
لِنَفْتَحِ كلمةَ اللهِ على الأصحاحِ الثامنِ مِنْ رِسالَة رُومية. ويا لها مِنْ رِسالةٍ غاليةٍ ورائعةٍ للرسولِ بولس عنِ الإنجيلِ وجميعِ الجوانبِ المُختصَّةِ بهِ. ونحنُ نَتأمَّلُ في الأصحاحِ الثامنِ مِنْ رسالةِ رومية لأنَّ هذا الأصحاحَ يَتحدَّثُ عنِ الروحِ القدسِ. وهذا هوَ الجُزءُ السادسُ أوِ الرِّسالةُ السَّادسةُ في دراسَتِنا عَنْ حياةِ الروحِ القدسِ ... عَنْ حياةِ وخِدمةِ الروحِ القدسِ في المُؤمِنِ ... في المُؤمِنِ – أيْ عَنْ ما يَفْعَلُهُ الروحُ القدسُ فينا. وقدِ ابتدأتُ هذهِ السِّلْسِلَةَ بسببِ كَثْرةِ الإساءاتِ إلى الروحِ القدسِ في العالمِ المسيحيِّ المُعاصِر. فَهناكَ سُوءُ تمثيلٍ للروحِ القدسِ. وكما يقولُ الكِتابُ المقدَّسُ، هُناكَ مَنْ يَزْدَرونَ بالرُّوحِ القُدُسِ، ويُحْزِنونَهُ، ويُطفِئونَهُ. وهُناكَ مَنْ يُجَدِّفُونَ عليه. وإنْ شاهَدْتُمُ المَحَطَّاتِ الَّتي تَعْرِضُ أُناسًا خَمسينيِّينَ يَدَّعونَ أنَّهُمْ مَمْسوحونَ بمَسْحَةِ الروحِ القدسِ، مِنَ المؤكَّدِ أنَّكُمْ لن تَعْرِفوا حَقيقَةَ ما يَفْعَلُهُ الروحُ القدس. فيبدو أنَّ هؤلاءِ هُمْ ضَحايا لروحٍ رَديءٍ وليسَ لِروحٍ طاهِرٍ – أيِ الروحِ القدس.
فالروحُ القدسُ لا يَجْعَلُ النَّاسَ يَتَصَرَّفونَ بطريقةٍ عَالَمِيَّةٍ، أو جَسديَّةٍ، أوْ مُتفاخِرَةٍ، أوْ غَريبَةٍ، أوْ غيرِ مَسؤولَةٍ، أوْ جامِحَةٍ، أوْ غَيْرِ ذلك. بل إنَّ الروحَ القدسَ يَسْعى إلى هَدَفٍ واحدٍ فقط وَهُوَ أنْ يَجْعَلَ النَّاسَ قِدِّيسين ... قِدِّيسين. لذلكَ، إذا قالَ أحدُ الأشخاصِ إنَّهُ مَمْسوحٌ مِنَ الروحِ القدسِ، يجبُ أنْ تَظْهَرَ القداسةُ بوضوحٍ في ذلكَ الشَّخص. فهذا هوَ عملُ الروحِ القدس. وَهُوَ يُسَمَّى "الرُّوح القُدُس" لهذا السَّبب.
في رُؤيا إشَعْياء الشَّهيرة، فإنَّهُ يَسْمَعُ الملائِكَةَ تَعْبُدُ اللهَ وتقول: "قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ رَبُّ الجُنُودِ ". وهذهِ قد تكونُ إشارةً إلى الروحِ القدسِ. فَقُدُّوسٌ هُوَ اللهُ. وقُدُّوسٌ هُوَ الابْن. وقُدُّوسٌ هوَ الروحُ. لذلكَ فإنَّ الكلمة "قُدُّوس" تَتكرَّرُ ثلاثَ مَرَّاتٍ. فهذا إقرارٌ ملائِكِيٍّ بأنَّ اللهَ المُثَلَّثَ الأقانيمِ هُوَ قُدُّوسٌ بِكُلِّ تأكيد. وعملُ الروحِ القدسِ يَقتضي بالضَّرورةِ أنْ يُنْشِئَ تلكَ القَدَاسَةَ في البَشَر ... فينا.
ولكي نَفهمِ ذلكَ فهمًا أفْضَل، أرْجو أنْ تَفتحوا على الأعْداد 14-16 مِنْ رُومية 8. وسوفَ أقرأُ هذهِ الأعدادَ على مَسامِعِكُم، ثُمَّ أعودُ للحديثِ عنها بعدَ قليل: "لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَنْقَادُونَ بِرُوحِ اللهِ، فَأُولئِكَ هُمْ أَبْنَاءُ اللهِ. إِذْ لَمْ تَأخُذُوا رُوحَ الْعُبُودِيَّةِ أَيْضًا لِلْخَوْفِ، بَلْ أَخَذْتُمْ رُوحَ التَّبَنِّي الَّذِي بِهِ نَصْرُخُ: «يَا أَبَا الآبُ». اَلرُّوحُ نَفْسُهُ أَيْضًا يَشْهَدُ لأَرْوَاحِنَا أَنَّنَا أَوْلاَدُ اللهِ". ونجدُ هنا إشاراتٍ عديدةً إلى الروحِ القدسِ كما هي الحالُ في الأعْدادِ مِنْ 1-13 السَّابقة. وكما ذَكَرتُ مِرارًا، فإنَّ هذا الأصحاحَ (في رِسالةِ رومية العظيمة) هُوَ الأصحاحُ الَّذي يَخْتَصُّ بخِدمةِ الروحِ القدسِ في حياةِ المؤمنين.
ولكِنْ لِنَرْجِع إلى نُقطةِ البدايةِ الَّتي كُنَّا نَتحدَّثُ عنها. فاللهُ الآبُ قُدُّوسٌ. واللهُ الابْنُ قُدُّوسٌ. والروحُ قُدُّوسٌ. وفيما يَخْتَصُّ بالآبِ، نَقرأُ في الأصْحاح 19 مِنْ سِفْرِ اللاويِّين: "لأَنِّي قُدُّوسٌ الرَّبُّ إِلهُكُمْ". وبالمناسبة، فإنَّ هذا يَتكرَّرُ عَشَراتِ المَرَّاتِ في العهدِ القديمِ. فاللهُ نَفْسُهُ يَشْهَدُ عَنْ قَداسَتِهِ. ونَرى في الأصحاحِ الأوَّلِ مِنْ إنْجيلِ لوقا أنَّ ابْنَ اللهِ قُدُّوسٌ أيضًا إذْ نَقرأُ إنَّهُ يُدعى الابْنُ القُدُّوس. ونَقرأُ عنهُ في الرسالةِ إلى العِبرانِيِّين أنَّهُ: "قُدُّوسٌ بِلاَ شَرّ وَلاَ دَنَسٍ". وإذْ نَنْظُرُ إلى الأقنومِ الثالثِ في الثَّالوثِ، أيْ إلى روحِ اللهِ، نَقرأُ في رُومية 1: 4 أنَّهُ يُدْعى "رُوحِ القَدَاسَةِ". لذلكَ، لا نُجانِبُ الصَّوابَ إنْ قُلنا إنَّ التَّعبيرَ: "قُدُّوس، قُدُّوس، قُدُّوس" يُشيرُ إلى اللهِ المُثَلَّثِ الأقانيم. فالأقانيمُ الثَّلاثَةٌ قُدُّوسَة. وكُلُّ الأقانيمُ في الثَّالوثِ الأقْدِسِ هِيَ بِطَبيعَتِها وَجَوْهِرِها وَحَقيقَتِها قُدُّوسَة.
ولكِنْ هناكَ عَمَلٌ خاصٌّ يقومُ بهِ روحُ اللهِ يَخْتَصُّ بإنْتاجِ القَداسَةِ في المُؤمِنين. فهذا هُوَ عَمَلُهُ. فَهُوَ يَعْمَلُ مِنْ خِلالِ ما نُسَمِّيهِ: "التَّقديس" – أيِ الانْفِصالِ عنِ الخَطِيَّةِ، وجَعْلِ المُؤمِنينَ قِدِّيسينَ، أوْ إنْ شِئْتُمْ: جَعْلِنا مُشابِهينَ ليسوعَ المسيح. فخدمةُ الروحِ القدسِ ليستْ خِدْمَةً تَخْتَصُّ بالجَسَد. لذلكَ، لا يمكنُ لهذهِ الخِدمةِ أنْ تُرى مِنْ خِلالِ الطَّريقةِ الَّتي تَتَلَوَّى بها، أوْ تَتَحَرَّكُ بها، أوْ تَتمايَلُ بها أوْ تَسْقُطُ بها إلى الوَراءِ، أوْ منْ خلالِ ما تُغَمْغِمُ بهِ، أوْ مِنْ خِلالِ رَفْعِ يَدَيكَ في الهواء. فعَمَلُهُ يَختصُّ بالروحِ. وَهُوَ عَمَلٌ يَخْتَصُّ بالقلب. وفي العهدِ القديم، يمكنُ القول إنَّ عملَ الروحِ القدسِ كانَ يَتَرَكَّزُ على تَقْديسِ المُؤمِنين. وفي العهدِ الجديدِ، يمكنُ القول إنَّ عملَ الروحِ القدسِ يَتركَّزُ على جَعْلِ المُؤمِنينَ مُشابِهينَ للمسيح. فرسالةُ العهدِ القديمِ للمؤمِنينَ هِيَ: "كونوا قِدِّيسيَ كما أنَّ اللهَ قُدُّوس". ورِسالةُ العهدِ الجديدِ هِيَ: "تَمَثَّلوا بالمسيح". أمَّا واسِطَةُ القيامِ بذلكَ فَهِيَ الرُّوحُ القُدُس.
ورُبَّما كانتْ أَوْضَحُ آيةٍ مُنفرِدَةٍ عَنْ هذا الموضوعِ هيَ 2كورِنثوس 3: 18. وَهِيَ آيةٌ كَتَبْتُ عنها كِتابًا حينَ وُجِّهَ إلَيَّ السُّؤال: "هل يُمْكِنُكَ أنْ تُؤلِّفَ كِتابًا صَغيرًا عَنْ أهَمِّ آيةٍ للمؤمنينَ في العهدِ الجديد؟" وقد أجبتُ قائلًا: "الحقيقةُ هي أنِّي لا أعرفُ إنْ كنتُ أستطيعُ أنْ أَختارَ آيةً، ولكِنْ هُناكَ آية يُمْكِنُني أنْ أَخْتارَها". وقد وَقَعَ اختياري على هذهِ الآية (2كورِنثوس 3: 18): "وَنَحْنُ جَمِيعًا نَاظِرِينَ مَجْدَ الرَّبِّ بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ [دُوْنَ أنْ يُعيقَ أيُّ شَيءٍ نَظَرَنا]، كَمَا في مِرْآةٍ ...". فحينَ نَنظُرُ إلى الرَّبِّ، وحينَ نَنظُرُ إلى مَجْدِ الرَّبِّ، فإنَّنا "نَتَغَيَّرُ إِلَى تِلْكَ الصُّورَةِ عَيْنِهَا، مِنْ مَجْدٍ إِلَى مَجْدٍ، كَمَا مِنَ الرَّبِّ الرُّوحِ".
فالروحُ القدسُ يُغَيِّرُنا ويَجْعَلُنا مُشابِهينَ للمسيحِ حينَ نَنْظُرُ إلى الرَّبِّ نَفسِهِ إذْ إنَّهُ يُغَيِّرُنا مِنْ دَرَجَةٍ إلى الَّتي تَليها، ومِنْ مُستوى مِنَ المَجْدِ إلى الَّذي يَليهِ، ثُمَّ إلى الَّذي يَليه. فهذا هُوَ عَمَلُهُ. هذا هُوَ عَمَلُ الروحِ القُدُس. لذلكَ فإنهُ يُسَمَّى على نَحْوٍ فَريدٍ: "الرُّوح القُدُس"، أوْ "رُوح القَداسَة" – لأنَّهُ يُنْشِئُ فينا قَداسَةً. وكما ذَكَرتُ، فإنَّ المُصْطَلَحَ في العهدِ القديمِ هُوَ "القَداسَة". وَهُوَ في العَهْدِ الجديد: "التَّمَثُّل بالمَسيح". إنَّهُ التَّقديس. ويَصِفُ اللَّاهوتِيُّونَ الروحَ القدسَ هَكَذا: "الروحُ القدسُ هُوَ العِلَّةُ الفاعِلَةُ ... الرُّوحُ القُدُسُ هوَ العِلَّةُ الفاعِلَةُ. والكِتابُ المقدَّسُ هوَ الوسيلةُ وَالأداةُ الَّتي يَستخدِمُها الرُّوحُ القُدُسُ".
ولنَرْجِعْ قليلًا إلى الوراءِ ونَتَحَدَّثُ عنْ هذا الأمر. فأنا أريدُكُمْ أنْ تَرَوْا الصُّورةَ الكبيرةَ. حسنًا؟ لأنَّهُ يجبُ عليكم أنْ تَفهموا أنَّ هذا العملَ الَّذي يقومُ بهِ الروحُ القدسُ هُوَ هَدَفُ اللهِ مِنَ الفِداء. فهذا ليسَ جُزءًا مِنَ العمل. وَهُوَ ليسَ شَيئًا ثانَويًّا. بل هذا هوَ قَصْدُ اللهِ مِنَ الفِداء – أنْ يَجْعَلَ النَّاسَ قِدِّيسينَ، وَأتقياءَ، وَمُشابِهينَ للمسيح. فهذهِ هِيَ جَعالَةُ (أيْ: جائِزَةُ) الدَّعوةِ العُلْيا. وهذا هُوَ هَدَفُ الفِداءِ. فالهدفُ لا يَتَحَقَّقُ عندَ تَبريرِنا، بل يَتحقَّقُ فقط عندَ تَمْجيدِنا – أيْ عِنْدما نَصيرُ كامِلينَ في القَداسَةِ. وعملُ الروحِ القدسِ في هذهِ الأثناءِ هُوَ أنْ يَجعَلَنا أكْثَرَ قَداسَةً في هذهِ الحياةِ إلى أنْ نُحَقِّقَ تلكَ القَداسَةَ الكاملةَ في الحياةِ الَّتي ستَأتي. ولكِنْ لِنَرْجِعْ أكْثَر قليلًا إلى الوَراءِ لِنَفْهَمَ مُنْذُ البِدايَةِ عَمَلَ الله.
لقد خُلِقَ الإنسانُ على صُورَةِ اللهِ. هذِهِ هِيَ رِسالَةُ تَكوين 1 و 2. أليسَ كذلك؟ فنحنُ نَقرأُ في سِفْرِ التَّكوين 1: 26 و 27 أنَّ اللهَ عَمِلَ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ كَشَبَهِهِ لِغايَةٍ واحِدَةٍ هِيَ أنْ يُعْلِنَ اللهَ، وَأنْ يَعْكِسَ مَجْدَ اللهِ، وأنْ يُعَبِّرَ عَنْ شَخْصِ اللهِ، وأنْ يَجْعَلَ مَجْدَهُ ظاهِرًا للعِيان. وفي الأصحاحِ الثَّالِثِ، نَرى سُقوطَ الإنْسانِ. فقد سَقَطَ الإنسانُ وَضاعَ ذلكَ الهَدَف لأنَّ البشرَ صَاروا خُطاةً وعاجِزينَ عَنْ إظْهارِ أوْ إعْلانِ مَجْدِ الله. لذلكَ فإنَّ رِسالةَ رومية تُخبرُنا أنَّنا جَميعًا أَعْوَزَنا ماذا؟ مَجْدُ اللهِ. وهذا يَصحُّ على البشريَّةِ السَّاقِطَةِ كُلِّها. فنحنُ عاجِزونَ عنِ القيام بالشَّيء الَّذي خُلِقْنا للقِيامِ بِهِ. فنحنُ مَخلوقينَ على صُورةِ اللهِ لكي نَعْكِسَ مَجْدَ اللهِ ونُعَبِّرَ عَنْهُ. ولكِنَّنا سَقَطْنا في الخَطِيَّةِ وصِرْنا فاسِدينَ، وناقِصينَ، وآثِمينَ، ومُنْحَرِفين. لذلكَ فإنَّنا عاجِزونَ عنِ القيامِ بذلك. وإذا نَظرتُم إلى التَّاريخِ القديمِ بعدَ آدَم، ستَرَوْنَ أُناسًا قَليلينَ أُنْقِذوا مِنْ تلكَ الحالَةِ وصاروا حقًّا شعبًا قادِرًا أنْ يَعْكِسَ مَجْدَ اللهِ. فقد سارَ أَخْنوخُ معَ اللهِ ذاتَ يومٍ، واسْتَمَرَّ في السَّيْرِ مَعَهُ كما يَنْبَغي إلى أنْ أَخَذَهُ اللهُ إلى السَّماءِ دونَ أنْ يَموت. وقد كانَ أبناءُ شِيْث نَسْلًا تَقِيًّا، ولكِنَّ الأتْقياءَ كانُوا قِلَّةً قَليلَةً بَيْنَ هؤلاءِ النَّاسِ الخُطاةِ والآثِمينَ والفاسِدينَ حَتَّى إنَّهُ بعدَ أجْيالٍ قليلةً، اسْمَعوا ما سأقول: قامَ اللهُ بإغْراقِ الجنسِ البشريِّ كُلِّهِ لأنَّ الأشخاصَ الَّذينَ كانوا يَعْكِسونَ مَجْدَ اللهِ كانوا ثَمانِيَة فقط. ثَمانِيَة مِنْ أَصْلِ مَلايين. لذلكَ فقد أَهْلَكَهُمُ اللهُ وابْتَدأَ مِنْ جَديد. فقد كانَ فَسادُ الجِنسِ البشريِّ مُسْتَفْحِلًا إلى هَذا الحَدِّ.
ثُمَّ قَرَّرَ اللهُ الآبُ بَعْدَ ذلكَ أنْ يُخْرِجَ مِنْ هؤلاءِ الأشخاصِ الثَّمانِيَةِ شَعْبًا يُصْلِحُ صُورَةَ اللهِ المُشَوَّهَة والمُلَطَّخَة جِدًّا في البشريَّةِ مِنْ خِلالِ تَغْييرِ هؤلاءِ الخُطاةِ مِنْ خِلالِ سِيادَتِهِ، وَعَمَلِهِ الخَارِقِ للطَّبيعَةِ، ونِعْمَتِهِ. لذلكَ فإنَّ ذلكَ العملَ لم يَكُنْ عَملًا سَطْحِيًّا. ولم يَكُنْ عَملًا بَسيطًا. ولم يَكُن عملًا خارجيًّا. بل كانَ يَنبغي أنْ يكونَ عملًا داخليًّا. فقد كانَ يَنبغي أنْ يُعيدَ خَلْقَ النَّاسِ ليكونوا قادِرينَ على إظْهارِ مَجْدِهِ. ويَصِفُ بُطرُسُ ذلكَ بكلماتُ مُهِمَّةٍ جِدًّا جِدًّا، وواضِحَةٍ جِدًّا. فبُطرسُ يَقولُ في رِسالةِ بُطرسَ الثَّانية 1: 4: "هَارِبِينَ مِنَ الْفَسَادِ". فقد هَرَبْتُمْ مِنَ الفَسادِ. وقد هَرَبْتُمْ مِنْ تلكَ الحالةِ المُنْحَرِفَةِ. وقد هَرَبتُم مِنْ ذلكَ بأنْ صِرْتُمْ – اسْتَمِعوا إلى ما يَقولُهُ: "شُرَكَاءَ الطَّبِيعَةِ الإِلهِيَّةِ". يا للرَّوعَة! "شُرَكَاءَ الطَّبِيعَةِ الإِلهِيَّةِ". فذاتُ طَبيعةِ اللهِ قد أُعْطِيَتْ لَكُمْ مِنْ خِلالِ الوِلادةِ الثَّانية.
وهذا هُوَ هَدَفُ الخَلاصِ. فَهَدَفُ خُطَّةِ اللهِ الفِدائِيَّةِ هيَ أنْ يُنْقِذَ البشريَّةَ مِنْ عَجْزِها عَنْ إعْطائِهِ المَجْد. فهَدَفُ الخلاصِ هُوَ أنْ يَقْلِبَ السُّقوطَ وأنْ يَجعلَ البشرَ قادِرينَ على تَمْجيدِهِ. ولكي يَفعلَ ذلكَ، كانَ يَنبغي للهِ أنْ يُعيدَ خَلْقَهُمْ. فقد كانَ يَنبغي أنْ يُولَدوا ثانيةً، رُوحيًّا. وقد كانَ ينبغي أنْ يَمْتَلِكوا طَبيعةً جَديدَةً. فنحنُ نَقرأُ في رِسالةِ كورِنثوس الثانية 5: 17: "إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ". وهذا العَمَلُ كُلُّهُ هُوَ عملُ الروحِ القُدُس. فنحنُ نَحْتَفِلُ بالصَّليبِ، وَهَذا حَقٌّ. ونحنُ نَحتفِلُ بمحبَّةِ اللهِ، وعَظَمَةِ اللهِ، ونُرَتِّلُ للهِ وَنُسَبِّحُه. ونحنُ نُرَنِّمُ عنِ الصَّليبِ، وَهَذا صَحيحٌ تَمامًا. ولكِنْ في وَسَطِ هذا كُلِّهِ فإنَّنا نَنْسَى أنَّ العِلَّةَ الفاعِلَةَ الحَقيقيَّةَ والمَصْدَرَ الإلهيَّ لكُلِّ شَيءٍ نحنُ عَليهِ بِوَصْفِنا مَسيحيِّينَ هُوَ في حَقيقةِ الأمْرِ: الرُّوحُ القُدُس.
إنَّ خُطَّةَ اللهِ تَقضي بأخْذِ الخُطاةِ الفاسِدينَ العاجِزينَ عَنْ تَمْجيدِهِ، والذينَ لا يَمْلِكونَ القُدرةَ على القيامِ بذلكَ، والذينَ لا يَستطيعونَ القيامَ بذلكَ، والذينَ تَشَوَّهَتْ صُورَةُ اللهِ فيهِم. فقد تَشَوَّهَتْ إلى حَدٍّ فَظيعٍ. فقد تَشَوَّهَتْ إلى حَدٍّ باتُوا فيهِ، بِمَعْزِلٍ عَنِ التَّجديدِ، عَديمي النَّفْعِ للهِ بسببِ عَجْزِهِمْ عَنْ تَحْقيقِ القَصْدِ الَّذي خَلَقَهُمُ اللهُ لِتَحقيقِهِ حَتَّى إنَّهُ حَكَمَ عَليهِمْ بالعَذابِ الأبَدِيِّ في تلكَ الحُفْرَةِ المُتَّقِدَةِ بِنارٍ لا تُطْفَأ والتي تُدْعَى "جَهَنَّم" (وَهُوَ الاسْمُ الَّذي كانَ يُطْلَقُ على تلكَ المَزْبَلَةِ خارِجَ أورُشَليم) حيثُ سَيُعَذَّبونَ إلى الأبدِ لأنَّهُمْ عَديمو النَّفْعِ. لذلكَ فإنَّهُمْ سَيَبْقونَ فيها وَلَنْ يَكونَ بِمَقْدورِهِمْ أنْ يَنْجوا مِنْها. إذًا، كَمْ كانَ الفَسادُ مُسْتَفْحِلًا؟ إنَّهُ مُسْتَفْحِلٌ جِدًّا حَتَّى إنَّ الجِنسَ البشريَّ كُلَّهُ يَسْتَحِقُّ الطَّرْحَ في جَهَنَّم لأنَّهُ عَديمُ الفائِدَةِ تَمامًا. لذلكَ فإنَّهُمْ سَيُعَذَّبونَ إلى الأبد. ولكِنَّ خُطَّةَ الفِداءِ تَقضي بإنْقاذِ بَعْضٍ مِنْ هؤلاءِ النَّاسِ، وَتَشْكيلِهِمْ مِنْ جَديد، وَإعْطائِهِمْ حَياةً جديدةً، وتَجديدِهِم، وإعادَةِ خَلْقِهِمْ، وَرَدِّهِمْ، وتَغييرِهم، وجَعْلِهِمْ يَخْتَبِرونَ تَحَوُّلًا رُوحِيًّا، وَجَعْلِهِمْ شُرَكاءَ الطَّبيعةِ الإلهيَّةِ. ويا لَها مِنْ كَلِماتٍ رائِعَةٍ تُعَبِّرُ عَن خُطَّةِ اللهِ. فَهُوَ الَّذي وَضَعَها.
والآنْ عندما يَفعلُ اللهُ ذلك، كيفَ يَكونُ الشَّخصُ الَّذي اخْتَبَرَ حَقًّا الولادةَ الثَّانيةً وصارَ شَريكَ الطَّبيعةِ الإلهيَّةِ؟ سوفَ أُجيبُكُمْ بكلمةٍ واحدةٍ: يَسوع. فاللهُ هُوَ الَّذي أَنْشَأَ ذلكَ. ويسوعُ هُوَ الَّذي أَظْهَرَ ذلكَ. وعندما تَنْظُرُونَ إلى يسوعَ فإنَّكُم تَرَوْنَ صُورَةَ اللهِ الكامِلَة في هَيئةٍ بَشريَّة. وهلْ تَمَكَّنَ يَسوعُ مِنْ تَمْجيدِ اللهِ؟ نَقرأُ في إنْجيل يوحنَّا 1: 14: "وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ". وما هذا المَجْدُ؟ "مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ". فقد أَظْهَرَ اللهَ كما لَمْ يَظْهَرْ مِنْ قَبْل. فإذا أرَدْتَ أنْ تَرى العملَ الكاملَ للروحِ القدسِ في شخصٍ ما، انْظُرْ إلى يسوعَ المسيح. ولعلَّكُم تَذكرونَ ما قالَهُ يسوع. فكُلُّ ما فَعَلَهُ كانَ عَمَلَ الروحِ القدسِ فيه. أليسَ كذلك. كُلُّ ما فَعَلَهُ.
فعندما أَخْلى نَفْسَهُ، تَنازَلَ عَنْ كُلِّ تلكَ الصِّفاتِ الخاصَّةِ بِهِ، وَأَخْضَعَ نَفْسَهُ لِمشيئةِ الآبِ ولعملِ الروحِ القدسِ لكي يَكونَ كُلّ ما يَفْعَلُهُ هُوَ بِقُوَّةِ الروحِ القدس. وحتَّى إنَّ ما قامَ بِهِ حينَ بَذَلَ نَفْسَهُ وماتَ، وحَتَّى حينَ قامَ مِنَ الأمواتِ كانَ ذلكَ عَمَل الروحِ القدس. ولأنَّهُ المِثالُ الكامِلُ لعملِ الروحِ القدسِ، فإنَّ النَّتيجةَ النِّهائيَّةَ لذلكَ هيَ البشريَّة الكامِلَة. وكيفَ تَبدو البشريَّةُ الكامِلَةُ؟ على صُورَةِ يسوعَ المسيح. لذلكَ فإنَّكُمْ تَقرأونَ أنَّكُمْ حينَ تَذهبونَ إلى السَّماءِ فإنَّكُمْ ستَحصُلونَ على جَسَدٍ شَبيهٍ بجَسَدِهِ المُمَجَّدِ، وأنَّكُمْ ستكونونَ مِثْلَهُ لأنَّكُمْ سَتَرَوْنَهُ كما هُوَ. وفي اليومِ الَّذي سَتَرَوْنَهُ فيهِ كما هُوَ، سَتَصيرونَ مِثْلَهُ. فهذا هُوَ الهَدَف. إذًا، ما القَصْدُ مِنَ الفِداءِ؟ خَلْقُ بَشَرٍ مِثْلَ المَسيح. وهذا لا يَعني أنَّنا آلِهَة. فنحنُ سنَبقى بَشَرًا مُمَجَّدين. ولكِنَّنا سنُشْبِهُ يَسوعَ المَسيحِ لأنَّنا سنكونُ بَشَرًا مُمَجَّدين. فسوفَ نكونُ على صُورَةِ اللهِ تَمامًا، ولكِنْ في شَكْلٍ بَشَرِيٍّ. لذلكَ فإنَّ اللهَ هُوَ الَّذي ابْتَدَأَ ذلكَ. ويسوعُ هُوَ الذي أَظْهَرَ ذلكَ. والروحُ القدسُ هُوَ الذي قامَ بِتَفْعيلِ ذلك. وفي النِّهاية، فإنَّ الروحَ القدسَ هُوَ الَّذي سَيُقيمُنا. وقد رأينا ذلكَ للتَّوّ في هذا الأصْحاح.
إنَّ الروحَ القدسَ هُوَ الَّذي يُقيمُنا. والعَدَدُ 11 يُخْبِرُنا بهذا. لذلكَ فإنَّهُ سيُقيمُنا إلى المَجْد. وسوفَ نَقرأُ المَزيدَ عَنْ هذا الأمْرِ في آياتٍ لاحِقَةٍ. فالروحُ القدسُ هُوَ الَّذي يُقيمُنا إلى المجدِ ويَجْعَلُنا في النِّهايَةِ مُشابِهينَ للمسيح. وحينئذٍ سَيَتِمُّ رَدُّنا تَمامًا، ونَصيرُ كامِلينَ، وأبرارًا، وبَشَرًا قِدِّيسينَ إلى الأبد. ولكِنْ إلى أنْ يَحْدُثَ ذلك، فإنَّ الرُّوحَ القدسَ يَتْرُكُنا هُنا لكي نَتَمَكَّنَ مِنَ القيامِ بعملِ الكِرازَةِ. أليسَ كذلك؟ فنحنُ الأداةُ الَّتِي اخْتارَ اللهُ أنْ يَسْتَخْدِمَها للقيامِ بعملِ الكِرازَةِ. ولكِنْ ما دُمْنا أحْياءَ على هذِهِ الأرْضِ، يَجِبُ أنْ يَعْمَلَ على تَقْديسِنا. وهذا هُوَ ما جاءَ في 2كورِنثوس 3: 18 إذْ نَقرأُ أنَّنا نَتَغَيَّرُ مِنْ مُسْتَوى مِنَ المَجْدِ إلى الَّذي يَليه مِنْ حَيْث الدَّرجة، مِنْ حَيْث الدَّرجة، مِنْ حَيْث الدَّرجة. وحينَ تَذهبونَ إلى السَّماءِ، فإنَّ ذلكَ سيَحْدُثُ حالًا إذْ ستَصيرونَ كامِلينَ حالًا. ولكِنْ إلى أنْ يَحْدُث ذلك، فإنَّها عَمليَّةٌ يَقومُ بها الروحُ القدس.
والروحُ القدسُ يَبتدئُ تلكَ العمليَّة بأنْ يَلِدَنا ثانِيَةً. فنحنُ نُوْلَدُ مِنَ الرُّوحِ. وَهُوَ يُجَدِّدُنا. وَهُوَ الَّذي يُعْطينا تلكَ الحياةَ الجديدة. وَهُوَ الَّذي يُعْتِقُنا مِنْ فَسادِنا وضَلالِنا وَشَرِّنا. وَهُوَ الَّذي يُعْتِقُنا مِنْ حالَةِ العَجْزِ الَّتي تَجْعَلُنا خُطاةً يائِسينَ لا نَصْلُحُ إلَّا للهَلاكِ الأبدِيِّ. فَهُوَ يُنْقِذُنا، ويُعْطينا حَياةً جَديدةً، ويَلِدُنا ثانِيَةً. وَهُوَ العِلَّةُ الفَاعِلَةُ في ذلك. وَهُوَ يَسْتَخْدِمُ لِتَحقيقِ ذلكَ الكِتابَ المُقَدَّسَ. ونحنُ نُوْلَدُ ثانِيَةً بالحَقِّ. ونحنُ نَتَقَدَّسُ بالحَقِّ. وهذا هُوَ عَمَلُهُ. وَهُوَ سَيَتَمَجَّدُ فينا. لذلكَ فإنَّهُ يَلِدُنا ثانِيَةً، ويُقَدِّسُنا، ويُمَجِّدُنا. بعبارةٍ أُخرى، فإنَّهُ الَّذي يُسَلِّمُ للهِ هذِهِ البشريَّةَ الكامِلَةَ المَفْدِيَّة.
هذهِ هيَ الصورةُ الكَبيرةُ. فَعَمَلُ الروحِ، إذًا، هُوَ أنْ يُعيدَ صُورةَ اللهِ في الإنسان، وأنْ يُعيدَنا في النهاية إلى مَجْدِ الكَمالِ في السماءِ عندما يَجْعَلُنا مُشابِهينَ للمسيح. ولكِنْ إلى أنْ يَحْدُثُ ذلك، أيْ أثناءَ حَياتِنا على الأرْض، فإنَّهُ عاكِفٌ على نِقْلِنا مِنْ مُستوى مِنَ المَجْد إلى الآخَر، إلى الآخر، إلى الآخر. وهُناكَ عُنصرٌ آخَرُ في هذا الموضوعِ أَوَدُّ أنْ تَفهموهُ إذْ أَتَوَسَّعُ في هذهِ الفِكرةِ قليلًا. لذلكَ سوفَ أرْجِعُ إلى هذهِ الفِكرةِ وأتوسَّعُ فيها قليلًا.
فإذا نَظرتُم إلى العهدِ القديمِ وطَرَحْتُمْ هذا السُّؤال: "ما الَّذي يَقولُهُ عنِ التَّقديس؟" فلن تَجِدوا أيَّ شيءٍ في العهدِ القديمِ يَقولُ إنَّ هَدَفَ التَّقديسِ هُوَ أن يَجْعَلَكُمْ مُشابِهينَ للمسيح لأنَّهُمْ لم يكونوا قد رأوا المسيحَ بعد. أليسَ كذلك؟ لذلكَ فإنَّ التَّعبيرَ الَّذي يُمكِنُكُمْ أنْ تَستخدموهُ عندما تَتَحَدَّثونَ عن القداسةِ في العهدِ القديمِ هُوَ: "التَّشَبُّهُ باللهِ" ... "التَّشَبُّهُ باللهِ". فهَدَفُ العهدِ القديمِ هُوَ أنْ يَكونَ هُناكَ شَعْبٌ مُشابِهٌ للهِ. فعلى سَبيلِ المِثالِ، نَجِدُ في سِفْرِ اللاويين، وَهُوَ السِّفْرُ الرئيسيُّ الَّذي يَتحدَّثُ عن هذا الموضوعِ ابتداءً مِنَ الأصحاح الحادي عَشَر، أوْ حَتَّى قَبْلَ ذلكَ، إلى الأصحاحِ العِشرين. ففي هذهِ الأصحاحاتِ العَشْرَةِ، نَقرأُ: "كُونوا قِدِّيسِينَ لأَنِّي أَنا قُدُّوسٌ". ... "كُونُوا قِدِّيسينَ لأنِّي أنا قُدُّوسٌ". "كُونُوا قِدِّيسينَ لأنِّي أنا قُدُّوسٌ". وهذا يَتكرَّرُ، ويَتكرَّرُ، ويَتكَرَّرُ. القَداسَةُ: كونوا مِثْلَ اللهِ. كونوا قِدِّيسينَ كَما أنَّ اللهَ قُدُّوس. وكيفَ يَحدثُ ذلك؟ نَجِدُ في سِفرِ اللاويينَ تَعليمًا مُهِمًّا في مواضِعَ عَديدَة. ولكِنِّي سأشيرُ إلى آيَتَيْنِ فقط. وسَأبدأُ بالآية لاوِيِّين 20: 8. ففي العددِ السابعِ، نَقرأُ هذهِ الكلماتِ المألوفَة: "فَتَتَقَدَّسُونَ وَتَكُونُونَ قِدِّيسِينَ، لأَنِّي أَنَا الرَّبُّ إِلهُكُمْ". ولكِنَّنا نَقرأُ في العددِ الثَّامِنِ: "وَتَحْفَظُونَ فَرَائِضِي وَتَعْمَلُونَهَا. أَنَا الرَّبُّ مُقَدِّسُكُمْ".
هل تَفهمونَ مَعنى ذلك؟ إنَّ اللهَ هوَ الَّذي يَقومُ بعمليَّةِ التَّقديسِ في إطارِ الطَّاعَةِ. "يَجِبُ عليكمْ أنْ تَعْرِفوا فَرائِضي وَتَعْمَلوا بها". لذلكَ، أقولُ مَرَّةً أخرى إنَّ الكتابَ المقدَّسَ هوَ الأداةُ الَّتي يَستخدِمُها الرَّبُّ لتَقديسِ شَعبِهِ، حَتَّى في العهدِ القديم. فهوَ أعْطاهُمْ كَلِمَتَهُ. وكانَ يَنبغي لهم أنْ يُطيعوا كَلِمَتَهُ، وأنْ يُطَبِّقوا ما قالَهُ. فهذهِ هيَ الوسيلةُ الَّتي يَستخدِمُها الرَّبُّ لتَقديسِ شَعْبِهِ.
وفي الأصحاح 21 والعدد 8، نَقرأُ الشَّيءَ نَفسَهُ: "مُقَدَّسًا يَكُونُ عِنْدَكَ لأَنِّي قُدُّوسٌ أَنَا الرَّبُّ مُقَدِّسُكُمْ". ومَرَّةً أُخرى: "أنا أُريدُكُمْ أنْ تَتَقَدَّسوا لأنِّي أنا قُدُّوس". وَ "أنا سأُقَدِّسُكُمْ بِقَدْرِ ما تُؤمِنونَ وتُطيعونَ كَلِمَتي". فأداةُ التَّقديسِ هيَ الكَلِمَة.
والآنْ، دَعوني أتَوسَّعُ في هذهِ الفِكرةِ أكثَر قليلًا. فلكي تَفهموا التَّقديسَ في العهدِ القديمِ، يجبُ عليكم أن تَفهموا حقيقةً رَئيسيَّةً وَهِيَ أنَّ اللهَ كانَ يَقومُ بعمليَّةِ التَّقديسِ مِنْ خِلالِ عملِ الروحِ القدسِ لكي يُنْشِئَ شَبَهًا عَائِلِيًّا في شَعْبِهِ، أيْ أنْ يُنْشِئَ شَعْبًا يُشْبِهُ اللهَ. وقد قالَ الرَّبُّ في عِظَتِهِ على الجَبَل (في إنْجيل مَتَّى 5: 45): "لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ". فإنْ غَفَرْتُمْ لأعدائِكُم الذينَ يُؤذونَكُمْ، تكونونَ مِثْلَ أبيكُم الَّذي في السَّماوات. فهذا هوَ مَفْهومُ العهدِ القديمِ عَنِ التَّقديس: كونوا مِثْلَ الله ... كونوا مِثْلَ الله.
وهُناكَ آيةٌ أُخرى في العِظَةِ نَفْسِها (في الأصحاحِ الخامِسِ) وهيَ تَقول: "فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ". فإذا كُنتُم تَنْتَمونَ إلى اللهِ، وإذا كُنتُم أولادًا للهِ، يَنبغي أنْ يَكونَ هُناكَ شَبَهٌ عائِلِيٌّ. أليسَ كذلك؟ وهذا هُوَ جَوْهَرُ فَهْمِ القَداسةِ في العهدِ القديم. فالتقديسُ في العهدِ القديمِ يُرَى كجُزءٍ مِنْ علاقةِ العهدِ الحقيقيَّةِ معَ الله. وعلاقةُ العهدِ تلكَ هيَ عَلاقَةٌ عائليَّةٌ. فقد صِرْتُمْ جُزءًا مِنْ عائلةِ اللهِ. وعمليَّةُ التَّقديسِ وُضِعَتْ لِجَعْلِكُمْ مُشابِهينَ لأبيكُم أكْثَرَ فأكْثَرَ. هذا هوَ التَّقديسُ في العهدِ القديمِ – أنْ يَكونوا مِثْلَ اللهِ. هذهِ هِيَ القَداسَة. فالهدفُ هُوَ إرجاعُ الإنْسانِ إلى الصُّورةِ الإلهيَّةِ.
والآنْ، ما يَحْدُثُ في العهدِ الجديدِ مُهِمٌّ جدًّا، ولكِنَّ فَهْمَهُ سَهْلٌ. فالتَّركيزُ في العهدِ الجديدِ لا يَنْصَبُّ على أنْ نَكونَ مِثْلَ اللهِ، بل ماذا؟ أنْ نكونَ مِثلَ المَسيح. لماذا؟ هل هذا مُختلفٌ؟ لا. فالسَّبَبُ هوَ أنَّ المسيحَ هُوَ المِثالُ الكامِلُ على ما يَنبغي أنْ يَكونَ عليهِ الإنْسانُ المَخلوقُ على صُورَةِ اللهِ. أليسَ كذلك؟ فهُوَ إنسانُ كامِلٌ ومُشابِهٌ للهِ. ونقرأُ في إنجيل يوحنَّا 1: 14: "وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ". فقد كانَ مُشابِهًا للهِ إذْ كانَ "مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا". هذا هُوَ عملُ الروحِ القدس. فهُوَ يَجعلُ النَّاسَ الأتقياءَ على صُورِةِ المسيح. فالتَّقديسُ يُعادِلُ التَّقوى ويُعادِلُ الشَّبهَ بالمَسيح. هذهِ هِيَ القداسَة: الانفصالُ عنِ الخطيَّةِ، والعَيْشُ بالتَّقوى لِنَصيرَ مُشابِهينَ للمسيح.
لذلكَ فإنَّ الغايَةَ مِنْ حَياةِ المسيحِ الَّتي عاشَها هُنا على الأرضِ هيَ أنْ نَرى ماهِيَّةَ القَداسَة، أيْ أنْ نَرى كَيفَ تَبدو القداسَةَ الكاملةَ في الإنسان. وهذا هوَ المِثالُ. لذلكَ فإنَّ الرسولَ بولسَ يقولُ: "كُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِي كَمَا أَنَا أَيْضًا بِالْمَسِيحِ". وكأنَّ المسيحَ يَقول: "اتْبَعوني. أنا قُدْوَتُكُمْ". فقد تَكلَّمَ اللهُ في الأزمنةِ القديمةِ وأَعْلَنَ عَنْ ذاتِهِ مِنْ خِلالِ كُتَّابِ العهدِ القديمِ. ولَكِنَّهُ (كَما جاءَ في الأصحاحِ الأوَّلِ مِنَ الرسالةِ إلى العِبرانِيِّين): "كَلَّمَنَا فِي هذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ، الَّذِي جَعَلَهُ وَارِثًا لِكُلِّ شَيْءٍ". لذلكَ، عندما يَقولُ أحَدُ الأشخاصِ لي: "أريدُ أنْ أكونَ تَقِيًّا. ولكِنْ كيفَ سأكونُ حينئذٍ؟" فإنَّني أقولُ لَهُ: "ستكونُ مِثْلَ يَسوعَ المَسيحِ تَمامًا". أتَريدُ أنْ تَرى القَداسَةَ في هَيئةٍ بشريَّةٍ؟ المَسيح. لذلكَ فإننا نَقرأُ في 2كورِنثوس 3: 18 أنْ نَنْظُرَ إلى مَجْدِ الربِّ لأنَّ هذا هوَ مِعيار القداسَة والتَّقديس. وحينَ يَصيرُ هذا الأمرُ واضحًا لنا ويُهَيْمِنُ على أذهانِنا، فإنَّ الروحَ القدسَ سيأخُذُنا مِنْ مُسْتَوى مِنَ المجدِ إلى الَّذي يَليه، والذي يَليه، والذي يَليه، حَتَّى في هذهِ الحياة. والمُعجزةُ الإلهيَّةُ المُتَمَثِّلَةُ في الوِلادةِ الثَّانيةِ هِيَ شَيءٌ يَقومُ بهِ الروحُ القُدُس. والمُعجزةُ الإلهيَّةُ المُتمثِّلَةُ في التَّمجيدِ هيَ شَيءٌ يَقومُ بهِ الروحُ القدس. والمُعجزةُ الإلهيَّةُ المُتمثِّلةُ في التَّقديسِ هيَ شَيءٍ يَقومُ بهِ أيضًا الروحُ القدسُ. وهُوَ أمْرٌ لا يَقِلُّ إعْجازًا عَنِ المُعجِزاتِ الأُخرى.
وما يَفعلُهُ الروحُ القدسُ هوَ أنَّهُ يُرينا الأشياءَ المُختصَّةَ بالمسيح. وهَلْ تَذكرونَ أنَّ يَسوعَ قالَ ذلكَ في العِلِّيَّة؟ فقد قالَ إنَّ الروحَ القدسَ سيُرِيَهُمْ الأشياءَ المُختصَّةَ بالمسيح. لماذا؟ لأنهُ حينَ تَنظرونَ إلى المسيحِ فإنَّكم تَرَوْنَ التَّمثيلَ الكامِلَ للهِ. وحينَ تَنظرونَ إلى المسيحِ فإنَّكُم تَفهمونَ مَاهِيَّةَ التَّشَبُّهِ باللهِ، وَالقَداسَةِ، والتَّقديسِ. وحينَ تَتأمَّلونَ في ذلكَ الكَمالِ المُتَجَسِّدِ في هَيئةِ إنسانٍ، فإنَّهُ يَصيرُ المِثالَ والمِعيارَ الَّذي يُشَكِّلُكَ رُوْحُ اللهِ عليه.
لذلكَ حينَ يَقولُ شَخْصٌ: "أنا مَمْسوحٌ بواسِطَةِ الروحِ القدسِ"، يَنبغي أنْ يَكونَ مُشابِهًا للمسيح. فهذا هوَ عملُ الروحِ القدسِ في كُلِّ مُؤمِنٍ. وهَدَفُ الروحِ القدسِ هُوَ أنْ يُنْشِئَ أولادًا للهِ يَتَمَتَّعونَ بالشَّبَهِ العَائِلِيِّ إذْ يُشْبِهونَ أباهُمْ ويُشْبِهونَ أَخاهُمْ (يَسوعَ المَسيحَ) الَّذي "لا يَسْتَحِي أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِخْوَةً". فهذا هُوَ الهَدَفُ مِنْ مَوتِ المسيحِ وقِيامَتِهِ. فالهَدَفُ مِنْ مَوت المسيحِ، والهَدَفُ مِنْ قِيامَتِهِ هُوَ أنْ يَعودَ إلى السَّماءِ بعدَ أنْ يَكونَ قد دَبَّرَ الكَفَّارةَ الكاملةَ، وأنْ يُرْسِلَ الروحَ القُدُسَ. والهدفُ مِنْ مَوْتِ المسيحِ، وقيامَتِهِ هُوَ إرْسالُ الروحِ القدسِ لِكَيْ يُجَدِّدَ الأشخاصَ الذينَ يُؤمِنونَ، ويُقَدِّسَهُمْ، ويُمَجِّدَهُم.
فالأمْرُ مُخْتَصٌّ بالعائلةِ والشَّبَهِ العائِلِيِّ الَّذي نَتحدَّثُ عنهُ هُنا. وإذا رَجَعْتُمْ مَعي إلى رومية 8، وقد وَصَلْنا إلى هُناكَ أخيرًا، سَتَرَوْنَ أنَّ الفِكرةَ الرئيسيَّةَ هُنا هيَ أنَّ الروحَ القدسَ يَقومُ بِعَمَلِ التَّبَنِّي. فأنْتُمْ تَجِدونَ الشَّاهِدَ على أنَّكُمْ أَولادُ اللهِ في العدد 14. وتَجِدونَ الشَّاهِدَ على التَّبَنِّي في العدد 15. ثُمَّ تَجِدونَ شَاهِدًا آخَرَ على أنَّكُمْ أولادُ (أوْ أبناءُ) اللهِ في العدد 16. فالأمْرُ يَخْتَصُّ بأنْ نَكونَ في العائِلة. وَيَختصُّ بعلاقةِ العَهْدِ هذهِ معَ اللهِ والتي تَجْعَلُكَ فَرْدًا في العائلة. وعملُ الروحِ القدسِ هوَ أنْ يَجْعَلَكَ مُشابهًا لبقيَّةِ أفرادِ العائلةِ، ومُشابِهًا لأبيكَ، ومُشابِها لأخيكَ الكامِل. إنَّهُ يَختصُّ بالشَّبَهِ العائِلِيِّ.
وقد كانَ "جون كالفِن" (الَّذي فَهِمَ اللَّاهوتَ فَهْمًا جَيِّدًا جِدًّا) هُوَ الَّذي قال: "إنَّ هِبَةَ البُنُوَّة هذهِ هيَ أسْمى امْتيازٍ للفِداءِ، وهيَ العملُ الرئيسيُّ للروحِ القدس". لقد قالَ "جون كالفِن" إنَّ هذا هُوَ العملَ الرئيسيَّ للروحِ القدس. وَهُوَ كذلك. وهَلْ يُمْكنُني أنْ أقولَ بِجَسارَةٍ إنَّ عَمَلَهُ في الوَحْيِ بالكِتابِ المقدَّسِ كانَ وَسيلَةً لتحقيقِ عَمَلِهِ في تَقديسِ الشَّعْبِ وتَمْجيدِهِ؟ فالكتابُ المقدَّسُ وَسيلَة لِتَحْقيقِ غايَة، وليسَ غَايَةً في ذاتِهِ. فهذهِ هيَ الغايَة. فأسْمى امْتيازٍ للفِداءِ هُوَ أنْ تَصيرَ ابْنًا للهِ. وَالعملُ الرئيسيُّ للروحِ القدسِ هوَ أنْ يَجْعَلَ النَّاسَ أولادً للهِ مِنْ خِلالِ تَجديدِهِمْ، وتَمجيدِهِم. وما بَيْنَ هذا وذاكَ فإنَّهُ يُقَدِّسُهُمْ لكي تَكونَ شَهادَتُهُمْ قابِلَة للتَّصديق. وهذا هُوَ سَبَبُ وُجودِنا هُنا (على الأرض).
وهذا حَقٌّ قَوِيٌّ وجَوهرِيٌّ. ويجبُ علينا أنْ نَعرفَ ذلك. وهذا لا يَقْتَصِرُ على ما كَتَبَهُ بولُس في رِسالَتِهِ إلى أهْلِ رُومية فقط، بل إنَّهُ يُشيرُ إلى أهميَّةِ وضَرورةِ فهمِ ذلكَ في نِهايةِ الأصحاحِ السَّادسِ مِنْ رِسالتهِ الثانيةِ إلى أهْلِ كورِنثوس إذْ يَقول: "لِذلِكَ اخْرُجُوا مِنْ وَسْطِهِمْ وَاعْتَزِلُوا، يَقُولُ الرَّبُّ". وَهُوَ يَقْتَبِسُ ذلكَ بِكُلِّ تأكيدٍ مِنْ سِفْرِ إشَعْياء. "وَلاَ تَمَسُّوا نَجِسًا فَأَقْبَلَكُمْ. وَأَكُونَ لَكُمْ أَبًا، وَأَنْتُمْ تَكُونُونَ لِي بَنِينَ وَبَنَاتٍ، يَقُولُ الرَّبُّ، الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ". فاللهُ عَاكِفٌ على إنْشاءِ عائلةٍ. واللهُ عَاكِفٌ على فِداءِ عائلةٍ. واللهُ عاكِفٌ على تَجْديدِ عائِلَةٍ – اسْمَعوا - تَتَمَكَّنُ مِنْ إظْهارِ مَجْدِهِ مِنْ خِلالِ صُورةِ اللهِ الَّتي خُلِقوا عليها. ولكي نَستعيدَ صُورةَ اللهِ، يجبُ علينا أنْ نُوْلَدَ مِنْ جَديد. فينبغي أنْ نُوْلَدَ ثانيةً. وهذا هُوَ مَعْنى التَّجديدِ والوِلادةِ الثانيةِ.
وأعتقدُ أنَّ هذا الأمْرَ سيُساعِدُكُمْ على فَهْمِ طَبيعةِ التَّبَنِّي لأنَّكُمْ تَقولونَ على الأرْجَحِ في أنْفُسِكِمْ: "حسنًا، إنَّهُ يَتحدَّثُ، كَما تَعْلَمونَ، عنِ التَّبَنِّي في العدد 15. ولكِنَّ التَّبَنِّي هُوَ شَيءٌ ثَانَوِيٌّ". ورُبَّما كانَ السَّببُ في ذلكَ هوَ أنَّنا نَقرأُ في الصُّحُفِ عَنْ أُناسٍ يَتَبَنُّونَ أطفالًا ثُمَّ يَضَعوهُم على مَتْنِ طائِرَةٍ أوْ سَفينَةٍ وَيُعيدوهُمْ إلى بِلادِهِمْ لأنَّهُمْ لا يُريدونَهُم. عَجَبًا! فالنَاسُ يَقولونَ ذلكَ كُلَّ الوقتِ. فأنْتَ لا تَعْلَمُ ما سَتَحْصُلُ عليهِ. فقد تَقومُ بجميعِ الإجراءاتِ القانونيَّةِ وتَتَبَنَّى طِفْلًا، ولكِنَّكَ لا تَستطيعُ أنْ تُغَيِّرَ قَلْبَ طِفْلٍ. لذلكَ فإنَّكَ تَحْصُلُ على الطِّفْلِ الَّذي وَقَعَ اخْتيارُكَ عليهِ. ولَكِنَّ الأُمورَ قد لا تَنْتَهي نِهايَةً سَعيدَةً، بل إنَّ موضوعَ تَبَنِّي الأطفال قد يَنْتَهي نِهايَةً كَارِثِيَّةً ويَجْعَلُ البيتَ جَحيمًا، إلخ، إلخ، إلخ، لأنَّكَ لا تَستطيعُ، في واقعِ الأمْرِ، أنْ تُسيطِرَ على طَبيعَةِ هَؤلاءِ الأولادِ الدَّاخِلِيَّة. فكُلُّ ما يُمْكِنُكَ أنْ تَقومَ بِهِ هُوَ أنْ تُنْهي الإجراءاتِ الخارجيَّة.
ولكِنْ يجبُ عليكُمْ أنْ تَفهموا أنَّ الطريقةَ الَّتي يَتحدَّثُ فيها الكتابُ المقدَّسُ عنِ التَّبَنِّي هي طريقةٌ كاملةٌ جدًّا وشاملةٌ جِدًّا حَتَّى إنَّها تُغْلِقُ البابَ في وَجْهِ كُلِّ انْتِقادٍ كَهذا. سوفَ أشْرَحُ ذلكَ لكُم. ففي القَرْنِ الأوَّلِ للميلاد، إذا قامَ أَحَدٌ بِتَبَنِّيكَ، فإنَّ ذلكَ لا يَجْعَلُكَ ابْنًا مِنَ الدَّرجةِ الثانيةِ، بل إنَّكَ تَكونُ ابْنًا مِنَ الدَّرجةِ الأولى. وهذهِ نُقْطَةٌ جَوهريَّةٌ. حسنًا؟ فَبِكُلِّ صَراحَة، إنْ كُنْتَ تُريدُ أنْ يَكونَ لَديكَ أطْفالٌ في عائِلَتِكَ، يَنْبَغي أنْ تَرْضَى بِما تَحْصُلُ عليه. أليسَ كذلك؟ قد تَنْظُرُ إلى أحَدِ الأبناءِ وتقول: "كُنَّا نَتَمَنَّى أنْ يكونَ هذا الطِّفلُ أكْثَرَ ذَكاءً، أو: كُنَّا نَتَمَنَّى أنْ يكونَ هذا الطِّفْلُ أقَلَّ تَمَرُّدًا، أو: كُنَّا نَتَمَنَّى أنْ يكونَ هذا الطِّفْلُ أكْثَرَ صَبْرًا. ولكِنْ هذا هُوَ ما حَصَلْنا عَلَيه". وقد تَحَدَّثْتُ إلى عَدَدٍ كَبيرٍ مِنَ الآباءِ والأُمَّهاتِ وقُلتُ لَهُمْ إنَّهُ لو كانَ بِمَقدورِهِمْ أنْ يَكتبوا لائحةً بالمواصَفاتِ الَّتي يُريدونَها في أبنائِهِمْ، لَرُبَّما كانوا سُعَداءَ بِكِتابَتِها إنْ عَلِموا أنَّهُمْ سيَحصُلونَ على النَّتائِجِ الَّتي يَرْجونَها. والحقيقةُ هيَ أنَّ هذا هوَ السَّببُ الَّذي يَجْعَلُ النَّاسَ الذينَ يَذْهَبونَ إلى مَراكِزِ بَيْعِ الحَيَواناتِ المَنَوِيَّةِ يَرْغَبونَ في رُؤيَةِ المَلَفِّ الوِراثِيِّ لِصَاحِبِ تلكَ الحَيَواناتِ المَنويَّةِ لأنَّهُمْ يُريدونَ أنْ يُفَصِّلوا الطِّفْلَ الَّذي سَيُنْجِبونَهُ، ويُريدونَ أنْ يَتَحَكَّموا في هذا الأمْر. ولَكِنَّ ما أَعْنيه هُوَ أنَّكَ تَحصُلُ في الواقِعِ على الطِّفْلِ الَّذي مِنْ نَصيبِكَ. ولا بأسَ في ذلك لأنَّكُمْ تَفهمونَ هذا الأمْر ولأنَّكُمْ تُحِبُّونَ هؤلاءِ الأطفال. ولكِنْ في العالمِ القديم، إذا تَبَنَّيْتَ أحدًا، فإنَّكَ تَتَبَنَّاهُ لِتَجْعَلَهُ ابْنًا لَكَ في أغلبِ الحالاتِ. فلم يَكُنِ النَّاسُ يَفعلونَ ذلكَ مِنْ أجْلِ إنْقاذِ الأطْفالِ مِنَ الشَّوارِعِ. فَهُمْ لم يَكونوا يَتَبَنُّونَ الأطْفالَ مِنَ الشَّارِعِ مِنْ أجِلِ إنْقاذِهِم. بل إنَّكَ تَتَبَنَّى ابْنًا لأنَّكَ وَجَدْتَ فيهِ شَيئًا يَفوقُ قُدُراتِ أبنائِكَ. فقد كُنْتَ تَحْصُلُ على ابْنٍ يَمْتَلِكُ صِفاتٍ مَرْغوبَة. فقد كانَ الأبُ يَتَبَنَّى طِفْلًا مُعَيَّنًا عَنْ سَابِقِ قَصْدٍ لكي يُخَلِّدَ اسْمَهُ ويَرِثَ أمْوالَهُ وَمُمْتَلَكاتِهِ.
وَرُبَّما تكونُ قد عامَلْتَ شابًّا جَانِحًا بهذهِ الطريقة. ورُبَّما اخْتَرْتَ شابًّا نَبيلًا ليصيرَ ابْنًا لك. ولكِنَّ ذلكَ الابْنَ الَّذي تَتَبَنَّاهُ لم يَكُنْ أقَلَّ شأنًا. وأحيانًا، قد يكونُ الطِّفْلُ المُتَبَنَّى فَتاةً. ولكِنْ غالبًا، كانَ صَبِيًّا لأنَّ الأولادَ الذُّكورَ كانُوا يَرِثونَ الآباءَ وَيَضْطَلِعونَ بِالمسؤوليَّةِ بَعْدَهُمْ. وهذا أمْرٌ نَموذَجِيٌّ. فأنْتَ تَخْتارُ هذا الابْنَ بسببِ قُدرتهِ الفائقةِ على تَمْثيلِ العائلةِ، وعلى إدارةِ مُستقبَلِ العائلةِ، وعلى وِراثَةِ أملاكِ العائلةِ. وقد يكونُ هذا الابْنُ المُتَبَنَّى حَدَقَةَ عَيْنِ أبيه، وَبَهْجَةَ قَلْبِ أبيه. وقد يَحْظَى بالحِصَّةِ الكُبْرى مِنْ عَواطِفِ أبيهِ، وَبِتَعليمٍ أوْفَرَ مِنَ الابْنِ الحَقيقيِّ. وقد يُظْهِرُ فَضائِلَ أبيهِ وصِفاتِ أبيهِ أكْثَرَ مِنْ أبنائِهِ الآخَرين.
والنُّقطةُ الجَوهريَّةُ هِيَ أنَّكُمْ صِرْتُمْ أبناءَ بالتَّبَنِّي. وهذا اخْتيارٌ إلَهِيٌّ – لا لأنَّكُمْ قَبْلَ أنْ يَتِمَّ تَبَنِّيكُمْ كُنْتُمْ نُبَلاءَ جِدًّا حَتَّى إنَّ اللهَ لم يَتَمَكَّنْ مِنَ الحِفاظِ على دَيْمومَةِ مَمْلَكَتِهِ مِنْ دُوْنِكُم. بل إنَّهُ فَعَلَ ذلكَ بِمُقْتَضى سِيادَتِهِ، وبِمُقتَضَى اخْتيارِهِ الإلَهِيِّ. فقدْ مَيَّزَكُمُ اللهُ وَمَيَّزَني. وهذا هُوَ الاخْتيارُ الحُرُّ والطَّوْعِيُّ. وَهُوَ أمْرٌ مُذْهِلٌ.
واسْمَحوا لي أنْ أقولَ لَكُمْ كيفَ كانَ ذلكَ يَحْدُث. فقد كانَ التَّبَنِّي في زَمَنِ رُوما حَدَثًا رَسْمِيًّا جِدًّا. وقد كانَ أمْرًا صَعْبًا لأنَّهُ وَفْقًا للقانونِ الرومانِيِّ، كانَتْ هُناكَ قاعِدَةٌ تُعْرَفُ باسْم "باتريا بوتيستاس" (patria potestas)، وَهِيَ تَعْني: "سُلْطَة الأب" (وَهِيَ عِبارَة مِنْ أصْلٍ لاتينيٍّ). وكانَتْ سُلْطَةُ الأبِ تَعني أنَّهُ يَمْلِكُ سُلْطَةً مُطْلَقَةً على العائلةِ. فقد كانَ يَمْلِكُ حَقًّا مُطْلَقًا في التَّخَلِّي عَنْ أولادِهِ في المَراحِلِ الأولى مِنْ ظُهورِ الإمبراطوريَّةِ الرومانيَّةِ، أوْ في أنْ يَقْتُلَ أولادَهُ إنْ شَاء. فقد كانَتْ سُلْطَتُهُ مُطلقةً عليهم. وبالنِّسبةِ إلى الابْنِ الرومانِيِّ، لم يَكُنْ يَصِلُ يومًا إلى سِنّ الرُّشْدِ بِمَعْنى أنْ يكونَ مُستقلًّا يومًا عَنْ سُلْطَةِ أبيه. فأيًّا كانَ عُمْرُهُ، وَحَتَّى لو كانَ مُتزوِّجًا، فإنَّهُ يَبقى تحتَ سُلْطَةِ أبيه المُطْلَقَة. فإنْ كُنْتَ ابْنًا أوِ ابْنَةً، فإنَّكَ تَبْقى مِلْكًا لأبيكَ بالكامِلِ وَتَحْتَ سَيطَرَتِهِ المُطْلَقَةِ.
لذلكَ فقد كانَ التَّبَنِّي صعبًا جدًّا لأنَّكَ إنْ وَجَدْتَ ولدًا تَرْغَبُ في تَبَنِّيه لكي تَسْتَخْدِمَهُ في عَمَلِكَ، أوْ لإدارَةِ أمْلاكِكَ، أوْ في عائِلَتِكَ، أوْ لِخَيْرِ عائِلَتِكَ في المُستقبل، كيفَ ستُقْنِعُ أباهُ بالتَّخَلِّي عنه؟ فإنْ كانَ ولدًا نَبيلًا حَقًّا وأنْتَ تَرْغَبُ في الحُصولِ عليهِ بِشِدَّة، كيفَ سَتَفْعَلُ ذلك؟ حسنًا، لقد كانَتِ العَمليَّةُ تَتَطَلَّبُ مُفاوَضاتٍ كَثيرة. فقد كانَ يَنْبَغي أنْ يَتَحَرَّرَ مِنْ سُلْطَةِ أبيهِ الَّذي أَنْجَبَهُ وَأنْ يَخْضَعَ لِسُلْطَةِ الأبِ الَّذي سَيَتَبَنَّاه. خُطْوَتان. وهذا مُدْهِشٌ! والخُطوةُ الأولى تُعْرَفُ باسْم "مانسيباتِيُو" (mancipatio)، وهيَ نَفْسُ الكلمةِ الَّتي اشْتُقَّتْ مِنْها الكلمة الإنجليزيَّة "إيمانسيبيشن" (emancipation) أيْ: "إعْتاق" أوْ "تَحرير".
وقد كانَ الإعْتاقُ يَجْري مِنْ خِلالِ عِمليَّةِ بَيْعٍ رَمْزِيَّةٍ. والحقيقةُ هيَ أنَّ عمليَّةَ البيعِ الرَّمزيَّة كانَتْ تُسْتَخْدَمُ فيها أدواتٌ كالميزانِ والقِطَعِ النُّحاسِيَّةِ. وكانَ هُناكَ احْتِفالٌ صَغيرٌ يُقامُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ. فقد كانَ البيعُ الرَّمْزِيُّ يَحْدُثُ ثلاثَ مَرَّاتٍ. فقد كانَ الولدُ حاضِرًا، والمالُ في الميزان. وفي المَرَّةِ الأولى، كانَ الأبُ يأخُذُهُ ويقولُ: "لا، لا". ثُمَّ كانَ يَفعلُ ذلكَ مَرَّةً أُخرى فيوضَعُ المالُ في الميزان، ولكِنَّهُ يأخُذُهُ مَرَّة أُخرى. وكانَ الهَدَفُ مِنْ ذلكَ هُوَ إظْهارُ التَّرَدُّدِ وتوصيلِ الرِّسالةِ بأنَّهُ لا يَتَخَلَّى عنْ هذا الولد – بأنَّهُ لا يَتَخَلَّى عَنْ هذا الابْن. ولكِنْ في المَرَّةِ الثالثةِ، لم يَكُنْ يَسْتَرِدُّهُ، بل كانَ الولدُ يُعْتَقُ مِنْ سُلْطَةِ أبيهِ الأصْلِيِّ.
ثُمَّ كانَ يَعْقُبُ ذلكَ احْتِفالٌ يُعْرَفُ باسْم "فينديكاتيو" (vindicatio). فقد كانَ الأبُ الَّذي تَبَنَّى الولدَ يَذهبُ إلى القاضي الَّذي كانَ مَسؤولًا أوْ قاضيًا رومانيًّا، ويُقَدِّمُ الأوراقَ القانونيَّةَ لِنَقْلِ الابنِ مِنْ عائلةٍ إلى الأُخرى. وعندَ الانتهاءِ مِنْ كُلِّ الإجراءات، كانَ التَّبَنِّي يَكْتَمِل. وكانَ الأمْرُ رَسميًّا جدًّا.
والآنْ إليكُمْ ما كانَ يَحْدُث. وهذا مُهِمٌّ. فقد كانتْ هُناكَ أربعةُ أُمورٍ مُهِمَّةٍ تَحْدُثُ. أولًا، كانَ الشخصُ الَّذي تَمَّ تَبَنِّيه يَفقدُ كُلَّ حُقوقِهِ في عائلتهِ السابقةِ. فَهُوَ يَفقدُ كُلَّ حُقوقِهِ، ولا يَعودُ لهُ وُجودٌ في تلكَ العائلةِ السابقةِ. ولكنَّهُ كانَ يَكْسَبُ كُلَّ الحُقوقِ في عائِلَتِهِ الجديدة. ولم يَكُنْ بإمكانِهِ أنْ يَعودَ ويُحاوِلَ الحُصولَ على أيِّ شيءٍ مِنْ عائلَتِهِ السابقةِ. فقد كانَ كُلُّ شَيءٍ يَنْفَصِلُ تمامًا عنِ الماضي، وكانَ يَحْصُلُ على كُلِّ حُقوقِ الابْنِ الشَّرْعِيِّ في عائلتهِ الجديدة.
ثانيًا، كانَ الولدُ يَصيرُ وارِثًا لأملاكِ أبيهِ الجديد. فهُوَ يَصيرُ وارثًا لأملاكِ أبيهِ الجديد. وقد كانَ هذا هوَ السَّببُ في القيامِ بهذا الأمر. وعندما يصيرُ وارثًا لأملاكِ والِدِهِ الجديد، حَتَّى لو وُلِدَ أبناءٌ آخَرونَ لاحقًا، لا يُمكنهم المُطالبة بتلكَ الأملاكِ لأنَّهُمْ أبناءٌ شَرعيُّون. فذلكَ لا يُؤثِّرُ في حُقوقِ الابْنِ المُتَبَنَّى.
ثالثًا، كانتِ الحياةُ السابقةُ للابنِ المُتَبَنَّى – اسْتَمِعوا جَيِّدًا – كانَتْ تُلْغى تمامًا. فقد كانَتْ تُلغى كما لو أنَّهُ لَمْ يَعِشْ قبلَ ذلك. فكُلُّ دُيونِهِ تُلْغى حالًا. وكُلُّ سِجِلَّاتِهِ تُلْغى. فكأنَّهُ وُلِدَ في اليومِ الَّذي تَمَّ تَبَنِّيهِ فيه. أمَّا كُلُّ شيءٍ آخَرَ فَيُلْغى مِنَ الوُجود. فكأنَّهُ قد وُلِدَ مِنْ جَديد وابْتَدَأَ حَياتَهُ للتَّوّ.
رابعًا، في نَظَرِ القانونِ، كانَ الشخصُ المُتَبَنَّى ابْنَ أبيهِ الجديد دائمًا وأبدًا. هل يبدو ذلكَ شَبيهًا بالخلاصِ في نَظَرِكُم؟ هذا هُوَ المَقصودُ هُنا تمامًا بِفِكْرَةِ التَّبَنِّي. فَكُلُّ حُقوقِنا في عائِلَتِنا السَّابقةِ وأبينا السَّابِقِ، أيِ الشَّيطانِ، قد أُلْغِيَتْ. وقدِ اكْتَسَبْنا كُلَّ الحُقوقِ بِصِفَتِنا أولادًا شَرعِيِّينَ في عائِلَتِنا الجديدةِ، وصِرْنا وَرَثَةً معَ المسيحِ – وَرَثَةً مَعَ المسيحِ في كُلِّ ما يَمْلِكُهُ الآبُ. فنحنُ وَرَثَةٌ لكُلِّ ما يَمْلِك. أمَّا كُلُّ شَيءٍ يَختصُّ بحياتِنا القديمةِ فَقَدْ تَمَّ إلغاؤُهُ. أليسَ كذلك؟ ألم يَتِمَّ إلغاءُ الدَّيْنِ الَّذي عَلينا على الصَّليب؟ ألَسْنا الأولادَ الحقيقيِّينَ، والأبناءَ الحقيقيِّينَ الدَّائمينَ لأبينا الجديد؟
وهذا جَميلٌ جدًّا. وإذا كُنتُمْ ما زِلْتُمْ تَشعرونَ بالانزعاجِ لأنَّ هذا يَبدو سَطحيًّا نوعًا ما، اسْمَحوا لي أنْ أُساعِدَكُمْ قليلًا في هذا الأمْر. فقد كانَ بِمَقدورِكُمْ أنْ تَتَبَنُّوا ابْنًا، ولكِنْ يجب عليكُم أنْ تُدركوا أنَّهُ عندما تَتَبَنُّونَ طفلًا، فإنَّكُمْ لا تقدِرونَ أنْ تُغَيِّروا طَبيعَتَهُ – طَبيعَةَ الطِّفْل. ونحنُ نَرى هذهِ المُشكلةَ كُلَّ الوقتِ. "لقد تَبَنَّيْنا هذا الطِّفْلَ وظَنَنَّنا أنَّهُ الأفْضَل. ولكِنَّ هذا الطِّفْلَ عَنيدٌ، ومُتَمَرِّدٌ، وَغَضوبٌ". أوْ قَد تقولونَ إنَّ الطِّفلَ مُصابٌ باضْطِرابِ نَقْصِ الانتباهِ (ADD)، أوْ باضْطِرابِ نَقْصِ الانْتِباهِ مَعَ فَرْطِ النَّشاطِ (ADHD)، أوْ بالفُصامِ أوِ الذُّهانِ أوْ غَيْرِ ذلك. فَكما تَعْلَمونَ، فإنَّكُمْ تَسألونَ عُنْ كُلِّ شَيءٍ وتَعرفونَ كُلَّ الجوانبِ القانونيَّةِ لهذا الأمْرِ. ولكِنَّكُمْ لا تَملكونَ القُدرةَ على تَغييرِ القلب. لذلكَ فإنَّ عَمَلَ رُوحِ اللهِ الَّذي يَتحدَّثُ عنهُ الكتابُ المقدَّسُ يَختلفُ تمامًا عَنِ التَّبَنِّي. اسْمَعوا، لقد صِرْنا أولادًا بالتَّبَنِّي، ولكِنَّنا صِرْنا أيضًا أبناءَ بالوِلادةِ الثَّانيةِ. فالتَّبَنِّي يُعْطينا الاسْمَ واللَّقَبَ والحُقوقَ. أمَّا التَّجديدُ فيُعطينا طَبيعَةَ عائِلَتِنا الجديدة، والصِّفاتِ الوراثِيَّةَ الروحيَّةَ لعائِلَتِنا الجديدة.
إنَّ التَّركيزَ على التَّبَنِّي يَهْدِفُ إلى إظْهارِ أنَّنا مِنَ المُخْتارين. والتَّشبيهُ هُوَ أنَّ كُلَّ ماضينا قَدْ تَمَّ إلغاؤُهُ. فكأنَّنا وُلِدْنا ثانِيَةً وابْتَدأنا حَياتَنا للتَّوّ. لذلكَ فإنَّ التَّبَنِّي شَيءٌ مُهِمٌّ جِدًّا لأنَّهُ يَتَحَدَّثُ عنِ الاخْتيارِ، والانْتِخابِ، والفَرْز. ثُمَّ إنَّهُ يَتحدَّثُ عَنْ إلغاءِ كُلِّ شيءٍ في الماضي، وعَنِ العائلةِ الجديدةِ، ولكِنْ دُوْنَ أنْ يَنْسى التَّجديد. فالتَّبَنِّي يَنْقِلُ الاسْمَ واللَّقَبَ. أمَّا التَّجديدُ فيَنقِلُ الطَّبيعَةَ. بعبارةٍ أُخرى، لقد صِرنا الآنَ ليسَ أولادًا بالتَّبَنِّي فقط، بل شُرَكاءَ الطَّبيعةِ الإلهيَّة. وهذا أمْرٌ مُذهِلٌ. والروحُ القدسُ هوَ الَّذي يَقومُ بهذا كُلِّه – بهذا كُلِّه.
والآنْ، لِنَتأمَّلْ في هذهِ الآياتِ الثَّلاث. وأنْتُمْ تَعلَمونَ أيْنَ سَنَصِلُ مِنْ خِلالِ التَّأمُّلِ فيها. لذلكَ، لا بأسَ في ذلك. فكيفَ يَقومُ الروحُ القُدُسُ بهذا التَّبَنِّي؟ أولًا، مِنْ خِلالِ قِيادَتِنا: "لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَنْقَادُونَ بِرُوحِ اللهِ، فَأُولئِكَ هُمْ أَبْنَاءُ اللهِ". أوْ يُمْكِنُكُمْ أنْ تَعْكِسوا الكلمات: "لأنَّ كُلَّ أولادِ اللهِ يَنْقادونَ بِروحِ اللهِ". فالعلامةُ الأولى للأولادِ بالتَّبَنِّي هِيَ أنَّهُمْ يَنقادونَ بالرُّوحِ القُدُس، وَهُمْ يَسْلُكونَ بحسبِ الروحِ القُدُس، وحياتُهُمْ يُهَيْمِنُ عليها الروحُ القدس. ونحنُ عَرَفْنا هذهِ الحَقيقةَ الرائعةَ بأنَّ الروحَ القدسَ قد سَكَنَ في حَياتِنا وأنَّهُ يُوَجِّهُنا مِنَ الدَّاخِل. فَهُوَ لا يَقودُنا بالعُنْفِ – اسْمَعوا – إنَّهُ لا يَقودُنا بالعُنْفِ، بل يَقودُنا مِنْ خِلالِ تَطْويعِ إرادَتِنا. فَهُوَ يَخْلِقُ فينا مَيْلًا وَتَوَجُهًا آخَرَ، وَيُغَيِّرُ إرادَتَنا، ويُغَيِّرُ رَغَباتِنا، ويُغَيِّرُ أشواقَنا، ويُغَيِّرُ عَواطِفَنا، ويُغَيِّرُ اهْتِماماتِنا. وهذا عَمَلٌ خارِقٌ للطبيعةِ، وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ كَوْنِنا شُرَكاءَ الطبيعةِ الإلهيَّةِ. فقد صِرْنا نُحِبُّ ما تُحِبُّهُ الطبيعةُ الإلهيَّةُ فجأةً. وقد صِرْنا نُحِبُّ شَريعَةَ اللهِ إذْ إنَّ بولسَ يَقولُ في رُومية 7: "فَإِنِّي أُسَرُّ بِنَامُوسِ اللهِ". وفي المَزمور 119، يَقولُ داودُ ذلكَ مِئَةً وخَمْسَةً وَسَبْعينَ مَرَّةً. وهذا هُوَ عَمَلُ الروحِ القدس.
وكيفَ يَقودُنا الرُّوحُ القُدُس؟ بِطَريقَتَيْن: خارِجِيًّا، مِنْ خِلالِ الكِتابِ المقدَّسِ ... خارِجِيًّا، مِنْ خِلالِ الكِتابِ المقدَّسِ. فنحنُ نَقرأُ في المَزمور 119: 18: "اكْشِفْ عَنْ عَيْنَيَّ فَأَرَى عَجَائِبَ مِنْ شَرِيعَتِكَ". أَرِني الحَقَّ الكِتابِيَّ. خارِجِيًّا، مِنْ خِلالِ الكِتابِ المقدَّسِ، وداخِلِيًّا مِنْ خِلالِ التَّقديس. بِهاتَيْنِ الطَّريقَتَيْن. خارِجِيًّا (مِنْ خِلالِ الكِتابِ المقدَّسِ)، وداخِلِيًّا (مِنْ خِلالِ التَّقْديس).
ما الَّذي تَعنيه، أنَّ الروحَ يُحَرِّكُ القلبَ؟ لا أدري، فهذهِ مِنَ المُعجِزاتِ. أليسَ كذلك؟ فهذا أمْرٌ مُعْجِزِيٌّ. فأنْتَ مُعْجِزَةُ حَيَّة. فالمُعْجِزَةُ ليسَتْ فقط أنَّكَ نِلْتَ الخَلاصَ، بل إنَّها مُعْجِزَةٌ أنَّكَ تَقَدَّسْتَ، وَهِيَ ستكونُ مُعْجِزَة حينَ يَتِمَّ تَمْجيدُك. وأنْتُمْ تَعْرِفونَ مُعْجِزَةَ التَّمجيد. فأنْتُمْ تَعلَمونَ أنَّكُمْ حينَ تُغادِرونَ هَذهِ الأرْضَ وتَذهبونَ إلى السَّماءِ فإنَّكُمْ ستَحصُلونَ على جَسَدٍ مُمَجَّدٍ وتكونونَ في حَضْرَةِ الرَّبِّ. وهذهِ مُعجِزَةٌ لا جِدالَ فيها. ونحنُ نَفْهَمُ مَعْجِزَةَ التَّجديد. ولكِنَّ مُعجزةَ التَّقديسِ لا تَقِلُّ إعْجازًا لأنَّكمُ انتقلتُم مِنْ دَرَجَةٍ مِنَ المَجدِ إلى الَّتي تَليها، ثُمَّ إلى الَّتي تَليها بواسِطَةِ الروحِ القدس. فَخارِجِيًّا، فإنَّ الأداةَ الَّتي يَستخدِمُها هيَ الكِتابُ المقدَّسُ. أمَّا داخليًّا فإنَّهُ يَعْمَلُ على تَقْديسِكُم.
لذلكَ فإنَّ داودَ يُصَلِّي في المزمور 143: 10 ويقول: "عَلِّمْنِي أَنْ أَعْمَلَ رِضَاكَ". "عَلِّمْنِي أَنْ أَعْمَلَ مَشيئَتَكَ. كُنِ المُعَلِّمَ الدَّاخِلِيَّ". أوْ في المَزمور 119: 35: "دَرِّبْنِي فِي سَبِيلِ وَصَايَاكَ". "اجْعَلْني أَسْلُكُ في ذلكَ الدَّرْب". وهذا هُوَ ما يَفْعَلُهُ الروحُ القدس. أو كما جاءَ في المَزمور 119: "ثَبِّتْ خُطُوَاتِي فِي كَلِمَتِكَ". "وَجِّهْني في ذلكَ الطَّريق". فهذا هُوَ العملُ الداخليُّ للروحِ القدسِ الَّذي نحْنُ هَيْكَلُهُ. والأفعالُ المُستخدَمَةُ تَرِدُ بصيغَةٍ تَدُلُّ على الإرْشادِ المُستمرِّ إذْ إنَّهُ إرْشادٌ يَحْدُثُ كُلَّ الوقتِ ... كُلَّ الوقتِ ... كُلَّ الوقتِ، وعَلى الدَّوام. فالإرْشادُ بواسِطَةِ الروحِ ليسَ لَحْظَةَ نَشْوَةٍ، وليسَ نوعًا مِنَ المَشاعِرِ العاطفيَّةِ الوَقتيَّةِ. بلْ هُوَ طَريقُ حَياةٍ – فَهُوَ مُعجزةٌ غيرُ مَرئيَّةٍ تَعْمَلُ على تَشكيلِكَ لِتَصيرَ مُشابهًا للمسيحِ أكْثَرَ فأكْثَر مِنْ خِلالِ تَطْويعِ إرادَتِكَ ورَغَباتِكَ في ذلكَ الاتِّجاه.
أمَّا الشيءُ الثاني الَّذي يَفعلُهُ الروحُ القدسُ فهوَ أنَّهُ يُعطيكَ عَلاقةً حَميمةً معَ اللهِ. فنحنُ نَقرأُ في العدد 15: "إِذْ لَمْ تَأخُذُوا رُوحَ الْعُبُودِيَّةِ أَيْضًا لِلْخَوْفِ". فحينَ كُنْتَ شخصًا غيرَ مولودٍ ثانيةً، وعندما كانتْ صُورةُ اللهِ مُشَوَّهَة جِدًّا وكُنتَ ذاهبًا إلى الهَلاكِ الأبديِّ وإلى جَهَنَّمَ، كُنْتَ تَعيشُ في خَوفٍ. وكنتَ تَعيشُ في رُعْبٍ. وكنتَ تَعيشُ وَتَتَرَقَّبُ الدَّينونَة. وكنتَ عَبْدًا للخطيَّةِ. لذلكَ، فقد كنتَ عَبْدًا للشُّعورِ بالذَّنبِ، والقَلقِ، والخوفِ، والفَزَعِ، والدَّينونةِ. فقد كنتَ تَعيشُ هَكَذا.
وما حَدَثَ حينَ تَجَدَّدْتَ وابتدأَ الروحُ يَعملُ على تَقديسِكَ هُوَ التَّالي: لقد حَصَلْتَ على رُوْحِ تَبَنٍّ، أوِ الأفْضَل مِن ذلكَ هُوَ أنَّكَ حَصَلْتَ على رُوْحِ التَّبَنِّي (بإضافَةِ أل التَّعريف) – وَهُوَ أمرٌ يَقولُ بعضُ اللاهوتِيِّينَ إنَّهُ الاسْمُ الأسْمَى للروحِ القُدُس. فإذا أرَدْتَ أنْ تَنْتَقي أَسْمَى اسْمٍ لكي تُطْلِقَهُ على الروحِ القدسِ فَيجبُ أنْ يُسَمَّى رُوح التَّبَنِّي لأنَّ هذا هُوَ العَمَلَ الَّذي يَقومُ بهِ لِجَلْبِنا إلى عائلةِ اللهِ، وإعْطائِنا شَبَهًا عائِلِيًّا مُطابِقًا للصُّورةِ الَّتي أَعْطاهُ الآبُ أنْ يُنَفِّذَها ... مُطابقًا للصُّورةِ الَّتي أعْطاهُ الآبُ أنْ يُنَفِّذَها. ولا نَدري هُنا إنْ كانَ الحديثُ هُوَ عَنِ الروحِ القدسِ أَمْ عَنْ رُوحِ الإنْسانِ. فقد يَكونُ أيٌّ مِنْهُما صحيحًا. ولكِنِّي أُحِبُّ أنْ أُفَكِّرَ في أنَّهُ يَعْني الاثْنَيْن. فروحُ التَّبَنِّي يُعْطينا روحَ تَبَنٍّ ويُمَكِّنُنا مِنْ أنْ نَصْرُخَ قائلين: "يَا أَبَا الآبُ". فلا يُمْكِنُكَ أنْ تَدْخُلَ فَجأةً إلى حَضْرَةِ اللهِ القُدُّوسِ وأنْ تَقول: "أبي". فهذا هُوَ مَعْنى الكَلِمَة "أَبَا" (Abba). فَهِيَ تَعْني: "أبي". ولكِنْ ما هذهِ العلاقة الحَميمة معَ الله؟ فهيَ شَيءٌ يُرْعِبُ اليَهودَ تَمامًا. "ماذا؟ فاللهُ بَعيدٌ وقُدُّوسٌ. ولكِنَّ هذا الشَّخصَ يأتي مُسْرِعًا ويقول: ’بابا، بابا، يا أَبَا الآب‘!" فلا وُجودَ للخوفِ هُنا. أليسَ كذلك؟ لا وُجودَ للخوف. فنحنُ نَتمتَّعُ بعلاقةٍ حَميمةٍ معَ اللهِ.
إنَّ واحِدَةً مِنْ مُتَعِ الحَياةِ، بَلْ هِيَ أَعْظَمُ مُتعَةٍ في نَظَري بِصِفَتي جَدًّا لأحْفادي، هِيَ تلكَ العاطِفَة المُدهِشَة الَّتي لا تَحُدُّها حُدودٌ ولا يَقِفُ أمامَها عائِقٌ مِنْ جِهَةِ أحْفادي. فهُناكَ أُناسٌ يَعْتَقِدونَ أنِّي شخصٌ مُهِمٌّ. ولكِنَّ أَحْفادي لا يَعْتَقِدونَ ذلك. وبعضُ النَّاسِ يَعتقدونَ أنِّي شَخْصٌ تَصْعُبُ مَعْرِفَتُهُ. ولكِنَّ أَحْفادي لا يَعتقدونَ ذلك. وبعضُ النَّاسِ يَعتقدونَ أنَّهُ يَنْبَغي أنْ يَتَعامَلوا مَعي مِنْ بَعيد. ولكِنَّ أَحْفادي لا يَعتقدونَ ذلك. وهَلْ مِنْ شَيءٍ أَغْلى مِنْ أنْ يَرْكُضَ الأطْفالُ الصِّغارُ ويُلْقونَ أيْدِيَهُمْ حَوْلَكَ بِوَصْفِكَ أبًا أوْ جَدًّا في تلكَ الأوقاتِ العاطِفِيَّةِ الَّتي تَخْلو مِنْ أيِّ عائِقٍ أوْ مُعَطِّلٍ أوْ شَكٍّ؟ "بابا". فَهُمْ يَأتونَ إلَيَّ رَكْضًا مِنْ كُلِّ اتِّجاه. وهذا هُوَ ما نَراهُ هُنا. فَهُناكَ شُعورٌ يَدْفَعُنا إلى الانْدِفاعِ دُونَ خَوْفٍ إلى حَضْرَةِ اللهِ لأنَّ الروحَ القدسَ جَعَلَنا أبناءً بالوِلادةِ، وأولادًا بالتَّبَنِّي، وأَعْطانا حُرِيَّةَ الدُّخولِ إلى حَضْرَةِ الآبِ في أيِّ وقتٍ نَشاء.
وهناكَ خِدمةٌ ثالثةٌ للروحِ القدسِ في هذا العَمَلِ المُخْتَصِّ بالبُنُوَّةِ. فهوَ ليسَ فَقَطْ يَقودُنا ويُعْطينا عَلاقَةً حَميمَةً معَ اللهِ، بل إنَّهُ يُعْطينا يَقينًا أيضًا. إنَّهُ يُعْطينا يَقينًا. فنحنُ نَقرأُ في العدد 16: "اَلرُّوحُ نَفْسُهُ أَيْضًا يَشْهَدُ لأَرْوَاحِنَا أَنَّنَا أَوْلاَدُ اللهِ". فَهُوَ يَشْهَدُ لأرواحِنا أنَّنا أولادُ اللهِ. فالروحُ القُدُسُ يَأتي إلينا، ويَسْكُنُ فينا، ويُؤكِّدُ لقُلوبِنا أنَّنا نَنْتَمي إلى اللهِ.
واسْمَحوا لي أنْ أُخْبِرَكُمْ عَنْ مَصْدَرِ ذلك. ففي عَمليَّةِ التَّبَنِّي في رُوما القديمة، كانَ يَنْبَغي أنْ يَحْضُرَ سَبْعَة شُهود ... سَبْعَة شُهود. سَبْعَةُ شُهودِ عِيانٍ على الصَّفْقَةِ كُلِّها. لماذا؟ لأنَّهُ ما الَّذي يَحْدُثُ حينَ يَموتُ الأبُ ويُظْهِرُ جَميعُ الأولادِ الشَّرْعِيِّينَ امْتِعاضَهُمْ مِنَ الابْنِ المُتَبَنَّى الَّذي هُوَ الوَريث؟ سوفَ تَكونُ هُناكَ مَعْرَكَة. لذلكَ فإنَّ الأبناءَ المولودينَ شَرْعِيًّا مِنَ الأبِ سيقولون: "إنَّهُ ليسَ ابْنًا شَرعِيًّا. إنَّهُ يَدَّعي الحَقَّ في الإرْثِ باطِلًا". ولكِنْ سيكونُ هُناكَ سَبعةُ شُهودِ عِيانٍ على هذهِ الصَّفْقَةِ الشَّرعيَّةِ لتأكيدِ صِدْقِ وشَرْعِيَّةِ ذلك.
ولكِنَّنا لَسْنا في حاجةٍ إلى سَبْعَة شُهود. فنحنُ بِحاجة إلى واحِدٍ فقط، وَتَحْديدًا إلى الرُّوحِ القُدُسِ الَّذي خَتَمَنا إلى يومِ الفِداءِ. وهذا يَعني أنَّنا مَحْمِيونَ إلى يومِ الفِداء. فلا يُمْكِنُ لأيِّ شخصٍ أنْ يَحْرِمَنا مِنْ مِيراثِنا. فَهُوَ مَحْفوظٌ ومَفْروزٌ لأجْلِنا، كَما يَقولُ بُطْرُس. أليسَ كذلك؟ "لاَ يَتَدَنَّسُ ... مَحْفُوظٌ فِي السَّمَاوَاتِ لأَجْلِكُمْ". فالروحُ القدسُ هُوَ الخَتْمُ. والروحُ القدسُ هُوَ العَرْبونُ، والخاتَمُ، والضَّمان. والروحُ القُدُسُ هُوَ الباكُورَةُ. بعبارةٍ أُخرى، فإنَّهُ الضَّمانَةُ بالميراثِ الكامِلِ. فهذا هُوَ ما يَقولُهُ العَدَد 16. فَهُوَ يَشْهَدُ لَنا أَنَّنَا أَوْلاَدُ اللهِ. إنَّهُ يَشْهَدُ لأرواحِنا. وهُناكَ ثِقَةٌ داخِلِيَّةٌ بأنَّ الكُلَّ على ما يُرام. وهذا يُسَمَّى بكلمة واحِدَة: "الرَّجاء". فنحنُ نَمْلِكُ رَجاءً قَويًّا. أليسَ كذلك؟ وهذا هُوَ عَمَلُ الروحِ القدس إذْ إنَّهُ يُعْطينا هذا الرَّجاءَ القَوِيَّ.
فأنا لا أعيشُ حَياتي اليوميَّةَ في خَوْفٍ مِنْ أنِّي لن أذْهَبَ إلى السَّماءِ. فهذا لَمْ يَخْطُرُ بِبالي قَطّ. لماذا؟ لأنَّ الشَّهادةَ الداخليَّةَ للروحِ القدسِ تُعْطيني رَجاءً – تُعْطيني رَجاءً. فإذا كُنْتَ ابنًا تَعيشُ في الشَّارِعِ أوْ في وَسَطِ عائلةٍ صَعْبَةٍ، ومُسيئَةٍ، وهالِكَةٍ، فإنَّكَ تَبْحَثُ عَنْ شَخْصٍ يَقودُكَ ويُرْشِدُكَ في الدَّرْبِ الصَّحيح. إلى شَخْصٍ يُحَرِّرُكَ مِنَ هذا الخوفِ المَوجودِ في حَياتِكَ، ومِنَ القلقِ الموجودِ في حَياتِكَ، وأنْ يُعْطيكَ كُلَّ المَوارِدِ الَّتي تَمَنَّيْتَها يومًا، وَاحْتَجْتَ إليها، بل وَأكْثَرَ مِنْ ذلكَ بِكَثير. وإلى شَخصٍ يُؤكِّدُ لكَ أنَّ المُستقبلَ سيكونُ مُشْرِقًا. فإنْ وَجَدْتَ شخصًا كهذا، فإنَّكَ سَتَكونُ ابْنًا سَعيدًا بالتَّبَنِّي.
والحقيقةُ هيَ أنَّكُمْ تَمْلِكونَ ذلكَ وأكْثَر لأنَّ هذا هُوَ ما يَعِدُكُمُ اللهُ بِهِ. وَهُوَ لا يَتَبَنَّاكُمْ فحسب، بل إنَّهُ يُغَيِّرُ طَبيعَتَكُمْ، ثُمَّ يَبتدئُ في جَعْلِكُمْ مُشابِهينَ للآبِ والأخِ (أيِ المَسيحِ شَخصِيًّا). وهذا هُوَ العَمَلُ المُبارَكُ الَّذي يَقومُ بهِ الروحُ القدسُ. وَما مِنْ شَيءٍ يُعْطيهِ الإكْرامَ الَّذي يَسْتَحِقُّهُ أَقَلَّ مِنْ أنْ نَفْهَمَ ذلك.
لقد تَبارَكْنا، يا أبانا، في هذا الصَّباحِ بطُرُقٍ عَديدةٍ: مِنْ خِلالِ مَعْرِفَتِنا بَعْضُنا بِبَعْضٍ، وشَرِكَتِنا بَعْضُنا مَعَ بَعْضٍ، وتَرْنيمِنا بَعْضُنا مَعَ بَعْضٍ، وإصْغائِنا مَعًا إلى جَمالِ ورَوْعَةِ وَعُذوبَةِ المُوسيقى، وَمِنْ خِلالِ تَلامُسِنا الآنَ مَعَ هذهِ الحَقائِقِ العميقةِ والرائعةِ الَّتي تَتَحَدَّثُ إلينا عَنَّا. فيا لَها مِنْ بَرَكَةٍ عَظيمَةٍ لَنا. ويا لَها مِنْ بَرَكَةٍ يَعْجَزُ عَقْلُنا عَنِ استيعابِها، وَهِيَ كُلُّها بالنِّعْمَة. لذلكَ فإنَّنا نَشكُرُكَ، ونُبارِكُ اسْمَكَ، ونُصَلِّي مَعَ داوُد: "عَلِّمْني، يا رَبُّ، أَنْ أَعْمَلَ رِضَاكَ". اجْعَلْني أَسْلُك في هذا الدَّرْب، أيُّها الروحُ القُدُس، وَأَمِلْ قلبي في هذا الاتِّجاه. سَيْطِرْ على عَواطِفي، ورَغَباتي، وأشواقي. خُذْني مِنْ مُستوى مِنَ المَجْدِ إلى الَّذي يَليه، والذي يَليه لكي أتأمَّلَ في مَجْدِ اللهِ وفي صُورَةِ اللهِ الَّتي تَمَّتِ اسْتِعادَتُها مِنْ خِلالِ عملِ التَّجْديدِ إلى يومِ التَّمْجيد. نَشْكُرُكَ على هذهِ الدَّعوة العُلْيا، وهذهِ العَطِيَّة المُدْهِشَة. فأنْتَ لم تُعْطِنا فقط المَسيح، أيُّها الآب، بل أعْطيتَنا الروحَ أيضًا لكي تَجْعَلَنا مُعْجِزَةً حَيَّةً تَنْمو وَتَتَقَدَّم. وليتَنا نكونُ شاكِرينَ دائمًا لَكَ، أيُّها الروحُ القدسُ المُبارَكُ، على هذا العَمَل. نَشْكُرُكَ لأنَّكَ تَسْكُنُ فينا وتَفْعَلُ ذلكَ فينا. فنحنُ لَسْنا مُسْتَحِقِّين. ونحنُ نَعترفُ بذلك. ولكِنَّنا مُمْتَنِّينَ جِدًّا. وليتَ العملَ الَّذي تَعْمَلُهُ يَظْهَرُ جَلِيًّا للأشخاصِ المُحيطينَ بِنا لكي يَنْظُروا إلينا ويَرَوْا المَسيح. نُصَلِّي هذا باسْمِهِ. آمين.

This article is also available and sold as a booklet.