
نحنُ نتأمَّل في اليوم الخامِس في قصَّة الخَلْق (سِفْر التَّكوين 1: 20-23)، سِفْر التَّكوين 1: 20-23. والنَّصُّ يقول: "وَقَالَ اللهُ: «لِتَفِضِ الْمِيَاهُ زَحَّافَاتٍ ذَاتَ نَفْسٍ حَيَّةٍ، وَلْيَطِرْ طَيْرٌ فَوْقَ الأَرْضِ عَلَى وَجْهِ جَلَدِ السَّمَاءِ». فَخَلَقَ اللهُ التَّنَانِينَ الْعِظَامَ، وَكُلَّ ذَوَاتِ الأَنْفُسِ الْحيَّةِ الدَّبَّابَةِ الْتِي فَاضَتْ بِهَا الْمِيَاهُ كَأَجْنَاسِهَا، وَكُلَّ طَائِرٍ ذِي جَنَاحٍ كَجِنْسِهِ. وَرَأَى اللهُ ذلِكَ أَنَّهُ حَسَنٌ. وَبَارَكَهَا اللهُ قَائِلاً: «أَثْمِرِي وَاكْثُرِي وَامْلإِي الْمِيَاهَ فِي الْبِحَارِ. وَلْيَكْثُرِ الطَّيْرُ عَلَى الأَرْضِ». وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْمًا خَامِسًا".
ونحنُ في اليومِ الخامِس – كما يُشيرُ النَّصُّ. فقد مَرَّ اليومُ تلو الآخر في أسبوع الخليقة، وقرأنا عن أمورٍ رائعةٍ ومُدهشةٍ في كلمةِ الله. وهُناكَ أمرٌ لا يَنْفَكُّ يُدهشُني كُلَّما قرأتُ أكثر. فما يحدُث في سِلْسِلةٍ دِراسيَّةٍ مِن هذا النُّوع، عادَةً، هو أنَّهُ حَالما أبتدئُ سلسلةً فإنَّكم جميعًا تُحاولونَ مُساعدتي مِن خلال إرسال أشياء لي: كُتُب، ورسائل إلكترونيَّة، وفاكسات، ومواد مأخوذة مِنَ الإنترنت، إلى أنْ تُتْخَم مَكْتَبَتي فوق التَّخَيُّل. وقد كنتُ أقرأُ وأحاولُ أنْ أقرأَ أكبرَ قَدْرٍ مُمكن. وكُلَّما قرأتُ أكثر، زادَ اهتمامي بالموضوع. ولا بُدَّ أنْ أُشارِكَكُم بأجزاءٍ مِمَّا قرأت.
والأمرُ الَّذي لا يَنْفَكُّ يُدهشني في أثناء قراءتي هو أنَّني لم أصْرِف يومًا وقتًا طويلاً مِنْ حياتي في دراسة العُلوم. فقد دَرَسْتُ في الجامعة المُتَطَّلبات الأساسيَّة ولم أَقرأ شيئًا عِلْميًّا خارِج ذلك الإطار. وقد نَسَيْتُ أغلبيَّة الأشياء الَّتي تَعَلَّمْتُ عنها. ولكنِّي أقرأُ الآنَ عنِ التنوُّعِ المُذهلِ والتَّعقيدِ الهائلِ للنِّظامِ المَخلوق. وهاتانِ هُما الكلمتانِ اللَّتانِ تَلْصَقان في ذهني: تَنَوُّع النِّظام المَخلوق وتَعقيدُه. وهذا يُخْبِرُني عن عَظَمَة ذَكاءِ الله. فمِنَ المُذهلِ، حينَ تبتدئونَ في النَّظر إلى الخليقة والتَّأمُّلِ فيها بأيِّ قَدْرٍ مِنَ التَّفكيرِ وأيِّ دَرَجَةٍ مِنَ العُمْقِ، هو أنَّكُم تجدونَ أنفسكم وجهًا لوجه مع ضَخامةِ ذكاءِ اللهِ وقُدرَتِه. وما زِلْتُ أتَعَجَّبُ في أثناء قراءتي عن أنصار نظريَّة التطُّور الَّذينَ يُنكرونَ اللهَ، ما زِلْتُ أتعجَّبُ حينَ أرى حَماقَةَ استنتاجاتِهم وَاليأسَ المُطْبِقَ الَّذي تَقودُ إليه.
في شهر كانون الأوَّل/ديسمبر مِنْ سنة 1996، ماتَ عَالِمٌ فَلَكِيٌّ يُؤمِن بنظريَّة التطوُّر اسْمُهُ "كارل سيغان" (Carl Sagan). ورُبَّما كان هذا الرَّجُل أشْهَرَ عالمٍ فلكيٍّ مَعروف في العالَم. وقد كان يَرى أنَّ الحياةَ حَدَثَتْ وحَسْب. وقد أَنْهى حَياتَهُ بِفَراغٍ تامٍّ ويأسٍ مُطْبِقٍ. وبالقُربِ مِنْ نهاية حياته، أَجْرى مُقابلةً تلفزيونيَّةً أعَدَّها "تيد كوبيل" (Ted Koppel). وقد وَجَّهَ "كوبيل" سؤالاً إلى "ساغان" مِنْ مُنطلق عِلْمِهِ بأنَّهُ في نهاية حياتِه، ومِنْ مَنطلقِ عِلْمِهِ بأنَّهُ صَرَفَ حَياتَهُ في العِلْمِ يَدْرُس الكَوْن بوصْفِهِ عَالِمًا فَلكيًّا فقالَ لهُ: "هل لديكَ، سَيِّدي، كلمات حِكْمَة تقولُها للنَّاسِ في العالم؟" وقد رَدَّ "ساغان" قائلاً [وأنا أقتبسُ كَلامَهُ]: "نحنُ نَعيشُ على كُتلةٍ مِنَ الصُّخورِ والمَعادن تَدورُ حَوْلَ نَجْمٍ رَتيبٍ هو مُجَرَّد واحدٍ مِنْ أكثر مِن 400 مليار نَجْمٍ آخر تُشَكِّلُ مَجَرَّةَ دَرْبِ التَّبَّانة الَّتي هي واحدةٌ مِنْ مِليارات المجرَّات الأخرى الَّتي تُشَكِّل الكَوْن الَّذي قد يكونُ واحدًا مِنْ عَدَدٍ كبيرٍ أو رُبَّما عَدَدٍ هائلٍ مِنَ الأكوانِ الأخرى. وهذا أمْرٌ يَستحقُّ أنْ نَتأمَّلَ فيه" [نهاية الاقتباس].
فقد فَكَّرَ في الكَوْن، وتَمَعَّنَ فيه، وتأمَّلَ فيه، ولكنَّهُ لم يَسْمَحْ للهِ أنْ يكونَ واقعًا. وفي النِّهاية، فإنَّ أذْكى شخصٍ يُؤمن بنظريَّة التطوُّر لا يَعرف شيئًا سِوى أنَّ الكَوْنَ موجود. فهو لا يَعرف كيف. وهو لا يَعرف لماذا. والأهمُّ مِن ذلك هو أنَّهُ لا يَعرف مَنْ هو الخالِق. ويا لهُ مِنْ أمرٍ مُحْزِن! فكُلُّ شيءٍ في الكون يُشيرُ إلى اللهِ الخالِق. وحتَّى إنَّ "ألبيرت آينشتاين" (Albert Einstein) قالَ: "لا شَكَّ أنَّ هناكَ ذكاءً خارقًا خَلْفَ وُجودِ الكَوْن. والإنسانُ غَبِيٌّ إنْ لم يَكُنْ يُؤمنُ بذلك". ثُمَّ إنَّهُ تابَعَ كلامَهُ قائلاً: "ولكنَّنا لا نستطيعُ أنْ نَعْرِفَهُ". فأصْحابُ المذهبِ الإنسانيِّ الَّذينَ يُؤمنونَ بنظريَّة التطوُّر يَرفُضونَ أنْ يَرَوْا الأشياءَ البديهيَّة، ويَرفُضونَ أنْ يتقابلوا معَ اللهِ الَّذي يُريدُ مِنهم أنْ يَعرفوه.
وَلْنَعُدْ إلى النِّظامِ المَخلوق. وأقولُ مَرَّةً أخرى إنَّ التَّعقيدَ والتَّنَوُّعَ لا يَتْرُكُ أمامَ الإنسانِ تَفسيرًا آخَرَ سِوى أنَّ هناكَ ذكاءً إلهيًّا وقُدرةً إلهيَّةً يَفوقان استيعابَنا. وسوفَ أَنْتَقى فقط أجزاءً صغيرةً مِنَ النِّظام المَخلوق تُشيرُ إلى هذا التَّعقيد وهذا التَّنوُّع، وأُشارِكُ بعضًا مِنْها معكم. فبعضُ الطُّيورِ تَسْتَعينُ بالنُّجومِ عندما تُهاجِر. وكيفَ تَعْرِفُ كيفَ تَفعل ذلك؟ الحقيقة هي أنَّ الطُّيورَ الَّتي تَفْقِس مِنْ بيضة داخل بِناية دونَ أنْ تَرى السَّماءَ تستطيع أنْ تُوَجِّه نَفْسَها باتِّجاهِ مَوْطِنِها الأصليِّ إنْ جَعَلناها تَرى سَماءً اصطناعيَّةً تُحَاكي السَّماءَ الَّتي لم تَطِرْ فيها يومًا.
وهناكَ أُذُنانِ لِلْعُثّ. والسُّوسُ (وهي حشراتٌ صغيرة جدًّا) تُحِبُّ أنْ تَعيشَ في أُذنِ العُثّ. ولكِنَّ الأمرَ العَجيب هو أنَّ السُّوسَ يَعيشُ في أُذنٍ واحدةٍ فقط مِنْ أُذُنَيِ العُثِّ. فإنْ دَخَلَ السُّوسُ في كِلْتا الأُذُنين، لا تتمكَّن العُثُّ مِنَ الطَّيران. لِذلك فإنَّ العُلَماءَ يَعثُرونَ على السُّوسِ في أُذن واحدة فقط. ولكنْ كيفَ يَعرف السُّوس أنْ يَستخدِمَ واحدةً مِنَ الأُذُنَيْنِ فقط؟ ثُمَّ إنَّ هُناكَ الخُنفُساءَ المَدْفَعِيَّةَ المُدهشة الَّتي تَختَزِن مادَّتَيْنِ كيمياويَّتَيْنِ في جَسَدِها الصَّغير. وهي تَمْزِجُ هاتينِ المادَّتينِ بدِقَّة مُتناهية في اللَّحظة المُناسبة خارِجَ جَسَدِها عندما تُطْلِقُ هاتينِ المادَّتَيْن فتَتفاعلان معًا وتتفجَّران في وجه العدوّ. لِذلك فإنَّها تُسَمَّى "الخَنافِس المَدفعيَّة". ولكِنَّ المادَّتينِ الكيمياويَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَتَفَجَّرا خارِجَ جَسَدِها لا تَتَّحدان معًا قبلَ الأوان وإلَّا فإنَّهُما تُفَجِّرا الخُنْفُساء. وبالمُناسبة، كيف تمكَّنت الخُنفُساء مِنْ تَطوير هاتينِ المادَّتَيْنِ المُتفجِّرَتَيْنِ والاحتفاظِ بهما مُنفَصِلَتَيْن؟
وقد بَيَّنَتْ جامعة ألبيرتا (University of Alberta) بكندا، ذاتَ مَرَّة، أنَّهُ في إطارِ درجةِ الحرارة الموجودة، هناك نحو 1800 عاصفة تَعْمَل في أيِّ وقتٍ مِنَ الأوقات، وأنَّ تلك العواصِف الألف والثَّمانمِئة الَّتي تَعمل في أيِّ وقتٍ مِنَ الأوقات تَصْرِف الطَّاقة بصورة هائلة تَصِل قُدْرَتُها إلى مليار وثلاثمئة مليون حصان. ومِنْ أينَ تأتي هذه الطَّاقة؟ لقد قالَ أحدُ الفيزيائيِّينَ الكَنديِّين إنَّ المطر الَّذي يبلغ ارتفاعه أربع بُوصات فوق مساحة عشرة آلاف ميل مُربَّع تحتاج إلى حَرْقِ 640 مليون طُنٍّ مِنَ الفَحْم لتبخير ماءٍ كافٍ لمثل هذا المطر. ومِن أجل تَبْريد البُخار مَرَّة أخرى وتَكثيفِهِ في السُّحُب فإنَّهُ يتطلَّب قُدرةً تَصِل إلى 800 مليون حصان مِنَ التَّبريد على مدار 24 ساعة في اليوم لمُدَّة 100 يوم. ولكنَّ اللهَ يَستخدِم الطَّاقة الهائلة للشَّمس لتبخيرِ المياه، ويُبَرِّدُها في الجوّ، ويُرسلها ثانيةً إلى أسفل في صورة مطر. وبالمناسبة، فإنَّ المُزارعَ العاديَّ في ولاية مينيسوتا (Minnesota) يَحصل مَجَّانًا على (407,510) غالون مِنَ الماء لِكُلِّ فَدَّان مِنَ الأرض في السَّنة مِن خلال هذه العمليَّة إنْ كان هُطول المطر يَصِل إلى 24 بوصة. ومِنْ أينَ تأتي كُلُّ هذه القُدرة؟
ووَفْقًا للمُتحَفِ الطبيعيِّ الأمريكيّ (U.S. Natural Museum) فإنَّ هناكَ أكثر مِن عَشْرَة ملايين نوع مُختلِف مِنَ الحَشرات. فهناك 2500 نوع مِنَ النَّمْل. وأنا أَعلم أنَّكُمْ رأيتُموها في رِحلتكم الأخيرة. ومُستعمرة النَّمْل الواحدة قد تحوي نحو مئة مليون نَملة. ولكِنْ كيفَ تَتكاثَر هذه المخلوقات الصَّغيرة بهذه الطَّريقة؟ وهناكَ مَنْ يُقَدِّر وجود خمسة مليارات طائر في أمريكا. وبمقدور البَطِّ البَرِّيِّ أنْ يطير بسُرعة سِتِّين ميلاً في السَّاعة. وبمقدور النُّسور أنْ تَطير بسُرعة مئة ميل في السَّاعة. وبمقدور الصُّقور أنْ تَنْقَضَّ على فَريسَتِها بسُرعة 180 ميلًا في السَّاعة. وبالمُناسبة، فإنَّ سَمَكة "القُدّ" (لِمَعلوماتِكُم فقط) تستطيع أنْ تَضَع تِسعَة ملايين بيضة. أمَّا سَمَكة "الرِّنْكَة" فتضع سبعينَ ألفَ بيضة فقط. وليسَ لديَّ أيُّ تَعليقٍ آخر، ولكنَّ هذا يَكفي لإصابَـتي بالذُّهول. تِسعة ملايين بيضة؟ تسعة ملايين سمكة "قُدّ" صغيرة؟ هذا هو سبب وجود الكثير مِن مطاعم السَّمك والبَطاطس في إنجلترا. فَهو لا يَنْفَد لَديهم.
كذلكَ فإنَّ مُحيطَ الأرضِ هو 25000 ميل. وهي تَزِنُ (6,586) سيكستيليون طُنّ، وتَتَعَلَّقُ في الفَضاء، وتَدور بسُرعة ألف ميل في السَّاعة بتوازنٍ تامٍّ. وهذا مُهِمٌّ لَئَلَّا تَقفزوا في كُلِّ مَرَّة تتحرَّكُ فيها الأرض. وفي الوقت نفسه الَّذي تَدورُ فيه بسُرعة ألف ميل في السَّاعة، فإنَّها تتحرَّك في الفضاءِ حول الشَّمس بسرعة ألف ميل في الدَّقيقة في مدارٍ قُطْرُهُ 580 مليون ميل. وهي تَفعل ذلك بزاوية مُعَيَّنة مُصَمَّمة لِتَعاقُب الفُصول الَّتي تُوفِّر كل المحاصيل الَّتي تُطْعِم سُكَّانَها. وقد يَتراوَح طُولُ رأس المُذَنَّب مِنْ عشرة آلاف ميل إلى مئة مليون ميل. وقد يَصِل طُولُ ذَنَبِه إلى مئة مليون ميل. والمُذَنَّبات تُسافر بسُرعة 350 ميل في الثَّانية. وقَلْبُك الَّذي يَبْلُغ حَجْمُهُ حَجْمَ قَبْضَةِ يَدِك يَزِنُ أقلَّ مِن 225 غرامًا، يَضُخُّ أكثر مِن 1800 غالون مِنَ الدَّمِ يوميًّا. وهو يَعمل في اثنتي عشرة ساعة عملاً يَكفي لِرَفْع خَمسةٍ وسِتِّينَ طُنًّا عنِ الأرض.
وهَل تَعلمونَ أنَّ الشَّمس تَحْرِق (وهذا أمرٌ مُذهلٌ) أربعةَ ملايين طُنٍّ مِنَ المادَّة في الثَّانية؟ فَكِّروا في الأشياءِ الصَّغيرة كالذَّرَّة. فهي ليس مَرئيَّة. فنحنُ نَعلم أنَّها موجودة، ولكنَّها حتَّى يومِنا هذا غير مَرئيَّة. فالذَّرَّاتُ صغيرة جدًّا حتَّى إنَّ كُلَّ ثلاثِ ذَرَّاتٍ تُشَكِّل جُزيئًا واحدًا مِنَ الماء. وإنْ كان بمقدورِكَ أنْ تأخُذ كُلَّ جُزيءِ ماءٍ موجودٍ في قَطرة واحدة مِنَ الماء وأنْ تَنْفُخَها ليصيرَ كُلُّ جُزيء بحجم حَبَّة رَمْل – ونحنُ نتحدَّث هنا عن جُزيءٍ واحدٍ مِنَ الماء. فإنْ كانَ بمقدوركَ أنْ تأخُذَ كُلَّ جُزيءٍ موجود في قَطرة ماء واحدة وأنْ تَنْفُخَهُ ليصيرَ بحجم حَبَّةِ رَمْل، سيَصير لديك ما يكفي مِنْ حَبَّاتِ الرَّمْل لِرَصْفِ طَريقٍ بسَماكة قَدَم واحِد، وبِعَرْض نِصْفِ ميل يَمتدُّ مِنْ لوس أنجلوس إلى مدينة نيويورك. فهذا هو عدد الجُزيئات في قطرة ماء واحدة. وهناك ثلاث ذَرَّات في كُلِّ جُزيء. ومع ذلك فإنَّ الذَّرَّة هي في الجُزءِ الأكبرِ مِنْها فَراغٌ أجْوَف. فالمادَّة الفِعليَّة الموجودة في الذَّرَّة تَشْغَل فقط واحد على تريليون مِنْ حَجْم الذَّرَّة. وعندما تَتَّحِد الذَّرَّات فإنَّها تَتَّحدِ معًا في مداراتها الخارجيَّة الَّتي تُسَمَّى "الإلكترون". فهذا هُوَ كُلُّ ما في الأمر. والشَّيءُ الَّذي يَجعل المادَّة تبدو صَلْبة هي الحركات الَّتي تَحدُث في داخل الذرَّات.
ولكنَّ الذَّرَّات ليست صَلْبَة حقًّا. فكُلُّ شيء هو في الحقيقة فَراغٌ أَجْوَف. ولو تَمَّ تَفريغُ الإنسانِ العاديِّ الحَجْمِ مِنَ الهَواءِ الَّذي فيه (وهذه فِكرة عميقة) – أليسَ كذلك؟ فلو تَمَّ تَفريغُ الإنسانِ العاديِّ الحَجْمِ مِنَ الفَراغِ الَّذي فيه، كَمِ الحَجْمُ الَّذي سَيَشْغَلُهُ في رأيكم؟ إذا تَمَّ تَفريغُكَ مِنَ الهَواءِ الَّذي فيك فإنَّكَ سَتَضيعُ على رأسِ دَبُّوسٍ لأنَّكَ سَتَشْغَل فقط واحِد على مِئَة مَليون مِنَ البُوصة المُرَبَّعة. لذلك، عندما يأتي أحَدُهُم ويقول إنَّكَ "لا شيء"، فإنَّهُ على صَواب. ولكِنْ مِن جهةٍ أخرى، أنتُم تُفَكِّرونَ في الحِمْيَةِ الغِذائيَّة. فأنا أَعلم ذلك. فأنتَ تُفَكِّر في أنَّهُ لا بُدَّ مِنْ وجود طريقةٍ لإنْجاحِ الحِمْيَة الغِذائيَّة. ولكنِّي أريدُ مِنكَ أنْ تَعلَم أنَّ بُوصة مُكَعَّبة واحدة مِنْ تلك المادَّة قد تَزِنُ نِصْفَ مِليار كيلوغرام. فملعقة شاي مُمتلئة بالماء تَحوي مَليون مليار تريليون ذَرَّة. وما أعنيه هو أنَّ هذا مُذهِل. أليسَ كذلك؟ وهل حَدَثَ هذا كُلُّهُ بِمَحْضِ الصُّدفة؟ هذا غير مَعقول.
واسمحوا لي أنْ أتحدَّثَ عنْ عَجَلَة الحياة. وهذا أمرٌ يُدهشني. فقد سَألتُ في هذا الصَّباح: "مَنِ اخْتَرَعَ العَجَلَة؟" وقد أجابَ أحَدُ الأشخاص: "إنَّهُم شُعوب المَايا". لا! إنَّهُم ليسوا شُعوب المايا، بَلِ الله. فهناكَ شَيءٌ يُسَمَّى "عَجَلَة الحياة" (wheel of life). وهي موجودة في كُلِّ مكانٍ فيكم. والعَجَلَةُ الَّتي أتحدَّثُ عنها (أيْ "عَجَلَة الحياة" كَما يُسَمِّيها العُلماءُ: "عَجَلَة الحياة") موجودة في مُرَكَّبٍ يُسَمَّى "إنزيم ATP". ولم يَتِمّ اكتشاف تركيب هذا الإنزيم إلَّا مؤخَّرًا. وبسبب هذا الاكتشاف، فازَ عَالِمان بجائزة نوبل في سنة 1997 هُما: "بول بوير" (Paul Boyer) مِنَ الولايات المُتَّحِدة الأمريكيَّة، و "جون ووكر" (John Walker) مِنَ المَملكة المُتَّحِدة. والعَجَلَة في هذا الإنزيم تَدور بسُرعة 100 دورة في الثَّانية. وهذا المُحَرِّك الصَّغير جدًّا هو أصغر بمئتي ألف مَرَّة مِن رأس الدَّبُّوس. وهو يَدور مئة دورة في الثَّانية. وكُلُّ خَلِيَّة في جسدك، وكُلُّ خليَّة في كُلِّ كائنٍ حَيٍّ تحوي الآلافَ مِنْ هذهِ المُحَرِّكات. وكُلُّ خَليَّة في كُلِّ كائنٍ حَيٍّ تحوي الآلافَ مِنْ هذه المُحَرِّكاتِ في خليَّة واحدة. وقد قَدَّرَ أحَدُهُم أنَّ جَسَدَكَ يحوي عَشْرَة كوادريليون مُحَرِّك صغير. واسمحوا لي أنْ أُطْلِعَكُم على ما يَفْعَلُهُ هذا المُحَرِّكُ الصَّغير.
إنَّ وظيفة مُحَرِّك (ATP) هي تَصنيع الجُزيء "أدينوزين ثُلاثيّ الفوسفات" (ATP) مِنْ "أدينوزين ثُنائيّ الفوسفات" (ADP) وحَمْض الفسفوريك. وَهُوَ مُرَكَّبٌ يتطلَّب إنتاجًا للطَّاقة. فحينئذٍ، يمكن لأدينوزين ثُلاثيّ الفوسفات أنْ يَتحوَّل إلى أدينوزين ثُنائيّ الفوسفات مَرَّةً أخرى وأنْ يَصْرِفَ طَاقَةً عن طريق الاشتراك في عمليَّة كيمياويَّة أخرى داخل الخليَّة تتطلَّب طاقةً لكي تتفاعل. لِذا فإنَّهُ يَتِمُّ إطلاقُ الطَّاقة ويَتِمُّ تَدوير المُنتجات بصورة دائمة ومستمرَّة في ذلك المُحَرِّك الصَّغير الَّذي يَحوي جسمك عشرة كوادريليون مِنْه تَدورُ طَوال الوقت. ويقول الدُّكتور "ووكر": "نحن نحتاجُ إلى وَزْنِ جِسْمِنا لتَصنيع أدينوزين ثُلاثيّ الفوسفات كُلَّ يوم". لِذا، يجب على هذه المُحرِّكات الصَّغيرة أنْ تُعيدَ إنتاج وَزْنِ جِسْمِكَ كاملًا كُلَّ يوم. فنحنُ نَستهلك هذا الكَمّ مِنَ الـ (ATP) ("أدينوزين ثُلاثيّ الفوسفات")، ونَستهلك تلك الطَّاقة لكي نُحافِظ على قدرتنا على التَّفكير والمشي والقيام بوظائفنا المُختلفة. وإنْ كُنَّا كَسالى في أحد الأيَّام، فإنَّنا سنَستهلِك فقط نِصْف وَزْنِ جِسمِنا مِنَ الـ (ATP) ("أدينوزين ثُلاثيّ الفوسفات"). وإذا بَذَلنا جُهدًا كبيرًا فإنَّ طُنًّا واحدًا مِنَ الـ (ATP) ("أدينوزين ثُلاثيّ الفوسفات") يُستهلَك كُلَّ يوم. في سنة 1993، اسْتَدَلَّ البروفيسور "بوير" بطُرُق غير مُباشرة على كيفيَّة إنتاج الـ (ATP) ("أدينوزين ثُلاثيّ الفوسفات"). ولكنَّ الدُّكتور "ووكر" هو الَّذي قَدَّمَ في سنة 1994 أوَّلَ وَصْفٍ مُفَصَّلٍ لكيفيَّة عمل هذا المُحَرِّك. وقد استَخدمَ الأشِعَّة السِّينيَّة ومِجهرًا إلكترونيًّا لأخذ صُورة ذَرِّيَّة. ثُمَّ إنَّ عَالِمًا يابانيًّا اخْتَرَعَ في سنة 1997 سِلْكًا مُتوهِّجًا صغيرًا يَتِمّ توصيلُه بالمِجْهَر الإلكترونيّ فَيَسْمَح برؤية المُحَرِّك يَدور تحت المِجْهَر.
وهذه المُحَرِّكات الدَّوَّارة الصَّغيرة المُعَقَّدة جدًّا مُصَمَّمَة بذكاء. وكُلُّ مُحَرِّكٍ منها يحوي واحدًا وثلاثينَ بروتينًا مُستقلًّا. وعليكم أنْ تتذكَّروا أنَّ هذا المُحَرِّك أصغر بمئتي ألف مَرَّة مِنْ رأس الدَّبُّوس، وأنَّهُ يَحوي واحدًا وثلاثين عُنصرًا بروتينيًّا تُصَنَّع مِنْ آلاف الأحماض الأمينيَّة المُرَتَّبة بِدِقَّة مُتناهية. هل هذه معلوماتٌ صَعبة عليكم؟ إنَّ الأمرَ يَزدادُ صُعوبةً. فهذا الوَصْفُ يَستمرُّ فَقْرَةً تلو الأخرى تلو الأخرى. وهذه المُحَرِّكات الصَّغيرة تُنْتِج طاقةً في كُلِّ دورة لها حين تدور بسُرعة 100 دورة في الثَّانية. فهي تُنتج الطَّاقة اللَّازمة لإبقائِكَ حَيًّا وعَامِلاً. ويقول د. "ووكر": "مِنَ المُذهل أنْ نُفَكِّر في أن هذه المُحَرِّكات الحَياتيَّة تَدور في كُلِّ خلايا أجسادِنا وأنَّها تَدورُ في كُلِّ الخلايا في كُلِّ كائنٍ حَيٍّ". ومَنِ الَّذي صَمَّمَ هذه المُحَرِّكات الدَّوَّارة الصَّغيرة؟ ومِنْ أَعْطاها طَاقَةً؟
يقول المزمور 139: 14: "أَحمَدُكَ مِنْ أَجْلِ أَنِّي قَدِ امْتَزْتُ عَجَبًا". إنَّ صَديقي "آر.سي. سبرول" (R.C. Sproul) هو لاهوتِيٌّ وفيلسوفٌ في الوقتِ نفسه. وأنا أُقَدِّرُهُ بوصفِهِ لاهوتيًّا، ولكنِّي أُقَدِّرُهُ أيضًا بوصفِهِ فيلسوفًا. فهو، في الحقيقة، فيلسوفٌ ظَريفٌ لأنَّهُ قادرٌ أنْ يَجْعَلَ النَّاسَ يَبْدونَ حَمْقى جِدًّا حَتَّى إنَّكَ لا تَستطيعُ أنْ تَمْنَعَ نَفْسَكَ مِنَ الضَّحِك. ويقول "سبرول" إنَّ هناكَ أربعة خِيارات فقط فيما يَختصُّ بأصْل الكَوْن. فلا توجد أمامك سِوى أربعة خِيارات: الخِيار الأوَّل هُوَ أنَّ الكَوْنَ مُجَرَّدُ وَهْمٍ – أيْ أنَّهُ غير موجود. هذا هو الخِيار الأوَّل. والخيار الثَّاني هو أنَّهُ خَلَقَ نَفْسَهُ بنفسه. والخِيار الثَّالث هو أنَّهُ موجودٌ بِذاتِهِ وأزليٌّ. والخِيار الرَّابع هو أنَّهُ خُلِقَ مِنْ قِبَلِ شَخْصٍ موجودٍ بِذاتِه. ويقول "سبرول" إنَّهُ لا توجد خِياراتٌ أخرى. فإمَّا أنَّهُ غير موجود، أو أنَّهُ خَلَقَ نَفسَهُ بنفسه، أوْ أنَّهُ موجودٌ دائمًا، أوَّ أنَّ شخصًا خَلَقَهُ. فهذه هي كُلُّ الخِيارات المُتاحة. وهو يقول: "لقد تَحَيَّرْتُ بشأنِ هذه الخِيارات طَوالَ عُقودٍ وبَحَثْتُ عنِ الإجابَة مِنْ خلالِ الفلاسفةِ واللَّاهوتيِّينَ والعُلماء. ولكنِّي لم أجِد أيَّ خِيارٍ نَظَرِيٍّ آخر لا يمكن إدراجُه تحت هذه الخِيارات الأربعة". فهذه هي كُلُّ الخِيارات المُتاحة. ثُمَّ يقول "سبرول": "يَجِب إقْصَاء الخِيار الأوَّل لِسَبَبَيْن". وهذا هو الخِيار الَّذي يقول إنَّ الكَوْنَ غير موجود وإنَّهُ مُجَرَّدُ وَهْم.
"أوَّلاً، إنْ كانَ وَهْمًا خاطئًا فإنَّهُ ليسَ وَهْمًا. وإنْ كانَ وَهْمًا صحيحًا لا بُدَّ أنَّهُ يوجد شخص أو شيء يَتَوَهَّم. وفي هذه الحالة، لا بُدَّ أنْ يكونَ ذلك الشَّخصُ أوِ الشَّيءُ الَّذي يَتوهَّم قد خَلَقَ ذاتَهُ بِذاتِه، أوْ موجودًا بِذاتِه، أوْ خُلِقَ مِنْ قِبَل كائنٍ موجودٍ بِذاتِهِ في الأصل. لِذلك لا يمكن القول إنَّ كُلَّ شيءٍ وَهْم". إذًا، إنَّهُ يقول إنَّهُ بإمكانِكَ أنْ تَحْذِفَ الخِيارَ الأوَّلَ، أيْ نَظريَّةَ الوَهْمِ، لأنَّنا إذا افتَرضنا أنَّ الوَهْمَ مُطْلَقٌ – بِمَعنى أنَّهُ لا وُجودَ لأيِّ شَيءٍ بما في ذلك الشَّيء الَّذي يَتوهَّم – فإنَّهُ لا يوجد سُؤالٌ يَختصٌّ بأصْلِ الكَوْن يَحتاجُ إلى أنْ نُجيبَ عنهُ لأنَّهُ لا وُجودَ حُرفيًّا لأيِّ شَيء. ولكِنْ إنْ كان هُناك شيءٌ موجود، فإنَّ هذا الشَّيء إمَّا أنْ يكونَ قد أَوْجَدَ نفسَهُ بنفسه، أيْ أنَّهُ موجودٌ بِذاتِه، أوْ أنَّهُ خُلِقَ مِنْ قِبَل شخصٍ موجودٍ بِذاتِه.
ولننظُر إلى الخِيار الثَّاني الَّذي يقول إنَّ الكَوْنَ خَلَقَ نَفسَهُ. وهذا خِيارٌ خَاطِئٌ مَنطقيًّا. فهو يُناقِضُ نَفسَهُ بنفسه ومُستحيلٌ مَنطقيًّا. ويقول "سبرول": "في الأساس، إنَّ خَلْقَ الذَّاتِ يتطلَّب وجودَ شيءٍ ما قَبْلَ وُجودِه". هل فَهِمْتُم ذلك؟ فلا يمكنك أنْ تَخلِق ذاتَك إلَّا إذا كنتَ موجودًا لكي تَخْلِق ذاتَك. وهو يقول: "إنَّ خَلْقَ الذَّاتِ هو أمرٌ مُستحيلٌ مَنطقيًّا وعَقلانيًّا. فلكي يَخْلِقَ شَيءٌ ذاتَهُ، يجب أنْ يكونَ موجودًا قَبْلَ خَلْقِه". وهذا مُستحيل. وهذا مُستحيلٌ بالنِّسبة إلى الموادِّ الصَّلبة، والسَّوائلِ، والغَازات. وهوُ مُستحيلٌ بالنِّسبة إلى الذَّرَّاتِ والدَّقائِق المُكَوِّنَة للذرَّات. وهو مُستحيلٌ بالنِّسبة إلى الضَّوْء. وهوُ مُستحيلٌ بالنِّسبة إلى الحرارة. وهوُ مُستحيلٌ بالنِّسبة إلى الله. فلا يوجد شيء في أيِّ مكانٍ أو زمانٍ يستطيع أن يَخلق نفسه بنفسه لأنَّهُ إنْ كانَ قادرًا على ذلك، يجب عليه أنْ يوجد قبل أنْ يَخلق ذاتَهُ. ويُشيرُ "سبرول" إلى أنَّ اللهَ يُمكنُ أنْ يُوْجَدَ بِذاتِه دونَ إخْلالٍ بالمَنْطِق، ولكنَّهُ لا يمكن أنْ يَخْلِقَ نفسَهُ بنفسه. لذلك، عندما يقول العُلماءُ: "قَبْلَ 15-20 مليار سنة، خَلَقَ الكَوْنُ نَفسَهُ بنفسه"، ما الذي يَقْصِدونَهُ بذلك؟ إنَّهُمْ يَعْنونَ أنَّ "لا شَيء" انْفَجَرَ وَصارَ "شيئًا". وهذه مُستحيلٌ منطقيًّا. فالإيمانٌ بالخَلْقِ الذَّاتيِّ هو شيءٌ غيرُ عَقلانيٍّ ويُنافي كُلَّ مَنْطِق. ومع أنَّكَ قد تُؤمِن بهذه النظريَّة، فإنَّكَ لا تَستطيعُ أنْ تُجادِل بشأنِها عقلانيًّا.
ثُمَّ نأتي إلى الخِيارِ الثَّالث وهو أنَّ الكَوْنَ، كما هو موجودٌ، وكما نَعْرِفُهُ، قد وُجِدَ دائمًا مُنْذُ الأزَل. ولكنَّ هذا الخِيارَ غيرُ مَقبولٍ. فأنتَ لستَ أزليًّا. ولا أنا أيضًا. فنحنُ لسنا موجودينَ مِنَ الأزل؟ فقد كانَ هُناكَ وَقْتٌ لم نَكُنْ موجودينَ فيه. وقد كانَ هناكَ وقتٌ لم يكن أبناؤُنا موجودينَ فيه. وهناك أشياء كثيرة جدًّا في هذا العالم لم تكن موجودة مِنْ قَبْل. والحقيقة هي أنَّ كُلَّ شيءٍ مِنْ حولِنا لم يكن موجودًا ذاتَ يوم. وكيفَ يُعْقَل أنْ يكونَ الكَوْنُ موجودًا مُنْذُ الأزَل وَأنْ يَفعلَ في وقتٍ مِنَ الأوقاتِ شيئًا - أيْ أنْ يَخْلِقَ حَياةً - وَهُوَ شَيءٌ لم يَفْعَلْهُ مِنْ قَبْل. فإنْ كانَ الكَوْنُ موجودًا دائمًا، فإنَّ كُلَّ شيءٍ فيه موجودٌ دائمًا. ولكنَّنا نَعلمُ أنَّ كُلَّ شيءٍ في الكَوْن لم يكن موجودًا دائمًا لأنَّنا (أنا وأنتَ) لم نَكُن موجودينَ دائمًا. وآباؤُنا وأُمَّهاتُنا يُؤكِّدونَ ذلك. فلا يُعْقَل أنْ نَكونَ مَوْلودينَ وأنْ نكونَ موجودينَ دائمًا. والسيَّاراتُ والسَّاعاتُ والمَقاعِدُ وكُلّ هذه الأشياء وُجِدَتْ في وقتٍ مَا.
إذًا الخِيارُ الأوَّلُ، والخِيارُ الثَّاني، والخِيارُ الثَّالثُ مُستحيلة. لِذلك فقد بَقِيَ لدينا احتمالٌ واحدٌ فقط وهو أنَّ الكَوْنَ موجودٌ لأنَّهُ خُلِقَ مِنْ قِبَلِ شَخْصٍ كانَ موجودًا قَبْلَ وُجودِهِ، وهو قُوَّة عاقلة موجودة مِنَ الأزَل اسْمُها: "الله". فالمادَّة لا تستطيعُ أنْ تَخْلِقَ نَفسَها بنفسِها. ولكِنَّ اللهَ الأزليَّ الموجودَ مِنْ قَبْل يَستطيعُ أنْ يَخلِقَها. وقد تَشَجَّعْتُ في هذا الأسبوع لأنَّ مَحَطَّة "سي.إن.إنْ" (CNN) ذَكَرَت أنَّ تِسعة بالمئة فقط مِنَ الأمريكيِّينَ يُؤمنونَ بأنَّ الحياةَ ظَهَرَتْ بالصُّدفة العَمياء. وهذا جَيِّد. أليسَ كذلك؟ ولكِنَّ الأغلبيَّة العُظمى تَستطيع أنْ تَقْلِبَ الأرقامَ رأسًا على عَقِب. فأكثر مِنْ تِسعين بالمئة مِنَ النَّاسِ في أمريكا يؤمنونَ بأنَّ اللهَ كانَ مُشتركًا في عمليَّة الخَلْق، ولكنَّهُ استَخْدَمَ التَّطَوُّرَ لتحقيق ذلك. وقد حاوَلْنا أنْ نُبَيِّنَ لكم أنَّ هذا غير صحيح لأنَّ نَظريَّةَ التَّطَوُّرِ ماذا؟ مُستحيلة. فهي مُستحيلة تمامًا. لذلك، لا يوجد دليل واحد عليها لأنَّها لا يمكن أنْ تَحدُث. وخطيئة أنصار نظريَّة التطوُّر مذكورة في رومية 1: 18 إذْ نَقرأ: "لأَنَّ غَضَبَ اللهِ مُعْلَنٌ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى جَمِيعِ فُجُورِ النَّاسِ وَإِثْمِهِمِ، الَّذِينَ يَحْجِزُونَ الْحَقَّ بِالإِثْمِ". فَحَقُّ الخَالِقِ واضحٌ. فَهُوَ واضِحٌ تمامًا، ومَنطقيٌّ، وعقلانيٌّ؛ ولكنَّهم يَحْجِزونَ الحَقَّ. ثُمَّ نقرأ في العدد 19: "إِذْ مَعْرِفَةُ اللهِ ظَاهِرَةٌ فِيهِمْ، لأَنَّ اللهَ أَظْهَرَهَا لَهُمْ [مِنْ خِلالِ المَنْطِقِ، ومِنْ خِلالِ السَّبَبِ والنَّتيجة]، لأَنَّ أُمُورَهُ غَيْرَ الْمَنْظُورَةِ تُرىَ مُنْذُ خَلْقِ الْعَالَمِ مُدْرَكَةً بِالْمَصْنُوعَاتِ، قُدْرَتَهُ السَّرْمَدِيَّةَ وَلاَهُوتَهُ".
فلا يمكنكَ أنْ تَستنتِج أيَّ شيءٍ غير أنَّهُ كانَ يوجد خَالِقٌ أزليٌّ موجودٌ مِنْ قَبْل. فهذا هو الاستنتاجُ الوحيدُ المَعقول. في ضَوْءِ ذلك فإنَّ الأشخاصَ الذينَ يَرفضونَ الحَقَّ ويَحْجِزونَهُ (كما جاءَ في رومية 1: 20): "بِلاَ عُذْرٍ" [بِلا عُذْرٍ] "لأَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا اللهَ" [وما أعنيه هو أنَّهُ لا يوجدُ تَفسيرٌ آخرُ مُحتَمَلٌ أوْ مَنطقيٌّ] "لَمْ يُمَجِّدُوهُ أَوْ يَشْكُرُوهُ كَإِلهٍ، بَلْ حَمِقُوا فِي أَفْكَارِهِمْ، وَأَظْلَمَ قَلْبُهُمُ الْغَبِيُّ. وَبَيْنَمَا هُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ حُكَمَاءُ" [إذْ إنَّهُمْ يَحْمِلونَ شَهاداتِ دُكتوراه وما شَابَهَ ذلك] "صَارُوا جُهَلاَءَ، وَأَبْدَلُوا مَجْدَ اللهِ الَّذِي لاَ يَفْنَى بِشِبْهِ صُورَةِ الإِنْسَانِ الَّذِي يَفْنَى، وَالطُّيُورِ، وَالدَّوَابِّ، وَالزَّحَّافَاتِ. ... وَاتَّقَوْا وَعَبَدُوا الْمَخْلُوقَ دُونَ الْخَالِقِ". فَقَدْ جَعَلوا الخَليقَةَ هِيَ الخالِق. وقد قالوا إنَّ الحياةَ تَخْلِقُ نَفسَها بنفسِها. ونقرأ في رومية 1 أنَّهُمْ "عَبَدُوا المَخْلُوقَ". فَهُمْ يَرَوْنَ أنَّ الخَليقَةَ هي القُوَّةَ الَّتي تَهِبُ الحَياةَ وتَخْلِق. وهذا سَخيفٌ عَقلانيًّا كما ذَكَرنا قبل قليل. ولكِنْ كيفَ وُجِدَ الكَوْنَ؟ لِنَعُدْ إلى الأصحاح الأوَّل مِنْ سِفْر التَّكوين ونَرْجِع إلى النصَّ الَّذي نَتأمَّلُ فيه. فقد وُجِدَ بذاتِ الطَّريقةِ المذكورة في الأصحاحِ الأوَّلِ مِنَ الكتاب المقدَّسِ الَّذي هُوَ مُوْحَى بِهِ مِنَ اللهِ، والذي هو صَحيحٌ ومَعْصومٌ ومُنَزَّهٌ. فحَقيقةُ التَّكوين مَذكورة بوضوح هُنا في سِتَّة أيَّام شمسيَّة يتألَّف كُلٌّ مِنها مِن 24 ساعة. فهي سِتَّة أيَّام مُحَدَّدة بأنَّها مَساء وَصَباح، أو فَترات مُتعاقِبَةِ مِنَ اللَّيل والنَّهار. فهي سِتَّة أيَّام عاديَّة. ففي سِتَّة أيَّام، خَلَقَ اللهُ الكَوْنَ بِأسْرِه على الصُّورة الَّتي هُوَ عليها الآن.
وقد بَيَّنَّا لكم مِن خلال هذه الدِّراسة أنَّ هذا حَدَثَ قبل نحو سِتَّة أو سبعة آلاف سنة، وأنَّ هذه هي القِصَّةُ بِرُمَّتِها. وحين تَنظرُ وتقول: "وماذا بشأنِ كُلِّ هذه الطَّبقات الصَّخريَّة وكُلِّ هذه الأشياءِ الَّتي تَدُلُّ على قِدَمِ الكَوْن؟" والجَوابُ هو أنَّ اللهَ خَلَقَ كُلَّ شيءٍ وَأعْطاهُ مَظْهَرَ النُّضْجِ واكْتِمالِ النُّموِّ. كذلك، فإنَّ الطُّوفانَ -الَّذي حَدَثَ في وقتٍ لاحقٍ- غَيَّرَ سَطْحَ الأرضِ وتَضاريسِها. وهو يُجيبُ عن أسئلة كثيرة تُطْرَح بخصوص تركيبِ وتكوينِ الصُّخورِ والأحافيرِ وكُلِّ شيء. ولكِنَّ الكتابَ المقدَّسَ واضحٌ تمامًا في أنَّ اللهَ هو الَّذي خَلَقَ كُلَّ شيءٍ في سِتَّة أيَّام. ففي اليوم الأوَّل، خَلَقَ اللهُ المادَّةَ والنُّور. وفي اليومِ الثَّاني، خَلَقَ البِحارَ والسَّماوات. وفي اليومِ الثالث، خَلَقَ الأرضَ والحياةَ النَّباتيَّة. وفي اليومِ الرَّابع، خَلَقَ الأنوارَ أوِ الأَجْرَامَ السَّماويَّةَ: القَمَرَ والنُّجومَ والشَّمس. والآنْ، نأتي إلى اليوم الخامس. وقد قرأتُ النَّصَّ لَكُم قبلَ قليل. وفي هذا اليوم، خَلَقَ اللهُ كُلَّ الكائناتِ التي تَعيشُ في البِحارِ وَتَطيرُ في السَّماء. وهذا هو اليومُ الَّذي أَكْمَلُ اللهُ فيهِ تَجْهيزَ مَسْكَنِ الإنسانِ وَخَلَقَ فيهِ أوَّلَ كائناتٍ حيَّة – أوَّلَ كائناتٍ حيَّة. فنحنُ نقرأ في العدد 20: "لِتَفِضِ المِيَاهُ زَحَّافَاتٍ ذَاتَ نَفْسٍ حَيَّةٍ". وهذه هي المَرَّة الأولى الَّتي يُوصَفُ فيها أيُّ شيءٍ بأنَّهُ حَيّ. فالنَّباتاتُ لم تُوْصَف بهذا الوَصْف. فهي كائناتٌ عُضويَّة حَيَّة بِمَعْنى مِنَ المَعاني، ولكنَّها لا تَمتلك حياةً واعِيَةً. فالكائناتُ الحيَّةُ الأولى الَّتي خَلَقَها اللهُ هي تلك المذكورة في اليوم الخامس. وأودُّ أنْ أُذَكِّرَكُم بأنَّكُم إذا نَظرتُم إلى التَّسَلْسُل، ستَجِدونَ أنَّ اليومَ الخامسَ يُوازي اليومَ الثَّاني - كما أنَّ اليومَ الرَّابِع يُوازي اليوم الأوَّل. ففي اليوم الأوَّل خَلَقَ اللهُ النُّور؛ وفي اليوم الرَّابعِ خَلَقَ اللهُ الأَجْرامَ السَّماويَّة لِتُنير. وفي اليوم الثَّاني خَلَقَ اللهُ البِحارَ والسَّماوات؛ وفي اليومِ الخامِسِ مَلأَ البِحارَ والسَّماواتِ بالكائناتِ الحيَّة.
وفي اليوم الثَّالث، خَلَقَ اللهُ الأرضَ ونباتاتِها بِمَّا يُوافِق اليومَ السَّادِس الَّذي خَلَقَ فيه الحيواناتِ والإنسان لِتَمْلأَ الأرضَ وتَستهلك نباتاتها. لِذا فإنَّنا نَجِدُ هذا التَّوازي في كُلِّ النَّصِّ. فالبحرُ والسَّماء في اليوم الثَّاني، وَالكائناتُ الَّتي تَعيشُ في البَحْرِ وتَطيرُ في السَّماءِ في اليوم الخامِس. ولا شَكَّ أنَّ البحرَ أُعْطِيَ شَكْلَهُ النِّهائيَّ في اليوم الثالث، ولكنَّهُ خُلِقَ في اليوم الثَّاني. والآنْ، عندما نَنظُر إلى النَّصِّ هُنا سنُلاحِظ أنَّ هُناكَ عِبارَتَيْنِ تَختصَّان بِالخَلْقِ في اليوم الخامِس. العِبارة الأولى تَخْتَصُّ بِخَلْقِ الحياةِ الواعية. والعبارة الثَّانية تَختصُّ بِخَلْقِ حياةٍ قابلة للتَّكاثُر. فنحنُ نَرى شَيئَيْنِ بوضوح. فهناكَ الحياة الواعية بِمَعنى وُجود كائنات حيَّة واعية، أيْ قادرة على التَّجاوُب مع بيئَتِها وتنتقل مِنْ مكانٍ إلى آخر. أمَّا النَّباتاتُ فلا تَفعل ذلك. وهذا واضح. ثانيًا، الحياة القابلة للتَّكاثُر. وهذا مُبَيَّنٌ في العدد 20. فلنرجع إلى النَّصّ: "وَقَالَ اللهُ" – وسوفَ نَتوقَّف هُنا مَرَّةً أخرى. فطريقةُ الخَلْقِ دائمًا هي أنَّ اللهَ أَمَرَ الأشياءَ غير الموجودة أنْ تُوْجَد فَوُجِدَت. فقد خَلَقَها بأمْرٍ مِنْهُ مِنَ العَدَم.
"وَقَالَ اللهُ: لِتَفِضِ المِيَاهُ زَحَّافَاتٍ ذَاتَ نَفْسٍ حَيَّةٍ". لِذا، فقد مَلأَ أوَّلًا المياه. وفي اللُّغة العِبْريَّة، يُسَمَّى هذا الأسلوب "جِنَاسًا"؛ وهو أسلوبٌ أدبيٌّ. والجِناسُ يَعني الآتي: فالنصُّ العِبْريُّ يقول: "لِتَفِضِ المِياهُ" – فالنصُّ يَقولُ: "لِتَزْحَف في المياهِ زَحَّافاتٌ". فهو تَكْرارٌ. وهذا هو الأُسلوبُ نَفْسُهُ المُستخدَم في العدد 11: "لِتُنْبِتِ الأَرْضُ عُشْبًا". فهي في العِبريَّة: "لِتُعْشِبَ الأرْضُ عُشْبًا". وهُنا نَجِدُ الأسلوبَ نَفسَهُ: "لِتَزْحَف في المياهِ زَحَّافات" – لتزحف في المياهِ زَحَّافات حَيَّة، أو: لِتَفِضِ المِياهُ زَحَّافاتٍ ذاتَ نَفْسٍ حَيَّة. وقدِ استُخدِمَت الكلمة "لِتَفِض" هُنا لأنَّها تُشيرُ إلى الحركة. وأُذَكِّرُكم بأنَّ السِّمَةَ الَّتي تُمَيِّزُ المخلوقاتِ الحيَّة هي أنَّها تتحرَّك. لِذا فإنَّ النباتاتِ لا تُدعى كائنات حيَّة لأنَّها لا تَنتقِل مِنْ مَكانِها. فهي لا تتحرَّك. أمَّا المخلوقات الحيَّة فتتحرَّك. والحقيقة هي أنَّ اللهَ مَلأَ البِحارَ بها. لِذلكَ فإنَّ الفِعلَ المستخدَم هنا هو "لِتَفِض". ومَرَّةً أخرى، فإنَّها تُصوِّر عددًا هائلاً مِنْ هذه المخلوقاتِ الَّتي تتحرَّك. ومَرَّةً أُخرى، فإنَّ المُفَسِّر اليهوديّ "كاسوتو" (Cassuto) يَكتُب قائلاً: "إنَّ السِّمَة المُمَيِّزَة للجذر "ساراتس" (sherets) في اللُّغة العِبْريَّة هي الحركة – ولا سِيَّما بالإشارة تَحديدًا إلى الحركة الوافِرَة والسَّريعة لكائناتٍ كثيرة تَتَزاحَمْ بعضُها معَ بَعْضٍ وهي تتحرَّكُ وَتَتقاطَعُ في كُلِّ الاتِّجاهات المُمكِنَة. واللهُ شاءَ أن يَحْدُثَ ذلك في المياه المَيِّتَةِ الَّتي لا توجدُ فيها حياة مِنْ طَرَفِ البَحْرِ إلى طَرَفِهِ الآخَر. فقد شاءَ أنْ يَمتلئَ الآنَ بكائناتٍ حيَّة وأنْ يَفيضَ بالمخلوقات الحيَّة المُتحرِّكة الَّتي لا تَخضع لأيَّة حدود فيما يَختصُّ بحركتها.
وقدِ ابتدأَ البَحْرُ يَمتلئ بكُلِّ تلكَ المخلوقات الحيَّة الَّتي تَسْبَح في كُلِّ مكانٍ. وهذا يَعني أنَّ البحرَ سيحوي المياه العذبة أيضًا – كُلَّ مِياهِ الأرض. والكلمة "حَيَّة" هي نفس الكلمة العِبْريَّة الشَّائعة "نيفيش" (nephesh) الَّتي تُشيرُ إلى "النَّفس" أو "الكينونة" أو "الحياة". وهي تُستخدَم هُنا أوَّلَ مَرَّة. فهذه هي أَوَّلُ مَرَّةٍ نَقرأُ فيها حَقًّا عنْ كائناتٍ حيَّة تتحرَّك مِنْ تِلقاءِ نَفسِها. فالنباتاتُ لا تمتلك هذا النَّوع مِنَ الحياة الَّذي تَمتلكه تلك المخلوقات لأنَّ النباتات لا تستطيع أن تتحرَّك ولأنَّها ليست واعية. أمَّا المخلوقات الحيَّة فتمتلك وَعْيًا، معَ أنَّ الحَيَواناتِ لا تمتلك وَعْيًا ذاتيًّا. صحيحٌ أنَّها واعية وتتجاوب معَ بيئتِها فرديًّا، ولكنَّها لا تَعِي ما تَفعله. فهي مُجَرَّد آلِيَّة نُسَمِّيها "غَريزَة". فهي ليست واعية لذاتِها. وهي لا تُدرك أنَّها حَيَّة. وهي لا تُدرك أنَّها مَيِّتة. وهي لا تَعرف بعضُها بعضًا. وهي لا تتواصَل بعضُها مع بعضٍ بطُرُق شخصيَّة واعية، معَ أنَّها، مِنْ ناحية غَريزيَّة، تَخضعُ لسيطرةٍ هائلةٍ بسبب وجود الحَمْضِ النَّوويِّ الَّذي أُعْطِيَ لها لِحِفْظِ أجناسِها ولِتَعمل كما صَمَّمَها اللهُ أنْ تَعمل. ولكنَّها تَتَمَيَّزُ عن عالم النَّباتاتِ مِنْ خلال الكلمة "نيفيش" (nephesh). والكلمة "نيفيش" تعني حرفيًّا: "كائنات تَتَنَفَّس" – كائنات تتنفَّس.
وهذه الكائنات هي "وايباراو" (wayibara). وهذا يعني أنَّها "مَخلوقة". وهو يَستخِدم هنا الكلمة "بارا" (bara) ومَعناها: "يَخْلِق". فهذا عَمَلٌ ضَخْمٌ يَتطلَّب استخدام الفِعْل "يَخْلِق". وكشيءٍ عظيمٍ يَحْدُث، فإنَّهُ يَخلق كائنات واعية قادرة أن تتحرَّك، وهي تتحرَّك في البحر في أفواج كبيرة وأعدادٍ هائلةٍ مِنَ الكائنات الحيَّة. وسوفَ نتوقَّف هنا قليلاً لأنَّ هذه نُقطة مُهمَّة جدًّا. فعندما خَلَقَ اللهُ الأسماكَ، وكُلَّ تلك الثَّدْيِيَّاتِ، وكُلَّ تلكَ الحَيَواناتِ، سواءٌ كُنَّا نتحدَّث عنِ الأسماكِ أوِ الحيتانِ أوِ الديناصورات البحريَّة، أو كُنَّا نتحدَّث عن ثَعابينِ الماء، أو كنَّا نتحدَّث عن العَوالِقِ، أو عن أيِّ شيءٍ آخر في السِّلسلة الغِذائيَّة، عندما خَلَقَ اللهُ كُلَّ هذه الكائنات، لم تَكُن هناكَ عمليَّة تَطوُّر؛ بل إنَّهُ نَطَقَ بكلمة فَخُلِقَت كُلّ الكائنات البحريَّة. وقد حَدَثَ ذلك حالاً في نفس اللَّحظة مِنَ اليومِ نفسِه. فقد خُلِقَتْ جميعُها. فهي لم تكن خاضعة لعمليَّة تَطَوُّر بعد أنْ نَشَأتِ الأجْناسُ مِنْ أجناسٍ أُخرى وتَحَوَّلَتْ بواسطة الطَّفرات إلى أجناسٍ أخرى.
بل إنَّها خُلِقَتْ حالًا في مجموعات كبيرة تتحرَّك في البِحار. ونقرأ في العدد 20 الشَّيءَ نفسَهُ: "وَلْيَطِرْ طَيْرٌ فَوْقَ الأَرْضِ عَلَى وَجْهِ جَلَدِ السَّمَاءِ". ولا شَكَّ أنَّنا لا نقرأ هنا عن أعدادٍ هائلةٍ لأنَّهُ لم يَخلِق أعدادً هائلةً مِنَ الطُّيور. ونحنُ نَعلم ذلك اليوم. فإذا نَظرتم إلى أعماق البحر حيث لم يحدُث تَلَوُّث كبير، ستجدونَ كميَّاتٍ لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى مِنَ الكائنات الحيَّة. أمَّا إذا نظرتم إلى السَّماء فإنَّكم ستجدونَ أعدادًا أقلّ بكثير مِنَ الطُّيور. لِذا فإنَّ النصَّ لا يَستخدِم هُنا الكلمة "لِتَفِض". "وَلْيَطِرْ طَيْرٌ فَوْقَ الأَرْضِ عَلَى وَجْهِ جَلَدِ السَّمَاءِ". فهي قادرة على الطَّيران. وكما جاءَ حرفيًّا في النصِّ العِبريِّ: "على وَجْهِ السَّماء". وهذه صورة رائعة لأنَّهُ يمكنك أنْ تُترجِم النصَّ: "وَلْيَطِرْ طَيْرٌ أمامَ السَّماء" كما لو أنَّ السَّماء كانت بعيدة وعالية، ولا حُدودَ لها في الفضاءِ الفسيح لأنَّ اللهَ خَلَقَ الفَضاءَ اللَّامُتَناهي. والطُّيورُ الَّتي تَطيرُ حول الأرض لا تَطيرُ بعيدًا. بل إنَّها تَطيرُ في ما يبدو لنا سَطْحَ السَّماء الفَسيحة أو وَجْهَ السَّماءِ – أيْ في الواجهةِ الأماميَّةِ مِنَ السَّماءِ الَّتي لا حُدودَ لها وَراءَ تلك الواجهة.
ثُمَّ نأتي إلى كلماتٍ أعتقد أنَّها مُدهشة حقًّا إذْ نقرأ في العدد 21: "فَخَلَقَ اللهُ التَّنَانِينَ الْعِظَامَ". ولكِنْ لماذا يَذْكُرُ النَّصُّ ذلك؟ فكما تَعلمون، عندما تَحَدَّثَ عنْ خَلْقِ النباتاتِ والأشجارِ فإنَّهُ لم يَذُكر أشجارَ التُّفَّاحِ أوْ أشجارَ البَلُّوط. فهو لم يَذكُر أيَّ نوعٍ مُحَدَّدٍ مِنَ النباتات. ولكنْ لماذا فَعَلَ ذلكَ هُنا؟ فقد كان يَكفي أنْ يَذْكُر الطُّيور والأعدادَ الهائلة مِنَ المخلوقات الحيَّة الَّتي تَسبَح في البحار مِنْ أسماكٍ وغيرِها. ولكِنْ لماذا يَذكُرُ وُحوشَ البحر؟ لماذا يَذكرُها؟ فهناك أشياءٌ كثيرةٌ أخرى في البحر. فلماذا خَصَّهَا بالذِّكْر؟ أعتقدُ أنَّ هذا مُدهشٌ. فالكلمة العِبريَّة هي "تَنِّين" (tannin). وهناكَ سَبَبٌ لذلك. فإذا درستُم العهدَ القديم، ستجدونَ شَواهِد عديدة في العهد القديم على المخلوقات البحريَّة. فهناكَ "لوياثان". أتذكرونَ أنَّكم قرأتم عن "لوياثان"؟ ولوياثان هو مخلوقٌ بحريٌّ عظيمٌ وقويٌّ. ففي أيُّوب 41 - أوْ قَبْلَ ذلك، يَقولُ اللهُ لأيُّوب: "أَيْنَ كُنْتَ؟" فهو يقولُ لهُ: "أيْنَ كُنْتَ حِينَ خَلَقْتُ كُلَّ شَيء؟" ثُمَّ إنَّهُ يقولُ لَهُ في الأصحاح 41: "أَتَصْطَادُ لَوِيَاثَانَ بِشِصٍّ". وأعتقد أنَّ بعضَ النَّاسِ وَصَفوا هذا المَخلوقَ بأنَّهُ وَحْشٌ عَظيمٌ وشَرِس. ويمكنكم أنْ تقرأوا أيُّوب 41 بأنفسكم وأنْ تقرأوا سِماتِ هذا الوحش. وقد كَتَبْتُ مُلاحظةً صغيرةً عنه. فالبعضُ يَصِفُهُ بأنَّهُ قَاطُورٌ أوْ تِمْساحٌ. ولكِنَّ التَّماسيحَ لا تَعيشُ في البَحْر. لِذلك فإنَّ أفضل تَخمين هو أنَّها تَصِفُ نوعًا مِنَ الديناصورات، أو وَحْشًا بحريًّا عظيمًا – "لوياثان".
ويَذكرُ العهدُ القديمُ أيضًا الحيَّةَ الهاربة، والحَيَّة المُتَحَوِّيَة. وفي أيُّوب 7: 12 "التِّنِّين" أوِ الحيَّة البحريَّة. وهُناكَ "رَهَب" (Rahab)؛ وهي كلماتٌ تُشير إلى حَيَواناتٍ بحريَّة ضَخمة. ومِنَ المُرَجَّح أنَّها تشير إلى الديناصورات. ولكِنْ لماذا يَذْكُر ذلك؟ ولماذا يَأتي على ذِكْرِها؟ أعتقد أنَّ الجوابَ هوَ كالآتي: في الأساطيرِ القديمة (مَثلاً في مِصْر، وبلاد ما بين النَّهرَيْن، وفي منطقة الهِلال الخَصيب إلى الشَّرقِ مِنْ إسرائيل، وأرض كَنعان أيضًا، في البلاد الواقعة شَرْقًا عامَّةً)، كانت هناك دائمًا تلك الأساطير الغريبة والمُعَقَّدة جدًّا عنِ الوحوش البحريَّة. فقد كانت الشُّعوب الوثنيَّة القديمة تؤمن بأنَّ الآلهة هي وحوش بحريَّة. وحتَّى إنَّ الفِلسطينيِّين كانوا يَعْبُدونَ الإلَه "داجون" الَّذي كانَ نِصْف إنسان ونِصْف سمكة. لذلك، كان القُدماء يَرَوْنَ أنَّ هذهِ الوحوشَ البحريَّةَ العظيمةَ الشَّرِسَةَ هي المَعبودات أوِ الآلهة. وقد كَتَبوا مَلاحِمَ عنها. ويمكنكم، مَثلاً، أنْ تَقروا عنها في بعض الملاحِم المكتوبة بالأوغاريتيَّة (وهي لُغة مُختلفة) إذْ إنَّ بعضَ المَلاحِمِ الأوغاريتيَّة كُتِبَتْ عن أعداءِ البَعْل. وكانَ أعداءُ البَعْل يأخذونَ أشكالاً عديدة. وواحدٌ مِنْ هذه الأشكال هو الإلَه "موط" (Mot) الَّذي كان يُدعى "سَيِّدُ البَحر" (Lord of the Sea). فقد كان وحشًا بحريًّا ضخمًا. وقد ابتدأتْ تلك الأساطير تؤثِّر في كُلِّ ذلك الجُزءِ مِنَ العالَم فَصاروا يَنظرونَ إلى الوحوش البحريَّة وكأنَّها آلهة. فقد صاروا ينظرونَ إلى الوحوش البحريَّة وكأنَّها آلهة شِرِّيرة تَتمرَّد على الآلهة الصَّالحة. وفيما يَختصُّ ببني إسرائيل، كانتِ الآلهة الشِّرِّيرة تتمرَّد على اللهِ الصَّالِح.
ونقرأ في إشعياء 27: 1 عن تلك الآلهة البحريَّة الَّتي كانت جُزءًا مِنَ الثَّقافة الكَنعانيَّة. وعندما جاءَ بنو إسرائيل إلى أرضِ كَنعان، سَمِعوا هذه الأَشْعار الكنعانيَّة والأساطير الكنعانيَّة عنِ الآلهة الَّتي تأخذُ شكل وحوش بحريَّة هائلة كهذه. لِذا فقد صار الوحشُ البحريُّ صورةً لتمثيلِ الشَّرِّ، أيْ لتصويرِ الشَّرِّ المُعادي للهِ، ولتَشخيصِهِ في صورة وحشٍ بحريٍّ عظيم، أو في صورة تِنِّين البحر، أو في صورة ديناصور البحر. وهناكَ العديدُ مِنَ الآيات، كما قلتُ سابقًا، تُشيرُ إلى لوياثان، أيْ إلى الوحشِ البحريِّ الضَّخم. ويبدو دائمًا أنَّها تُصَوَّرُ بأنَّها عَدُوَّة للهِ الحقيقيّ. فكأنَّ هناكَ إلهاً خارقًا للطبيعة أو قُوَّةً خارقةً للطبيعة تَمَرَّدَتْ على خَالِقِها. وهذا كُلُّهُ موجودٌ في الملاحِمِ القديمة. ولا بُدَّ أنَّ هذه الأفكار كانت موجودة في أذهانِ الشَّعبِ في زمنِ مُوسى حينَ كَتَبَ سِفْرَ التَّكوين. ومِنَ الواضحِ أنَّ اليهودَ كانوا قد تأثَّروا بهذه الأساطير الوثنيَّة السَّخيفة والحمقاء. وبطريقةٍ عَجيبةٍ، حَثَّ رُوْحُ اللهِ مُوْسَى على تَدوينِ قِصَّةِ التَّكوين المُوحَى بها. وحينَ أَوْحَى اللهُ لِمُوسى أنْ يَكْتُبَها كَتَبَ: "فَخَلَقَ اللهُ التَّنَانِينَ الْعِظَامَ".
فهي ليست آلهة زائفة، وهي ليست مَعبودات زائفة، وهي ليست رُموزًا للشَّرِّ. بل هي مَخلوقاتٌ خَلَقَها اللهُ بِذاتِ الطَّريقةِ الَّتي خَلَقَ بها بقيَّةَ المَخلوقات: "فَخَلَقَ اللهُ التَّنَانِينَ الْعِظَامَ، وَكُلَّ ذَوَاتِ الأَنْفُسِ الْحيَّةِ الدَّبَّابَةِ الْتِى فَاضَتْ بِهَا الْمِيَاهُ كَأَجْنَاسِهَا، وَكُلَّ طَائِرٍ ذِي جَنَاحٍ كَجِنْسِهِ. وَرَأَى اللهُ ذلِكَ أَنَّهُ ..." ماذا؟ وهذا يَضُمُّ وُحوشَ البحرِ. ولا علاقةَ لذلك بالخُرافات. فالعهدُ القديمُ يُحارِبُ الخُرافات الحمقاء ويَحْتَجُّ عليها بطريقة هادئة. أليسَ كذلك؟ لِذا فقد خَلَقَ اللهُ التَّنانينَ العِظامَ، ... وَرَأَى اللهُ ذلِكَ أَنَّهُ حَسَنٌ. وكأنَّ التَّوراةَ تقول: "حاشا أنْ يَفْتَرِضَ أيُّ شخصٍ أنَّ تَنانينَ البَحْرِ هي بعضُ القُوى الشِّرِّيرة الخُرافيَّة، أو بعضُ الآلهة أو أنْصاف الآلهة الَّتي تُعارِضُ اللهَ الحَقيقيَّ الحَيَّ، وتَتمرَّدُ على اللهِ الحَقيقيِّ الحَيِّ. فهي كائنات طبيعيَّة كأيِّ كائنات أخرى خَلَقَها اللهُ. وقد خَلَقَها اللهُ في وَقْتِها الصَّحيحِ ومكانِها الصَّحيحِ بكلمةٍ مِنَ الخالِقِ لكي تُتَمِّمَ مَشيئَتَهُ. فقد خَلَقَها لأنَّهُ أرادَ أنْ يَخْلِقَها. وقد رَأى اللهُ ذلكَ أنَّهُ "حَسَنٌ".
لِذا فإنَّنا نَقرأُ في سِفْر المزامير: "سَبِّحِي الرَّبَّ مِنَ الأَرْضِ، يَا أَيَّتُهَا التَّنَانِينُ وَكُلَّ اللُّجَجِ". فالمُرَنِّمُ في سِفْرِ المزامير يَدعو جميعَ المخلوقاتِ الحيَّة إلى تَسبيحِ اللهِ – يَدْعوها جَميعًا. وأعتقد أنَّ ذلكَ جاءَ في المزمور 148: 7. لِذا فإنَّ مُوْسَى يَذْكُرُ هذهِ المُلاحَظَةَ هُنا لكي يُفَنِّدَ جَميعَ تلك الأساطيرِ الغريبة. فاللهُ خَلَقَ (في العدد 21) "التَّنَانِينَ الْعِظَامَ، وَكُلَّ ذَوَاتِ الأَنْفُسِ الْحيَّةِ الدَّبَّابَةِ الْتِى فَاضَتْ بِهَا الْمِيَاهُ كَأَجْنَاسِهَا". لاحِظوا ذلك: فالكلمة "كأجناسِها" تَرِدُ مَرَّتَيْن. فاللهُ خَلَقَ كُلَّ شَيءٍ يَعيشُ في الماءِ في نفسِ الوقتِ في اليومِ نفسِه. وقد خَلَقَ كُلَّ الأشياءِ الَّتي تَطير في الهواء في نفسِ الوقتِ في اليومِ نفسه. وقد خَلَقَها كأجناسِها. فلا يوجد تَطَوُّر للأجناس مِنْ جِنْسٍ إلى جِنْسٍ إلى جِنْسٍ إلى جِنْس. بل إنَّ اللهَ خَلَقَها كأجناسِها. فكُلُّ الأجناسِ خُلِقَتْ مِنْ قِبَلِ اللهِ. وقد تكونُ هناكَ عِدَّة أنواع في الأجناس، ولكنَّها لا تَخْرُجْ عن نِطاقِ حَمْضِها النَّوَوِيّ، وعَنْ نِطاقِ تلك المَعلوماتِ المُشَفَّرَة في كُلِّ جِنْس.
ويقول "هنري موريس": "إنَّ أوَّلَ ذِكْرٍ للحياة الحَيَوانيَّة لا يَذْكُر أنَّ مادَّةً بروتوبلازميَّة هَشَّةً تَكَوَّنَتْ استجابةً لشحنة كهربائيَّة حدثت فوق المُحيط البِدائيّ كما يُؤمِن أنصار نظريَّة التطوُّر". فاللهُ خَلَقَ تلكَ المخلوقاتِ كجِنْسِها. فكُلُّ شيءٍ يَعيشُ في البحر، وكُلُّ شيءٍ يَعيشُ في الجَوّ، إنَّما خَلَقَهُ اللهُ كَما هُوَ، كَجِنْسِهِ. وبالمناسبة، لم يَكُنْ بالإمكانِ حُدوثُ أيِّ تَطَوُّرٍ، أوْ أيِّ طَفْراتٍ، أوْ أيِّ انتخابٍ طَبيعيٍّ، لأنَّ اللهَ رَأَى ذلكَ كُلَّهُ بأنَّهُ حَسَنٌ. ولم يكن هناكَ أيُّ مَوْتٍ في الكَوْن. فلم يكن هناك أيُّ موتٍ في العالم في ذلك الوقت. فلم يكن هناك شيءٌ يموت. لم يكن هناك شيءٌ يموت. وأعتقد أنَّهُ يُمكننا أنْ نَستنتِج في هذه النُّقطة أنَّ الحَيَواناتِ لم تكن تأكُلُ بعضُها بعضًا. وهذه مسألة فيها جِدال في الكِتاب المقدَّس، ولكنَّهُ افتراضٌ مَعقول. لِذلك فإنَّ اللَّاهوتيَّ "فون راد" (Von Rad) قال: "عَدا عنِ اللهِ، لا يوجد شيءٌ يُخافُ مِنْه". وقد كانَ اليهودُ بحاجة إلى سَماعِ ذلك. فلم يَكُنْ هناكَ أيُّ مُبَرِّرٍ للخوف مِنَ الآلهة الزَّائفة المُتَمَثِّلة في الوحوش البحريَّة. وقد قالَ "فون راد" شيئًا عميقًا: "عَدا عنِ اللهِ، لا يوجد شَيءٌ يُخافُ مِنْه". فهناكَ واحدٌ فقط ينبغي أنْ نَخافَ منه. ومَنْ يكونُ هذا؟ إنَّهُ ذاكَ "الَّذي يَقْدِرُ أَنْ يُهْلِكَ النَّفْسَ وَالْجَسَدَ كِلَيْهِمَا فِي جَهَنَّمَ" (كما يَقولُ العهدُ الجديد).
فقد دَخَلَ الشَّرُّ إلى العالَم بعدَ الخَلْق. لقد دَخَلَ الشَّرُّ إلى العالَم بعدَ خَلْقِ الوحوش البحريَّة؛ المخلوقات البحريَّة الضَّخمة والهائلة. فكُلُّ الخَليقةِ هي خليقةُ اللهِ. وقد كانت في الأصْلِ حَسَنَة. لِذلك، كانَ اليومُ الخامِس هو اليومُ الَّذي خُلِقَتْ فيه الحياة الواعية. ثانيًا، لقد خُلِقَت الحياة القابلة للتَّكاثُر – الحياة القابلة للتَّكاثُر. وكُلَّما قرأتُ أكثر عن ذلك زَادَ ذُهولي. ولكنَّني لن أتعمَّقَ في التَّفاصيل. فيمكنكم أنْ تَدرسوا هذا الأمرَ بأنفسكم. ولكِنْ كُلَّما تَعَمَّقتُ في دراسة موضوع التَّكاثُر، زادَتْ دهشتي. ويكفي أنْ تَتخيَّلوا تَناسُلَ البَشَر وكيفَ أنَّ اللهَ قادرٌ أنْ يَفعلَ ذلك. ولكِن انظروا إلى كُلِّ جِنْسٍ مِنَ المخلوقات – مِنَ المخلوقات الصَّغيرة، والصَّغيرة جدًّا، والمِجهريَّة، إلى أكبرِ الثَّدييَّاتِ البَرِّيَّةِ، والحَيَواناتِ البحريَّة، والديناصورات، فتَجِدونَ أنَّ كُلَّ عمليَّاتِ التَّكاثُر مُتَضَمَّنَة في حَمْضِها النَّوويِّ. فكُلُّ تلك البيانات موجودة في كُلِّ خليَّة في كُلِّ مَخلوقٍ يَتَكاثَر كَجِنْسِهِ. فهذا هو ما نقرأهُ في العدد 22: "وَبَارَكَهَا اللهُ قَائِلاً..." [وإليكُم البَرَكَة. فقد أَعْطاها هذا الامتياز. فالبركة هي امتياز]: "...أَثْمِرِي وَاكْثُرِي وَامْلإِي الْمِيَاهَ فِي الْبِحَارِ. وَلْيَكْثُرِ الطَّيْرُ عَلَى الأَرْض".
مِنَ الواضحِ أنَّ الطُّيورَ لا تَملأُ السَّماءَ في الأعلى، ولكنَّها تتكاثَر. والسَّمَكُ يَميلُ إلى مَلْءِ مِياهِ البحر. "أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا". والعبارة "أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا" هي عبارة تَرِدُ في العهدِ القديم إشارةً إلى التَّكاثُر. فهذا هو مَعناها الدَّقيق: التَّكاثُر. وفي سِفْر التَّكوين 1: 28، عندما خَلَقَ اللهُ الإنسانَ، نَقرأ: "وَبَارَكَهُمُ اللهُ [ذَكَرًا وأُنثى] وَقَالَ لَهُمْ: أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا". فقد كانَ هذا هُوَ أَمْرُهُ لهم بأنْ يَتَناسَلوا. ونقرأ في الأصحاحِ التَّاسِعِ مِنْ سِفْر التَّكوين: "وَبَارَكَ اللهُ نُوحًا وَبَنِيهِ وَقَالَ لَهُمْ" [والحديثُ هُنا هو عن نُوْح، وزوجتِه، وأبنائهما، وزوجات أبنائهما]: "أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ". ونقرأ في تكوين 17: 16: "وَأُبَارِكُهَا" [واللهُ يتحدَّثُ هنا عن سَارة] "وَأُعْطِيكَ أَيْضًا مِنْهَا ابْنًا. أُبَارِكُهَا فَتَكُونُ أُمَمًا، وَمُلُوكُ شُعُوبٍ مِنْهَا يَكُونُونَ". ونقرأ في العدد 20: "وَأَمَّا إِسْمَاعِيلُ فَقَدْ سَمِعْتُ لَكَ فِيهِ. هَا أَنَا أُبَارِكُهُ وَأُثْمِرُهُ وَأُكَثِّرُهُ كَثِيرًا جِدًّا". والإثمارُ والتَّكثيرُ يُشيرانِ إلى التَّناسُل. ويمكنكم أنْ تَقرأوا تلك العبارة في تكوين 28: 3، وفي تكوين 35: 9-11، وفي تكوين 48: 3-4. وهذه عبارة تُشيرُ إلى التَّكاثُر.
لِذا فقد أَعطى اللهُ هذه الخليقة في الجَوِّ وفي البحرِ القُدرةَ على التَّكاثُر. فكُلُّ الكائنات الحيَّة هي آلات مُعَقَّدة. وقد قُلْتُ ذلك قبلَ وقتٍ طويل في هذه السِّلسلة. وهي تُسَمَّى على اسْمِ عالِمٍ اكتشفَ التَّعقيد. لِذا فإنَّها تُسَمَّى "آلَة فون نويمان" (Von Neumann machine). وقد كَتَبَ "وايلدر سميث" (Wilder Smith) كِتابًا كاملاً عن آلة فون نويمان. وَكُلُّ الكائنات الحيَّة تَتَّسِمْ بثلاث سِمات: فهي تُحافِظ على نفسَها بنفسِها – أيْ أنَّها تمتلك القدرة على المحافظة على حياتها (كما هي حال تلك العَجَلات الصَّغيرة جدًّا الموجودة في جسمك". فهي تُحافِظ على نفسِها بنفسها. ثانيًا، إنَّها تُصْلِح نَفْسَها بنفسِها. فهي تُصْلِح أعْطالَها في أثناءِ حياتِها. كذلك، فهي، بِكُلِّ تأكيد، تَتكاثَر بنفسها. فآلة فون نويمان تَعْمَل مِنْ تلقاء نفسِها (أيْ تَقوت نَفْسَها بِنَفْسِها)، وتُصْلِحُ نفسَها بنفسِها، وَتَتكاثَرُ بنفسِها. ولكِنَّنا لم نَتَمَكَّن حتَّى الآن، باستخدامِ كُلِّ العِلْمِ الموجود، مِنَ اختراعِ أيِّ شيءٍ كهذا. فلا يمكننا، مَثَلاً، أنْ نَخترعَ حاسوبًا يُحافِظ على نَفْسِه وطاقَتِه، ويُصْلِح نَفْسَهُ، ويُنْجِبْ حواسِب صغيرة. فلا توجد لدينا آلَة كهذه. والسَّبَبُ هو أنَّ تَعقيدَها هائلٌ جِدًّا. فتعقيدُها مُعَقَّدٌ جِدًّا حَتَّى إنَّهُ لا يُمْكِنُ صُنْعُها. ولو كان بمقدورِنا أنْ نَصْنَعَ شيئًا مُعَقَّدًا كهذا فإنَّهُ سيكونُ مُعَطَّلاً طَوالَ الوقت. فهو لن يتمكَّن مِنْ إصْلاحِ نَفسِهِ بنفسهِ دائمًا.
فلا يُمكننا أنْ نَصْنَعَ آلة "فون نويمان". ومع ذلك فإنَّ كُلَّ خَليَّة موجودة تَفعل ذلك. وهذه القُدرة المُدهشة، والأنظمة الأحيائيَّة-الكيمياويَّة الَّتي تُحْدِث التَّكاثُر موضوعة في كُلِّ شَريطِ حَمْضٍ نَوَوِيٍّ صغير في كُلِّ خَلِيَّة في كُلِّ مَخلوق. وهذا هو ما يُعطيها القُدرة على أنْ تكونَ مُثمِرة وأنْ تتكاثَر. وهذا يَضْمَنُ دَيمومَتَها. وهو يَضمنُ تَكاثُرَها. وهو لا عَلاقَة لَهُ بالتطوُّر. فكُلُّ جِنْسٍ سيتكاثَر. وكُلُّ جِنْسٍ سيَتكاثَر كَنَوْعِهِ – مَعَ بعضِ التَّغيُّرِ الطَّفيف، دُوْنَ شَكٍّ، في إطارِ الجِنْسِ نَفسه. "وَلْيَكْثُرِ الطَّيْرُ عَلَى الأَرْض". وقد قالَ أحدُ الأشخاص: "لماذا يَقولُ النَّصُّ: ’على الأرض‘ في حين أنَّ الطُّيورَ تَطير؟" صَحيحٌ أنَّها تَطير، ولكنَّها لا تَتكاثَرُ في الجَوّ. فلا بُدَّ أنْ تَذهبَ إلى عُشِّها. فهي تَعيشُ هُناك. وهي تَنْزِلُ إلى هُناك لكي تَتَزاوَج وتَضَعَ بُيوضَها. واللهُ يَعْلَمُ ذلك. فلا وجودَ للتطوُّر هُنا. فالمخلوقاتُ البحريَّة والطُّيور كُلُّها خُلِقَت في يومٍ واحد.
وفي إطارِ كُلِّ جِنْسٍ مَنْفَرِدٍ، فإنَّ أكبرَ وأشرسَ الوحوشِ البحريَّة الأُسطوريَّة وأصغرَ العُضَيَّاتِ البحريَّة قد خُلِقَت جميعًا في يومٍ واحِد. وكُلُّ المخلوقاتِ الَّتي تَطير خُلِقَت في اليوم نفسه في إطارِ أجناسِها وَأُعطيتِ القُدرةَ على أنْ تَطير. فهي تتحرَّك في الجوّ. وهي تتحرَّك في البحر. وهي واعية. وهذا يعني أنَّكَ إذا قُدْتَ سَيَّارَتَكَ في الطَّريق، أليسَ مِنَ المُدهشِ كيفَ أنَّ الطُّيورَ تَتَجَنَّبُها؟ فهي تَمتلك وَعْيًا– مَعَ أنَّهُ ليسَ وَعْيًا ذاتيًّا. لِذا، فقد تَمَّ خَلْقُ مَوْطِنِ الإنسان. وقد صارَ المَوْطِنُ جاهزاً الآنَ للسَّكَن. ويأتي تَاجُ الخَليقَةِ في اليومِ السَّادِس. وتاجُ الخَليقةِ هو الإنسان. ولكِنْ هل تَعلمونَ ما هو الأمرُ المُحزِن جدًّا؟ سوفَ أَخْتِمُ بهذه النُّقطة. فالأمرُ المُحزنُ جِدًّا هو أنَّ الإنسانَ يَرْفُضُ أنْ يَرى اللهَ في الخَليقة. ألا يَبْعَثُ هذا الأمرُ على الحُزْن؟ فالإنسانُ يَرفُضُ أنْ يَرى اللهَ في الخليقة. وهو يَرفضُ أنْ يَسمعَ اللهَ في ضَميرِه، ويَحْجِزُ الحَقَّ، ويَغْرَقُ في ظَلامٍ ويأسٍ أكبر. وسوف أُخبرُكم عنِ الأمرِ الَّذي يُحزِنُني أكثر مِن أيِّ شيءٍ آخر. إنَّ ما يُحزِنُني أكثرَ مِنْ أيِّ شيءٍ آخر هو النَّاسُ الَّذينَ يقولونَ إنَّهُم مَسيحيُّون، ويؤمنونَ بالكتابِ المقدَّس، ثُمَّ يُناصِرونَ التطوُّر. وسوفَ أقولُ ذلكَ مَرَّةً أخرى. وقد قُلْتُهُ في الأسبوع الماضي. لا يمكنكم أنْ تَجِدوا تَطَوُّرًا في أيِّ مكانٍ في الأصحاحِ الأوَّل مِنْ سِفْر التَّكوين. فهو لا وُجودَ لَهُ. فلا تُوجَد طريقة لتفسير ذلك الأصحاح بأنَّهُ يُنادي بالتطوُّر. فهذا مُستحيل. فهذا لن يَحدث إلَّا إذا حَجَزْتُمُ الحَقّ. ولماذا تَفعلونَ ذلك؟ لماذا – لماذا تُعانِدونَ اللهَ، أوْ تُجَدِّفونَ على اللهِ، أوْ تُهينونَ اللهَ لِتُكْرِموا أنصارَ نظريَّة التطوُّرِ الَّذينَ لا يَعْرِفونَ الله، أو لكي تَحْصُلوا على بعضِ المِصداقيَّة العِلْميَّة؟
نحنُ نَقبلَ الكِتابَ المقدَّسَ كما هو. أليسَ كذلك؟ وأنا لا أعْرِفُ ما تُؤمِنونَ بِهِ، ولكنِّي أُوْمِنُ بالكتابِ المقدَّسِ ابتداءً بتكوين 1: 1. فلا حَاجَةَ إلى الانتظار إلى الأصحاحِ الثَّالث. وقد كَتَبَ "دونالد بارنهاوس" (Donald Barnhouse) ذاتَ مَرَّة: "إنَّ اللهَ يُعطيني عَقلًا لكي أُذيبَ الحَديدَ وأصْنَع مِنْهُ مِطْرَقَةً – مِطرقةً حديديَّةً ومساميرًا. واللهُ يُنَمِّي شَجَرَةً ويُعطي الإنسانَ القُوَّةَ لكي يَقطَعَها وعقلًا لكي يَصْنَعَ مِقْبَضًا للمِطرقةِ مِنَ الخَشَب. وحينَ يَصْنَعُ الإنسانُ المِطرقةَ والمسامير، فإنَّ اللهَ يَفْتَحُ يَدَيهِ ويَسْمَحُ للإنسانِ أنْ يَدُقَّ فيهما مَساميرَ وأنْ يُسَمِّرَهُ على صَليبٍ لِكي يُقَدِّمَ الدَّليلَ القاطِعَ على أنَّ الإنسانَ بلا عُذْر". فَقَدْ رَفَضُوا الخالِقَ إلى حَدِّ أنَّهُ عندما تَجَسَّدَ قَتَلوه. فقد قَتلوه. لِذلك، إنَّهُ أَمْرٌ يُهينُ اللهَ أنْ تُؤمِنَ بأيِّ شيءٍ سِوى ما يَقولُهُ سِفْرُ التَّكوين. أليسَ كذلك؟ فَهَلْ يُكْرِمُ اللهَ أنْ تُؤمِنَ بأنَّهُ خَلَقَ كُلَّ هذا؟ وهل يُكْرِمُ اللهَ أنْ تُؤمِنَ بِقِصَّةِ الخَلْقِ المُدَوَّنة في سفر التَّكوين؟ هل يُكْرِمُهُ ذلك؟ وهل هذه القِصَّة تُعَبِّرُ تعبيرًا أفضَل عن هُوِيَّتِه وما فَعَلَه؟ وهل هذا نَوْعٌ مِنْ أنواعِ العِبادة؟ فأيُّ شَيءٍ أَقَلُّ مِن ذلك هو تَطاوُلٌ وَقِحٌ على الله. فأنْ تَجعلَ المادَّةَ تَخلِقُ نفسَها بنفسها، وأنْ تَقولَ إنَّ هذا التَّنَوُّعَ المُعَقَّدَ لهذا الكونِ المَخلوق هُوِ نِتاجُ الصُّدفة يَعني أنْ تُكْرِمَ الصُّدفة أكثرَ مِنَ اللهِ – مَعَ أنَّهُ لا وُجودَ للصُّدفة. فهي شيءٌ غير موجود. فنحنُ نَبتدئُ بعبادةِ اللهِ مِنْ تكوين 1. ألا نَفعل ذلك حينَ نَعْبُدُهُ بوصفِهِ الخالِق؟
نَشكُرك، يا أبانا، مَرَّةً أخرى، على هذه اللَّيلة الَّتي دَرَسْنا فيها اليومَ الخامسَ وصِرْنا على عَتَبَةِ التَّرَقُّبِ المَجيدِ لليومِ الأخيرِ للخَلْقِ، وهو اليومُ الَّذي خَلَقْتَ فيهِ كُلَّ الحَيَواناتِ وَخَلَقْتَ فيهِ تاجَ الخَليقَةِ على صُورَتِك – الإنسان. نحنُ نَعْبُدُكَ، ونُعَلِّي اسْمَكَ، ونُسَبِّحُكَ، ونَشكُرُكَ، ونُمَجِّدُكَ، ونُكْرِمُكَ لأنَّكَ إلَهُ الخَليقَة. وأنتَ لستَ فقط إله الخليقة، بل أنتَ أيضًا إلَه الخلاص. فقد كانَ آينشتاين على خطأ. فيمكننا أنْ نَعرفَكَ لأنَّكَ تُريدُ أنْ تَعْرِفَنا. فقد أَعْلَنْتَ ذَاتَكَ لنا مِنْ خلالِ خَليقَتِك. وفضلاً عن ذلك، فقد أَعْلَنْتَ ذاتَكَ لنا مِنْ خلالِ الضَّميرِ والشَّريعة المكتوبة في قلوبِنا. وفوقَ هذا كُلِّه، فقد أعلنتَ لنا ذاتَكَ مِنْ خلالِ إعلانِ الكتابِ المقدَّسِ وبَيَّنْتَ لنا أنَّكَ لستَ فقط إلَهَ الضَّخامة، أوْ إلَهَ الثَّبات وَعَدَمِ التَّغيير، أوِ اللهَ العالِمَ بكُلِّ شيء والحاضِر في كُلِّ مكان والقادر على كُلِّ شيء، أوِ اللهَ الَّذي لا حُدودَ لقُدرتِه أوْ عِلْمِه، بل إنَّكَ أيضًا إلَهُ التَّعقيدِ المُطْلَق، والاتِّساع، والجَمال، والنِّظام. فأنتَ اللهُ الَّذي تَملأ الكونَ الفَسيحَ الَّذي لا نِهايةَ لَهُ. ومع ذلك، أنتَ اللهُ الَّذي يَهتمُّ بالخُطاة، ويُحِبُّ الخُطاة، وجاءَ إلى العالم، ووُلِدَ في مكانٍ بَسيطٍ ومُتواضِعٍ وحَقيرٍ في بلدةٍ مَغمورةٍ اسمُها "بيتَ لَحْم"، ونامَ في مِذْوَدٍ للماشِيَة. فقد نَزَلْتَ وجِئْتَ لكي تَحِلَّ مَحَلَّ الخُطاة، ولكي تموتَ على صَليبٍ لكي تَعْرِفَنا ونَعْرِفَك. وكم نَبتهِج لأنَّنا نَعرِفُك بصِفَتِكَ اللهَ الحقيقيَّ الحَيَّ، خالِقَ الكَوْنِ، وحَبيبَنا، وفادينا. نَشْكُرُك. آمين.

This article is also available and sold as a booklet.