Grace to You Resources
Grace to You - Resource

بالحديثِ عنِ اللَّاهوتِ القَويم، فإنَّنا نَقومُ في أُمسياتِ أيَّامِ الأحد بدراسةٍ تَختصُّ بالعَقيدة. وقد تَطَرَّقنا إلى أمور كثيرة على مَدارِ الأشهُرِ العديدة والكثيرة الماضية، ووجدنا أنفُسَنا مَحصورينَ في إلقاءِ نَظرة مُهمَّة جدًّا على اللَّاهوتِ الكاثوليكيِّ الرُّومانيّ. وهذه دراسة نابعة مِن كُلِّ دراستِنا للَّاهوتِ لأنَّ هذه الثَّقافة الَّتي نَعيشُ فيها تُهيمِنُ عليها الكاثوليكيَّة الرُّومانيَّة. وقد أَوْضَحْنا (مِنْ خِلالِ رَفْعِ الأيدي مَرَّاتٍ عديدة خِلالَ هذه السِّلسلة الأخيرة) أنَّ أغلبيَّةَ الأشخاصِ الَّذينَ جاءوا إلى المسيحِ في هذه الكنيسة (أيِ أغلبيَّةَ الأشخاصِ الموجودينَ في هذه الكنيسة) قد جاءوا مِن خَلفيَّة كاثوليكيَّة رومانيَّة. وَمِنَ المُهِمِّ أن نَفهمَ ما يُعَلِّمُهُ اللَّاهوتُ الكاثوليكيُّ الرُّومانيُّ وما يُؤمِنُ بهِ الكاثوليكُ ويُنادونَ به.

وهذا مُهِمٌّ لِعِدَّةِ أسباب. والسَّببُ الأوَّلُ والأكثرُ أهميَّة الَّذي يَحْضُرُ في ذِهني في هذا اليوم هو أنَّ الإنجيليَّة تَتَعَجَّلُ كثيرًا في القولِ إنَّ النَّاسَ الكاثوليك هُم إخوة وأخوات لنا في المسيح. فهُناكَ حَماسَة في قَبولِهم لأنَّهُم يَتحدَّثونَ عنِ اللهِ، والمسيحِ، والرُّوحِ القُدُسِ، والصَّليبِ، والقيامةِ، وَحَتَّى الكِتابِ المُقدَّس. ولكِنْ مِنَ الخطأِ أن نَفترضَ أنَّ النَّاسَ في الكنيسة الكاثوليكيَّة الرُّومانيَّة مَسيحيُّونَ حَقيقيُّون. فلكي يكونوا مَسيحيِّينَ حَقيقيِّينَ، يجب عليهم أن يُؤمِنوا بشيءٍ غيرَ اللَّاهوتِ الكاثوليكيِّ الرُّومانيّ.

ولا تَرْمي هذه السِّلسلة إلى الحَطِّ مِن شأنِهم، أوِ الاستهزاءِ بِهِم، أو جَعلِهِم مَحَطًّا للسُّخريةِ بِغَضِّ النَّظرِ عن غَرابةِ الأشياءِ اللَّاهوتيَّةِ الَّتي يُنادونَ بها مِنْ وُجهةِ نَظَرِنا نحن. بل إنَّ الغايةَ هي أنْ نَستمرَّ، كما كانتِ الحالُ دائمًا، في إدراكِ أنَّهم ما زالوا حَقْلَ كِرازة، وأنَّهم بحاجة إلى مَنْ يُبَشِّرهم بالإنجيلِ الصَّحيحِ المُتَمَثِّلِ في شخصِ رَبِّنا يسوعَ المسيح. والحقيقة هي أنَّني مُقتنعٌ بأنَّهم رُبَّما كانوا أخصَبَ تُربةٍ خِصْبَة للكِرازة في العالم لأنَّهُ في حين أنَّهم يَعرفونَ كُلَّ المُصطلحاتِ وبعضَ الحَقائقِ التَّاريخيَّة المُختصَّة بالرَّبِّ يسوع، فإنَّهم يَعلمونَ أنَّهُم لا يَعرفونَ اللهَ ولا يَملِكونَ يَقينَ الحياةِ الأبديَّة.

وعلى مَرِّ السِّنين، رأينا تَجاوُبًا هائلاً تُجاهَ الإنجيل بينَ النَّاسِ القادِمينَ مِن كنائسَ كاثوليكيَّة. ويجب علينا أنْ نَتَيَقَّنَ مِن أنَّنا لا نَسمحُ لأنفسِنا أنْ نَنخَدِعَ بهذا التَّشديدِ المُضَلِّلِ جِدًّا الَّذي نَسمَعُهُ الآنَ بأنَّنا جَميعًا مَسيحيُّونَ مَعًا. وأودُّ أن أقولَ أيضًا إنَّ ما أقولُهُ لكم هو في جَوهَرِهِ عقيدة كاثوليكيَّة. وهذا لا يعني أنَّ كُلَّ شخصٍ في الكنيسة الكاثوليكيَّة، وكُلَّ الأشخاصِ "الرُّومِ الكاثوليك" يُؤمِنونَ بهذه الأشياء أو يَعرفونها. فالجَهْلُ مُنتشرٌ دائمًا في الكاثوليكيَّة الرُّومانيَّة. وهذا هو السَّببُ في أنَّهُ على مَرِّ قُرونٍ طَويلة، فإنَّ كُلَّ طُقوسِهم تُقامُ باللُّغةِ اللَّاتينيَّة. فلا يَهُمُّ إنْ كانَ النَّاسُ يَفهمونَ ما يُقال أَمْ لا يَفهمونَهُ. فَكُلُّ شيءٍ هو مُمارسات صُوفيَّة تُمارِسُها بطريقة آليَّة إذْ تَجِدُ نَفسَكَ تُمارِسُ طُقوسًا تَقليديَّة بطريقة آليَّة وتَشترك في عشاءِ الرَّبِّ مِن خلالِ الاشتراكِ بطريقة صُوفيَّة في ما تَفعلُهُ الكنيسة.

وفي السَّنواتِ الأخيرة، تَخَلَّوْا عنِ اللُّغةِ اللَّاتينيَّة وراحوا يَستخدمونَ اللُّغات الدَّارِجَةَ في العالم. وبالرَّغمِ مِن ذلكَ، ما زالَ هناكَ جَهْلٌ مُتَفَشٍّ بينَ الرُّومِ الكاثوليك حَتَّى إنَّ الكَهَنةَ أنفُسَهُم لا يَعرفونَ في حالات كثيرة ما هي العقائد المُهمَّة. لِذا فإنَّنا نَفهمُ أنَّ أُناسًا كثيرينَ مِنَ المُنغمِسينَ في الكنيسة الكاثوليكيَّة الرُّومانيَّة لا يَعرفونَ شيئًا عن عقيدةِ الكنيسة إذْ إنَّهم يَذهبونَ إلى هُناكَ لِمُجَرَّدِ الاشتراكِ في الطُّقوس. ولكِنَّ فَهْمَ الحَقِّ مُهمٌّ جِدًّا إنْ أردنا أنْ نَفْضَحَ النِّظامَ على حَقيقَتِه. والجَهْلُ لا يُغَيِّرُ ذلكَ البَتَّة. وأقولُ، مَرَّةً أخرى، إنَّ الغايةَ مِنْ تَقديمِ هذه المادَّة هو إظهارُ التَّعاطُفِ الإنجيليِّ تُجاهَ النَّاسِ في الكنيسة الكاثوليكيَّة الرُّومانيَّة لأنَّهُ بالرُّغم مِنْ أنَّهُم قَريبونَ جِدًّا مِنَ الحَقِّ، فإنَّهم بَعيدونَ جِدًّا عنه.

والحقيقة هي، كما نَتذكَّرُ مِن خِلالِ كاتِبِ الرِّسالةِ إلى العِبرانِيِّين، فإنَّ هُناكَ عِقابًا أَشَرَّ يَنتظرُ الأشخاصَ الَّذينَ بالرَّغمِ مِنْ مَعرفتهم للصَّليبِ وَحَقِّ الصَّليبِ فإنَّهُم يَدوسونَهُ بأقدامِهِم بسببِ عدمِ إيمانِهم. لِذا فإنَّ هُناكَ دَينونةً أبديَّةً أَقسى تَنتظرهم. لِذا، فإنَّهم ليسوا فقط حَقْلَ كِرازة، بل هُمْ حَقْلُ كِرازة عظيم، وحَقْلُ كِرازة مُلِحّ ينبغي أنْ نَذهبَ إليه بعاطفة شديدة وعَقيدة قَويمة واضحة.

ونحنُ نَتحدَّثُ الآنَ عنِ القُربانِ المُقدَّس؛ وهو تَشويهٌ وَثنيٌّ. القُربان المُقدَّس. فهو تَشويهٌ لمائدةِ الرَّبِّ. وأنا لم أُخَصِّصْ وَقتًا لِشَرْحِ الأهميَّة الكِتابيَّة لمائدةِ الرَّبِّ لأنَّني فَعلتُ ذلكَ طَوالَ مُدَّةِ وُجودي هُنا. فقد تَحَدَّثنا كثيرًا عن مَعنى مائدةِ الرَّبِّ عَبْرَ السِّنين بِشَتَّى السُّبُلِ المُمكِنَة. وسوفَ أَفتَرِضُ أنَّكُم تَفهمونَ ذلك. ولكِنِّي أريدُ منكم أنْ تَفهموا الخطأ. فأنا أعتقد أنَّكُم تَعرفونَ الحَقَّ. وهُناكَ، كَما قُلتُ، مَعلومات كثيرة قَدَّمناها مِنْ عَلى هذا المِنْبَرِ بهذا الشَّأن.

وأودُّ أن أتحدَّثَ عن هذا الموضوعِ اللَّيلة مِن خلالِ النَّظرِ إلى شيءٍ تاريخيٍّ جِدًّا. ففي الأسبوعِ الماضي، أُتيحتْ لي فُرصةُ قِراءةِ كِتابٍ أَهداني إيَّاهُ "ريك هولاند" (Rick Holland)، وهو بِعُنوان: "شُهداء مَاري الدَّمويَّة" (Bloody Mary’s Martyrs). وهو كِتابٌ نُشِرَ في مَدينة نيويورك في سنة 2001. وبصراحة، لقد كُنتُ وما أزالُ مُعْجَبًا إلى أقصى الحُدودِ بالقرنِ السَّادس عَشَر، ولا سِيَّما بالقرنِ السَّادس عَشَر في المَملكة المُتَّحِدة، وإسكتلندا، وإيرلندا، وإنجلترا لأنَّ أجدادي يَنْتَمونَ إلى هُناكَ مِنْ جِهَةِ أبي، وَمِنْ جِهَةِ كُلٍّ مِنْ جَدِّي وجَدَّتي. ولَطالَما أَحببتُ ذلكَ القرنَ بالتَّحديد بسببِ التَّأثيرِ والأثرِ الهائلِ للإصلاح حينَ وَصَلَ إلى إنجلترا وإسكتلندا؛ وبصورة خاصَّة الخِدمة الرَّائعة لِـ "جون نوكس" (John Knox). لِذا، مِنَ المُدهشِ بالنِّسبةِ إليَّ أنْ أَفهمَ القليلَ عن تاريخِ "مَاري الدَّمويَّة"؛ وَهُوَ اللَّقَبُ الَّذي تَشتَهِرُ بِهِ؛ أمَّا اسمُها فهو: "المَلِكَة ماري تيودَر" (Queen Mary Tudor).

وهذا الكِتابُ هو تاريخُ "ماري" والشُّهداء الَّذينَ قُتلوا في عَهدِها. فمُنذُ لَحظةِ جُلوسِها على العَرْش، ابتدأت بِالقَتل. ويَقولُ كاتِبُ هذا الكِتابِ ما يَلي: "في إنجلترا، في عهدِ الملكة ماري تيودر، وطَوالَ خَمسةٍ وأربعينَ شَهرًا مُريعة ابتداءً بشهر شباط/فبراير سنة 1555 وانتهاءً بالعاشِرِ مِن شهر تشرين الثَّاني/نوفمبر سنة 1558، استُشهِدَ 283 شخصا بروتستنيّ (227 مِنهُم مِنَ الرِّجال، و 56 امرأة). وهناكَ سِجِلَّاتُ أخرى تُشيرُ أيضًا إلى وجودِ أربعةِ أطفال. وقد أُحْرِقَ هؤلاءِ جميعًا وَهُمْ أَحياء. وَالشَّيءُ المؤكَّدُ هو أنَّ 283 شخصًا قد أُحرِقوا وَهُمْ أحياء. وهكذا فقد لُقِّبَتْ المَلِكَة ’ماري تيودر‘ بِمَاري الدَّمويَّة". واسمحوا لي أن أقرأَ سِجِلَّ الإعدامِ لبعضٍ مِن أشهرِ الأشخاصِ لدينا. ويُمكنكم العُثورُ على كَمٍّ كبيرٍ مِن هذا التَّاريخ في كِتاب "فوكس" (Foxe) الكلاسيكيّ: "سِجِلّ الشُّهداء" (Book of Martyrs). وهناكَ أيضًا مَرجعٌ رائعٌ آخر إنْ تَمَكَّنتُم مِنَ العُثورِ عليه. وهو كِتابٌ كَتَبَهُ "جيه. سي. رايل" (J.C. Ryle) بعُنوان: "نُورٌ مِنَ السُّبُلِ القَديمة" (Light From Old Paths)، وهو يَحوي أيضًا تاريخَ "شُهداء مَاري" (Marian martyrs) كما يُدْعَوْن.

وواحدٌ مِن هؤلاءِ الشُّهداء كانَ كارِزًا رائعًا بالإنجيل اسمُهُ "جون روجرز" (John Rogers). وقد تَمَّ إحراقُ "جون روجرز" في "سميثفيلد" (Smithfield) يوم الإثنين في الرَّابعِ مِن شهر شباط/فبراير. وقد كانَ أوَّلَ شَهيد في حَمْلَتِها الدَّمويَّة الَّتي استمرَّت خَمسةً وأربعينَ شَهرًا. وكانَ قد ساعَدَ ... إليكُم جَريمَتَهُ: كانَ قد ساعدَ "تينديل" (Tyndale) وَ "كفرديل" (Coverdale) في تَرجمةِ أَهَمِّ تَرجمةٍ إنجليزيَّة للكِتابِ المُقدَّس، وهي تَرجمة تُعرَف عادةً باسم "تَرجمة ماثيو للكِتاب المُقدَّس" (Matthew’s Bible) إذْ إنَّهُ أخذَ تَرجمة "تينديل" للعهدِ الجديد، وَجَمَعَها معَ تَرجَمَتِهِ للعهدِ القديمِ، وَأصدَرَهُما معًا تحتَ العُنوان: "تَرجمة ماثيو للكتاب المُقدَّس" مُحاوِلاً أنْ يُخفي هُوِيَّتَهُ قليلاً. فهو لم يَحْمِل اسمَهُ، ولكنَّ التُّهمة وُجِّهَتْ إليهِ بوصفِهِ "روجرز" المُلَقَّب بِـ "ماثيو".

وكانَ أوَّل مَنْ أُحرِقَ حَيًّا. فقد تَمَّ اقتيادُهُ إلى "سميثفيلد" مَشْيًا على الأقدامِ على مَرأى مِنْ "كَنيسةِ سيبلكير" (The Church of the Sepulcher) الَّتي كانَ يَعِظُ فيها. وقد مَشَوْا بِهِ في شَوارِعِ الأبرشيَّة الَّتي كانَ يَخْدِمُ فيها راعيًا. وعلى الطَّريقِ، وَقَفَتْ زَوجَتُهُ وأبناؤُهُ العَشْرَة الَّذينَ كانَ واحدٌ منهم حَديثَ الولادة تَحْمِلُهُ زَوجَتُهُ بينَ ذِراعَيْها. وحينَ مَرَّ مِنْ أمامَ أبنائِهِ، لم يَتَمَكَّنْ مِنَ القيامِ بأيِّ شيءٍ سِوى أنْ يَنْظُرَ إليهم مُبتسمًا وَأنْ يُحَيِّهِم تَحِيَّةً مُقْتَضَبَة بسببِ القَسوةِ الوَحشيَّةِ للأسقُف "بونر" (Bonner) الَّذي رَفَضَ تَمامًا أنْ يُعطيهِ أيَّ فُرصة لرؤيةِ زَوجَتِهِ وأبنائِهِ عندما كانَ في السِّجْن. فقدِ نَظَرَ إليهم ثُمَّ مَشى بهدوءِ إلى العَمودِ وَهُوَ يُرَدِّدُ المزمور 51. وبحسب قولِ الأُسقُف "رايل" (Ryle)، فقد مَشى بثباتٍ وَبِدونِ تَرَدُّدٍ إلى قَبْرٍ نَاريٍّ.

وعندَ وُصولِهِ، كانَتْ حَماسَةُ النَّاسِ تَفوقُ الوَصْفَ. فقد عَلا تَصفيقُهُم كالرَّعْدِ في جَميعِ أرجاءِ المَكان. وَحَتَّى إنَّ "نويلي" (Noailles)، السَّفيرَ الفَرنسيَّ، كَتَبَ إلى الدِّيارِ وَصفًا للمَشهدِ قالَ فيه إنَّ روجرز مَضَى إلى حَتْفِهِ كَما لو كانَ يَمشي إلى "زِفافِهِ". ويقولُ "ريدلي" في الكِتاب (أيْ في كِتاب "شُهداء ماري الدَّمويَّة"): "في ليلَتِه الأخيرة في زِنزانَتِهِ في السِّجْن في نيوغيت [Newgate]، نامَ قَريرَ العَيْنِ حَتَّى إنَّ سَجَّانَهُ اضْطُرَّ إلى إيقاظِهِ في الصَّباح ليقولَ لَهُ إنَّ الوقتَ قد حانَ ليرتدي ثِيابَهُ ويَستعدَّ لمُغادرةِ المَكانِ إلى ساحةِ الإعدام. وقد كانَ فَرِحًا لأنَّهُ كانَ يَعلمُ أنَّهُ بالرَّغمِ مِن أنَّهُ رُبَّما سيُعاني كثيرًا في النَّار، فإنَّهُ سيذهبُ مُباشرةً إلى السَّماء". وقد جاءَ المَوتُ سَريعًا. وقد أَمْسَكَ رَاحَتَيْ يَدَيْهِ في النَّارِ وَراحَ يَفْرُكْهُما معًا كما لو أنَّ النَّارَ كانت مِياهً باردةً. ثُمَّ إنَّهُ سَحَبَهُما مِنَ النَّارِ وَرَفَعُهُما في الهَواءِ، وَتَلى صَلاةً إلى أنْ مَاتَ بعدَ ذلكَ بوقتٍ قصير.

ثُمَّ هُناكَ "جون هوبر" (John Hooper)، وهو كارِزٌ آخر بالإنجيل. فعندما وَصَلَ إلى ساحةِ إعدامِه، سُمِحَ لَهُ أنْ يُصَلِّي، ولكِنَّهُ مُنِعَ بِصَرامة مِنَ التَّحَدُّثِ إلى النَّاس. وقد وُضِعَ صُندوقٌ أمامَ "جون هوبر" يَحوي عَفْوًا تَامًّا إنْ أَنْكَرَ المَسيح. وكانَ رَدُّهُ: "أَبْعِدوهُ عَنِّي! أَبْعِدوهُ عَنِّي!" ثُمَّ إنَّهُمْ قَيَّدوهُ إلى عَمودٍ بِحَديدٍ مِنْ وَسْطِهِ فَخاضَ مَعرَكَتَهُ الأخيرةَ معَ الموت. وقد اضْطُرُّوا إلى إشعالِ حُزَمِ الحَطَبِ ثلاثَ مَرَّاتٍ لأنَّها لم تَحتَرِق كما يَنبغي. وقد احْتَمَلَ هذا الشَّهيدُ العَظيمُ ثلاثةَ أرباعِ السَّاعة ألمَ الموتِ إذْ يَقولُ "فوكس" (Foxe): "ولكنَّهُ لم يَتحرَّك إلى الوراءِ أو إلى الأمام، ولا إلى أيِّ جانبٍ، بل كانَ يُصَلِّي وَحَسْب: ’يا رَبّ يَسوع، ارْحَمْني. يا رَبّ يَسوع، اقبَل رُوحي‘. وكانَ يَقرَعُ صَدرَهُ بِيَدٍ واحدةٍ إلى أنِ احْتَرَقَتْ تمامًا". وكانَ يَقِفُ هُناكَ سَبعةُ آلافِ شَخصٍ يُشاهدونَ الإعدامَ. وقد قالَ صَبِيٌّ أَعمى: "أنتَ، يا سَيِّدي، جَعَلْتَني أرى نُورَ الإنجيل".

ثُمَّ هُناكَ "روبرت فيرار" (Robert Ferrar) الَّذي أُحْرِقَ في "كارمارثن" (Carmarthen) يوم الجُمُعة في الثَّلاثين مِن شهر آذار/مارِس مِنَ السَّنةِ نَفسِها. فقد وَقفَ في وَسْطِ أَلْسِنَةِ النَّارِ بَاسِطًا يَديهِ إلى أن احْتَرَقَتا وَصارَتا رَمادًا وإلى أنْ قامَ أَحَدُ الواقِفينِ، إشْفاقًا عَليهِ، بِضَربِهِ على رأسِهِ مُنْهِيًا مُعاناته. لِذا فقد ماتَ ذلكَ الكَارِزُ الويلزيّ (Welsh). وهناكَ أيضًا الرَّفيقان في الكِرازة بالإنجيل: "نيكولاس ريدلي" (Nicholas Ridley) وَ "هيو لاتيمَر" (Hugh Latimer). وكانَ "ريدلي" قد وَصَلَ إلى حَقْلِ الخِدمة أوَّلاً. وعندما رأى "لاتيمَر" يأتي بَعدَهُ التقاهُ وعَانَقَهُ قائلاً: "تَشَجَّع يا أخي لأنَّ اللهَ إمَّا سَيُلَطِّفُ أَلْسِنَةَ اللَّهَبِ وإمَّا سَيُقوِّينا كي نَحتَمِلَها". وكانت كلماتُ "ريدلي" الأخيرة قبلَ إشعالِ النَّارِ هي الآتية: "أبي السَّماويّ، أُقَدِّمُ خَالِصَ شُكري لأنَّكَ دَعَوتَني إلى خِدمَتِكَ، وَحَتَّى إلى الموت. أسألُكَ، يا رَبِّي الإلَه، أنْ تُغْدِقَ رَحْمَتَكَ على هذا الجُزءِ مِن إنجلترا وأنْ تُخَلِّصَهُ مِن أعدائِهِ".

أمَّا كلماتُ "لاتيمَر" الأخيرة فكانت مِثْلَ النَّفْخِ بِبوقٍ حَتَّى إنَّها بَقِيَتْ حَيَّةً إلى هذا اليوم: "تَشَجَّع، يا مُعَلِّم ريدلي، وَكُنْ رَجُلاً. فسوفَ نَقومُ في هذا اليوم، بِنَعمةِ اللهِ، بإشعالِ شَمعة في إنجلترا. وأنا وَاثِقٌ مِن أنَّها لن تَنطفئ يومًا". وعندما ابتدأت أَلْسِنَةُ اللَّهَبِ تَرتفع، صَرَخَ "ريدلي" بِصوتٍ عَالٍ: "في يَديكَ، يا رَبّ، أَستودِعُ رُوحي. يا رَبُّ، اقْبَل رُوحي". وقد صَرَخَ "لاتيمَر" بِصوتٍ عَالٍ مِنَ الجِهَةِ الأخرى مِنَ العَمود: "يا أبي السَّماويّ، اقْبَل رُوحي". وقد ماتَ "لاتيمَر" سريعًا وَهُوَ رَجُلٌ عَجوزٌ في الثَّمانينَ مِنْ عُمرِه. فقد استغرقَ الأمرُ وقتًا قصيرًا جِدًّا لِتَحريرِ رُوحِهِ مِن عَذابِها الأرضيِّ. أمَّا "ريدلي" فَتألَّمَ وقتًا طويلاً وقاسيًا بسببِ سُوْءِ إضْرامِ النَّارِ مِنْ قِبَلِ مُنَفِّذي الإعدام. وبعدَ وقتٍ طويلٍ، وَصَلَتِ النِّيرانُ إلى أعضائِهِ الحَيويَّة فَسَقَطَ عندَ قَدَمَيِّ "لاتيمَر" واسْتَراحَا. ويَقول "رايل": "لقد كانا رائِعَيْنِ وعَظيمينِ في حَياتِهِما. وَفي مَوتِهِما، لم يَنْفَصِلا".

وقد أُحْرِقَ "جون فيلبوت" (John Philpot) في "سميثفيلد" (Smithfield) في الثَّامِن عَشَر مِن شهر كانون الأوَّل/ديسمبر سنة 1555. وفي اللَّيلةِ الَّتي سَبَقَتْ إعدامَهُ، ذَهَبَ إلى غُرفَةِ نَومِهِ وشَكَرَ اللهَ لأنَّهُ حُسِبَ مُستحِقًّا أنْ يَتألَّمَ مِنْ أجلِ الحَقّ. وعندما جاءَ إلى "سميثفيلد"، جَثا على رُكْبَتَيْهِ وقال: "سوفَ أُوْفِي نُذوري". ثُمَّ إنَّهُ قَبَّلَ العَمودَ وَقال: "هل أَسْتَنْكِفُ عنِ التَّألُّمِ على هذه الخَشَبَة بعدَ أنْ رأيتُ أنَّ فَادِيَّ لم يَستَنكِف عنْ أنْ يَموتَ أَشْنَعَ مِيْتَةً على الصَّليبِ لأجلي؟" وبعدَ ذلك، راحَ يَتْلو المَزمور 106 والمَزمور 107 والمَزمور 108. وإذْ كانَ مُقَيَّدًا إلى الخَشَبَة، ماتَ بِهُدوءٍ تَامٍّ. وهُناكَ أيضًا "توماس كرانمر" (Thomas Cranmer) الَّذي بَقِيَ يَتأرجَحُ في إيمانِهِ صُعودًا وهُبوطًا ... صُعودًا وَهُبوطًا، وَبَدا أنَّهُ لا يَتَحَلَّى بأيِّ قَدْرٍ مِنَ الأَمانَة؛ ولكنَّهُ في نِهايةِ المَطافِ تَحَلَّى بالشَّجاعةِ ومَاتَ شَهيدًا. وبينما كانَ يَحترِق، قال: "سوفَ أُحْرِقُ يَدِي الَّتي تَكتُبُ لأنَّها يَدِي الَّتي قامت في الماضي بكتابةِ أشياءٍ مُناقضة للحَقّ. فهي ستَحترق أوَّلاً". وهذا هو ما حَدَث.

وهناكَ قصَّة مُدهشة أخرى عن فَتاةٍ اسمُها "بيروتين كاوتشي" (Perotine Cauches). كانت "جُزُرُ القَناة" (The Channel Islands) تحتَ سَيطرةِ الملكة ماري. وقد حَدَثَ ذلكَ في صَيفِ سنة 1556. فقد تَمَّ رَفْعُ دَعوى هُناك. فقد كانَت هناكَ امرأة اسمُها "كاثرين كاوتشي" (Catherine Cauches) تَعيشُ في جُزُرِ القَناة معَ ابنَتَيْها: "بيروتين" (Perotine) وَ "غيليمين" (Guillemine). ومِنْ خِلالِ سِلسلةٍ مِنَ الأحداث، قامت سَيِّدة بالإبلاغِ عن أنَّ "كاثرين" وابنَتَيْها يَتْبَعْنَ هَرْطَقَةً. وقد تَمَّتْ إدانَةُ النِّسْوَة الثَّلاث بالهَرطقة وَحُكِمَ عليهنَّ بالموتِ حَرْقًا. ولم تَقُلْ "بيروتين" للقُضاةِ عندَ مَحاكَمَتِها إنَّها حُبْلَى. وعندما تَمَّ إشعالُ النَّارِ، تَسَبَّبَتِ النَّارُ في التَّعجيلِ في وِلادَةِ "بيروتين" لابنِها الَّذي سَقَطَ بينَ حُزَمِ الحَطَب بينما كانتِ النِّيرانُ تَشتَعِلُ حَولَهُ. وقد اندفعَ أحدُ الحاضِرينَ إلى الأمام لإنقاذِ الطِّفلِ فَسَحَبَهُ مِنَ النِّيرانِ وَوَضَعَهُ على العُشْب. ثُمَّ إنَّ واحِدًا مِنَ الجُنودِ التَقَطَ الطِّفلَ وَسَلَّمَهُ لآخر، وذاكَ سَلَّمَهُ إلى آخر إلى أنْ وَصَلَ أخيرًا إلى يَدَيِّ رَئيسِ الشُّرطةِ المَسؤولِ عن تَنفيذُ حُكْمِ الإعدام. وقد أَمَرَ رَئيسُ الشُّرطةِ رِجالَهُ بِطَرْحِ الطِّفْلِ في النَّارِ فاحتَرَقَ مَعَ أُمِّهِ وَجَدَّتِهِ وَخَالَتِه.

هذه ثَماني قِصَص فقط مِن أَصْلِ 283 قِصَّة. وهُناكَ الكثيرُ مِنَ القِصَص المُشابِهة. والسُّؤالُ الَّذي يَطرَحُ نَفسَهُ هُوَ: لماذا؟ لماذا؟ والجَوابُ المُدهِشُ الَّذي لا مَفَرَّ مِنْهُ هُوَ أنَّ هؤلاء جميعًا (أيِ الأشخاص الـ 283) بل وأكثر مِنهُم قد أُحْرِقوا خِلالَ أوْ قبلَ عَهْدِ الملِك هنري الثَّامِن (Henry VIII). وقد أُحْرِقُوا جميعًا لسببٍ واحدٍ فقط وهو أنَّهُم رَفضوا أنْ يُقِرُّوا ويُؤمِنوا بعقيدةِ القُربانِ المُقَدَّس؛ أيْ بعقيدةِ الاستحالة الجَوهريَّة في الكنيسة الكاثوليكيَّة الرُّومانيَّة. ويَكتُبُ "جيه. سي. رايل" (J.C. Ryle): "كُلُّهُم، بلا استثناءٍ واحدٍ، دُعُوا إلى قَبولِ ما يُقال عنِ الحُضورِ الحَقيقيِّ. وفي كُلِّ حالة، كانَ رَفضُهُم لِقَبولِ هذه العقيدة هو السَّببُ الرَّئيسيُّ لإدانَتِهم. وقد مَاتوا جميعًا في عهدِ مَاري الدَّمويَّة لأنَّهم لم يَقبلوا الإقرارَ بأنَّ الخَمرَ والخُبزَ المُقَدَّمَيْن على مائدةِ الرَّبِّ هُما الحُضورُ الحقيقيُّ لجسدِ ودَمِ وطَبيعةِ وَلاهوتِ يسوعَ المسيح".

والحقيقة هي أنَّ سِجِلَّ الشُّهداءِ لِفوكس يُدَوِّنُ الكلماتِ المُحَدَّدة الَّتي قالها الشُّهداءُ عندما مَاتوا. استمعوا إلى ما قالَهُ "جون روجرز": "لقد سُئِلْتُ إنْ كُنتُ أُوْمِنُ بأنَّ الخُبْزَ والخَمْرَ هُما جَسَدُ وَدَمُ مُخَلِّصِنا المسيح الَّذي وُلِدَ مِنَ العَذراءِ مَريم وسُمِّرَ على الصَّليب؛ أيْ إنْ كانَ الخُبْزُ والخَمْرُ يَصيران كذلكَ بصورة حقيقيَّة وَجوهريَّة. وقد أَجَبْتُ: ’أعتقد أنَّ هذا خطأ. فلا يُمكنُني أن أفهمَ الكلمتَيْن "حَقيقيَّة" و "جَوهريَّة" سِوى بِالمَعنى الجَسَدِيّ. ولكِنْ مِن ناحية جَسديَّة، فإنَّ المسيحَ موجودٌ فقط في السَّماء. لِذا، لا يُمكن أنْ يكونَ المَسيحُ حَاضِرًا جَسديًّا في هَذَيْنِ العُنْصُرَيْن‘. لِذا فقد أُدينَ وَأُحْرِق.

وإليكُم كلمات الإدانَة ضِدَّ الأُسقُف ريدلي: "إنَّ المُتَّهَمَ المَعروف باسم نيكولاس ريدلي يُؤكِّد ويُصِرُّ بِعِنادٍ على آراءٍ مُعَيَّنةٍ وأقوالٍ وَهَرطقاتٍ تُنافي كلمةَ اللهِ والإيمانَ المُسَلَّمَ للكنيسة مِن خلالِ إنكارِهِ لحقيقةِ أنَّ الجسدَ وَالدَّمَ الحَقيقيَّيْنِ وَالطَّبيعِيَّيْنِ للمَسيحِ مَوجودانِ في قُرْبانِ المَذبحِ؛ وَثانيًا، مِن خلالِ التَّأكيدِ على أنَّ مادَّتَيِّ الخُبْزِ والخَمْرِ تَبقيانِ كما هُما بعدَ كَلماتِ التَّقديس". لِذا فقد أُدينَ وأُحْرِق.

والآن، تَذَكَّروا ما قُلتُهُ لكم في المَرَّة السَّابقة. ففِكرةُ القُربانِ تَقولُ إنَّهُ عندما يُقَدِّسُ الكاهِنُ الخَمرَ والخُبز، فإنَّهُما يَصيرانِ حالاً وبطريقة خَارقة للطَّبيعة الدَّمَ الحَقيقيَّ والجسدَ الحقيقيَّ ليسوعَ المسيح، ولا يَبقيانِ خَمْرًا أوْ خُبْزًا. فَمَعَ أنَّهُما يُحافظانِ على شَكلِهِما، فإنَّ هذه ليست حَقيقَةَ أيٍّ مِنهُما. وما قالَهُ "ريدلي" هو أنَّهُ قبلَ وبعدَ التَّقديس، فإنَّ الخَمْرَ تَبْقى خَمْرًا، والخُبزَ يَبقى خُبْزًا. وقد أُدينَ وأُحْرِق. وفيما يَختصُّ بصديقِهِ "لاتيمَر"، إليكُم ما قِيْلَ عَنْهُ: "لقد تَمَّتْ إدانَتُكَ لأنَّكَ صَرَّحْتَ عَلانيةً، وَدافعتَ عن رأيِكَ، ولم تَتراجَع عن قولِكَ بأنَّ الجَسدَ الحَقيقيَّ والجَوهريَّ للمسيح بعدَ تَقديسِ الكاهِنِ لا يَحِلُّ حَقًّا في قُربانِ المَذبح، وبأنَّ قُربانَ المَذبحِ يَبقى خُبْزًا وَخَمْرًا". إنَّها التُّهمَةُ نَفسهُا. وقد قالَ الرَّجُلُ العَجوزُ "لاتيمَر": "بالرَّغْمِ مِنَ القُرْبانِ الَّذي تُقَدِّمُهُ الكنيسةُ الكاثوليكيَّةُ، فإنَّ جَسَدَ المسيحِ وَدَمَهُ لا يَحِلَّانِ جَوهريًّا في شَكْلِ خُبْزٍ وَخَمْر". وبسببِ إنكارِ ذلكَ، أُدينَ وَأُحرِق.

وإليكُم التُّهمةَ الَّتي وَجَّهَها الأُسقُف "بونر" (Bishop Bonner) إلى "فيلبوت" (Philpot): "لقد أَهَنْتَ وَتَعَدَّيتَ على قُربانِ المَذبح مُنْكِرًا الحُضورَ الحقيقيَّ لجسدِ المسيح وَدَمِه فيهِ مُؤكِّدًا أيضًا أنَّ خُبْزًا عَادِيًّا وخَمْرًا عَادِيَّةً موجودانِ في القُربانِ؛ وليسَ جَوهرَ جَسَدِ وَدَمِ المسيح". وبسببِ ذلكَ الرَّأي، أُعْدِمَ حَرْقًا.

وإليكُم ما قالَهُ "كرانمر" (Cranmer) قَبْلَ أنْ يَلْفُظَ نَفَسَهُ الأخير في كنيسةِ القِدِّيسة مَريم في أكسفورد: "مِن جهة القُربان، أنا أُوْمِنُ، كَما عَلَّمْتُ في كِتابي ضِدَّ أُسقُف وينشستر [Winchester]، وهو أمرٌ يُعَلِّمُهُ كِتابي كَعقيدة صحيحة سَتَصْمُدُ في اليومِ الأخيرِ أمامَ كُرسيِّ اللهِ عندما تَخْجَلُ العقيدةُ البَابويَّة المُناقضة لها مِنْ إظهارِ وَجْهِها". وهل تُريدونَ أن تَعلموا ما قالَهُ في كِتابِه؟ "إنَّهُم [أيْ: الرُّومُ الكاثوليك] يَقولونَ إنَّ المسيحَ مَوجودٌ جَسديًّا في شَكلِ أو هَيئةِ خُبْزٍ وَخَمْر. ونحنُ نَقولُ إنَّ المسيحَ ليسَ هُناكَ، لا جَسديًّا ولا رُوحيًّا، بل إنَّهُ، بالنِّسبةِ إلى أولئكَ الَّذينَ يأكلونَ وَيَشربونَ باستحقاقٍ الخُبزَ والخَمْرَ، مَوجودٌ رُوحيًّا وجَسديًّا في السَّماء". لِذا فقد أُعْدِمَ حَرْقًا.

وبعدَ 300 سنة، ما تَزالُ الكنيسةُ الكاثوليكيَّةُ الرُّومانيَّة تَفعلُ ذلك. وآخِرُ شَهيدٍ سَقَطَ على يَدِ النِّظامِ الكاثوليكيِّ في إسبانيا في سنة 1826. وَهُوَ أُستاذُ مَدرسة يُدعى "كاييتانو ريبول" (Cayetano Ripoll). وقد أُعْدِمَ حَرْقًا في سنة 1826 لأنَّهُ رَفَضَ أنْ يَصْحَبَ طُلاَّبَهُ إلى القُدَّاس، ولأنَّهُ رَفَضَ أنْ يَسْمَحَ لَهُمْ بالرُّكوعِ أمامَ القُربانِ المُقَدَّس، ولأنَّهُ قَالَ "المَجْدُ للهِ" عِوَضًا عَنْ أنْ يَقول: "السَّلامُ عليكِ أيَّتُها القِدّيسة مَريم". وَإنَّهُ لَمِنَ المُرَوِّعِ حَقًّا أنْ نُفَكِّرَ في أنَّ هذه الفَريضةَ الَّتي أَعطاها رَبُّنا لِبَرَكَةِ قِدِّيسيهِ الأحبَّاء سَتَصيرُ فاسِدَةً ودَنِسَةً جِدًّا حَتَّى إنَّها ستَصيرُ ذَريعَةً إبليسيَّة وَشَيطانيَّة لِقَتْلِ أَشْرَفِ المسيحيِّينَ والكَارِزينَ بالإنجيل. ولكِنَّ هذا هو ما حَدَثَ مِنْ خِلالِ الأيدي الفاسدة للنِّظامِ الكاثوليكيِّ الرُّومانيّ.

وكما قُلتُ، مِنَ الرَّابعِ مِنْ شهرِ شباط/فبراير سنة 1555 إلى العاشِرِ مِنْ شَهْرِ تشرين الثَّاني/نوفمبر 1558 (أيْ خِلالَ خَمسةٍ وأربعينَ شَهرًا)، خَاضَ البروتستنت امتحانًا قَاسِيًا جِدًّا بسببِ ما يُؤمِنونَ بِهِ بخصوصِ مَائِدَةِ الرَّبِّ.فقد كانَت هذه هي القضيَّة. فقد كانت "ماري" كاثوليكيَّة مُتَشَدِّدَة. وعندما اعْتَلَتِ العَرْشَ، كانت إنجلترا قدِ ابتَدأتْ بالتَّغَيُّرِ بسببِ الإصلاحِ البروتستنتيّ. وكانَ "لوثر" قد عَلَّقَ اعتراضاتِهِ على بابِ كنيسة "وتنبرغ" (Witenberg) قبلَ 38 سنة (أيْ في سنة 1517). ففي غُضونِ 38 سنة، كانَ الإصلاحُ قد انتشرَ إلى إنجلترا. وإليكُم هذه المُلاحظة: لقد أَهْداني بعضُ الأصدقاءِ كُتُبًا مُقَدَّسَةً طُبِعَتْ واستُخدِمَت في تلكَ الفَترة الزَّمنيَّة تَحديدًا. والحقيقة هي أنَّني أَمتَلِكُ نُسخة مِنْ تَرجمة ماثيو للكِتاب المُقدَّس. وقد أَرَدْتُ أنْ أُحْضِرَها مَعي في هذه اللَّيلة لكي تَرَوْنَها، ولكنَّها ضَخْمَة. وهي كَنْزٌ مُقَدَّسٌ بالنِّسبةِ إليَّ لأنَّني أُدركُ الثَّمَنَ الَّذي دَفَعَهُ "جون روجرز" والثَّمَنَ الَّذي دَفَعَهُ "وليام تنديل". فقد أُعْدِمَ "تنديل" وكذلكَ "جون روجرز".

فقد أَغْضَبَ الإصلاحُ المَلِكَة "مَاري" الَّتي كانت كاثوليكيَّة؛ فَعَقَدَتِ العَزْمَ على مَحْوِ إنجيلِ النِّعمةِ مِنْ مَملَكَتِها. وكانَ المِعيارُ الَّذي استَخدَمَتْهُ هو: القُرْبانُ المُقَدَّسُ والاستحالةُ الجَوهريَّة. فأيُّ شخصٍ لم يَقبل ذلكَ كانَ يُعْدَمُ سَريعًا. وكَما أَشَرْتُ في المَرَّة السَّابقة، فإنَّ المَوقفَ الكاثوليكيَّ يَقولُ إنَّ الكأسَ والخُبْزَ بعدَ تَقديسِ الكاهِنِ لَهُما (إذْ إنَّهُ يَفعلُ شيئًا يَمْتَلِكُ قُدرةً خارقةً للطَّبيعة) يَصيرانِ الحُضورَ الحَقيقيَّ ليسوعَ المسيح.

وقد كانَ هذا الأمرُ بَغيضًا في نَظَرِ المُصْلِحينَ؛ أيْ في نَظَرِ المَسيحيِّينَ الحَقيقيِّين. وما قَالَهُ الكاثوليكُ هو أنَّ هذا القُربانَ المُقَدَّسَ، في كُلِّ مَرَّةٍ يُقَدَّمُ فيها، هُوَ ذَبيحة أخرى أو ذَبيحة مُكَرَّرة للمسيحِ الَّذي سَيَستمرُّ تَقديمُهُ ذَبيحةً المَرَّةً تِلو الأخرى تِلو الأخرى تِلو الأخرى إلى نِهايةِ العالَم (بِحَسَبِ قَولِهم). ولكِنَّ البروتستنت الإنجليز رَفَضُوا الاشتراكَ في أيِّ قُدَّاسٍ لأنَّ ذلكَ سيكونُ إنكارًا لِكِفايةِ الذَّبيحةِ الوَحيدةِ ليسوعَ المسيح. لِذا فقد وَضَعَتْ "مَاري" قَانونًا يَنُصُّ على أنَّكَ إذا أَنْكَرْتَ الحُضورَ الحَقيقيَّ للمَسيحِ في الخُبْزِ والكأس، فإنَّكَ تَكونُ مُذنبًا بِتُهمةِ الهَرطقةِ وَيَكونُ عِقابُكَ هُوَ الإعدامُ حَرْقًا. والإيمانُ المسيحيُّ الحقيقيُّ والفَهْمُ المسيحيُّ الحَقيقيُّ لمائدةِ الرَّبِّ لا صِلَةَ لَهُ البَتَّة بهذا التَّشويهِ الكاثوليكيِّ الرُّومانيّ.

ولمُراجَعِة ما قُلناه، فإنَّ الكنيسةَ الكاثوليكيَّةَ الرُّومانيَّةَ تَقولُ إنَّ القُربانَ المُقَدَّسَ هو ذَبيحة حَقيقيَّة وفِعليَّة عَنِ الخَطايا. فَكُلُّ قُرْبانٍ مُقَدَّسٍ قُدِّمَ مِنْ قِبَلِ كَاهِنٍ هُوَ ذَبيحة حقيقيَّة وفِعليَّة. لِذا، لا توجد ذبيحة واحدة فقط على الصَّليب، بل هُناكَ مَلايينُ الذَّبائح. والعَقيدةُ الكاثوليكيَّةُ الرُّومانيَّةُ تَقولُ إنَّ الذَّبيحة كَفَّاريَّة؛ أيْ أنَّها تُوَفِّرُ كَفَّارة حقيقيَّة لإرضاءِ (أوْ لاسترضاءِ) عَدالةِ الله. لِذا فإنَّها تُؤثِّرُ فِعليًّا في مَحْوِ الخَطايا والعِقابِ الَّذي يُمكِنُ (وَيَنْبَغي) أنْ يَنالَهُ الخاطئ. ولكِنَّها تَكونُ كَفَّاريَّة فقط، في الحقيقة، بحسبِ ما تَقولُهُ الكنيسةُ الكاثوليكيَّة، إنْ كانَتْ نِيَّةُ الكاهِنِ طَاهِرَة. أمَّا إنْ لم تَكُنْ نِيَّةُ الكاهِنِ طَاهرة، فإنَّها لا تَكونُ فَاعِلَةً. ولكِنَّهُمْ يُقِرُّونَ، بالرَّغمِ مِن ذلك، بأنَّهُ مِنَ الصَّعبِ جِدًّا أنْ تَجعلَ النَّاسَ يَدفعونَ مِنْ أجلِ القُدَّاسِ إنْ ظَنُّوا أنَّهُ قد لا يَكونُ فَاعِلاً حيثُ إنَّ نَوايا الكاهِنِ قد لا تَكونُ طَاهِرَةً. ولكِنَّهُ يَمْتَلِك بعضَ الفائدة التَّكفيريَّة القليلة بالرَّغمِ مِن أنَّ الفاعليَّة الكاملة تَتوقَّفُ على نِيَّة الكاهِن الطَّاهرة.

وَكِتابُ التَّعليمِ الكاثوليكيِّ الحَديث يَقتَبِسُ ما قالَهُ المَجْمَعُ الفاتيكانيُّ الثَّاني فيقول: "الذَّبيحةُ الَّتي قَرَّبَها المَسيحُ على الصَّليبِ تَظَلُّ مَاثِلَةً في كُلِّ مَرَّةٍ تُقامَ على المَذبحِ ذَبيحة الصَّليب الَّتي ذُبِحَ بها المَسيحُ فِصْحُنا". فهي ذَبيحة. إنَّها ذَبيحة فِعليَّة (ولكِنَّها غير دَمويَّة) للمسيحِ الحَقيقيِّ تُقَدَّمُ على مَذبحٍ حقيقيٍّ مِنْ قِبَلِ كَاهِنٍ حَقيقيّ. فهي ذبيحة يُقَدِّمُها الكاهِنُ للهِ الآب. لِذا، هُناكَ كَاهِنٌ بَشريٌّ يُقَدِّمُ للهِ الآبِ ابْنَ اللهِ ذَبيحةً كَفَّاريَّة وفِدائيَّة لِغُفرانِ الخطيَّة طَالَما أنَّ نِيَّةَ الكاهِنِ طَاهِرَة. ولكِنَّها ذَبيحة زائفة لِمَسيحٍ زائفٍ تُقَدَّمُ على مَذبحٍ زائفٍ مِنْ قِبَلِ كاهِنٍ زائف.

وَهُمْ يَقولونَ إنَّ المسيحَ ليسَ ذبيحة دَمويَّة، ولكِنَّهُ ما يَزالُ ... وَهُمْ يَستخدِمونَ الكَلِمَة: "ضَحِيَّةً". والكلمة "ضَحِيَّة" هي كلمة لا نَسمَعُها كثيرًا ... "ضَحِيَّة" ... لأنَّنا لا نَعيشُ في مُجْتَمَعٍ كَهَنوتيٍّ تُقَدَّمُ فيهِ الذَّبائح. ولكِنَّ الكلمة "ضَحِيَّة" تُشيرُ إلى ذَبْحِ الضَّحيَّة لِغَايَةٍ كَفَّارِيَّة. فَهُمْ يَقولونَ إنَّ المَسيحَ في القُربانِ المُقَدَّسِ يُقَدَّمُ ضَحِيَّةً حَقيقيَّة. فَهُوَ يُذْبَحُ لِغايةٍ كَفَّارِيَّة. فالمسيحُ يَصيرُ (في مَفهومِهم) الضَّحِيَّة الأقدَس ويكونُ حَاضِرًا حَقًّا بالجَسَدِ والرُّوحِ واللَّاهوتِ في الخُبْزِ والخَمْر؛ مَعَ أنَّهما ما زالا يَظْهَرانِ خُبْزًا وَخَمْرًا. وبالمُناسبة، هُناكَ تَأثيرٌ أَرِسْطوطاليسيّ بأنَّ مَا نَراهُ هو ليسَ الحقيقةَ الواقِعَة. ولَكِنَّهُ، في الحقيقة، هُراءٌ صُوفِيٌّ. والحقيقةُ هي أنَّهُ ... هل تَذكرونَ ما قُلتُهُ لَكُم في الدِّراساتِ السَّابقة؟ ففي القُدَّاسِ، يَقولُ الكاهِنُ: "هذا هُوَ جَسَدي". وَلَكِنْ في اللُّغَةِ اللَّاتينيَّة، يَقولُ الكاهِنُ: "هوك است كوربوس مِيام" ... "هوك است كوربوس مِيام" (Hoc est Corpus Meum). ولم يَكُنِ النَّاسُ يَعرفونَ اللُّغةَ اللَّاتينيَّة. لِذا، فقد جاءَ ذلكَ المُصطَلَحُ الدَّارِج "هُوْكَس بُوْكَس" (Hocus Pocus). وهو حَقًّا "هُراءٌ" لا مَعنى لَهُ.

فاللَّاهوتُ الكاثوليكيُّ الرُّومانيُّ يَقولُ إنَّ القُرْبانَ المُقَدَّسَ يُقَدَّمُ فِديةً عنِ العالَم ... فِديةً عنِ العالَم. وكما قُلتُ في المَرَّة السَّابقة، فإنَّ المِفتاحَ للأمرُ كُلِّه هو الاستحالة الجَوهريَّة؛ أيْ تَحَوُّل المادَّة مِنَ الخُبْزِ والخَمْرِ إلى المَسيحِ الحقيقيّ. فالقُربانُ المُقَدَّسُ هو ذَبيحةُ جَسَدِ وَدَمِ يسوعَ المسيح الحاضِر فِعليًّا على المَذبحِ في شَكْلِ خُبْزٍ وَخَمْر. وَهُوَ مُقَدَّمٌ إلى اللهِ عَنِ الأحياءِ والأموات؛ أيْ عَنْ خَطايا الأحياءِ وَخطايا الأمواتِ الَّذينَ ينبغي أنْ يَخرُجوا مِنَ المَطْهَرِ حيثُ يَتَطَهَّرونَ مِنْ خَطاياهُم. ويَقولُ "دي ليغواري" (De Liguori)، مَرَّةً أُخرى، وَهُوَ الَّذي كَتَبَ كِتابَ "أَمْجاد مَريم" (The Glories of Mary): "نَحْنُ نَتَعَجَّبُ وَنُدهَشُ حينَ نَجِدُ أنَّهُ طَاعَةً لكلماتِ كَاهِنِهِ ’هوك است كوربوس مِيام‘؛ أيْ: ’هذا هو جَسَدي‘، فإنَّ اللهَ نَفسَهُ يَنْزِلُ على المَذبَح". ثُمَّ استمعوا إلى ما يَقول: "فاللهُ يَنزِلُ حينَ يَدعوهُ الكاهِنُ وَكُلَّما دَعَوْهُ، وَيَضَعُ نَفسَهُ بينَ يَدَيْهِم مَعَ أنَّهُم ينبغي أنْ يكونوا أعداءَهُ".

ولا بُدَّ أنَّ الكَهَنَة يَملِكونَ قُدرة خارقة لكي يُنْزِلوا اللهَ مِنَ السَّماء. وَهُوَ يَقول (أيْ: دي ليغواري): وبعدَ أنْ يَنْزِلَ اللهُ، فإنَّهُ يَبقى تحتَ تَصَرُّفِهِم. وَهُمْ يُحَرِّكونَهُ كَيفَما يَشاءون مِنْ مَكانٍ إلى آخر. وَهُمْ قَدْ يَضَعونَهُ، إنْ شَاءُوا، في خِزانَةِ القُربان (أيْ في ذلكَ الصُّندوقِ الصَّغير الَّذي يَحفَظونَ فيهِ القُربانَ المُقَدَّس)، أو يَعْرِضُونَهُ على المَذبح، أو يَحمِلونَهُ خارِجَ الكنيسة. وَقَدْ يأكُلونَ، إنْ شَاءُوا، جَسَدَهُ ويُعطونَهُ طَعامًا للآخرين. فَضلاً عن ذلكَ فإنَّ قُدرةَ الكَاهِنِ تَفوقُ قُدرةَ العَذراءَ الطُّوباويَّة لأنَّها لا تَستطيعُ أنْ تَحِلَّ الكاثوليكيَّ حَتَّى مِنْ أَصغرِ خَطيَّة". وهذا الكَلامُ ذُكِرُ، بالمُناسَبَة، في كِتابٍ بِعُنوان: "كَرامَةُ الكاهِنِ وَواجِباتُه" (The Dignity and Duties of the Priest). فهذا هو سُلطانُ الكاهِن. فهو يَستطيعُ أنْ يُنْزِلَ اللهَ وأنْ يَجْعَلَهُ يَحِلُّ في القُربانِ المُقَدَّسِ، وأنْ يَنْقِلونَهُ حَيْثُ يَشاءون.

ويجب أنْ يَحصُلَ الكاهِنُ على السُّلطانِ مِنَ الأُسقُفِ عندَ رِسامَتِه. وَرِسامَةُ الكاهِنِ هي حَدَثٌ مُهِمٌّ جِدًّا لأنَّهُ يُمْنَحُ عندَ رِسامَتِه السُّلطانَ الَّذي يُخَوِّلُهُ تَحويلَ الخُبْزِ والخَمْر إلى جَسَدِ وَدَمِ المَسيحِ بالمَعنى الحَرفيّ. فهو يُمْنَحُ حَرفيًّا السُّلطانَ لكي يَستدعي اللهَ مِنَ السَّماءِ وأنْ يَجْعَلَهُ يَحِلُّ في هَذَيْنِ العُنْصُرَيْن. والحقيقةُ هي أنَّهم يَقولونَ إنَّ جَسَدَ المَسيحِ حَالٌّ هُنا بِكُلِّ جُزْءٍ فيه. وعندما تَسألُهُم كيفَ يُمْكِنُ أنْ يكونَ جَسَدُ المَسيحِ (الَّذي هُوَ جَسَدٌ واحدٌ) أنْ يَكونَ مَوجودًا في كُلِّ مَكانٍ في العالَم يُجْرَى فيهِ قُدَّاس في الوقتِ نَفسِه، فإنَّهُم يُجيبونَ قائلين: "إنَّها مُعجِزَة".

وبعدَ عِبادَةِ القُرْبانِ المُقَدَّس، فإنَّ يَدَيَّ الكاهِنِ المَرفوعَتَيْن تَتَظاهَران بأنَّهُما تُقَدِّمانِ للهِ جَسَدَ وَدَمَ المسيحِ ذَبيحةً عنِ الأحياءِ والأموات. ثُمَّ إنَّهُ عندَ الاشتراكِ في الإفخارستيَّا فإنَّ الكاهِنَ يأكُلُ المَسيحَ حَيًّا أمامَ النَّاسِ. ثُمَّ إنَّهُ يُعطيهِ للنَّاسِ في هَيئةِ خُبْز. لِذا فإنَّهُ حَدَثٌ مُرَوِّعٌ ووَثَنِيٌّ يَحْدُثُ باستمرار. وَ "رَعِيَّةُ القُربانِ المُقَدَّسِ" (The Congregation of the Blessed Sacrement) هي مُنَظَّمة مُكَرَّسة للحِفاظِ على وُجودِ صَلوات وتَضَرُّعات مُستمرَّة أمامَ القُربانِ المُقَدَّس. فهناكَ أشخاصٌ في تلكَ المُنظَّمة وَفي عَدَدٍ مِنَ المُنَظَّماتِ الأخرى يَصرِفونَ كُلَّ وَقتِهم في الصَّلاةِ لذلكَ الصُّندوقِ الَّذي يَحوي القُربانَ المُقَدَّس. والرُّومُ الكاثوليكُ في جَميعِ أرجاءِ العالَمِ يَفعلونَ ذلك. وقد خَتَمْنا حَديثَنا في المَرَّة السَّابقة بالقولِ إنَّهُ يُوجد في الكنائسِ الكاثوليكيَّةِ الرُّومانيَّةِ أُناسٌ يُوَقِّعونَ أسماءَهُم مِنْ أجلِ الحُضورِ على مَدارِ السَّاعةِ للصَّلاةِ للصُّندوق.

والآن، ما هو مَصدَرُ هذا النِّظامِ الغَريبِ العَجيب؟ وأنا لن أقولَ المَزيدَ عنهُ لأنَّنا قُلْنا ما يَكفي في المَرَّة السَّابقة. ولكِنْ مِنْ أينَ جَاءَ هذا النِّظام. مِنَ الواضِحِ أنَّهُ جاءَ مِنْ عندِ الشَّيطان، وَمِنْ دِيانة زائفة وَوثنيَّة. فلا وُجودَ لِكَهنوتٍ خَاصٍّ في المسيحيَّة. فَنَحْنُ جَميعُنا مُلوك وَكَهَنة. ونحنُ لسنا في حاجةٍ إلى وُسَطاءَ بَشريِّين. فنحنُ لَدينا وَسيطٌ واحد: المسيح يَسوع الإنسان. ولا وُجودَ لأيِ مَذابِح. فالذَّبيحةُ الوحيدةُ قد قُدِّمَتْ. لِذا، لم تَعُدْ هُناكَ مَذابِح. وَلم تَعُد هُناكَ ذَبائِح. ويسوعُ لا يَموتُ المَرَّة تِلوَ المَرَّة، تِلو المَرَّة، تِلو المَرَّة. ولكِنْ لماذا يَفعلونَ ذلك؟ وَمِنْ أينَ جاءوا بذلك؟ لا شَكَّ في أنَّ الوَثنيَّة ... لا شَكَّ في أنَّ الوَثنيَّة تَنْطَوي على بعضِ الرُّموزِ الدِّينيَّة. فيجب أنْ تُوْهِمَ النَّاسَ بأنَّها دِيانَة سِرِّيَّة. ويجب أنْ تُوهِمَ النَّاسَ بأنَّها تَحْوي إلهًا ولاهُوتًا. ويجب أنْ تُوْهِمَ النَّاسَ بأنَّها شيءٌ فَائِق. ويجب أنْ تُوْهِمَهُم بأنَّها تَمْتَلِكُ سِحْرًا. وهذا مُجَرَّدُ تَلفيقٍ لِجَعلِها تَنتَشِر.

والآن، سوفَ أتحدَّثُ بطريقة أكاديميَّة بِضْعَ دقائق. وأرجو أنْ تَحتملوني وأنْ تُرَكِّزوا معي قليلاً لأنَّ هذا قد يُساعِدُكم. فهُناكَ أشخاصٌ مِنكُم سَيُقَدِّرونَ ذلك، ولكِنْ رُبَّما ليسَ الجميع. وكيفَ يُمكنُني أنْ أقولَ ذلكَ بكلماتٍ قليلة؟ إنَّها، بالمُناسبة، ليست مَهارة تَمَكَّنْتُ مِنَ اكتسابِها على مَرِّ السِّنين. مَنْ يَقولُ "آمين" بهذا الخُصوص؟ فلا يُمكِنُني المُجادلة بهذا الشَّأن. والآن، فَكِّروا مَعي. حَسَنًا؟ إنَّ العهدَ الجديدَ يُشيرُ إلى فِكرةِ وُجودِ مُجتمعٍ مُرَكَّبٍ. وهي فِكرة تَتَّصِفُ بالحَداثةِ والثَّوريَّة. تَذَكَّروا فقط أنَّهُ مُجتَمَعٌ مُرَكَّب. وهذا يعني أنَّ العهدَ الجديدَ يُقَدِّمُ مُجتمعًا في العالَم يَتألَّفُ مِنْ فَريقَيْن. حسنًا؟ فالمُجتمعُ مُؤلَّفٌ مِنْ مُؤمِنينَ وغير مُؤمِنين. حسنًا! مِنْ مَسيحيِّين وغير مَسيحيِّين، أو مِنْ أشخاصٍ يَؤمنونَ بالإنجيلِ وأشخاصٍ لا يُؤمنونَ بهِ، أو مِن أشخاصٍ يُنادونَ بِما يَرفُضُهُ آخرون، أو مِن أشخاصٍ يُؤمنونَ بِما يُنْكِرُهُ آخَرون. فهو مُجتمعٌ مُرَكَّب. ونحنُ نَفهمُ ذلك. ونحنُ نَفهمُ أنَّ هذا المُجتمعَ مَوجودٌ في أمريكا. فنحنُ نَعيشُ في مُجتمعٍ مُرَكَّب. وهذا الأمرُ يَرجِعُ إلى عَهْدِ صِياغَةِ دُستورِنا الَّذي يَفهمُ الفَصْلَ بينَ الكنيسة والدَّولة؛ أيْ أنَّنا نَعيشُ (وهي طَريقة أخرى لِلتَّعبيرِ عن ذلك) أنَّنا نَعيشُ في مُجتمعٍ مُرَكَّب.

إذًا، إنَّ مُجتمعَ العهدِ الجديد يَحوي الكنيسةَ والدَّولة؛ وَهُما مُختلفَتان تمامًا، ومُنفصلتان تمامًا، ويُشيرانِ إلى وَلاءَيْنِ مُختلفَيْن تمامًا. ونحنُ الَّذينَ نَعيشُ في هذا المُجتمَعَ المُرَكَّب، بوصفِنا مَسيحيِّين، ينبغي أنْ نُظْهِرَ وَلاءً لِكُلٍّ مِنَ الدَّولةِ والكنيسة. ونحنُ نَعلمُ ذلك. فالدَّولةُ تَطلُبُ وَلاءَنا. فهي تَطلُبُ مِنْ كُلِّ مُواطِنٍ الوَلاءَ لِقوانينِها. والكنيسةُ تَطلُبُ الوَلاءَ لأنَّ هذا هو ما تُوصي بِهِ كلمةُ اللهِ الأشخاصَ الَّذينَ هُمْ جُزء مِنَ الكنيسة. لِذا فإنَّنا نَعيشُ في عَالَمٍ يَتَطَلَّبُ نَوْعَيْنِ مِنَ الوَلاء. وليسَ الجَميع يَفعلونَ ذلك، ولكِنَّنا، بوصفِنا مَسيحيِّينَ، نَفعلُ ذلك. فالكِتابُ المُقدَّسُ يُوصينا بأنْ نَكونَ مُواطِنينَ نَموذَجِيِّين، ويُخبِرُنا أنَّ السُّلُطاتِ القائمة على الأرض هي سُلُطاتٌ عَيَّنَها اللهُ وينبغي أنْ نَخضَعَ لها، وحَتَّى إنَّهُ يجب علينا أنْ نُصَلِّي لأجلِ المَسؤولينَ عَنَّا (أيْ للحُكَّامِ والوُلاةِ) وأنْ نَخضَعَ لَهُم. واللهُ أَعطى الدَّولةَ سَيفًا (أيْ سُلْطانًا) يَقْتَضي أحيانًا تَنفيذَ حُكْمِ الإعدامِ مِنْ أجْلِ كَبْحِنا وَرَدْعِنا. وهذا هو قانونُ العُقوباتِ الاجتماعيّ. لِذا فإنَّ الدَّولةَ تَحْمِلُ سَيفًا. والدَّولةُ تُطالِبُنا بالولاءِ لِخَيْرِ أولئكَ الَّذينَ يَعيشونَ في تلكَ الدَّولة.

والكنيسةُ أيضًا تَحمِلُ سَيْفًا لِلْكَبْحِ والرَّدْع. والكنيسةُ تَحمِلُ أيضًا سَيفَ الإقناعِ وَهُوَ: الكتابُ المقدَّسُ الَّذي هُوَ نَاموسُ اللهِ. وإنْ لم نُطِعْ قانونَ الدَّولة، فإنَّنا نَنْفَصِلُ عَنْها جَسَدِيًّا. وإنْ لم نُطِعْ قانونَ اللهِ فإنَّنا نَنفَصِلُ عَنْه رُوْحِيًّا. فهذا هو ما يُعَلِّمُهُ العهدُ الجديد. فيجب علينا أنْ نُعطي مَا لِقَيصَرَ لِقَيصَر، وَما للهِ لِله. ونحنُ نَفهمُ ذلك. ونحنُ نَفهمُ أيضًا أنَّ الدَّولةَ هي ليست الكنيسة، وأنَّ الكنيسةَ ليستِ الدَّولة. فَهُما كِيانانِ مُنفصلان تمامًا. وقد بَيَّنَ يسوعُ ذلكَ بوضوحٍ تامٍّ حينَ قال: "مَملكتي ليست مِن هذا العالَم". والآن، اسمحوا لي أن أقولَ لكم شيئًا: إنَّ هذه الفكرة الواضحة تمامًا لنا هي فِكرة جديدة تمامًا في العهدِ الجديد ... جَديدة تَمامًا. فلا أحدَ قَبْلَ العهدِ الجديد سَمِعَ عَنْ شيءٍ كَهذا. لا أَحَد.

فَكُلُّ المُجتمعاتِ السَّابقة في العالم كانت تُظْهِرُ ولاءً واحدًا فقط. فقد كانَ الدِّينُ والدَّولةُ شيئًا واحدًا. لقد كانَ الدِّينُ والدَّولةُ شيئًا واحدًا. فَكُلُّ المُجتمعاتِ السَّابقةِ، بما فيها إسرائيل، كانت مُجتمعات كَهَنوتيَّة مُقَدَّسة. وهذا يعني أنَّها كانت مُوَحَّدة ومُرتبطة معًا بولاءٍ دينيٍّ مُشترَك. فلم تَكُن الحُكومةُ مُنفصلةً عنِ الدِّيْن. بل إنَّ الحُكومةَ كانت تَفرِضُ هَيمَنَتَها نِيابةً عنِ الدِّين. فلا يوجد مُجتمعٌ في التَّاريخ (بحسبِ المؤرِّخينَ الَّذينَ دَرسوا ذلك) لا يوجد مُجتمعٌ في التَّاريخ كانَ مُرَكَّبًا. فالمُجتمعاتُ الَّتي سَبَقَتْ مَجيءَ المسيحيَّة لم يَكُن لديها خِيار. وإنْ كُنتُم تَتعجَّبونَ مِن ذلك، انظروا إلى أيِّ بَلَدٍ إسلاميّ. فما الخِياراتُ المُتاحةُ للنَّاسِ هُناك؟ فلا فَرْقَ بينَ الدِّينِ الإسلاميِّ والدَّولةِ الإسلاميَّة. وإنْ لم تَكُن مُسلمًا، قد تُقتَل.

فلا توجد مُجتمعات مُرَكَّبة. والهِندوسيَّة لا تَختلِفُ عنها في شيء. انظروا إلى أيِّ ديانَة تاريخيَّة. فالمُجتمعُ المُرَكَّبُ لم يُوْجَد إلَّا بمجيءِ العهدِ الجديد. فَهُوَ الَّذي أَوْجَدَهُ. وقد كانَ هُناكَ مَسيحيُّونَ طَوالَ تاريخِ الكنيسة فَهِموا هذا الأمر. فقد فَهِموا أنَّهُ لا يَجوزُ للدَّولةِ أن تَفرِضَ السُّلطَةَ عَليهم، ولكِنَّنا رأينا اللَّيلة أنَّ مَلِكَةَ إنجلترا، وَكُلَّ المُلوكِ الآخرين، وكُلَّ قادةِ الدَّولة الآخرين في ذلكَ الوقت، ظَنُّوا أنَّهُ بِوَصْفِهِم حُكَّامَ الدَّولة فإنَّهُم يَملِكونَ الحَقَّ في إعدامِ الأشخاصِ الَّذينَ لم يَقبلوا مُعتقداتِهم الدِّينيَّة. فلا يوجد فَرق. والحقيقة هي أنَّهُم رأوا أنَّ المَلِكَ يُمارِسُ سُلطانًا إلهيًّا. وأنا أقولُ لكم إنَّكُمْ إذا زُرْتُمْ بَرْلَمانًا إسكتلنديًّا حَتَّى في يومِنا هذا، سَتَجِدونَ كُرسيًّا في أعلى البَرلمانِ المَشيخيِّ الإسكتلنديِّ مُخَصَّصًا للملكِ أوِ المَلِكَة أوْ مَنْ يُمَثِّلهُما للجُلوسِ عليه. وَهُوَ يَرْمِزُ إلى تَرَأُسِ المَلِكِ للكَنيسة.

وَحَتَّى إنَّ إسرائيل لم تَكُن مُجتمعًا مُرَكَّبًا. فقد كانَ ينبغي لِكُلِّ شخصٍ في إسرائيل أنْ يَلتزِمَ بالقوانينِ اليهوديَّةِ الأدبيَّة، والاجتماعيَّة، والأخلاقيَّة، والطَّقسيَّة. وَحَتَّى مَجيءِ العهدِ الجديد، لم يَكُنْ هذا الأمرُ واضحًا لأنَّ اليهودَ كانوا يَعيشونَ في مَملكة دِينيَّة. ولكِنَّ الكنيسةَ تُوجَدُ كَجُزءٍ مِنْ مُجتمعٍ عِلمانيّ. فلا وُجودَ لأيِّ مُجتمعٍ مَسيحيّ. ولا وُجودَ لأيِّ أُمَّة مَسيحيَّة. بل إنَّ هُناكَ شَعبًا مَسيحيًّا يعيشُ في أُمَّة. وَوَفْقًا لِعَدَدِهم، فإنَّ تأثيرَهُم يكونُ ضَئيلاً أوْ أكبر. فهُناكَ إمَّا أعدادٌ أَكثر أو أَقَلّ مِنَ المَسيحيِّينَ في أيِّ مُجتمَع. ولكِنْ لا وُجودَ لِمَا يُسَمَّى بالأُمَّة المسيحيَّة أوِ المُجتمعِ المَسيحيّ.

ولكِنْ عندما تَأسَّسَتِ الكنيسةُ الباكرة، ما الَّذي حَدَث؟ لقد اضْطُهِدوا مِنْ قِبَلِ اليهودِ لأنَّهُم لم يكونوا مُتوافِقينَ معَ الدِّيانةِ اليهوديَّة لأنَّ الدِّيانةِ اليهوديَّةَ والدَّولةَ اليهوديَّةَ كانتا كِيانًا واحدًا. وقدِ اضْطُهِدَ المَسيحيُّونَ على أيديِ الرُّومانِ لأنَّهُم رَفَضُوا أنْ يَعبُدوا مَن؟ الإمبراطور ... قَيْصَر. فهي ثقافة كلاسيكيَّة مُقَدَّسة. فهي ليست مُرَكَّبة.

وَحَتَّى عندما كُنتَ تَذهبُ إلى مَحَلِّ بائعِ اللُّحومِ لِتَشتري لَحْمًا، كُنتَ تَشتري لَحمًا مِنْ مَحَلِّ اللُّحومِ قُدِّمَ قُرْبانًا إلى مَنْ؟ إلى الأوثان. وقد كانَ بِمَقدورِ المَسيحيِّينَ أنْ يَأكُلوا ذلكَ اللَّحْمَ لأنَّ الوَثَنَ لا شَيء بأيِّ حَالٍ مِنَ الأحوال. أمَّا المُجتمعُ المُقَدَّسُ فكانَ يُعاقِبُ المُعارِضين. وكانَ الرُّومانُ يَقتُلونَ المَسيحيِّين. والآن، لقد سَمِعْنا ذلكَ الخَبَرَ على نَشْراتِ الأخبار: أنَّ الحُكومةَ الأفغانيَّة سَتُحاكِمُ شخصًا مسيحيًّا وتُعْدِمُهُ لِمُجَرَّدِ أنَّهُ مَسيحيّ لأنَّهُم لا يَفهمونَ المُجتمعَ المُرَكَّب.

وقد عَلَّمَ العهدُ الجديدُ ذلكَ. ولكِنْ يُؤسِفُنا أنْ نَقول إنَّهُ حَتَّى في عهدِ الإصلاحِ، فإنَّ المُصْلِحينَ أنفُسَهُم لم يُطَبِّقوا ذلكَ حَقًّا. فذلكَ المُجتمعُ المُرَكَّبُ ابتدأَ يَختفي مِنَ التَّاريخِ بسُرعة كبيرة. ففي القَرنِ الثَّاني أوِ الثَّالثِ بعدَ المسيح، ابتدأَ فَهْمُ المُجتمعِ المُرَكِّبِ يَتلاشَى. وفي سنة 250 ميلاديَّة، اقترحَ "أوريجانوس" (Origen)، وَهُوَ واحِدٌ مِنْ آباءِ الكنيسةِ الباكِرَة، اقترحَ أنَّهُ يجب على الإمبراطوريَّةِ الرُّومانيَّةِ بأسرِها أنْ تَتَّحِدَ مَعًا لِعبادةِ اللهِ الحَقيقيِّ؛ وَإلَّا فإنَّ الرَّبَّ سَيُهْلِكَ كُلَّ غيرِ المُؤمِنين. لقد كانَ هذا هُوَ اقتراحُ أوريجانوس. وهذه دَعوة إلى إعادَةِ تَحديدِ هُويَّةِ كنيسةِ يسوعَ المسيحِ وَجَعلِ المُجتمعِ مُجتمعًا مَسيحيًّا بِمُجمَلِه. وإنْ لم يَفعلوا ذلكَ فإنَّ اللهَ سَيُهْلِكُ جَميعَ الَّذينَ لا يَنْصاعونَ لذلك. وبعدَ وقتٍ ليسَ بالطَّويل (وتَحديدًا: في سنة 325)، أيْ بعدَ 75 سنة، تَوَلَّى "قُسطنطين" (Constantine) الحُكْمَ في الإمبراطوريَّة الرُّومانيَّة وَفَعَلَ ذلكَ الأمرَ تَحديدًا. فما فَعَلَهُ "قُسطنطين" هو أنَّهُ قالَ إنَّ هُناكَ آلهة كثيرة وديانات كثيرة. وإنْ كُنَّا سنكونُ إمبراطوريَّة مُتَّحِدة، يجب علينا أنْ نَتْبَعَ ديانةً واحدةً. وقدِ اختارَ المَسيحيَّة. وهكذا، كانَ ينبغي للجميعِ أنْ يَصيروا مَسيحيِّين.

وكانَ غيرُ المَسيحيِّينَ يُعاقَبون. فقد كانوا يُوْصَفونَ بأنَّهُم هَراطِقَة، وثُوَّار، ورَجْعِيُّونَ، ومُنْشَقُّون. وكانوا يُعاقبونَ. فقد كانَ يَنبغي للجميعِ أن يكونوا مَسيحيِّين. وكيفَ تَفعلُ ذلك؟ يجب أنْ يكونَ لديكَ طَقْسٌ دِينيٌّ ... يجب أنْ يكونَ لديكَ طَقْسٌ دِينيٌّ. فيجب أنْ يكونَ لديكَ طَقْسٌ دِينيٌّ يجَعَلُهُم كُلُّهُم مَسيحيِّينَ تِلقائيًّا. لِذا فقدِ ابْتَدَعوا مَعموديَّةَ الأطفال. فَمَعموديَّةُ الأطفالِ فَعَلَتْ ذلك. فيجب أنْ تُمارِسوا الغَسْلَ الطَّقسيَّ بعدَ الوِلادة لِكي تَنْضَمُّوا رَسميًّا إلى الكنيسة. فهذا انضمامٌ رَسميٌّ إلى شَعبِ العَهْد. وبذلك، صَارتِ الحُكومةُ تُسيطرُ على الجَميع. والحُكومةُ هي الكنيسة. فالدِّيْنُ والدَّولةُ لا يَنفصلان. لِذا فإنَّ نَموذجَ العهدِ الجديد كانَ قد عَفاهُ الزَّمَن بِمَجيءِ القرنِ الرَّابعِ الميلاديّ. وكما قُلتُ، كانَ هُناكَ دائمًا مُؤمِنونَ حَقيقيُّونَ طَوالَ هذا التَّاريخِ عَرَفُوا أنَّ هذا غير صَحيح. والشَّيءُ الَّذي ظَهَرَ بِمَجيء قُسطنطين كانَ مَسيحيَّة إسميَّة وليسَ مَسيحيَّة حقيقيَّة. فهي مَملكة مَسيحيَّة بالاسمِ فقط.

وكانَ هُناكَ مُحْتَجُّونَ (وصَدِّقوني حينَ أقولُ ذلك) يُدْعَونَ: "الدُّوناتِيُّون" (Donatists). فقدِ احْتَجُّوا وقالوا إنَّ الكنيسةَ تَضُمُّ فقط المؤمنينَ الحقيقيِّين. فلا يُمكنكَ أنْ تَجعلَ الجَميعَ جُزءًا مِنَ الكنيسةِ مِن خلالِ تَعميدِ الأطفال. ولكِنَّهُمْ قُمِعُوا. فَعلى مَرِّ التَّاريخ، أينَما وُجِدَ هذا التَّيَّارُ في وَسْطِ مُعيدي المَعموديَّةِ وغيرِهم، كانوا يُدْعَوْنَ: "الدُّوناتِيُّونَ المُحْدَثون" لأنَّهم كانوا يُثيرونَ هذا الجَدَلَ القَديم. ولكِنْ كانَ يوجد دائمًا شَعبٌ حَقيقيٌّ للهِ تَحَدُّوا المُجتمعَ الكَهنوتيَّ. وحيثُ إنَّ الجَميعَ كَانُوا يَنْضَمُّونَ إلى الكَنيسةِ مِنْ خِلالِ طَقْسٍ، كانتْ طَريقةُ الحِفاظِ عليهم هي مِنْ خِلالِ طَقْسٍ وَاحتفالٍ وشَعائِرَ دينيَّة. لِذا فقد ظَهَرتْ كُلُّ تلكَ الأشكالِ العَديدةِ مِنَ الطُّقوسِ الوَثنيَّة الَّتي اكْتَسَحَتِ الإمبراطوريَّة الرُّومانيَّة وَأَوْجَدَتْ خَليطًا عَجيبًا مِنَ المَسيحيَّة الزَّائفة والوَثنيَّة يُعْرَفُ باسْم: "الكَاثوليكيَّة الرُّومانيَّة".

وماذا عنِ الإصلاحِ في القَرنِ السَّادِس عَشَر؟ مِنَ المؤسفِ أن نَقولَ إنَّ المُصْلِحينَ (بالرَّغمِ مِنْ قيامِهم بعملٍ عَظيمٍ في رَفْضِ بعضِ العقائدِ الَّتي كانَتْ تُشَكِّلُ آنذاكَ ما يُمْكِنُنا أنْ نُسَمِّيهِ: "العَقيدة القسطنطينيَّة المُحْدَثَة")، فإنَّهم سَعَوْا إلى إقامةِ مُجتمعٍ كَنَسِيٍّ. وقد صارت ألمانيا مُجتمعًا كَنَسِيًّا. فقد تَمَّ تَعميدُ جَميعِ الأطفال. وقد صارت سويسرا مُجتمعًا كَنَسِيًّا فَتَمَّ تَعميدُ جَميعِ الأطفال. وقد انْضَمَّتْ هولندا وإنجلترا وجَميعُ الدُّولِ الأوروبيَّةِ إلى المُجتمعِ الكَنَسِيّ. ولا يوجدُ مَثَلٌ أفضل على ذلكَ مِنْ إنجلترا حيثُ إنَّهُ لم يَكُنْ هُناكَ فَصْلٌ بينَ الكنيسةِ والدَّولة. لِذا فإنَّ الكَنيسةَ "لم تَكُنْ تَضُمُّ أشخاصًا مَولودينَ ثانيةً، بل خَليطًا مِنْ كُلِّ أنواعِ النَّاسِ يَحوي أشخاصًا مَخَلَّصِينَ وأشخاصًا فاسِدينَ؛ في حين أنَّ أغلبيَّةَ القادَةِ كانوا فاسِدينَ جدًّا.

لِذا، كيفَ تُحافِظُ على هؤلاءِ النَّاسِ في هذا النِّظامِ الدِّينيِّ الزَّائف؟ أنتَ تَفعلُ ذلكَ مِنْ خِلالِ ابتِداعِ أسرارٍ، وَمِنْ خِلالِ العِبادةِ الآلِيَّة، وَمِنْ خِلالِ الطُّقوسِ والشَّعائرِ الدِّينيَّة. فلا يَهُمُّ إنْ كانَ يَنبغي للمُتَعَبِّدينَ أنْ يَسمعوا أيَّ شيءٍ بِلُغَةٍ يُمكِنُهُم أن يَفهموها. فيمكنكم أنْ تَنظروا إلى القَرنِ الخامِس عَشَر، والقَرنِ السَّادِس عَشَر، والقَرنِ السَّابع عَشَر في إنجلترا إذْ سَتُصْدَمونَ مِنْ جَهْلِ الكَهَنة. وما أعنيه هو أنَّهم كانوا جاهِلينَ جِدًّا. فقد قَرأتُ، مَثَلاً، أنَّهُمْ لم يَكونوا يَستطيعونَ أنْ يَذكروا أسماءَ أربعةٍ مِنَ الرُّسُل. وَهُمْ لم يكونوا يَعلمونَ مَواضِعَ أسفارِ الكتابِ المقدَّس. فَهُمْ لم يَتَعَلَّموا ذلك. فقد كانَ ذلكَ الأمرُ غَيرَ مُهِمٍّ. فقد كانَ ينبغي لهم أن يَتعلَّموا وَحَسْب (كَما أَشَرْتُ في المَرَّة السَّابقة) كَمْ عَدَد المَرَّات الَّتي يَستديرونَ فيها عندَ قيامِهم بالقُدَّاسِ، وأنْ يَتَيَقَّنوا مِنْ أنَّهُمْ طَرَقوا على المائدة إحدى عَشْرَةَ مَرَّة، وأنَّهم يَقِفونَ في اتِّجاهٍ مُعَيَّن، وَهَكذا دَوالَيْك.

وَطَوالَ العُصورِ الوُسطى، كانَ هناكَ مَسيحيُّونَ صَرَخوا لأجلِ الكنيسةِ الحقيقيَّة فَقُتِلوا في أغلبِ الأحيان. قُتِلوا! ولم يَكُن جَميعُ هؤلاءِ مُؤمنينَ حَقيقيِّين، ولكِنْ كانَ يوجدُ في وَسْطِهم مؤمنونَ حقيقيُّون. وكانَ هُناكَ مؤمنونَ حقيقيُّونَ في المُجتمعاتِ الطَّقسيَّة. ولكنَّهم كانوا يَعلمونَ دائمًا مَعنى أنْ تكونَ مؤمنًا حقيقيًّا، وكانَ تَمييزُ غيرِ المؤمنينَ أمرًا سَهلاً. وعادةً، كانَ هؤلاءِ يُعْدَمون؛ كما هي حالُ أولئكَ الَّذينَ قَرأتُ لَكُمْ عنهم مِنَ الشُّهداء. اقرأوا "سِجِلَّ الشُّهداء" الَّذي كَتَبَهُ "فوكس". وبالمُناسبة، توجد في مَكتَبَتِنا هنا نُسخة أصليَّة مِنَ الطَّبعةِ الأولى لثلاثةِ أجزاءٍ مِن سِجِلِّ الشُّهداءِ لفوكس أَهداني إيَّاها أحدُ الأشخاص. وهو كِتابٌ ضَخْمٌ وتاريخيٌّ ورائع. فقد استُشهِدَ هؤلاء لأنَّهم لم يَنْصاعوا للمَسيحيَّة الإسميَّة المَسكونيَّة. وَهُمْ لم يَنْصاعوا للمسيحيَّة الإسميَّة المَسكونيَّة لأنَّ إيمانَهُم المَسيحِيّ يَمْنَعُهم مِنَ القيامِ بذلك.

وقد صارَ المُجتمعُ في العُصورِ الوُسطى استبدادِيًّا. فلم تَكُن هناكَ أيُّ خِيارات. وقد ظَهَرت الطَّقسيَّة المسيحيَّة (أوِ الطَّقسيَّة البروتستنتيَّة) إلى جانبِ الطَّقسيَّة الكاثوليكيَّة الرُّومانيَّة فَصارت هُناكَ دُوَل كاثوليكيَّة مِثلَ إيطاليا وفرنسا، ودُوَل بروتستنتيَّة مِثلَ ألمانيا وسويسرا. وقد كانتِ الكنيسةُ والدَّولة مُجتمعًا دينيًّا واحدًا. وفي وَسْطِ هذا كُلِّه، كانَ هُناكَ مؤمنونَ حَقيقيُّون. وكانَ أوَّلُ بَلَدٍ (وهذا تاريخٌ مُدهش) كانَ أوَّلُ بَلَدٍ يَتَحَرَّر مِنَ المُجتمعِ المَسيحيِّ هو أمريكا.

فأمريكا، بحسبِ عَدَدٍ مِنَ الباحِثين، لم تَكُنْ يومًا أُمَّةً مَسيحيَّة. لم تَكُن يومًا كذلك. ولا توجد أُمَّة واحدة يُمْكِنُنا أنْ نُسَمِّيها كذلكَ بالمعنى الحقيقيّ. ولكِنَّ أمريكا هي أوَّلُ أُمَّةٍ في تاريخِ العالَمِ تَتألَّفُ مِن مُجتمعٍ مُرَكَّب. وهذه أعظمُ تَجرِبَة. هذه هي أعظمُ تَجرِبَة. فما حَدَثَ هو أنَّ النَّاسَ الَّذي جاءوا إلى هُنا وأَسَّسوا أمريكا كانوا قد خَرَجُوا مِن مُجتمعٍ كَنَسِيٍّ إلزامِيٍّ لأنَّهم كانوا مَسيحيِّينَ حَقيقيِّينَ اضْطُهِدوا مِنَ النَّصرانيَّةِ المَسكونيَّة. وقد فَرَّ هَؤلاءِ المُهاجِرونَ (أوِ الطَّهورِيُّونَ) إلى هُنا وأَسَّسُوا بَلَدًا وَفْقًا لِنَموذَجِ العهدِ الجديد؛ أيْ أنَّهُ مُرَكَّبٌ بحيث يُعْطونَ مَا لِقَيصَر لقيصر، ومَا للهِ لله.

لِذا، في الثَّقافةِ الكَنَسِيَّةِ الإلزامِيَّة، صارَ الخَلاصُ مُجَرَّدَ طُقوسٍ. فقد صَارَ مُجَرَّدَ طَقْسٍ، وَصارَ مُجَرَّدَ تَحايُل. وقد تَمَّتْ استِعارةُ المَعموديَّة وغيرِها مِنَ الوسائلِ الآلِيَّةِ مِنْ شَعائِرَ وَثنيَّة وتَمَّ استيرادُ الطُّقوس. وقد ازدادَ الأمرُ سُوءًا حَقًّا حَتَّى إنَّ المُصْلِحينَ قَتلوا مَنْ لا يَتَّفِقُ مَعَهُم. فَحَتَّى إنَّ المُصْلِحينَ قَتَلوا غيرَ المَسيحيِّين. فَبَعْضُ الأنابابتستس" (Anabaptists)؛ أيْ "مُعيدو المَعموديَّة"، أُعْدِموا بإغراقِهم في الماءِ مِنْ قِبَلِ المُصْلِحينَ لأنَّهم أنكَروا مَعموديَّةَ الأطفال. وعندما ذَهَبَ "كرومويل" (Cromwell) مِنْ إنجلترا لِقَتْلِ الكاثوليك، كانَ القَسُّ المَسؤولُ عن جُيوشِهِ الطَّهوريُّ العَظيمُ "جون أوين". فَهُمْ لم يكونوا مُجتمعًا يَقبلُ وُجودَ آخرين، ولم يكونوا مُجتمعًا مُخْتَلَطًا، ولم يمتلكوا عَقليَّةً مُرَكَّبَة. ويَقولُ "فيردان" (Verdun) الَّذي يَكتُبُ بوضوحٍ تامٍّ عن كُلِّ هذه الأفكار: لم تَكُن الكنيسةُ في العُصورِ الوُسطى مَجموعة مِنَ المؤمنينَ الَّذينَ انْضَمُّوا إلى جَمعيَّة تَطَوُّعِيَّة، بل كانوا عَدَدًا كبيرًا مِنَ الأشخاصِ الَّذينَ انْضَمُّوا معًا واتَّحَدوا معًا قَسْرًا".

فالدِّينُ لم يَكُن شيئًا شخصيًّا. وهو لم يَكُن مَسألة إيمان، وهو لم يَكُن مَسألة بِرّ، ولا مَسألة قَداسة، ولا مَسألة حَقّ؛ بل كانَ مَسألة طَقْس. لِذا، فقد حَلَّ الكَهَنَة مَحَلَّ الوُعَّاظ، وَحَلَّ المَذبحُ مَحَلَّ المِنْبَر، وَاستُعيضَ عنِ العَقيدةِ بِطُقوسٍ دينيَّة. وما تَزالُ الكنيسةُ الكاثوليكيَّةُ الرُّومانيَّة مُجتمعًا طَقسيًّا. وَكُلُّ عَناصِرِها وَثنيَّة وهَرطوقيَّة. وَكما قُلتُ، إلى حينِ انعقادِ المَجمعِ الفاتيكانيِّ الثَّاني، لم يَكُنْ يُسْمَحُ للكَهَنَة أنْ يَتكلَّموا باللُّغَةِ المَحْكِيَّة. فقبلَ ذلك، كانَ ينبغي أنْ يَتكلَّموا باللُّغة اللَّاتينيَّة لأنَّ المسيحَ ... اسمعوني ... لا يُقَدَّمُ لديهم مِنْ خِلالِ الوَعْظِ بالكلمة، بل يُقَدَّمُ مِنْ خِلالِ طَقْسِ القُربانِ المُقَدَّس. فَهُمْ لا يُبالونَ بالحَقِّ الَّذي يُخاطِبُ العَقْلَ، ولا بالإيمانِ الَّذي يأتي بِسماعِ الحَقِّ المُختصِّ بالمسيح (بحسب رُومية 10).

فالحَدَثُ المَركزيُّ في الكنيسةِ الحقيقيَّة ... ما الحَدَثُ الرَّئيسيُّ في الكنيسةِ الحقيقيَّة؟ ما هو؟ ما هو الرُّكْنُ المَركزيُّ والرَّئيسيُّ في الكنيسةِ الحقيقيَّة؟ أنتُم تَنظرونَ إليه. ما هو الحَدَثُ الرَّئيسيُّ في الكنيسةِ الحقيقيَّة؟ إنَّهُ الوَعْظُ بكلمةِ اللهِ. وما هو الحَدَثُ المَركزيُّ في المُجتمعِ الطَّقسيِّ الهَرطوقيِّ الزَّائف؟ إنَّهُ المَذبحُ والكَهنوتُ والذَّبيحة. إنَّها تلكَ الأشياءُ المأخوذة عنِ الطُّقوسِ الوثنيَّة. وما هي الغايةُ مِنَ الحَدَثِ الرَّئيسيِّ في الكنيسة؟ الوَعْظُ بكلمةِ اللهِ بوضوحٍ بطريقة تُخاطِبُ الذِّهْنَ كي يَعرِفَها النَّاسُ، ويَفهمونَها، ويؤمنونَ بها.

وما هو العَمَلُ الرَّئيسيُّ في المُجتمعِ الطَّقسيِّ؟ إنَّه الشَّيءُ الَّذي يقومُ بِهِ الكاهِنُ فَيَجْعَلُ اللهَ يَحِلُّ (بطريقةٍ ما) في قُرْبانٍ يُؤكَل. فهو ليسَ الوُضوح، بل هُوَ سِرٌّ مَكْتوم. وهو هَرْجٌ وَمَرْجٌ يُشبِهُ تَمامًا الخَلْطَ الآخَرَ بينَ الأعمالِ الشَّيطانيَّة والطُّقوسِ الَّتي لا فائدةَ مِنها وكُلِّ أنواعِ الدِّياناتِ الزَّائفة. فالكاهِنُ يُحَوِّلُ المَسيحَ في طَقْسٍ مَا، لا مِنْ خِلالِ الوَعْظِ بالإنجيل. وَمائدةُ الرَّبِّ صَارَتْ مَذبحًا يُمْكِنُ للنَّاسِ أنْ يأكُلوا عَليهِ الجَسَدَ الحَقيقيَّ وأنْ يَشرَبوا الدَّمَ الحَقيقيَّ للذَّبيحةِ الكَفَّاريَّةِ الَّتي يُقَدِّمُها كَاهِنٌ زائفٌ إلى اللهِ كما لو أنَّ الحاجَةَ تَدعو إلى تَقديمِ يسوعَ مَرَّةً أخرى. وكما قُلتُ في الأسبوعِ الماضي، فإنَّ كُلَّ ما يَنبغي أنْ تَفعلوهُ كي تَقبلوا المَسيحَ هُوَ أنْ تَفتَحُوا أفواهَكُم.

وبالمُناسَبة، هُناكَ ما لا يَقِلُّ عن سَبعةِ أسرار في الكنيسة الكاثوليكيَّة. وهي وسائل آليَّة لِنَقْلِ اللَّاهوتِ الغامِضِ إلى النَّاس. فالواعِظُ تَمَّ استبدالُهُ بِمُقَدِّمِ القُربان. والكتابُ المُقدَّسُ وَوُضوحُهُ تَمَّ استبدالُهما بالكلامِ الفارِغ. وَهُم يؤمنونَ بأنَّ سِرَّ القُربانِ المُقَدَّس يَمتلك قُوَّة داخليَّة على إعطاءِ المَسيحِ، والنِّعمةِ، والغُفرانِ، والفِداءِ، وتوفيرِ الكَفَّارة لإرضاءِ الله. وفي ذلك النِّظام، نَجِدُ أنَّ المُتَحَايِلَ عُنْصُرٌ لا بُدَّ مِنْ وُجودِه. ففي ذلكَ النِّظام، الكاهِنُ هُوَ الكُلُّ في الكُلِّ. لِذا فإنَّ نَقْصَ الكَهَنَة اليوم هو مُشكلة خطيرة. وهذه الأمورُ كُلُّها لا شأنَ لها البَتَّة بالإنجيلِ المسيحيّ. وهذه الأمورُ كُلُّها لا شأنَ لها البَتَّة بالحياةِ المسيحيَّة. وهذه الأمورُ كُلُّها لا شأنَ لها البَتَّة بالكنيسةِ المسيحيَّة. وهذه الأمورُ كُلُّها لا شأنَ لها البَتَّة باللهِ الحَقيقيِّ ... لا شأنَ لها البَتَّة.

والفُروقُ ليست تَجميليَّة. والفُروقُ ليست سَطحيَّة. بل إنَّها ضَروريَّة لخلاصِ النَّفسِ الأبديَّة وَلِحَقِّ الإنجيل. فلا يوجد خَلاص أو تَقديس في القُربانِ المُقَدَّس. ولا يوجد خَلاصٌ في أيِّ سِرٍّ مِنْ أيِّ نَوعٍ في أيِّ طَقْسٍ، أو أيِّ عَمَلٍ، أو أيِّ احتفالٍ دينيٍّ. والخُبزُ والخَمرُ ليسا المَسيحَ بأيِّ مَعْنى. والمائدةُ ليست طَقْسًا دينيًّا يأكُلُ النَّاسُ فيهِ الله. فَهذا كُلُّهُ كَذِبٌ، واحتيالٌ، وتَلفيقٌ خَطيرٌ ينبغي كَشفُهُ على حَقيقَتِه على غِرارِ ما فَعَلَهُ كاتِبُ الرِّسالةِ إلى العِبرانِيِّينَ إذْ كَشَفَ عَدَمَ جَدوى نِظامِ ذَبائحِ العهدِ القديمِ الَّتي مَضى على تَرْكِها وَقتٌ طويل، والتي لا تَجوزُ مُمارَسَتُها مَرَّة أخرى لأنَّ الصَّليبَ حَقَّقَ كُلَّ شيء ... كُلَّ شيء. فهو أمرٌ شَيطانيٌّ وَوَثَنِيٌّ أنْ يُعْبَدَ القُربان. فالقُربانُ يُلْغي الصَّليب. وهو عِبادَةُ وَثَنٍ مِنْ صُنْعِ الأيادي. فهُناكَ شخصٌ صَنَعَ الخَمْرَ وَشَخصٌ صَنَعَ الخُبْز.

وهُناكَ بِضْعُ آياتٍ تَخطُرُ في ذِهني في وَسْطِ هذا الكلامِ. وسوفَ أذكُرُها لَكُم. رسالة رومية والأصحاح السَّادِس والعَدَد 9 ... أو بالأحرى: العَدَد 8: "فَإِنْ كُنَّا قَدْ مُتْنَا مَعَ الْمَسِيحِ، نُؤْمِنُ أَنَّنَا سَنَحْيَا أَيْضًا مَعَهُ". والآن، استَمِعوا إلى هذا: "عَالِمِينَ أَنَّ الْمَسِيحَ بَعْدَمَا أُقِيمَ مِنَ الأَمْوَاتِ [ماذا؟...ماذا؟] لاَ يَمُوتُ أَيْضًا". [البَتَّة. فَهُوَ لن يَموتَ ثانيةً] "لاَ يَسُودُ عَلَيْهِ الْمَوْتُ بَعْدُ. لأَنَّ الْمَوْتَ الَّذِي مَاتَهُ قَدْ مَاتَهُ لِلْخَطِيَّةِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَالْحَيَاةُ الَّتِي يَحْيَاهَا فَيَحْيَاهَا للهِ". فقد ماتَ مَرَّةً. وَهُوَ لن يَموتَ البَتَّة ... البَتَّة ... مَرَّة أخرى. فقد كانَ ذَبيحةً مَرَّة. وَلا يَجوزُ البَتَّة أنْ نَجْعَلَهُ ذَبيحةً دائمةً.

ونَقرأُ في رسالة بُطرس 3: 18: "فَإِنَّ الْمَسِيحَ أَيْضًا تَأَلَّمَ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ أَجْلِ الْخَطَايَا، الْبَارُّ مِنْ أَجْلِ الأَثَمَةِ، لِكَيْ يُقَرِّبَنَا إِلَى اللهِ، مُمَاتًا فِي الْجَسَدِ وَلكِنْ مُحْيىً فِي الرُّوحِ". فقد مَاتَ مَرَّةً واحدةً. ونَقرأُ في الرِّسالةِ إلى العِبرانِيِّين 7: 27 أو بالأحرى: 26: "لأَنَّهُ كَانَ يَلِيقُ بِنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ مِثْلُ هذَا، قُدُّوسٌ بِلاَ شَرّ وَلاَ دَنَسٍ، قَدِ انْفَصَلَ عَنِ الْخُطَاةِ وَصَارَ أَعْلَى مِنَ السَّمَاوَاتِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ اضْطِرَارٌ كُلَّ يَوْمٍ مِثْلُ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ أَنْ يُقَدِّمَ ذَبَائِحَ أَوَّلاً عَنْ خَطَايَا نَفْسِهِ ثُمَّ عَنْ خَطَايَا الشَّعْبِ، لأَنَّهُ فَعَلَ هذَا مَرَّةً وَاحِدَةً، إِذْ قَدَّمَ نَفْسَهُ". فالقُربانُ المُقَدَّسُ يُلْغي الصَّليب. والقُربانُ المُقَدَّسُ وَثَنيَّة.

استمعوا إلى ما قالَهُ "جيه. سي. رايل" (J.C. Ryle): "أيًّا كانَ الشَّيءُ الَّذي يُسَرُّ النَّاسُ أنْ يُفَكِّروا فيهِ أو يَقولوه، فإنَّ العقيدةَ الرُّومانيَّةَ الَّتي تُنادي بالحُضورِ الحقيقيِّ، إنْ نَظَرنا إليها في ضَوْءِ عَواقِبها المَشروعة، تَحْجُبُ كُلَّ عَقيدة رئيسيَّة تَخُصُّ الإنجيلَ وتُدَمِّرُ وَتَتَعارَضُ مَعَ كُلِّ النِّظامِ المُختصِّ بِحَقِّ المسيح. فإذا افتَرَضْنا لَحظةً أنَّ عَشاءَ الرَّبِّ هو ذَبيحة وليسَ طَقْسًا، فإنَّ هذا يعني أنَّهُ في كُلِّ مَرَّة تُستخدَمُ فيها كَلِماتُ التَّقديسِ فإنَّ الجَسَدَ والدَّمَ الحَقيقِيَّيْنِ للمسيح يَحِلَّان في مائدةِ الشَّرِكَة في شَكْلِ خُبْزٍ وَخَمْر، وأنَّ كُلَّ شخصٍ يأكُلُ ذلكَ الخُبْزَ المُقَدَّسَ ويَشربَ ذلكَ الخَمْرَ المُقَدَّسَ يأكُلُ وَيَشربُ حَقًّا جَسَدَ ودَمَ المَسيحِ الحَقيقيَّيْن. وإنِ افتَرَضنا ذلكَ لَحْظَةً، يُمكنُنا أنْ نُدركَ العواقبَ الوَخيمةَ النَّاجمةَ عن هذه الفَرضيَّات. ولكنَّكُم بهذا تُفْسِدونَ العقيدةَ المُباركةَ المُختصَّةَ بعملِ المسيحِ الَّذي اكْتَمَلَ عندما ماتَ على الصَّليب. فالذَّبيحةُ الَّتي ينبغي أنْ تُكَرَّرَ هي ليست شيئًا كاملاً أوْ تَامًّا.

"وأنتُم تُفسِدونَ المَنْصِبَ الكَهَنوتيَّ للمسيح. فإنْ كانَ هُناكَ كَهَنَة يَقدرونَ أنْ يُقَدِّموا ذَبيحةً مَقبولةً للهِ إلى جَانِبِهِ، فإنَّ رَئيسَ الكَهَنَةِ العَظيم سُلِبَ مَجْدَهُ. وأنتُم تُفسِدونَ العَقيدةَ الكِتابيَّةَ المُختصَّةَ بالخِدمة المسيحيَّة. وأنتُم تَرفَعونَ مِنْ شأنِ بَشَرٍ خُطاة وتَجعلونَهُم وُسَطاءَ بينَ اللهِ والإنسان. وأنتُم تُضْفونَ على عُنْصُرَيِّ الخُبْزِ والخَمْرِ إجْلالاً وَتَعظيمًا لم يُقْصَدْ يَوْمًا أنْ يَحْصُلا عليه. وأنتُم تُرَوِّجونَ لِوثنيَّةٍ يُبْغِضُها المسيحيُّونَ الأُمَناء. وأخيرًا وليسَ آخِرًا، أنتُم تَهْدِمونَ العقيدةَ الحقيقيَّةَ المُختصَّةَ بطبيعةِ المسيحِ البَشريَّة. فإنْ كانَ الجَسَدُ المَولودُ مِنَ العَذراءِ مَريم يَستطيعُ أنْ يَكونَ في أكثرِ مِنْ مَكانٍ واحدٍ في الوقتِ نَفسِه، فإنَّهُ ليسَ جَسَدًا كأجسادِنا. وهذا يعني أنَّ يسوعَ ليسَ آدَمَ الأخير في ضَوْءِ طَبيعَتِنا". إنَّ هذهِ العقيدةَ ليسَتْ أمرًا ثانويًّا، بل إنَّها عَقيدة مُشَوَّهة وَوثنيَّة لَها عَواقِب وَخيمة.

وماذا إنْ جاءَ شخصٌ وقال: "أعتقد أنَّني مَسيحيّ، ولكنِّي أُحِبُّ أنْ أذهبَ إلى الكنيسةِ الكاثوليكيَّة. فأنا أَشعرُ بالرَّاحةِ هُناك. فهل ينبغي لي أنْ أَترُكَها؟" استمعوا إلى ما جاءَ في رسالة كورِنثوس الأولى 10: 21: "لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَشْرَبُوا كَأسَ الرَّبِّ وَكَأسَ شَيَاطِين. لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَشْتَرِكُوا فِي مَائِدَةِ الرَّبِّ وَفِي مَائِدَةِ شَيَاطِين". فيجب عليكَ أنْ تَختار. وفي نهايةِ كُلِّ مُناوَلَة في القُدَّاس، فإنَّ الشَّخصَ الَّذي يَتناوَل القُربانَ مُطالَبٌ بأنْ يَقولَ شيئًا واحدًا للكاهِن: "آمين! آمين!" مُؤكِّدًا حقيقةَ أنَّهُ تَناوَلَ المَسيح. وهذا شيءٌ مُستحيل بالنِّسبةِ إلى المُؤمنِ الحقيقيّ. وإنْ كُنْتَ ما تَزالُ مُرتبطًا بذلكَ النِّظام، يجب عليكَ أنْ تَخرُجَ مِنْهُ. ويجب علينا أنْ نَقومَ بِكُلِّ مَحَبَّة وَرَهافَةِ حِسٍّ بِدَعوةِ النَّاسِ إلى الإنجيلِ الحقيقيّ.

يا أبانا، نَشكُرُكَ على الوقتِ الَّذي مَنَحْتَنا إيَّاه في هذا المساء. وهناكَ أُمور كثيرة ينبغي لنا أنْ نُفَكِّرَ فيها مِثْلَ الأشياءِ الفاحِصَة للقَلب، وكيفَ أنَّهُ يجب علينا، يا رَبّ، أنْ نَكونَ مُمَيِّزينَ، ومُتعاطِفينَ، ومُحِبِّين، ومُمتلِئينَ نِعمةً في مُحاولةِ تَوصيلِ الإنجيلِ الحقيقيِّ إلى تلكَ النُّفوس المُحاصَرَة والواقِعَة في فَخِّ هذا السِّرِّ العَديمِ المَعنى الَّذي يَقودُ إلى الهَلاك. أعْطِنا الفُرصةَ كي نُمَجِّدَ الرَّبَّ يسوعَ المسيحَ وإنجيلَ النِّعمة. نُصَلِّي هذا باسْمِهِ. آمين!

This sermon series includes the following messages:

Please contact the publisher to obtain copies of this resource.

Publisher Information
Unleashing God’s Truth, One Verse at a Time
Since 1969

Welcome!

Enter your email address and we will send you instructions on how to reset your password.

Back to Log In

Unleashing God’s Truth, One Verse at a Time
Since 1969
Minimize
View Wishlist

Cart

Cart is empty.

Subject to Import Tax

Please be aware that these items are sent out from our office in the UK. Since the UK is now no longer a member of the EU, you may be charged an import tax on this item by the customs authorities in your country of residence, which is beyond our control.

Because we don’t want you to incur expenditure for which you are not prepared, could you please confirm whether you are willing to pay this charge, if necessary?

ECFA Accredited
Unleashing God’s Truth, One Verse at a Time
Since 1969
Back to Cart

Checkout as:

Not ? Log out

Log in to speed up the checkout process.

Unleashing God’s Truth, One Verse at a Time
Since 1969
Minimize