ تامٍّ" [نهاية الاقتباس]. شُكرًا لك، هِنري (Henry)، على هذه المادَّة القَيِّمة.
ويَذكُر "وولتر براون" 71 شاهدا في العهد الجديد مِنَ الأصحاحات الأولى مِنْ سِفْر التَّكوين، ثُمَّ يَخْلُص إلى القَوْل – إليكُم ما يقول: "كُلُّ كاتبٍ مِنْ كُتَّاب العهد الجديد يُشير إلى الأصحاحات الأولى مِن سِفْر التَّكوين – كُلُّ واحدٍ منهم. ويسوعُ المسيحُ أشارَ إلى كُلِّ واحدٍ مِنَ الأصحاحات السَّبعة الأولى مِن سِفْر التَّكوين. وكُلُّ سفرٍ مِن أسفار العهد الجديد، باستثناء الرِّسالة إلى غلاطيَّة، ورسالة فيلبِّي، ورسالتي تسالونيكي الأولى والثَّانية، ورسالة تيموثاوس الثَّانية، ورسالة تيطُس، ورسالة فليمون، ورسالتي يوحنَّا الثانية والثالثة، تُشيرُ إلى الأصحاحات 1-11 مِنْ سِفْر التَّكوين. فكُلُّ أصحاحٍ مِنَ الأصحاحات 1-11 مِن سِفْر التَّكوين، باستثناء الأصحاح 8، مُشار إليه تحديدًا في موضِعٍ ما مِنَ العهد الجديد. ومِنَ الواضحِ أنَّ كُلَّ كاتبٍ مِن كُتَّاب العهد الجديد كانَ يَقبل تلك الأصحاحات الأولى ويؤمن أنَّها صحيحة تاريخيًّا".
والآن، إذا رَجعتم إلى سِفْر التَّكوين قليلاً، فإنَّ مُخَطَّط سِفْر التَّكوين يؤكِّد أكثر تاريخيَّة الأصحاحات الأولى. وسوفَ أُحاولُ أنْ أَخْتِمَ حَديثي بهذه النُّقطة. ها! ها! فَما تَزالُ المادَّة الدَّسِمَة أمامي هُنا. ولكِنْ إذا نَظرتم إلى مُخَطَّطِ سِفْر التَّكوين ستجدونَ أنَّ الأصحاحات 1-11 هي تاريخٌ البِدايات. والأصحاحات 12-50 هي تاريخُ الآباء حيثُ نقرأ عن إبراهيم وإسحاق وُصولاً إلى يوسُف – أو بالأحرى: يَعقوب ويوسُف. فلديكم هنا تاريخ البِدايات: أيْ قِصَّة الخَلْق، والطُّوفان، والتَّشَتُّت. ثُمَّ لديكم تاريخ الآباء: إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، ويوسُف. فَهُوَ مُقَسَّم تقسيمًا جيِّدًا. ولا أحدَ يَعترِض على أنَّ الأصحاحات مِن 12 إلى 50 هي تاريخ. ولكِنْ لماذا يَعترضونَ على أنَّ الأصحاحات 1-11 هي تاريخ؟ وهُمْ لا يُريدون حقًّا أنْ يقولوا إنَّ قصَّة الطُّوفان ليست تاريخًا لأنَّ هناك أدلَّة عديدة على صِحَّتِها. وَهُمْ لا يُريدونَ بالضَّرورة أنْ يقولوا إنَّ قصَّة التَّشَتُّت، أيْ قِصَّة بُرْج بابل والأُمَم واللُّغات، هي ليست تاريخًا أيضًا. فلا بُدَّ مِنْ وجودِ تَفسيرٍ ما لتنوُّع اللُّغات والأُمم.
ولكِنَّ ما يرغبونَ في الاعتراضِ عليه يَختصُّ بالأصحاحات الثَّلاثة الأولى مِن سِفْر التَّكوين. وَما يَهُمُّهُم كثيرًا أنْ يَعترضوا عليه هو قصَّة الخَلْق. فَهُمْ يَظُنُّونَ أنَّ العِلْمَ قد قالَ ما لَدَيْهِ وَنَقَضَ الكِتابَ المقدَّس. ولكِنَّ سِفْر التَّكوين هو تاريخ: فهو تاريخُ البِدايات (في الأصحاحات مِنْ 1 إلى 11)، وتاريخ الآباء (في الأصحاحات مِن 12 إلى 50). والحقيقة هي أنَّني أُقَدِّمُ لكم درسًا سريعًا في سِفْر التَّكوين. انظروا إلى الأصحاح الخامس. فالكلمة "مواليد" تَعني "سِلْسِلَة نَسَب"؛ وهي تاريخ – تاريخ. فنحنُ نقرأ في الأصحاح الخامِس والعدد الأوَّل: "هذَا كِتَابُ مَوَالِيدِ آدَمَ". ونقرأ في الأصحاح السَّادس والعدد التَّاسع: "هذِهِ مَوَالِيدُ نُوحٍ". ونقرأ في الأصحاح العاشر والعدد الأوَّل: وهذِهِ مَواليد ... سَامٌ وَحَامٌ وَيَافَثُ". ونقرأ في الأصحاح 11 والعدد 10: "هذِهِ مَوَالِيدُ سَام". وفي العدد 27: "وَهذِهِ مَوَالِيدُ تَارَحَ". وفي الأصحاح 25 والعدد 12: "وَهذِهِ مَوَالِيدُ إِسْمَاعِيل". وفي العدد 19: "وَهذِهِ مَوَالِيدُ إِسْحَاقَ". وَهَلُمَّ جَرَّا. ثُمَّ نقرأ في الأصحاح 36: "وَهذِهِ مَوَالِيدُ عِيسُوَ". وفي العدد التَّاسع: "وَهذِهِ مَوَالِيدُ عِيسُو" إذْ يَرِدُ ذِكْرُها ثانيةً. ونقرأ في الأصحاح 37 والعدد الثَّاني: "هذِهِ مَوَالِيدُ يَعْقُوبَ".
لذلك، يمكنكم أنْ تُقَسِّموا هذا السِّفْرَ بِمُجمله إلى سِجِلَّاتٍ تاريخيَّة. فهو كذلك. وإذا رَجَعْتُم إلى الوراء، يمكنكم أنْ تَتَقَصُّوا الأحداثَ التَّاريخيَّةَ مِنْ يوسُف رُجوعًا إلى يعقوب وعيسو، إلى إسحاق، إلى إسماعيل، إلى إبراهيم، إلى تارَح، إلى سام وحام ويافَث، إلى نوح، إلى آدَم، إلى الله. فهو يَسيرُ على هذا النَّحْو. فهو تاريخ. ومِنَ المُضْحِك أنَّهُ بالرَّغم مِن وجود كُلِّ هذه الجُمَل الواضحة جدًّا بأنَّ هذا تاريخ، فإنَّ هؤلاء يَقولونَ إنَّ الجُزءَ التاريخيَّ المُختصَّ بالله هو مُجَرَّد أُسطورة. وسوفَ أكتفي بهذا القَدْر. وهُناكَ المَزيد في المَرَّة القادمة. وسوفَ أبتدئُ بالعَدَد الأوَّل. دَعونا نَحْني رُؤوسَنا حتَّى نُصَلِّي معًا:
قَوِّي إيمانَنا، يا رَبّ، مِنْ خلالِ هذه الدِّراسة، وقَوِّي ثِقَتَنا وإيمانَنا بِكَ وبعَظَمَتِكَ. نحنُ نُسَبِّحُكَ لأنَّكَ الخالِقُ-الفادي. فهذا هو أنتَ. وأنتَ تُريدُ أنْ نَعرفكَ هكذا وأنْ نَعْبُدَكَ ونُمَجِّدَك. نحنُ نُسَبِّحُكَ على خَليقَتِكَ وفِدائِك. آمين.

This article is also available and sold as a booklet.